تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢١

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢١

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٥٩

بليلة سوى ليلة سودة التي وهبتها لعائشة ، استمر ذلك إلى وفاته صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقد جاء في الصحيح أنه كان في مرضه الذي توفي فيه يطاف به كل يوم على بيوت أزواجه ، وكان مبدأ شكواه في بيت ميمونة إلى أن جاءت نوبة ليلة عائشة فأذنّ له أزواجه أن يمرض في بيتها رفقا به.

وروي عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال حين قسم لهن «اللهم هذه قسمتي فيما أملك فلا تلمني فيما لا أملك» ، ولعل ذلك كان قبل نزول التفويض إليه بهذه الآية.

وفي قوله : (وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَ) إشارة إلى أن المراد الرضى الذي يتساوين فيه وإلا لم يكن للتأكيد ب (كُلُّهُنَ) نكتة زائدة ، فالجمع بين ضميرهن في قوله : (كُلُّهُنَ) يومئ إلى رضى متساو بينهن.

وضميرا (أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَ) عائدان إلى (من) في قوله : (مِمَّنْ عَزَلْتَ). وذكر (وَلا يَحْزَنَ) بعد ذكر (أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَ) مع ما في قرّة العين من تضمّن معنى انتفاء الحزن بالإيماء إلى ترغيب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ابتغاء بقاء جميع نسائه في مواصلته لأن في عزل بعضهن حزنا للمعزولات وهو بالمؤمنين رءوف لا يحب أن يحزن أحدا.

و (كُلُّهُنَ) توكيد لضمير (يَرْضَيْنَ) أو يتنازعه الضمائر كلّها.

والإيتاء : الإعطاء وغلب على إعطاء الخير إذا لم يذكر مفعوله الثاني ، أو ذكر غير معيّن كقوله : (فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) [الأعراف : ١٤٤] ، فإذا ذكر مفعوله الثاني فالغالب أنه ليس بسوء. ولم أره يستعمل في إعطاء السوء فلا تقول : آتاه سجنا وآتاه ضربا ، إلا في مقام التهكم أو المشاكلة ، فما هنا من القبيل الأول ، ولهذا يبعد تفسيره بأنهن يرضين بما أذن الله فيه لرسوله من عزلهن وإرجائهن. وتوجيهه في «الكشاف» تكلف.

والتذييل بقوله : (وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَلِيماً) كلام جامع لمعنى الترغيب والتحذير ففيه ترغيب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الإحسان بأزواجه وإمائه والمتعرضات للتزوج به ، وتحذير لهن من إضمار عدم الرضى بما يلقينه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وفي إجراء صفتي (عَلِيماً حَلِيماً) على اسم الجلالة إيماء إلى ذلك ، فمناسبة صفة العلم لقوله : (وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ) ظاهرة ، ومناسبة صفة الحليم باعتبار أن المقصود ترغيب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أليق الأحوال بصفة الحليم لأن همه صلى‌الله‌عليه‌وسلم التخلق بخلق الله

٣٠١

تعالى وقد أجرى الله عليه صفات من صفاته مثل رءوف رحيم ومثل شاهد. وقالت عائشة رضي‌الله‌عنها : ما خيّر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين شيئين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما. ولهذا لم يأخذ رسول الله بهذا التخيير في النساء اللاتي كنّ في معاشرته ، وأخذ به في الواهبات أنفسهن مع الإحسان إليهن بالقول والبذل فإن الله كتب الإحسان على كل شيء. وأخذ به في ترك التزوج من بنات عمه وعماته وخاله وخالاته لأن ذلك لا حرج فيه عليهن.

(لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً (٥٢))

موقع هذه الآية في المصحف عقب التي قبلها يدل على أنها كذلك نزلت وأن الكلام متصل بعضه ببعض ومنتظم هذا النظم البديع ، على أن حذف ما أضيفت إليه (بَعْدُ) ينادي على أنه حذف معلوم دل عليه الكلام السابق فتأخّرها في النزول عن الآيات التي قبلها وكونها متصلة بها وتتمة لها مما لا ينبغي أن يتردد فيه ، فتقدير المضاف إليه المحذوف لا يخلو : إمّا أن يؤخذ من ذكر الأصناف قبله ، أي من بعد الأصناف المذكورة بقوله : (إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ) [الأحزاب : ٥٠] إلخ. وإمّا أن يكون مما يقتضيه الكلام من الزمان ، أي من بعد هذا الوقت ، والأول الراجح.

و (بَعْدُ) يجوز أن يكون بمعنى (غير) كقوله تعالى : (فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ) [الجاثية : ٢٣] وهو استعمال كثير في اللغة ، وعليه فلا ناسخ لهذه الآية من القرآن ولا هي ناسخة لغيرها ، ومما يؤيد هذا المعنى التعبير بلفظ الأزواج في قوله : (وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ) أي غيرهن ، وعلى هذا المحمل حمل الآية ابن عباس فقد روى الترمذي عنه قال: «نهي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أصناف النساء إلا ما كان من المؤمنات المهاجرات» فقال : (لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ) فأحل الله المملوكات المؤمنات (وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها) للنبي [الأحزاب : ٥٠]. ومثل هذا مروي عن أبيّ بن كعب وعكرمة والضحاك. ويجوز أن يكون (بَعْدُ) مرادا به الشيء المتأخر عن غيره وذلك حقيقة معنى البعدية فيتعين تقدير لفظ يدل على شيء سابق.

وبناء (بَعْدُ) على الضم يقتضي تقدير مضاف إليه محذوف يدل عليه الكلام السابق

٣٠٢

على ما درج عليه ابن مالك في الخلاصة وحققه ابن هشام في «شرحه على قطر الندى» ، فيجوز أن يكون التقدير : من بعد من ذكرن على الوجهين في معنى البعدية فيقدر : من غير من ذكرن ، أو يقدر من بعد من ذكرن ، فتنشأ احتمالات أن يكون المراد أصناف من ذكرن أو أعداد من ذكرن (وكن تسعا) ، أو من اخترتهن.

ويجوز أن يقدر المضاف إليه وقتا ، أي بعد اليوم أو الساعة ، أي الوقت الذي نزلت فيه الآية فيكون نسخا لقوله : (إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ) إلى قوله : (خالِصَةً لَكَ) [الأحزاب : ٥٠].

وأما ما رواه الترمذي عن عائشة أنها قالت : «ما مات رسول الله حتى أحل الله له النساء». وقال حديث حسن. (وهو مقتض أن هذه الآية منسوخة) فهو يقتضي أن ناسخها من السنة لا من القرآن لأن قولها : ما مات ، يؤذن بأن ذلك كان آخر حياته فلا تكون هذه الآية التي نزلت مع سورتها قبل وفاته صلى‌الله‌عليه‌وسلم بخمس سنين ناسخة للإباحة التي عنتها عائشة ولذلك فالإباحة إباحة تكريم لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وروى الطحاوي مثل حديث عائشة عن أمّ سلمة.

و (النِّساءُ) إذا أطلق في مثل هذا المقام غلب في معنى الأزواج ، أي الحرائر دون الإماء كما قال النابغة :

حذارا على أن لا تنال مقادتي

ولا نسوتي حتى يمتن حرائرا

أي لا تحل لك الأزواج من بعد من ذكرن.

وقوله : (وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَ) أصله : تتبدل بتاءين حذفت إحداهما تخفيفا ، يقال: بدّل وتبدّل بمعنى واحد ، ومادة البدل تقتضي شيئين : يعطي أحدهما عوضا عن أخذ الآخر ، فالتبديل يتعدى إلى الشيء المأخوذ بنفسه وإلى الشيء المعطى بالباء أو بحرف (مِنْ) ، وتقدم عند قوله تعالى : (وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) في سورة البقرة [١٠٨].

والمعنى : أن من حصلت في عصمتك من الأصناف المذكورة لا يحلّ لك أن تطلقها ، فكنى بالتبدل عن الطلاق لأنه لازمه في العرف الغالب لأن المرء لا يطلق إلا وهو يعتاض عن المطلقة امرأة أخرى ، وهذه الكناية متعينة هنا لأنه لو أريد صريح التبدل لخالف آخر الآية أولها وسابقتها ، فإن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحلت له الزيادة على النساء اللاتي

٣٠٣

عنده إذا كانت المزيدة من الأصناف الثلاثة السابقة وحرم عليه ما عداهن ، فإذا كانت المستبدلة إحدى نساء من الأصناف الثلاثة لم يستقم أن يحرّم عليه استبدال واحدة منهن بعينها لأن تحريم ذلك ينافي إباحة الأصناف ولا قائل بالنسخ في الآيتين ، وإذا كانت المستبدلة من غير الأصناف الثلاثة كان تحريمها عاما في سائر الأحوال فلا محصول لتحريمها في خصوص حال إبدالها بغيرها فتمحض أن يكون الاستبدال مكنّى به عن الطلاق وملاحظا فيه نية الاستبدال. فالمعنى : أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبيحت له الزيادة على النساء اللاتي حصلن في عصمته أو يحصلن من الأصناف الثلاثة ولم يبح له تعويض قديمة بحادثة.

والمعنى : ولا أن تطلق امرأة منهن تريد بطلاقها أن تتبدل بها زوجا أخرى.

وضمير (بِهِنَ) عائد إلى ما أضيف إليه (بَعْدُ) المقدّر وهن الأصناف الثلاثة.

والمعنى : ولا أن تبدل بامرأة حصلت في عصمتك أو ستحصل امرأة غيرها.

فالباء داخلة على المفارقة.

و (مِنْ) مزيدة على المفعول الثاني ل (تَبَدَّلَ) لقصد إفادة العموم. والتقدير : ولا أن تبدّل بهن أزواجا أخر ، فاختص هذا الحكم بالأزواج من الأصناف الثلاثة وبقيت السراري خارجة بقوله : (إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ). وأما التي تهب نفسها فهي إن أراد النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أن ينكحها فقد انتظمت في سلك الأزواج ، فشملها حكمهن ، وإن لم يرد أن ينكحها فقد بقيت أجنبية لا تدخل في تلك الأصناف.

وقرأ الجمهور (لا يَحِلُ) بياء تحتية على اعتبار التذكير لأن فاعله جمع غير صحيح فيجوز فيه اعتبار الأصل. وقرأه أبو عمرو ويعقوب بفوقية على اعتبار التأنيث بتأويل الجماعة وهما وجهان في الجمع غير السالم.

وجملة (وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَ) في موضع الحال والواو واوه ، وهي حال من ضمير (تَبَدَّلَ). و (لَوْ) للشرط المقطوع بانتفائه وهي للفرض والتقدير وتسمى وصيلة ، فتدل على انتفاء ما هو دون المشروط بالأولى ، وقد تقدم في قوله تعالى : (وَلَوِ افْتَدى بِهِ) في آل عمران [٩١].

والمعنى : لا يحلّ لك النساء من بعد بزيادة على نسائك وبتعويض إحداهن بجديدة في كل حالة حتى في حالة إعجاب حسنهن إياك.

٣٠٤

وفي هذا إيذان بأن الله لما أباح لرسوله الأصناف الثلاثة أراد اللطف له وأن لا يناكد رغبته إذا أعجبته امرأة لكنه حدّد له أصنافا معينة وفيهن غناء.

وقد عبرت عن هذا المعنى عائشة رضي‌الله‌عنها بعبارة شيقة ، إذ قالت للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما أرى ربّك إلا يسارع في هواك. وأكدت هذه المبالغة بالتذييل من قوله : (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً) أي عالما بجري كل شيء على نحو ما حدّده أو على خلافه ، فهو يجازي على حسب ذلك. وهذا وعد للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بثواب عظيم على ما حدد له من هذا الحكم.

والاستثناء في قوله : (إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ) منقطع. والمعنى : لكن ما ملكت يمينك حلال في كل حال. والمقصود من هذا الاستدراك دفع توهم أن يكون المراد من لفظ (النِّساءُ) في قوله : (لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ) ما يرادف لفظ الإناث دون استعماله العرفي بمعنى الأزواج كما تقدم.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيماً (٥٣))

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِ).

لما بين الله في الآيات السابقة آداب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع أزواجه قفّاه في هذه الآية بآداب الأمة معهن ، وصدره بالإشارة إلى قصة هي سبب نزول هذه الآية. وهي ما في «صحيح البخاري» وغيره عن أنس بن مالك قال : لما تزوج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم زينب ابنة جحش صنع طعاما بخبز ولحم ودعا القوم فطعموا ثم جلسوا يتحدثون وإذا هو كأنه يتهيّأ للقيام فلم يقوموا ، فلما رأى ذلك قام فلما قام قام من قام وقعد ثلاثة نفر ، فجاء النبي ليدخل فإذا القوم جلوس ، فجعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخرج ثم يرجع فانطلق إلى حجرة عائشة ... فتقرّى حجر

٣٠٥

نسائه كلهن يسلّم عليهن ويسلمن عليه ويدعون له ، ثم إنهم قاموا فانطلقت فجئت فأخبرت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنهم قد انطلقوا فجاء حتى دخل فذهبت أدخل فألقى الحجاب بيني وبينه فأنزل الله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِ) إلى قوله : (مِنْ وَراءِ حِجابٍ).

وفي حديث آخر في الصحيح عن أنس أيضا أن عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه قال له : «يا رسول الله يدخل عليك البرّ والفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب» فأنزل الله آية الحجاب. وليس بين الخبرين تعارض لجواز أن يكون قول عمر كان قبل البناء بزينب بقليل ثم عقبته قصة وليمة زينب فنزلت الآية بإثرها.

وابتدئ شرع الحجاب بالنهي عن دخول بيوت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا لطعام دعاهم إليه ، لأن النبي عليه الصلاة والسلام له مجلس يجلس في المسجد فمن كان له مهمّ عنده يأتيه هنالك.

وليس ذكر الدعوة إلى طعام تقييدا لإباحة دخول بيوت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يدخلها إلا المدعو إلى طعام ولكنه مثال للدعوة وتخصيص بالذكر كما جرى في القضية التي هي سبب النزول فيلحق به كل دعوة تكون من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكل إذن منه بالدخول إلى بيته لغير قصد أن يطعم معه كما كان يقع ذلك كثيرا. ومن ذلك قصة أبي هريرة حين استقرأ من عمر آية من القرآن وهو يطمع أن يدعوه عمر إلى الغداء ففتح عليه الآية ودخل فإذا رسول الله قائم على رأس أبي هريرة وقد عرف ما به فانطلق به إلى بيته وأمر له بعسّ من لبن ثم ثان ثم ثالث ، وإنما ذكر الطعام إدماجا لتبيين آدابه ، ولذلك ابتدئ بقوله : (غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ) مع أنه لم يقع مثله في قصة سبب النزول.

وقرأ الجمهور بيوت بكسر الباء. وقرأه أبو عمرو وورش عن نافع وحفص عن عاصم وأبو جعفر بضم الباء ، وقد تقدم في سورة النساء وغيرها.

و (إِناهُ) بكسر الهمزة وبالقصر : إما مصدر أنى الشيء إذا حان ، يقال : أنى يأني ، قال تعالى : (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ) [الحديد : ١٦]. ومقلوبه : آن.

وهو بمعناه. والمعنى : غير منتظرين حضور الطعام ، أي غير سابقين إلى البيوت وقبل تهيئته.

والاستثناء في (إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ) استثناء من عموم الأحوال التي يقتضيها الدخول المنهي عنه ، أي إلا حال أن يؤذن لكم.

٣٠٦

وضمّن (يُؤْذَنَ) معنى تدعون فعدي ب (إِلى) فكأنه قيل : إلا أن تدعوا إلى طعام فيؤذن لكم لأن الطفيلي قد يؤذن له إذا استأذن وهو غير مدعو فهي حالة غير مقصودة من الكلام.

فالكلام متضمن شرطين هما : الدعوة ، والإذن ، فإن الدعوة قد تتقدم على الإذن وقد يقترنان كما في حديث أنس بن مالك.

و (غَيْرَ ناظِرِينَ) حال من ضمير (لَكُمْ) فهو قيد في متعلق المستثنى فيكون قيدا في قيد فصارت القيود المشروطة ثلاثة.

و (ناظِرِينَ) اسم فاعل من نظر بمعنى انتظر ، كقوله تعالى : (فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ) [يونس : ١٠٢] الآية.

ومعنى ذلك : لا تحضروا البيوت للطعام قبل تهيئة الطعام للتناول فتقعدوا تنتظرون نضجه. وعن ابن عباس نزلت في ناس من المؤمنين كانوا يتحينون طعام النبي فيدخلون قبل أن يدرك الطعام فيقعدون إلى أن يدرك ثم يأكلون ولا يخرجون ا ه. وقد يقتضي أن ذلك تكرر قبل قضية النفر الذين حضروا وليمة البناء بزينب فتكون تلك القضية خاتمة القضايا ، فكني بالانتظار عن مبادرة الحضور قبل إبان الأكل. ونكتة هذه الكناية تشويه السبق بالحضور بجعله نهما وجشعا وإن كانوا قد يحضرون لغير ذلك ، وبهذا تعلم أن ليس النهي متوجها إلى صريح الانتظار.

وموقع الاستدراك لرفع توهم أن التأخر عن إبان الطعام أفضل فأرشد الناس إلى أن تأخر الحضور عن إبان الطعام لا ينبغي بل التأخر ليس من الأدب لأنه يجعل صاحب الطعام في انتظار ، وكذلك البقاء بعد انقضاء الطعام فإنه تجاوز لحد الدعوة لأن الدعوة لحضور شيء تقتضي مفارقة المكان عند انتهائه لأن تقيد الدعوة بالغرض المخصوص يتضمن تحديدها بانتهاء ما دعي لأجله ، وكذلك الشأن في كل دخول لغرض من مشاورة أو محادثة أو سمر أو نحو ذلك ، وكل ذلك يتحدد بالعرف وما لا يثقل على صاحب المحل ، فإن كان محل لا يختص به أحد كدار الشورى والنادي فلا تحديد فيه.

و (طَعِمْتُمْ) معناه أكلتم ، يقال : طعم فلان فهو طاعم ، إذا أكل.

والانتشار : افتعال من النشر ، وهو إبداء ما كان مطويا ، أطلق على الخروج مجازا وتقدم في قوله : (وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً) في سورة الفرقان [٤٧].

٣٠٧

والواو في (وَلا مُسْتَأْنِسِينَ) عطف على (ناظِرِينَ) وما بينهما من الاستدراك وما تفرع عليه اعتراض بين المتعاطفين. وزيادة حرف النفي قبل (مُسْتَأْنِسِينَ) لتأكيد النفي كما هو الغالب في العطف على المنفي وفي تصدير المنفي نحو قوله : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ) الآية [النساء : ٦٥] وقوله : (لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ) [الحجرات : ١١] ثم قوله : (وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ) [الحجرات : ١١].

والاستئناس : طلب الأنس مع الغير. واللام في (لِحَدِيثٍ) للعلة ، أي ولا مستأنسين لأجل حديث يجري بينكم.

والحديث : الخبر عن أمر حدث ، فهو في الأصل صفة حذف موصوفها ثم غلبت على معنى الموصوف فصار بمعنى الإخبار عن أمر حدث ، وتوسّع فيه فصار الإخبار عن شيء ولو كان أمرا قد مضى. ومنه سمي ما يروى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حديثا كما يسمى خبرا ، ثم توسع فيه فصار يطلق على كل كلام يجري بين الجلساء في جد أو فكاهة ، ومنه قولهم : حديث خرافة ، وقول كثير :

أخذنا باكتراث الأحاديث تبيينا

 ... البيت

واستئناس الحديث : تسمّعه والعناية بالإصغاء إليه ، قال النابغة :

كأن رحلي وقد زال النهار بنا

يوم الجليل على مستأنس وحد

أي كأني راكب ثورا وحشيا منفردا تسمّع صوت الصائد فأسرع الهروب.

وإضافة (بُيُوتَ النَّبِيِ) على معنى لام الملك لأن تلك البيوت ملك له ملكها بالعطية من الذين كانت ساحة المسجد ملكا لهم من الأنصار ، وبالفيء لقبور المشركين التي كانت ثمة ، فإن المدينة فتحت بكلمة الإسلام فأصبحت دارا للمسلمين. ومصير تلك البيوت بعد وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مصير تركته كلها فإنه لا يورث وما تركه ينتفع منه أزواجه وآله بكفايتهم حياتهم ثم يرجع ذلك للمسلمين كما قضى به عمر بين علي والعباس فيما كان للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من فدك ونخل بني النضير ، فكان لأزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حق السكنى في بيوتهن بعده حتى توفّاهن الله من عند آخرتهن ، فلذلك أدخلها الخلفاء في المسجد حين توسعته في زمن الوليد بن عبد الملك وأمير المدينة يومئذ عمر بن عبد العزيز. ولم ينكر ذلك أحد من الصحابة ولم يعط ورثتهن شيئا ولا سألوه. وإضافتها إلى ضميرهن في قوله : (ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَ) [الأحزاب : ٣٤] على معنى لام الاختصاص لا لام الملك.

٣٠٨

قال حماد بن زيد وإسماعيل بن أبي حكيم : هذه الآية أدب أدّب الله به الثقلاء ، وقال ابن أبي عائشة : حسبك من الثقلاء أن الشرع لم يحتملهم.

ومعنى الثقل فيه هو إدخال أحد القلق والغمّ على غيره من جراء عمل لفائدة العامل أو لعدم الشعور بما يلحق غيره من الحرج من جراء ذلك العمل. وهو من مساوئ الخلق لأنه إن كان عن عمد كان ضرا بالناس وهو منهي عنه لأنه من الأذى وهو ذريعة للتباغض عند نفاد صبر المضرور ، فإن النفوس متفاوتة في مقدار تحمل الأذى ، ولأن المؤمن يحب لأخيه ما يحب لنفسه فعليه إذا أحس بأن قوله أو فعله يدخل الغم على غيره أن يكف عن ذلك ولو كان يجتني منه منفعة لنفسه إذ لا يضر بأحد لينتفع غيره إلا أن يكون لمن يأتي بالعمل حق على الآخر فإن له طلبه مع أنه مأمور بحسن التقاضي ، وإن كان إدخاله الغم على غيره عن غباوة وقلة تفطن له فإنه مذموم في ذاته وهو يصل إلى حدّ يكون الشعور به بديهيا.

وللحكماء والشعراء أقوال كثيرة في الثقلاء طفحت بها كتب أدب الأخلاق.

ومعاملة الناس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهذا الخلق أشد بعدا عن الأدب لأن للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أوقاتا لا تخلو ساعة منها عن الاشتغال بصلاح الأمة ويجب أن لا يشغل أحد أوقاته إلا بإذنه ، ولذلك قال تعالى : (إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ).

والأمر في قوله : (فَادْخُلُوا) للندب لأن إجابة الدعوة إلى الوليمة سنة ، وتقييد النهي بقوله : (غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ) للتنزيه لأن الحضور قبل تهيّؤ الطعام غير مقتضى للدعوة ولا يتضمنه الإذن فهو تطفل.

والأمر في قوله : (فَانْتَشِرُوا) للوجوب لأن دخول المنزل بغير إذن حرام ، وإنما جاز بمقتضى الدعوة للأكل فهو إذن مقيد المعنى بالغرض المأذون لأجله فإذا انقضى السبب المبيح للدخول عاد تحريم الدخول إلى أصله ؛ إلا أنه نظري قد يغفل عنه لأن أصله مأذون فيه والمأذون فيه شرعا لا يتقيّد بالسلامة إلا إذا تجاوز الحد المعروف تجاوزا بينا. وعطف (وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ) راجع إلى هذا الأمر بقوله : (فَانْتَشِرُوا) فلذلك ذكر عقبه فإن استدامة المكث في معنى الدخول ، فذكر بإثره وحصل تفنن في الكلام.

وفي هذه الآية دليل على أن طعام الوليمة وطعام الضيافة ملك للمتضيف وليس ملكا للمدعوين ولا للأضياف لأنهم إنما أذن لهم في الأكل منه خاصة ولم يملكوه فلذلك لا

٣٠٩

يجوز لأحد رفع شيء من ذلك الطعام معه.

وجملة (إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي) النبي (فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ) استئناف ابتدائي للتحذير ودفع الاغترار بسكوت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يحسبوه رضي بما فعلوا. فمناط التحذير قوله : (ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي) النبي فإن أذى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مقرر في نفوسهم أنه عمل مذموم لأن النبي عليه الصلاة والسلام أعز خلق في نفوس المؤمنين وذلك يقتضي التحرز مما يؤذيه أدنى أذى. ومناط دفع الاغترار قوله : (فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ) فإن السكوت قد يظنه الناس رضى وإذنا وربما تطرق إلى أذهان بعضهم أن جلوسهم لو كان محظورا لما سكت عليه النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فأرشدهم الله إلى أن السكوت الناشئ عن سبب هو سكوت لا دلالة له على الرضى وأنه إنما سكت حياء من مباشرتهم بالإخراج فهو استحياء خاص من عمل خاص. وإنما كان ذلك مؤذيا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن فيه ما يحول بينه وبين التفرغ لشئون النبوءة من تلقي الوحي أو العبادة أو تدبير أمر الأمة أو التأخر عن الجلوس في مجلسه لنفع المسلمين ولشئون ذاته وبيته وأهله. واقتران الخبر بحرف (أَنْ) للاهتمام به. ولك أن تجعله من تنزيل غير المتردد منزلة المتردد لأن حال النفر الذين أطالوا الجلوس والحديث في بيت النبي عليه الصلاة والسلام وعدم شعورهم بكراهيته ذلك منهم حين دخل البيت فلما وجدهم خرج ، فغفلوا عما في خروج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من البيت من إشارة إلى كراهيته بقاءهم ، تلك حالة من يظن ذلك مأذونا فيه فخوطبوا بهذا الخطاب تشديدا في التحذير واستفاقة من التغرير.

وإقحام فعل (كانَ) لإفادة تحقيق الخبر.

وصيغ (يُؤْذِي) بصيغة المضارع دون اسم الفاعل لقصد إفادة أذى متكرر ، والتكرير كناية عن الشدة.

والأذى : ما يكدر مفعوله ويسيء من قول أو فعل. وتقدم في قوله تعالى : (لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً) في آل عمران [١١١] ، وهو مراتب متفاوتة في أنواعه.

والتفريع في قوله : (فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ) تفريع على مقدر دلت عليه القصة. والتقدير: فيهمّ بإخراجكم فيستحيي منكم إذ ليس الاستحياء مفرعا على الإيذاء ولا هو من لوازمه.

ودخول (مِنَ) المتعلقة ب (يَسْتَحْيِي) على ضمير المخاطبين على تقدير مضاف ، أي يستحيي من إعلامكم بأنه يؤذيه.

وتعدية المشتقات من مادة الحياء إلى الذوات شائع يساوي الحقيقة لأن الاستحياء

٣١٠

يختلف باختلاف الذوات ، فقولك : أردت أن أفعل كذا فاستحيت من فلان ، يجوز أن تكون الحقيقة هي التعليق بذات فلان وأن تكون هي التعليق بالأحوال الملابسة له التي هي سبب الاستحياء لأجل ملابستها له. ولك أن تقول : استحييت من أن أفعل كذا بمرأى من فلان. وعلى التقدير الأول تكون (مِنَ) للتعليل ، وعلى التقدير الثاني تكون (مِنَ) للابتداء. وظاهر كلام «الكشاف» يقتضي أن : استحييت من فلان مجاز أو توسع ، وأن: استحييت من فعل كذا لأجل فلان هو الحقيقة. وظاهر كلام صاحب «الكشاف» عكس ذلك والأمر هيّن.

وصيغ فعل (فَيَسْتَحْيِي) بصيغة المضارع لأنه مفرع على يؤذي النبي ليدل على ما دل عليه المفرع هو عليه.

وفي هذه الآية دليل على أن سكوت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الفعل الواقع بحضرته إذا كان تعديا على حق لذاته لا يدل سكوته فيه على جواز الفعل لأن له أن يسامح في حقه ، ولكن يؤخذ الحظر أو الإباحة في مثله من أدلة أخرى مثل قوله تعالى هنا : (إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي) النبي ولذلك جزم علماؤنا بأن من آذى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالصراحة أو الالتزام يعزر على ذلك بحسب مرتبة الأذى والقصد إليه بعد توقيفه على الخفي منه وعدم التوبة مما تقبل في مثله التوبة منه. ولم يجعلوا في إعراض النبي عليه الصلاة والسلام عن مؤاخذة من آذاه في حياته دليلا على مشروعية تسامح الأمة في ذلك لأنه كان له أن يعفو عن حقه لقوله تعالى: (فَاعْفُ عَنْهُمْ) [المائدة : ١٣] وقوله : (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) [آل عمران : ١٥٩]. فهذا ملاك الجمع بين الإيذاء والاستحياء والحقّ في هذه الآية ، فقد تولى الله تعالى الذبّ عن حق رسوله وكفاه مئونة المضض الداعي إليه حياؤه. وقد حقق هذا المعنى وما يحف به القاضي أبو الفضل عياض في تضاعيف القسم الرابع من كتابه «الشفاء».

فإن قلت : ورد في الحديث عن أنس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج من البيت ليقوم الثلاثة الذين قعدوا يتحدثون ، فلما ذا لم يأمرهم بالخروج بدلا من خروجه هو. قلت : لأن خروجه غير صريح في كراهية جلوسهم لأنه يحتمل أن يكون لغرض آخر ، ويحتمل أن يكون لقصد انفضاض المجلس فكان من واجب الألمعية أن يخطر ببالهم أحد الاحتمالين فيتحفزوا للخروج فليس خروجه عنهم بمناف لوصف حيائه صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وجملة (وَاللهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِ) معطوفة على جملة (فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ)

٣١١

والمعنى : أن ذلك سوء أدب مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإذا كان يستحيي منكم فلا يباشركم بالإنكار ترجيحا منه للعفو عن حقه على المؤاخذة به فإن الله لا يستحيي من الحق لأن أسباب الحياء بين الخلق منتفية عن الخالق سبحانه : (وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ) [الأحزاب : ٤].

وصيغت الجملة المعطوفة على بناء الجملة الاسمية مخالفة للمعطوفة هي عليها فلم يقل: ولا يستحيي الله من الحق ، للدلالة على أن هذا الوصف ثابت دائم لله تعالى لأن الحق من صفاته ، فانتفاء ما يمنع تبليغه هو أيضا من صفاته لأن كل صفة يجب اتصاف الله بها فإن ضدها يستحيل عليه تعالى.

والتعريف في (الْحَقِ) تعريف الجنس المراد منه الاستغراق مثل التعريف في (الْحَمْدُ لِلَّهِ) [الفاتحة : ٢]. والمعنى : والله لا يستحيي من جميع أفراد جنس الحق.

و (الْحَقِ) : ضد الباطل. فمنه حق الله وحق الإسلام ، وحق الأمة جمعاء في مصالحها وإقامة آدابها ، وحق كل فرد من أفراد الأمة فيما هو من منافعه ودفع الضر عنه.

ويشتمل حق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في بيته وأوقاته ، وبهذا العموم في الحق صارت الجملة بمنزلة التذييل.

و (مِنَ) في قوله : (مِنَ الْحَقِ) ليست مثل من التي في قوله : (فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ) لأن (مِنَ) هذه متعينة لكونها للتعليل إذ الحق لا يستحيى من ذاته فمعنى «إن الله لا يستحيي من الحق» أنه لا يستحيي لبيانه وإعلانه.

وقد أفاد قوله : (وَاللهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِ) أن من واجبات دين الله على الأمة أن لا يستحيي أحد من الحق الإسلامي في إقامته ، وفي معرفته إذا حل به ما يقتضي معرفته ، وفي إبلاغه وهو تعليمه ، وفي الأخذ به ، إلا فيما يرجع إلى الحقوق الخاصة التي يرغب أصحابها في إسقاطها أو التسامح فيها مما لا يغمص حقا راجعا إلى غيره لأن الناس مأمورون بالتخلق بصفات الله تعالى اللائقة بأمثالهم بقدر الإمكان.

وهذا المعنى فهمته أمّ سليم وأقرها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على فهمها ، فقد جاء في الحديث الصحيح : «عن أم سلمة قالت : جاءت أم سليم إلى النبي فقالت : يا رسول الله إن الله لا يستحيي من الحق فهل على المرأة من غسل إذا احتلمت؟ فقال رسول الله : نعم إذا رأت الماء». فهي لم تستح في السؤال عن الحق المتعلق بها ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يستح في

٣١٢

إخبارها بذلك. ولعلها لم تجد من يسأل لها أو لم تر لزاما أن تستنيب عنها من يسأل لها عن حكم يخص ذاتها. وقد رأى علي بن أبي طالب الجمع بين طلب الحق وبين الاستحياء ، ففي «الموطأ» عن المقداد بن الأسود أن علي بن أبي طالب أمره أن يسأل له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الرجل إذا دنا من أهله فخرج منه المذي ما ذا عليه؟ قال علي : فإن عندي ابنة رسول الله وأنا أستحيي أن أسأله» الحديث.

على أن بين قضية أم سليم وقضية علي تفاوتا من جهات في مقتضى الاستحياء لا تخفى على المتبصر.

واعلم أن في ورود (يُؤْذِي) هنا ما يبطل المثال الذي أورده ابن الأثير في كتاب «المثل السائر» شاهدا على أن الكلمة قد تروق السامع في كلام ثم تكون هي بعينها مكروهة للسامع. وجاء بكلمة (يُؤْذِي) في هذه الآية ، ونظيرها (تؤذي) في قول المتنبي:

تلذ له المروءة وهي تؤذي

وزعم أن وجودها في البيت يحط من قدر المعنى الشريف الذي تضمنه البيت وأحال في الجزم بذلك على الطبع السليم ، ولا أحسب هذا الحكم إلا غضبا من ابن الأثير لا تسوّغه صناعة ولا يشهد به ذوق ، ولقد صرف أئمة الأدب همهم إلى بحث شعر المتنبي ونقده فلم يعدّ عليه أحد منهم هذا منتقدا ، مع اعتراف ابن الأثير بأن معنى البيت شريف فلم يبق له إلا أن يزعم أن كراهة هذا اللفظ فيه راجعة إلى أمر لفظي من الفصاحة ، وليس في البيت شيء من الإخلال بالفصاحة وكأنه أراد أن يقفي على قدم الشيخ عبد القاهر فيما ذكر في الفصل الذي جعله ثانيا من كتاب «دلائل الإعجاز» فإن ما انتقده الشيخ في ذلك الفصل من مواقع بعض الكلمات لا يخلو من رجوع نقده إياها إلى أصول الفصاحة أو أصول تناسب معاني الكلمات بعضها مع بعض في نظم الكلام ، وشتان ما بين الصنيعين.

(وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَ).

عطف على جملة (لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ) النبي فهي زيادة بيان للنهي عن دخول البيوت النبوية وتحديد لمقدار الضرورة التي تدعو إلى دخولها أو الوقوف بأبوابها.

وهذه الآية هي شارعة حكم حجاب أمهات المؤمنين ، وقد قيل : إنها نزلت في ذي القعدة سنة خمس.

وضمير (سَأَلْتُمُوهُنَ) عائد إلى الأزواج المفهوم من ذكر البيوت في قوله : بيوت

٣١٣

النبي فإن للبيوت ربّاتهن وزوج الرجل هي ربة البيت ، قال مرة بن محكان التميمي :

يا ربة البيت قومي غير صاغرة

ضمّي إليك رجال الحي والغربا

وقد كانوا لا يبني الرجل بيتا إلا إذا أراد التزوج. وفي حديث ابن عمر : كنت عزبا أبيت في المسجد. ومن أجل ذلك سموا الزفاف بناء. فلا جرم كانت المرأة والبيت متلازمين فدلت البيوت على الأزواج بالالتزام. ونظير هذا قوله تعالى : (وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ* إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً* فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً* عُرُباً أَتْراباً* لِأَصْحابِ الْيَمِينِ) [الواقعة : ٣٤ ـ ٣٨] فإن ذكر الفرش يستلزم أن للفراش امرأة ، فلما ذكر البيوت هنا تبادر أن للبيوت ربات.

والمتاع : ما يحتاج إلى الانتفاع به مثل عارية الأواني ونحوها ، ومثل سؤال العفاة ويلحق بذلك ما هو أولى بالحكم من سؤال عن الدّين أو عن القرآن ، وقد كانوا يسألون عائشة عن مسائل الدين.

والحجاب : السّتر المرخى على باب البيت.

وكانت الستور مرخاة على أبواب بيوت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الشارعة إلى المسجد. وقد ورد ما يبين ذلك في حديث الوفاة حين خرج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الناس وهم في الصلاة فكشف الستر ثم أرخى الستر.

و (مِنْ وَراءِ حِجابٍ) متعلق ب (فَسْئَلُوهُنَ) فهو قيد في السائل والمسئول المتعلق ضميراهما بالفعل الذي تعلق به المجرور. و (مِنَ) ابتدائية. والوراء : مكان الخلف وهو مكان نسبي باعتبار المتجه إلى جهة ، فوراء الحجاب بالنسبة للمتجهين إليه فالمسئولة مستقبلة حجابها والسائل من وراء حجابها وبالعكس.

والإشارة ب (ذلِكُمْ) إلى المذكور ، أي السؤال المقيد بكونه من وراء حجاب.

واسم التفضيل في قوله : (أَطْهَرُ) مستعمل للزيادة دون التفضيل.

والمعنى : ذلك أقوى طهارة لقلوبكم وقلوبهن فإن قلوب الفريقين طاهرة بالتقوى وتعظيم حرمات الله وحرمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولكن لما كانت التقوى لا تصل بهم إلى درجة العصمة أراد الله أن يزيدهم منها بما يكسب المؤمنين مراتب من الحفظ الإلهي من الخواطر الشيطانية بقطع أضعف أسبابها وما يقرب أمهات المؤمنين من مرتبة العصمة الثابتة لزوجهنصلى‌الله‌عليه‌وسلم فإن الطيبات للطيبين بقطع الخواطر الشيطانية عنهن بقطع دابرها ولو بالفرض.

٣١٤

وأيضا فإن للناس أوهاما وظنونا سوأى تتفاوت مراتب نفوس الناس فيها صرامة ووهنا ، ونفاقا وضعفا ، كما وقع في قضية الإفك المتقدمة في سورة النور فكان شرع حجاب أمهات المؤمنين قاطعا لكل تقول وإرجاف بعمد أو بغير عمد.

ووراء هذه الحكم كلها حكمة أخرى سامية وهي زيادة تقرير معنى أمومتهن للمؤمنين في قلوب المؤمنين التي هي أمومة جعلية شرعية بحيث إن ذلك المعنى الجعلي الروحي وهو كونهن أمهات يرتد وينعكس إلى باطن النفس وتنقطع عنه الصور الذاتية وهي كونهن فلانة أو فلانة فيصبحن غير متصوّرات إلا بعنوان الأمومة فلا يزال ذلك المعنى الروحي ينمى في النفوس ، ولا تزال الصور الحسية تتضاءل من القوة المدركة حتى يصبح معنى أمهات المؤمنين معنى قريبا في النفوس من حقائق المجردات كالملائكة ، وهذه حكمة من حكم الحجاب الذي سنه الناس لملوكهم في القدم ليكون ذلك أدخل لطاعتهم في نفوس الرعية.

وبهذه الآية مع الآية التي تقدمتها من قوله : يا نساء النبي (لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ) [الأحزاب : ٣٢] تحقق معنى الحجاب لأمهات المؤمنين المركب من ملازمتهن بيوتهن وعدم ظهور شيء من ذواتهن حتى الوجه والكفين ، وهو حجاب خاص بهن لا يجب على غيرهن ، وكان المسلمون يقتدون بأمهات المؤمنين ورعا وهم متفاوتون في ذلك على حسب العادات ، ولما أنشد النميري عند الحجاج قوله :

يخمرن أطراف البنان من التقى

ويخرجن جنح الليل معتجرات

قال الحجاج : وهكذا المرأة الحرة المسلمة.

ودل قوله : (لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَ) أن الأمر متوجه لرجال الأمة ولنساء النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم على السواء. وقد ألحق بأزواج النبي عليه‌السلام بنته فاطمة فلذلك لما خرجوا بجنازتها جعلوا عليها قبة حتى دفنت ، وكذلك جعلت قبة على زينب بنت جحش في خلافة عمر بن الخطاب.

(وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيماً).

لما جيء في بيان النهي عن المكث في بيوت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنه يؤذيه أتبع بالنهي عن أذى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نهيا عاما ، فالخطاب في (لَكُمْ) للمؤمنين المفتتح بخطابهم آية : (يا أَيُّهَا

٣١٥

الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ) النبي (إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ) الآية.

والواو عاطفة جملة على جملة أو هي واو الاعتراض بين جملة (وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً) وجملة (لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَ) [الأحزاب : ٥٥].

ودلت جملة (ما كانَ لَكُمْ) على الحظر المؤكد لأن (ما كانَ لَكُمْ) نفي للاستحقاق الذي دلت عليه اللام ، وإقحام فعل (كانَ) لتأكيد انتفاء الإذن. وهذه الصيغة من صيغ شدة التحريم.

وتضمنت هذه الآية حكمين :

أحدهما : تحريم أن يؤذوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والأذى : قول يقال له ، أو فعل يعامل به ، من شأنه أن يغضبه أو يسوءه لذاته.

والأذى تقدم في أول هذه الآيات آنفا. والمعنى : أن أذى النبي عليه الصلاة والسلام محظور على المؤمنين. وانظر الباب الثالث من القسم الثاني من كتاب «الشفاء» لعياض.

والحكم الثاني : تحريم أزواج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الناس بقوله تعالى : (وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً) وهو تقرير لحكم أمومة أزواجه للمؤمنين السالف في قوله : (وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) [الأحزاب : ٦].

وقد حكيت أقوال في سبب نزول هذه الآية : منها أن رجلا قال : لو مات محمد تزوجت عائشة ، أي قاله بمسمع ممن نقله عنه فقيل : هذا الرجل من المنافقين وهذا هو المظنون بقائل ذلك. وقيل : هو من المؤمنين ، أي خطر له ذلك في نفسه ، قاله القرطبي. وذكروا رواية عن ابن عباس وعن مقاتل أنه طلحة بن عبيد الله. وقال ابن عباس : كانت هفوة منه وتاب وكفّر بالحج ماشيا وبإعتاق رقاب كثيرة وحمل في سبيل الله على عشرة أفراس أو أبعرة. وقال ابن عطية : هذا عندي لا يصح على طلحة والله عاصمه من ذلك ، أي إن حمل على ظاهر صدور القول منه فأما إن كان خطر له ذلك في نفسه فذلك خاطر شيطاني أراد تطهير قلبه فيه بالكفارات التي أعطاها إن صح ذلك. وأقول : لا شك أنه من موضوعات الذين يطعنون في طلحة بن عبيد الله. وهذه الأخبار واهية الأسانيد ودلائل الوضع واضحة فإن طلحة إن كان قال ذلك بلسانه لم يكن ليخفى على الناس فكيف يتفرد بروايته من انفرد. وإن كان خطر ذلك في نفسه ولم يتكلم به فمن ذا الذي اطّلع على ما

٣١٦

في قلبه ، وليس بمتعين أن يكون لنزول هذه الآية سبب. فإن كان لها سبب فلا شك أنه قول بعض المنافقين لما يؤذن به قوله تعالى عقب هذه الآيات (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) [الأحزاب : ٦٠] الآية. وإنما شرعت الآية أن حكم أمومة أزواج النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم للمؤمنين حكم دائم في حياة النبي عليه الصلاة والسلام أو من بعده ولذلك اقتصر هنا على التصريح بأنه حكم ثابت من بعد ، لأن ثبوت ذلك في حياته قد علم من قوله : (وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) [الأحزاب : ٦].

وإضافة البعدية إلى ضمير ذات النبي عليه الصلاة والسلام تعيّن أن المراد بعد حياته كما هو الشائع في استعمال مثل هذه الإضافة فليس المراد بعد عصمته من نحو الطلاق لأن طلاق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أزواجه غير محتمل شرعا لقوله : (وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ) [الأحزاب : ٥٢].

وأكد ظرف (بعد) بإدخال (مِنَ) الزائدة عليه ، ثم أكد عمومه بظرف (أَبَداً) ليعلم أن ذلك لا يتطرقه النسخ ثم زيد ذلك تأكيدا وتحذيرا بقوله : (إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيماً) ، فهو استئناف مؤكد لمضمون جملة (وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ).

والإشارة إلى ما ذكر من إيذاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتزوج أزواجه ، أي ذلكم المذكور.

والعظيم هنا في الإثم والجريمة بقرينة المقام.

وتقييد العظيم بكونه عند الله للتهويل والتخويف لأنه عظيم في الشناعة. وعلة كون تزوج أحد المسلمين إحدى نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إثما عظيما عند الله ، أن الله جعل نساء النبي عليه الصلاة والسلام أمهات للمؤمنين فاقتضى ذلك أن تزوج أحد المسلمين إحداهن له حكم تزوج المرء أمّه ، وذلك إثم عظيم.

واعلم أنه لم يتبين هل التحريم الذي في الآية يختص بالنساء اللاتي بنى بهن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أو هو يعم كل امرأة عقد عليها مثل الكندية التي استعاذت منه فقال لها :الحقي بأهلك ، فتزوجها الأشعث بن قيس في زمن عمر بن الخطاب. ومثل قتيلة بنت قيس الكلبية التي زوّجها أخوها الأشعث بن قيس من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم حملها معه إلى حضرموت فتوفي رسول الله قبل قفولهما فتزوجها عكرمة بن أبي جهل وأن أبا بكر همّ بعقابه فقال له عمر : إن رسول الله لم يدخل بها.

والمرويات في هذا الباب ضعيفة. والذي عندي أن البناء والعقد كانا يكونان مقترنين

٣١٧

وأن ما يسبق البناء مما يسمونه تزويجا فإنما هو مراكنة ووعد ، ويدل لذلك ما في الصحيح أن رسول الله لما أحضرت إليه الكندية ودخل عليها رسول الله فقال لها : هبي لي نفسك (أي ليعلم أنها رضيت بما عقد لها وليها) فقالت : ما كان لملكة أن تهب نفسها لسوقة أعوذ بالله منك. فقال لها : لقد استعذت بمعاذ. فذلك ليس بطلاق ولكنه رجوع عن التزوج بها دال على أن العقد لم يقع وأن قول عمر لأبي بكر أو قول من قال لعمر : إن رسول الله لم يدخل بها هو كناية عن العقد.

وعن الشافعي تحريم تزوج من عقد عليها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ورجع إمام الحرمين والرافعي أن التحريم قاصر على التي دخل بها. على أنه يظهر أن الإضافة في قوله : (أَزْواجَهُ) بمعنى لام العهد ، أي الأزواج اللائي جاءت في شأنهن هذه الآيات من قوله : (لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ) [الأحزاب : ٥٢] فهن اللاء ثبت لهن حكم الأمهات.

وبعد فإن البحث في هذه المسألة مجرد تفقه لا يبنى عليه عمل.

(إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٥٤))

كلام جامع تحريضا وتحذيرا ومنبئ عن وعد ووعيد ، فإن ما قبله قد حوى أمرا ونهيا ، وإذ كان الامتثال متفاوتا في الظاهر والباطن وبخاصة في النوايا والمضمرات كان المقام مناسبا لتنبيههم وتذكيرهم بأن الله مطلع على كل حال من أحوالهم في ذلك وعلى كل شيء ، فالمراد من (شَيْئاً) الأول شيء مما يبدونه أو يخفونه وهو يعم كل ما يبدو وما يخفى لأن النكرة في سياق الشرط تعم. والجملة تذييل لما اشتملت عليه من العموم في قوله : (بِكُلِّ شَيْءٍ). وإظهار لفظ (شَيْءٍ) هنا دون إضمار لأن الإضمار لا يستقيم لأن الشيء المذكور ثانيا هو غير المذكور أولا ، إذ المراد بالثاني جميع الموجودات ، والمراد بالأول خصوص أحوال الناس الظاهرة والباطنة ، فالله عليم بكل كائن ومن جملة ذلك ما يبدونه ويخفونه من أحوالهم.

(لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللهَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (٥٥))

تخصيص من عموم الأمر بالحجاب الذي اقتضاه قوله : (فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ

٣١٨

حِجابٍ) [الأحزاب : ٥٣].

وإنما رفع الجناح عن نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تنبيها على أنهن مأمورات بالحجاب كما أمر رجال المسلمين بذلك معهن فكان المعنى : لا جناح عليهن ولا عليكم ، كما أن معنى (فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) أنهن أيضا يجبن من وراء حجاب كما تقدمت الإشارة إليه يقوله : (ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَ) [الأحزاب : ٥٣].

والظرفية المفادة من حرف (فِي) مجازية شائعة في مثله ، يقال : لا جناح عليك في كذا ، فهو كالحقيقة فلا تلاحظ فيه الاستعارة ، والمجرور مقدر فيه مضاف تقديره : في رؤية آبائهن إيّاهن ، وإنما رجح جانبهن هنا لأنه في معنى الإذن ، لأن الرجال مأمورون بالاستئذان كما اقتضته آية سورة النور ، والإذن يصدر منهن فلذلك رجّح هنا جانبهن فأضيف الحكم إليهن.

والنساء : اسم جمع امرأة لا مفرد له من لفظه في كلامهم ، وهن الإناث البالغات أو المراهقات.

والمراد ب (نِسائِهِنَ) جميع النساء ، فإضافته إلى ضمير الأزواج اعتبار بالغالب لأن الغالب أن تكون النساء اللاتي يدخلن على أمهات المؤمنين نساء اعتدن أن يدخلن عليهن ، والمراد جميع النساء.

ولم يذكر من أصناف الأقرباء الأعمام ولا الأخوال لأن ذكر أبناء الإخوان وأبناء الأخوات يقتضي اتحاد الحكم ، من أنه لما رفع الحرج عنهن فيمن هن عمات لهن أو خالات كان رفع الحرج عنهن في الأعمام والأخوال كذلك ، وأما قرابة الرضاعة فمعلومة من السنة ، فأريد الاختصار هنا إذ المقصود التنبيه على تحقيق الحجاب ليفضي إلى قوله : (وَاتَّقِينَ اللهَ).

والتفت من الغيبة إلى خطابهن في قوله : (وَاتَّقِينَ اللهَ) لتشريف نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتوجيه الخطاب الإلهي إليهن.

والشهيد : الشاهد مبالغة في الفعل.

(إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (٥٦))

٣١٩

أعقبت أحكام معاملة أزواج النبي عليه الصلاة والسلام بالثناء عليه وتشريف مقامه إيماء إلى أن تلك الأحكام جارية على مناسبة عظمة مقام النبي عليه الصلاة والسلام عند الله تعالى ، وإلى أن لأزواجه من ذلك التشريف حظّا عظيما. ولذلك كانت صيغة الصلاة عليه التي علّمها للمسلمين مشتملة على ذكر أزواجه كما سيأتي قريبا ، وليجعل ذلك تمهيدا لأمر المؤمنين بتكرير ذكر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالثناء والدعاء والتعظيم ، وذكر صلاة الملائكة مع صلاة الله ليكون مثالا من صلاة أشرف المخلوقات على الرسول لتقريب درجة صلاة المؤمنين التي يؤمرون بها عقب ذلك ، والتأكيد للاهتمام. ومجيء الجملة الاسمية لتقوية الخبر ، وافتتاحها باسم الجلالة لإدخال المهابة والتعظيم في هذا الحكم ، والصلاة من الله والملائكة تقدم الكلام عليها عند قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ) في هذه السورة [٤٣]. وهذه صلاة خاصة هي أرفع صلاة مما شمله قوله (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ) لأن عظمة مقام النبي يقتضي عظمة الصلاة عليه.

وجملة (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ) هي المقصودة وما قبلها توطئة لها وتمهيد لأن الله لما حذّر المؤمنين من كل ما يؤذي الرسول عليه الصلاة والسلام أعقبه بأن ذلك ليس هو أقصى حظهم من معاملة رسولهم أن يتركوا أذاه بل حظّهم أكبر من ذلك وهو أن يصلّوا عليه ويسلّموا ، وذلك هو إكرامهم الرسول عليه الصلاة والسلام فيما بينهم وبين ربهم فهو يدل على وجوب إكرامه في أقوالهم وأفعالهم بحضرته بدلالة الفحوى ، فجملة (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) بمنزلة النتيجة الواقعة بعد التمهيد. وجيء في صلاة الله وملائكته بالمضارع الدال على التجديد والتكرير ليكون أمر المؤمنين بالصلاة عليه والتسليم عقب ذلك مشيرا إلى تكرير ذلك منهم إسوة بصلاة الله وملائكته.

والأمر بالصلاة عليه معناه : إيجاد الصلاة ، وهي الدعاء ، فالأمر يؤول إلى إيجاد أقوال فيها دعاء وهو مجمل في الكيفية.

والصلاة : ذكر بخير ، وأقوال تجلب الخير ، فلا جرم كان الدعاء هو أشهر مسميات الصلاة ، فصلاة الله : كلامه الذي يقدّر به خيرا لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن حقيقة الدعاء في جانب الله معطّل ، لأن الله هو الذي يدعوه الناس ، وصلاة الملائكة والناس : استغفار ودعاء بالرحمات.

وظاهر الأمر أن الواجب كلّ كلام فيه دعاء للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولكن الصحابة لما نزلت هذه الآية سألوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن كيفية هذه الصلاة قالوا : «يا رسول الله هذا السلام عليك

٣٢٠