تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢١

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢١

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٥٩

قد علمناه فكيف نصلي عليك؟» يعنون أنهم علموا السلام عليه من صيغة بثّ السلام بين المسلمين وفي التشهد فالسلام بين المسلمين صيغته : السلام عليكم. والسلام في التشهد هو «السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته» أو «السلام على النبي ورحمة الله وبركاته». فقال رسول الله : قولوا : «اللهم صلّ على محمد وعلى أزواجه وذريته كما صليت على إبراهيم ، وبارك على محمد وأزواجه وذريته كما باركت على إبراهيم إنك حميد مجيد». هذه رواية مالك في «الموطأ» عن أبي حميد الساعدي.

وروي أيضا عن أبي مسعود الأنصاري بلفظ «وعلى آل محمد» (عن أزواجه وذريته في الموضعين) وبزيادة «في العالمين» ، قبل : «إنك حميد مجيد. والسلام كما قد علمتم». وهما أصح ما روي كما قال أبو بكر بن العربي. وهناك روايات خمس أخرى متقاربة المعنى وفي بعضها زيادة وقد استقصاها ابن العربي في «أحكام القرآن». ومرجع صيغها إلى توجه إلى الله بأن يفيض خيرات على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن معنى الصلاة الدعاء ، والدعاء من حسن الأقوال ، ودعاء المؤمنين لا يتوجه إلّا إلى الله.

وظاهر صيغة الأمر مع قرينة السياق يقتضي وجوب أن يصلي المؤمن على النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إلا أنه كان مجملا في العدد فمحمله محمل الأمر المجمل أن يفيد المرة لأنها ضرورية لإيقاع الفعل ولمقتضى الأمر. ولذلك اتفق فقهاء الأمة على أن واجبا على كل مؤمن أن يصلي على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرة في العمر ، فجعلوا وقتها العمر كالحج. وقد اختلفوا فيما زاد على ذلك في حكمه ومقداره ، ولا خلاف في استحباب الإكثار من الصلاة عليه وخاصة عند وجود أسبابها. قال الشافعي وإسحاق ومحمد بن المواز من المالكية واختاره أبو بكر بن العربي من المالكية : إن الصلاة عليه فرض في الصلاة فمن تركها بطلت صلاته. قال إسحاق : ولو كان ناسيا.

وظاهر حكايتهم عن الشافعي أن تركها إنما يبطل الصلاة إذا كان عمدا وكأنهم جعلوا ذلك بيانا للإجمال الذي في الأمر من جهة الوقت والعدد ، فجعلوا الوقت هو إيقاع الصلاة للمقارنة بين الصلاة والتسليم ، والتسليم وارد في التشهد ، فتكون الصلاة معه على نحو ما استدل أبو بكر الصديق رضي‌الله‌عنه من قوله : لأقاتلنّ من فرق بين الصلاة والزكاة ، فإذا كان هذا مأخذهم فهو ضعيف لأن الآية لم ترد في مقام أحكام الصلاة ، وإلا فليس له أن يبين مجملا بلا دليل.

وقال جمهور العلماء : هي في الصلاة مستحبة وهي في التشهد الأخير وهو الذي

٣٢١

جرى عليه الشافعية أيضا. قال الخطابي : ولا أعلم للشافعي فيها قدوة وهو مخالف لعمل السلف قبله ، وقد شنع عليه في هذه المسألة جدا. وهذا تشهد ابن مسعود الذي علمه النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم والذي اختاره الشافعي ليس فيه الصلاة على النبي ، كذلك كل من روى التشهد عن رسول الله. قال ابن عمر : كان أبو بكر يعلمنا التشهد على المنبر كما تعلمون الصبيان في الكتّاب ، وعلمه أيضا على المنبر عمر ، وليس في شيء من ذلك ذكر الصلاة على النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم. قلت : فمن قال إنها سنة في الصلاة فإنما أراد المستحب.

وأما حديث «لا صلاة لمن لم يصل عليّ» فقد ضعفه أهل الحديث كلهم.

ومن أسباب الصلاة عليه أن يصلي عليه من جرى ذكره عنده ، وكذلك في افتتاح الكتب والرسائل ، وعند الدعاء ، وعند سماع الأذان ، وعند انتهاء المؤذن ، وعند دخول المسجد ، وفي التشهد الأخير.

وفي التوطئة للأمر بالصلاة على النبي بذكر الفعل المضارع في (يُصَلُّونَ) إشارة إلى الترغيب في الإكثار من الصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تأسّيا بصلاة الله وملائكته.

واعلم أنا لم نقف على أن أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانوا يصلون على النبي كلما جرى ذكر اسمه ولا أن يكتبوا الصلاة عليه إذا كتبوا اسمه ولم نقف على تعيين مبدأ كتابة ذلك بين المسلمين.

والذي يبدو أنهم كانوا يصلون على النبي إذا تذكروا بعض شئونه كما كانوا يترحمون على الميّت إذا ذكروا بعض محاسنه. وفي «السيرة الحلبية» : «لما توفي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم واعترى عمر من الدهش ما هو معلوم وتكلم أبو بكر بما هو معلوم قال عمر : إنا لله وإنا إليه راجعون صلوات الله على رسوله وعند الله نحتسب رسوله» وروى البخاري في باب : متى يحلّ المعتمر : عن أسماء بنت أبي بكر أنها كانت تقول كلما مرت بالحجون «صلى الله على رسوله محمد وسلّم لقد نزلنا معه هاهنا ونحن يومئذ خفاف» إلى آخره.

وفي باب ما يقول عند دخول المسجد من «جامع الترمذي» حديث فاطمة بنت الحسين عن جدتها فاطمة الكبرى قالت : كان رسول الله إذا دخل المسجد صلّى على محمد وسلّم وقال : رب اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك ، وإذا خرج صلّى على محمد وسلّم وقال : رب اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب فضلك ، قال الترمذي : حديث

٣٢٢

حسن وليس إسناده بمتصل.

ومن هذا القبيل ما ذكره ابن الأثير في «التاريخ الكامل» في حوادث سنة خمس وأربعين ومائة : أن عبد الله بن مصعب بن ثابت رثى محمدا النفس الزكية بأبيات منها :

والله لو شهد النبي محمد

صلى الإله على النبي وسلّما

ثم أحدثت الصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أوائل الكتب في زمن هارون الرشيد ، ذكر ذلك ابن الأثير في «الكامل» في سنة إحدى وثمانين ومائة ، وذكره عياض في «الشفاء» ، ولم يذكرا صيغة التصلية. وفي «المخصص» لابن سيده في ذكر الخف والنعل : إن أبا محلّم بعث إلى حذّاء بنعل ليحذوها وقال له : «ثم سنّ شفرتك وسنّ رأس الإزميل ثم سمّ باسم الله وصلّ على محمد ثم انحها» إلى آخره.

ولا شك أن اتباع اسم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالصلاة عليه في كتب الحديث والتفسير وغيرها كان موجودا في القرن الرابع ، وقد وقفت على قطعة عتيقة من تفسير يحيى بن سلام البصري مؤرخ نسخها سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة فإذا فيها الصلاة على النبي عقب ذكره اسمه.

وأحسب أن الذين سنّوا ذلك هم أهل الحديث. قال النووي في مقدمة شرحه على «صحيح مسلم» «يستحب لكاتب الحديث إذا مر بذكر الله أن يكتب عزوجل ، أو تعالى ، أو سبحانه وتعالى ، أو تبارك وتعالى ، أو جل ذكره ، أو تبارك اسمه ، أو جلت عظمته ، أو ما أشبه ذلك ، وكذلك يكتب عند ذكر النبي «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» بكمالها لا رامزا إليها ولا مقتصرا على بعضها ، ويكتب ذلك وإن لم يكن مكتوبا في الأصل الذي ينقل منه فإن هذا ليس رواية وإنما هو دعاء. وينبغي للقارئ أن يقرأ كل ما ذكرناه وإن لم يكن مذكورا في الأصل الذي يقرأ منه ولا يسأم من تكرر ذلك ، ومن أغفل ذلك حرم خيرا عظيما» اه.

وقوله : (وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) القول فيه كالقول في (صَلُّوا عَلَيْهِ) حكما ومكانا وصفة فإن صفته حددت بقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «والسلام كما قد علمتم» فإن المعلوم هو صيغته التي في التشهد «السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته». وكان ابن عمر يقول فيه بعد وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «السلام على النبي ورحمة الله وبركاته». والجمهور أبقوا لفظه على اللفظ الذي كان في حياة النبي عليه الصلاة والسلام رعيا لما ورد عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه حي يبلغه تسليم أمته عليه.

٣٢٣

ومن أجل هذا المعنى أبقيت له صيغة التسليم على الأحياء وهي الصيغة التي يتقدم فيها لفظ التسليم على المتعلّق به لأن التسليم على الأموات يكون بتقديم المجرور على لفظ السلام. وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للذي سلم عليه فقال : عليك السلام يا رسول الله فقال له : «إن عليك السلام تحية الموتى ، فقل : السلام عليك».

والتسليم مشهور في أنه التحية بالسلام ، والسلام فيه بمعنى الأمان والسلامة ، وجعل تحية في الأولين عند اللقاء مبادأة بالتأمين من الاعتداء والثأر ونحو ذلك إذ كانوا إذ اتقوا أحدا توجّسوا خيفة أن يكون مضمرا شرا لملاقيه ، فكلاهما يدفع ذلك الخوف بالإخبار بأنه ملق على ملاقيه سلامة وأمنا. ثم شاع ذلك حتى صار هذا اللفظ دالا على الكرامة والتلطف ، قال النابغة :

أتاركة تدللها قطام

وضنّا بالتحية والسلام

ولذلك كان قوله تعالى : (وَسَلِّمُوا) غير مجمل ولا محتاج إلى بيان فلم يسأل عنه الصحابة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقالوا : هذا السلام قد عرفناه ، وقال لهم : والسلام كما قد علمتم ، أي كما قد علمتم من صيغة السلام بين المسلمين ومن ألفاظ التشهد في الصلاة.

وإذ قد كانت صيغة السلام معروفة كان المأمور به هو ما يماثل تلك الصيغة أعني أن نقول : السلام على النبي أو عليه‌السلام ، وأن ليس ذلك بتوجه إلى الله تعالى بأن يسلم على النبي بخلاف التصلية لما علمت ممّا اقتضى ذلك فيها.

والآية تضمنت الأمر بشيئين : الصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والتسليم عليه ، ولم تقتض جمعهما في كلام واحد وهما مفرقان في كلمات التشهد فالمسلم مخيّر بين أن يقرن بين الصلاة والتسليم بأن يقول : صلى الله على محمد والسلام عليه ، أو أن يقول : اللهم صل على محمد والسلام على محمد ، فيأتي في جانب التصلية بصيغة طلب ذلك من الله ، وفي جانب التسليم بصيغة إنشاء السلام بمنزلة التحية له ، وبين أن يفرد الصلاة ويفرد التسليم وهو ظاهر الحديث الذي رواه عياض في «الشفاء» أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : لقيت جبريل فقال لي : أبشرك أن الله يقول : من سلّم عليك سلمت عليه ومن صلّى عليك صلّيت عليه. وعن النووي أنه قال بكراهة إفراد الصلاة والتسليم ، وقال ابن حجر : لعله أراد خلاف الأولى. وفي الاعتذار والمعتذر عنه نظر إذ لا دليل على ذلك.

وأما أن يقال : اللهم سلم على محمد ، فليس بوارد فيه مسند صحيح ولا حسن عن

٣٢٤

النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يرد عنه إلا بصيغة إنشاء السلام مثل ما في التحية ، ولكنهم تسامحوا في حالة الاقتران بين التصلية والتسليم فقالوا : صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لقصد الاختصار فيما نرى. وقد استمر عليه عمل الناس من أهل العلم والفضل. وفي حديث أسماء بنت أبي بكر المتقدم أنها قالت : «صلى الله على محمد وسلّم».

ومعنى تسليم الله عليه إكرامه وتعظيمه فإن السلام كناية عن ذلك.

وقد استحسن أئمة السلف أن يجعل الدعاء بالصلاة مخصوصا بالنبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وعن مالك : لا يصلّى على غير نبيئنا من الأنبياء. يريد أن تلك هي السنة ، وروي مثله عن ابن عباس ، وروي عن عمر بن عبد العزيز : أن الصلاة خاصة بالنبيئين كلهم.

وأما التسليم في الغيبة فمقصور عليه وعلى الأنبياء والملائكة لا يشركهم فيه غيرهم من عباد الله الصالحين لقوله تعالى : (سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ) [الصافات : ٧٩] ، وقوله : (سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ) [الصافات : ١٣٠] ، (سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ) [الصافات : ١٢٠] ، (سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ) [الصافات : ١٠٩].

وأنه يجوز اتباع آلهم وأصحابهم وصالحي المؤمنين إياهم في ذلك دون استقلال. هذا الذي استقر عليه اصطلاح أهل السنة ولم يقصدوا بذلك تحريما ولكنه اصطلاح وتمييز لمراتب رجال الدين ، كما قصروا الرضى على الأصحاب وأئمة الدين ، وقصروا كلمات الإجلال نحو : تبارك وتعالى ، وجل جلاله ، على الخالق دون الأنبياء والرسل.

وأما الشيعة فإنهم يذكرون التسليم على عليّ وفاطمة وآلهما ، وهو مخالف لعمل السلف فلا ينبغي اتباعهم فيه لأنهم قصدوا به الغضّ من الخلفاء والصحابة.

وانتصب (تَسْلِيماً) على أنه مصدر مؤكد ل (سَلِّمُوا) وإنما لم يؤكد الأمر بالصلاة عليه بمصدر فيقال : صلّوا عليه صلاة ، لأن الصلاة غلب إطلاقها على معنى الاسم دون المصدر ، وقياس المصدر التصلية ولم يستعمل في الكلام لأنه اشتهر في الإحراق ، قال تعالى : (وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ) [الواقعة : ٩٤] ، على أن الأمر بالصلاة عليه قد حصل تأكيده بالمعنى لا بالتأكيد الاصطلاحي فإن التمهيد له بقوله : (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى) النبي مشير إلى التحريض على الاقتداء بشأن الله وملائكته.

(إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً (٥٧))

٣٢٥

لما أرشد الله المؤمنين إلى تناهي مراتب حرمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتكريمه وحذّرهم مما قد يخفى على بعضهم من خفيّ الأذى في جانبه بقوله : (إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي) النبي [الأحزاب : ٥٣] وقوله : (وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ) [الأحزاب : ٥٣] وعلمهم كيف يعاملونه معاملة التوقير والتكريم بقوله : (وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ) [الأحزاب : ٥٣] وقوله : (وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيماً) [الأحزاب : ٥٣] وقوله : (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ) على النبي [الأحزاب : ٥٦] الآية ، وعلم أنهم قد امتثلوا أو تعلموا أردف ذلك بوعيد قوم اتسموا بسمات المؤمنين وكان من دأبهم السعي فيما يؤذي الرسول عليه الصلاة والسلام فأعلم الله المؤمنين بأن أولئك ملعونون في الدنيا والآخرة ليعلم المؤمنون أن أولئك ليسوا من الإيمان في شيء وأنهم منافقون لأن مثل هذا الوعيد لا يعهد إلا للكافرين.

فالجملة مستأنفة استئنافا بيانيا لأنه يخطر في نفوس كثير ممن يسمع الآيات السابقة أن يتساءلوا عن حال قوم قد علم منهم قلة التحرز من أذى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما لا يليق بتوقيره.

وجيء باسم الموصول للدلالة على أنهم عرفوا بأن إيذاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أحوالهم المختصة بهم ، ولدلالة الصلة على أن أذى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو علة لعنهم وعذابهم.

واللعن : الإبعاد عن الرحمة وتحقير الملعون. فهم في الدنيا محقرون عند المسلمين ومحرومون من لطف الله وعنايته ، وهم في الآخرة محقرون بالإهانة في الحشر وفي الدخول في النار.

والعذاب المهين : هو عذاب جهنم في الآخرة وهو مهين لأنه عذاب مشوب بتحقير وخزي.

والقرن بين أذى الله ورسوله للإشارة إلى أن أذى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يغضب الله تعالى فكأنه أذى لله.

وفعل (يُؤْذُونَ) معدى إلى اسم الله على معنى المجاز المرسل في اجتلاب غضب الله وتعديته إلى الرسول حقيقة. فاستعمل (يُؤْذُونَ) في معنييه المجازي والحقيقي.

ومعنى هذا قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من آذاني فقد آذى الله» وأذى الرسول عليه الصلاة والسلام يحصل بالإنكار عليه فيما يفعله ، وبالكيد له ، وبأذى أهله مثل المتكلمين في

٣٢٦

الإفك ، والطاعنين أعماله ، كالطعن في إمارة زيد وأسامة ، والطعن في أخذه صفية لنفسه. وعن ابن عباس «إنها نزلت في الذين طعنوا في اتخاذ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صفية بنت حييّ لنفسه».

(وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (٥٨))

ألحقت حرمة المؤمنين بحرمة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم تنويها بشأنهم ، وذكروا على حدة للإشارة إلى نزول رتبتهم عن رتبة الرسول عليه الصلاة والسلام. وهذا من الاستطراد معترض بين أحكام حرمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وآداب أزواجه وبناته والمؤمنات.

وعطف (الْمُؤْمِناتِ) على (الْمُؤْمِنِينَ) للتصريح بمساواة الحكم وإن كان ذلك معلوما من الشريعة ، لوزع المؤذين عن أذى المؤمنات لأنهن جانب ضعيف بخلاف الرجال فقد يزعهم عنهم اتقاء غضبهم وثأرهم لأنفسهم.

والمراد بالأذى : أذى القول بقرينة قوله : (فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً) لأن البهتان من أنواع الأقوال وذلك تحقير لأقوالهم ، وأتبع ذلك التحقير بأنه إثم مبين. والمراد بالمبين العظيم القوي ، أي جرما من أشد الجرم ، وهو وعيد بالعقاب عليه.

وضمير (اكْتَسَبُوا) عائد إلى المؤمنين والمؤمنات على سبيل التغليب ، والمجرور في موضع الحال. وهذا الحال لزيادة تشنيع ذلك الأذى بأنه ظلم وكذب.

وليس المراد بالحال تقييد الحكم حتى يكون مفهومه جواز أذى المؤمنين والمؤمنات بما اكتسبوا ، أي أن يسبوا بعمل ذميم اكتسبوه لأن الجزاء على ذلك ليس موكولا لعموم الناس ولكنه موكول إلى ولاة الأمور كما قال تعالى : (وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما) [النساء : ١٦]. وقد نهى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الغيبة وقال : «هي أن تذكر أخاك بما يكره. فقيل : وإن كان حقا. قال : إن كان غير حق فذلك البهتان» فأما تغيير المنكر فلا يصحبه أذى.

وما صدق الموصول في قوله : (مَا اكْتَسَبُوا) سيّئا ، أي بغير ما اكتسبوا من سيّئ.

ومعنى (احْتَمَلُوا) كلّفوا أنفسهم حملا ، وذلك تمثيل للبهتان بحمل ثقيل على صاحبه ، وقد تقدم نظيره في قوله تعالى : (وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً) في سورة النساء [١١٢].

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ

٣٢٧

ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥٩))

أتبع النهي عن أذى المؤمنات بأن أمرن باتقاء أسباب الأذى لأن من شأن المطالب السعي في تذليل وسائلها كما قال تعالى : (وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها) [الإسراء: ١٩] وقال أبو الأسود :

ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها

إن السفينة لا تجري على اليبس

وهذا يرجع إلى قاعدة التعاون على إقامة المصالح وإماتة المفاسد. وفي الحديث : «رحم الله والدا أعان ولده على بره». وهذا الحديث ضعيف السند لكنه صحيح المعنى لأن بر الوالدين مطلوب ، فالإعانة عليه إعانة على وجود المعروف والخير.

وابتدئ بأزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبناته لأنهن أكمل النساء ، فذكرهن من ذكر بعض أفراد العام للاهتمام به.

والنساء : اسم جمع للمرأة لا مفرد له من لفظه ، وقد تقدم آنفا عند قوله تعالى : (وَلا نِسائِهِنَ) [الأحزاب : ٥٥]. فليس المراد بالنساء هنا أزواج المؤمنين بل المراد الإناث المؤمنات ، وإضافته إلى المؤمنين على معنى (من) أي النساء من المؤمنين.

والجلابيب : جمع جلباب وهو ثوب أصغر من الرداء وأكبر من الخمار والقناع ، تضعه المرأة على رأسها فيتدلى جانباه على عذاريها وينسدل سائره على كتفها وظهرها ، تلبسه عند الخروج والسفر.

وهيئات لبس الجلابيب مختلفة باختلاف أحوال النساء تبينها العادات. والمقصود هو ما دل عليه قوله تعالى : (ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ).

والإدناء : التقريب ، وهو كناية عن اللبس والوضع ، أي يضعن عليهن جلابيبهن ، قال بشار :

ليلة تلبس البياض من الشهر

وأخرى تدني جلابيب سودا

فقابل ب (تدني) (تلبس) فالإدناء هنا اللبس.

وكان لبس الجلباب من شعار الحرائر فكانت الإماء لا يلبسن الجلابيب. وكانت الحرائر يلبسن الجلابيب عند الخروج إلى الزيارات ونحوها فكنّ لا يلبسنها في الليل وعند الخروج إلى المناصع ، وما كنّ يخرجن إليها إلا ليلا فأمرن بلبس الجلابيب في كل خروج

٣٢٨

ليعرف أنهن حرائر فلا يتعرض إليهن شباب الدّعّار يحسبهن إماء أو يتعرض إليهن المنافقون استخفافا بهن بالأقوال التي تخجلهن فيتأذين من ذلك وربما يسببن الذين يؤذونهن فيحصل أذى من الجانبين. فهذا من سدّ الذريعة.

والإشارة ب (ذلِكَ) إلى الإدناء المفهوم من (يُدْنِينَ) ، أي ذلك اللباس أقرب إلى أن يعرف أنهن حرائر بشعار الحرائر فيتجنب الرجال إيذاءهن فيسلموا وتسلمن. وكان عمر بن الخطاب مدة خلافته يمنع الإماء من التقنع كيلا يلتبسن بالحرائر ويضرب من تتقنّع منهن بالدّرة ثم زال ذلك بعده ، فذلك قول كثير :

هنّ الحرائر لا ربات أخمرة

سود المحاجر لا يقرأن بالسور

والتذييل بقوله : (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) صفح عما سبق من أذى الحرائر قبل تنبيه الناس إلى هذا الأدب الإسلامي ، والتذييل يقتضي انتهاء الغرض.

[٦٠ ، ٦١] (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلاَّ قَلِيلاً (٦٠) مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً (٦١))

انتقال من زجر قوم عرفوا بأذى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين والمؤمنات ، ومن توعدهم بغضب الله عليهم في الدنيا والآخرة إلى تهديدهم بعقاب في الدنيا يشرعه الله لهم إن هم لم يقلعوا عن ذلك للعلم بأن لا ينفع في أولئك وعيد الآخرة لأنهم لا يؤمنون بالبعث ، وأولئك هم المنافقون الذين ابتدئ التعريض بهم من قوله تعالى : (وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ) إلى قوله تعالى : (عَظِيماً) [الأحزاب : ٥٣] ، ثم من قوله : (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) إلى قوله : (ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ) [الأحزاب : ٥٧ ـ ٥٩].

وصرح هنا بما كني عنه في الآيات السالفة إذ عبر عنهم بالمنافقين فعلم أن الذين يؤذون الله ورسوله هم المنافقون ومن لفّ لفّهم.

و (الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) قد ذكرناهم في أول السورة وهم المنطوون على النفاق أو التردد في الإيمان.

و (الْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ) : هم المنافقون ، فالأوصاف الثلاثة لشيء واحد ، قاله أبو رزين.

٣٢٩

وجملة (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ) استئناف ابتدائي. وحذف مفعول (يَنْتَهِ) لظهوره ، أي لم ينتهوا عن أذى الرسول والمؤمنين.

والإرجاف : إشاعة الأخبار. وفيه معنى كون الأخبار كاذبة أو مسيئة لأصحابها يعيدونها في المجالس ليطمئن السامعون لها مرة بعد مرة بأنها صادقة لأن الإشاعة إنما تقصد للترويج بشيء غير واقع أو مما لا يصدّق به لاشتقاق ذلك من الرجف والرجفان وهو الاضطراب والتزلزل.

فالمرجفون قوم يتلقون الأخبار فيحدّثون بها في مجالس ونواد ويخبرون بها من يسأل ومن لا يسأل. ومعنى الإرجاف هنا : أنهم يرجفون بما يؤذي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمين والمسلمات ، ويتحدثون عن سرايا المسلمين فيقولون : هزموا أو أسرع فيهم القتل أو نحو ذلك لإيقاع الشك في نفوس الناس والخوف وسوء ظن بعضهم ببعض. وهم من المنافقين والذين في قلوبهم مرض وأتباعهم وهم الذين قال الله فيهم (وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ) في سورة النساء [٨٣].

فهذه الأوصاف لأصناف من الناس. وكان أكثر المرجفين من اليهود وليسوا من المؤمنين لأن قوله عقبه (لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ) لا يساعد أن فيهم مؤمنين.

واللام في (لَئِنْ) موطئة للقسم ، فالكلام بعدها قسم محذوف. والتقدير : والله لئن لم ينته.

واللام في (لَنُغْرِيَنَّكَ) لام جواب القسم ، وجواب القسم دليل على جواب الشرط.

والإغراء : الحثّ والتحريض على فعل. ويتعدّى فعله بحرف (على) وبالباء ، والأكثر أن تعديته ب (على) تفيد حثا على الفعل مطلقا في حدّ ذاته وأن تعديته بالباء تفيد حثا على الإيقاع بشخص لأن الباء للملابسة. فالمغرى عليه ملابس لذات المجرور بالباء ، أي واقعا عليها. فلا يقال : أغريته به ، إذا حرضه على إحسان إليه.

فالمعنى : لنغرينك بعقوبتهم ، أي بأن تغري المسلمين بهم كما دل عليه قوله : (أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً) فإذا حلّ ذلك بهم انجلوا عن المدينة فائزين بأنفسهم وأموالهم وأهليهم.

واختير عطف جملة (لا يُجاوِرُونَكَ) ب (ثُمَ) دون الفاء للدلالة على تراخي انتفاء المجاورة عن الإغراء بهم تراخي رتبة لأن الخروج من الأوطان أشد على النفوس مما

٣٣٠

يلحقها من ضر في الأبدان كما قال تعالى : (وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) [البقرة : ١٩١] أي وفتنة الإخراج من بلدهم أشد عليهم من القتل.

واستثناء (إِلَّا قَلِيلاً) لتأكيد نفي المجاورة وأنه ليس جاريا على طريقة المبالغة أي لا يبقون معك في المدينة إلّا مدة قليلة ، وهي ما بين نزول الآية والإيقاع بهم. و (قَلِيلاً) صفة لمحذوف دلّ عليه (يُجاوِرُونَكَ) أي جوارا قليلا ، وقلته باعتبار مدة زمنه. وجعله صاحب «الكشاف» صفة لزمن محذوف فإن وقوع ضميرهم في حيز النفي يقتضي إفرادهم ، وعموم الأشخاص يقتضي عموم أزمانها فيكون منصوبا على الوصف لاسم الزمان وليس هو ظرفا.

و (مَلْعُونِينَ) حال مما تضمنه (قَلِيلاً) من معنى الجوار. فالجوار مصدر يتحمل ضمير صاحبه لأن أصل المصدر أن يضاف إلى فاعله ، والتقدير : إلا جوارهم ملعونين. وجعل صاحب «الكشاف» (مَلْعُونِينَ) مستثنى من أحوال بأن يكون حرف الاستثناء دخل على الظرف والحال كما في قوله تعالى : (إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ) [الأحزاب : ٥٣]. وبون ما بين هذا وبين ما نظره به لأن ذلك مشتمل على ما يصلح مجيء الحال منه. والوجه هنا هو ما سلكناه في تقدير نظمه.

واللعن : الإبعاد والطرد. وتقدم قوله تعالى : (وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ) في سورة الحجر [٣٥] ، وهو مستعمل هنا كناية عن الإهانة والتجنب في المدينة ، أي يعاملهم المسلمون بتجنبهم عن مخالطتهم ويبتعدون هم من المؤمنين اتقاء ووجلا فتضمن أن يكونوا متوارين مختفين خوفا من بطش المؤمنين بهم حيث أغراهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ففي قوله : (مَلْعُونِينَ) إيجاز بديع.

وقوله : (أَيْنَما ثُقِفُوا) ظرف مضاف إلى جملة وهو متعلق ب (مَلْعُونِينَ) لأن (مَلْعُونِينَ) حال منهم بعد صفتهم بأنهم في المدينة ، فأفاد عموم أمكنة المدينة. و (أَيْنَما) : اسم زمان متضمن معنى الشرط. والثقف : الظفر والعثور على العدوّ بدون قصد. وقد مهّد لهذا الفعل قوله : (مَلْعُونِينَ) كما تقدم.

ومعنى (أُخِذُوا) أمسكوا. والأخذ : الإمساك والقبض ، أي أسروا ، والمراد : أخذت أموالهم إذ أغرى الله النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهم.

والتقتيل : قوة القتل. والقوة هنا بمعنى الكثرة لأن الشيء الكثير قوي في أصناف

٣٣١

نوعه وأيضا هو شديد في كونه سريعا لا إمهال لهم فيه.

و (تَقْتِيلاً) مصدر مؤكد لعامله ، أي قتّلوا قتلا شديدا شاملا. فالتأكيد هنا تأكيد لتسلط القتل على جميع الأفراد المدلولة لضمير (قُتِّلُوا) ، لرفع احتمال المجاز في عموم القتل ، فالمعنى : قتلوا قتلا شديدا لا يفلت منه أحد.

وبهذا الوعيد انكفّ المنافقون عن أذاة المسلمين وعن الإرجاف فلم يقع التقتيل فيهم إذ لم يحفظ أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قتل منهم أحدا ولا أنهم خرج منهم أحد.

وهذه الآية ترشد إلى تقديم إصلاح الفاسد من الأمة على قطعة منها لأن إصلاح الفاسد يكسب الأمة فردا صالحا أو طائفة صالحة تنتفع الأمة منها كما قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبده». ولهذا شرعت استتابة المرتدّ قبل قتله ثلاثة أيام تعرض عليه فيها التوبة ، وشرعت دعوة الكفّار الذين يغزوهم المسلمون إلى دين الإسلام قبل الشروع في غزوهم فإن أسلموا وإلّا عرض عليهم الدخول في ذمة المسلمين لأن في دخولهم في الذمة انتفاعا للمسلمين بجزيتهم والاعتضاد بهم.

وأما قتل القاتل عمدا فشرع فيه مجاراة لقطع الأحقاد من قلوب أولياء القتيل لئلا يقتل بعض الأمة بعضا ، إذ لا دواء لتلك العلة إلا القصاص. ولذلك رغب الشرع في العفو وفي قبوله. ومن أجل ذلك قال مالك في آية جزاء الذين يحاربون الله ورسله : إن (أو) فيها للتنويع لا للتخيير فقال : يكون الجزاء بقدر جرم المحارب وكثرة مقامه في فساده. وكان النفي من الأرض آخر أصناف الجزاء لأن فيه استبقاءه رجاء توبته وصلاح حاله.

(سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً (٦٢))

انتصب (سُنَّةَ اللهِ) على أنه مفعول مطلق نائب عن فعله. والتقدير : سن الله إغراءك بهم سنته في أعداء الأنبياء السالفين وفي الكفار المشركين الذين قتّلوا وأخذوا في غزوة بدر وغيرها.

وحرف (فِي) للظرفية المجازية ، شبهت السّنة التي عوملوا بها بشيء في وسطهم كناية عن تغلغله فيهم وتناوله جميعهم ولو جاء الكلام على غير المجاز لقيل : سنة الله مع الذين خلوا.

٣٣٢

و (الَّذِينَ خَلَوْا) الذين مضوا وتقدموا. والأظهر أن المراد بهم من سبقوا من أعداء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذين أذنه الله بقتلهم مثل الذين قتلوا من المشركين ومثل الذين قتلوا من يهود قريظة. وهذا أظهر لأن ما أصاب أولئك أوقع في الموعظة إذ كان هذان الفريقان على ذكر من المنافقين وقد شهدوا بعضهم وبلغهم خبر بعض.

ويحتمل أيضا أن يشمل (الَّذِينَ خَلَوْا) الأمم السالفة الذين غضب الله عليهم لأذاهم رسلهم فاستأصلهم الله تعالى مثل قوم فرعون وأضرابهم.

وذيل بجملة (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً) لزيادة تحقيق أن العذاب حائق بالمنافقين وأتباعهم إن لم ينتهوا عما هم فيه وأن الله لا يخالف سنته لأنها مقتضى حكمته وعلمه فلا تجري متعلقاتها إلا على سنن واحد.

والمعنى : لن تجد لسنن الله مع الذين خلوا من قبل ولا مع الحاضرين ولا مع الآتين تبديلا. وبهذا العموم الذي أفاده وقوع النكرة في سياق النفي تأهلت الجملة لأن تكون تذييلا.

(يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً (٦٣))

لما كان تهديد المنافقين بعذاب الدنيا يذكّر بالخوض في عذاب الآخرة : خوض المكذبين الساخرين ، وخوض المؤمنين الخائفين ، وأهل الكتاب ، أتبع ذلك بهذا.

فالجملة معترضة بين جملة (ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلاً) [الأحزاب : ٦٠] وبين جملة (إِنَّ اللهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً) [الأحزاب : ٦٤] لتكون تمهيدا لجملة (إِنَّ اللهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ).

وتكرر في القرآن ذكر سؤال الناس عن الساعة ، والسائلون أصناف :

منهم المكذبون بها وهم أكثر السائلين وسؤالهم تهكم واستدلال بإبطائها على عدم وجودها في أنظارهم السقيمة قال تعالى : (يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها) [الشورى : ١٨] وهؤلاء هم الذين كثر في القرآن إسناد السؤال إليهم معبّرا عنهم بضمير الغيبة كقوله: (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ) [الأعراف : ١٨٧].

وصنف مؤمنون مصدقون بأنها واقعة لكنهم يسألون عن أحوالها وأهوالها ، وهؤلاء

٣٣٣

هم الذين في قوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُ) [الشورى : ١٨].

وصنف مؤمنون يسألون عنها محبة لمعرفة المغيبات ، وهؤلاء نهوا عن الاشتغال بذلك كما في الحديث : «أن رجلا سأل رسول الله : متى الساعة؟ فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما ذا أعددت لها؟ فقال الرجل : والله يا رسول الله ما أعددت لها كبير صلاة ولا صوم سوى أنّي أحب الله ورسوله. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنت مع من أحببت».

وصنف يسأل اختبارا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعله يجيب بما يخالف ما في علمهم فيجعلونه حجة بينهم على انتفاء نبوءته ويعلنونه في دهمائهم ليقتلعوا من نفوسهم ما عسى أن يخالطها من النظر في صدق الدعوة المحمدية. وهؤلاء هم اليهود نظير سؤالهم عن أهل الكهف وعن الروح.

ف (النَّاسُ) هنا يعم جميع الناس وهو عموم عرفي ، أي جميع الناس الذين من شأنهم الاشتغال بالسؤال عنها إذ كثير من الناس يسأل عن ذلك. وأهل هذه الأصناف الأربعة موجودون بالمدينة حين نزول هذه الآية.

وتقدم الكلام على نظير هذه الآية في قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها) في سورة الأعراف [١٨٧].

والخطاب في قوله : (وَما يُدْرِيكَ) للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. و (ما) استفهام ما صدقها شيء.

و (يُدْرِيكَ) من أدراه ، إذا أعلمه. والمعنى : أي شيء يجعل لك دراية. و (لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً) مستأنفة لإنشاء رجاء.

و (لَعَلَ) معلقة فعل الإدراء عن العمل ، أي في المفعول الثاني والثالث وأما المفعول الأول فهو كاف الخطاب.

والمعنى : أيّ شيء يدريك الساعة بعيدة أو قريبة لعلها تكون قريبا ولعلها تكون بعيدا ، ففي الكلام احتباك.

والأظهر أن (قَرِيباً) خبر (تَكُونُ) وأن فعل الكون ناقص وجيء بالخبر غير مقترن بعلامة التأنيث مع أنه محتمل لضمير المؤنث لفظا (فإن اسم الفاعل كالفعل في اقترانه بعلامة التأنيث إن كان متحملا لضمير مؤنث لفظي) فقيل : إنما لم يقترن بعلاقة التأنيث لأن ضمير الساعة جرى عليها بعد تأويلها بالشيء أو اليوم. والذي اختاره جمع من

٣٣٤

المحققين مثل أبي عبيدة والزجاج وابن عطية أن (قَرِيباً) في مثل هذه الآية ليس خبرا عن فعل الكون ولكنه ظرف له وهم يعنون أن فعل الكون تام وأن (قَرِيباً) ظرف زمان لوقوعه. والتقدير : تقع في زمان قريب ، فيلزم لفظ (قريب) الإفراد والتذكير على نية زمان أو وقت ، وقد يكون ظرف مكان كما ورد في ضده وهو لفظ (بعيد) في قوله :

وإن تمس ابنة السهمي منا

بعيدا لا تكلمنا كلاما

وقد أشار إلى جواز الوجهين في «الكشاف». وهذان الوجهان وإن تأتّيا هنا لا يتأتيان في نحو قوله تعالى : (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) [الأعراف : ٥٦].

ويقترن (قريب) و (بعيد) بعلامة التأنيث ونحوها من العلامات الفرعية عند إرادة التوصيف. وكل هذه اعتبارات من توسعهم في الكلام. وتقدم قوله تعالى : (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) في الأعراف فضمّه إلى ما هنا.

[٦٤ ، ٦٥] (إِنَّ اللهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً (٦٤) خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٦٥))

هذا حظ الكافرين من وعيد الساعة ، وهذه لعنة الآخرة قفّيت بها لعنة الدنيا في قوله: (مَلْعُونِينَ) [الأحزاب : ٦١] ، ولذلك عطف عليها (وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً) فكانت لعنة الدنيا مقترنة بالأخذ والتقتيل ولعنة الآخرة مقترنة بالسعير.

والجملة مستأنفة استئنافا بيانيا لأن جملة (ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلاً) إلى قوله: (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً) [الأحزاب : ٦٠ ـ ٦٢] تثير في نفوس السامعين التساؤل عن الاقتصار على لعنهم وتقتيلهم في الدنيا ، وهل ذلك منتهى ما عوقبوا به أو لهم من ورائه عذاب؟ فكان قوله : (إِنَّ اللهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ) إلخ جوابا عن ذلك.

وحرف التوكيد للاهتمام بالخبر أو منظور به إلى السامعين من الكافرين.

والتعريف في (الْكافِرِينَ) يحتمل أن يكون للعهد ، أي الكافرين الذين كانوا شاقوا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وآذوه وأرجفوا في المدينة وهم المنافقون ومن ناصرهم من المشركين في وقعة الأحزاب ومن اليهود. ويحتمل أن يكون التعريف للاستغراق ، أي كل كافر.

وعلى الوجهين فصيغة الماضي في فعل (لَعَنَ) مستعملة في تحقيق الوقوع ، شبه المحقق حصوله بالفعل الذي حصل فاستعير له صيغة الماضي مثل (أَتى أَمْرُ اللهِ)

٣٣٥

[النحل : ١] لأن اللعن إنما يقع في الآخرة وهو مستقبل. وأما حالهم في الدنيا فمثل أحوال المخلوقات يتمتعون برحمة الله في الدنيا من حياة ورزق وملاذ كما هو صريح الآيات والأخبار النبوية ، قال تعالى : (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتاعٌ قَلِيلٌ) [آل عمران : ١٩٦ ، ١٩٧]. وقد يكون في ظاهر الآية متمسّك للشيخ أبي الحسن الأشعري لقوله بانتفاء نعمة الله عن الكافرين خلافا للماتريدي والقاضي أبي بكر الباقلاني والمعتزلة ولكنه متمسك ضعيف لأن التحقيق أن الخلاف بينه وبينهم خلاف لفظي يرجع إلى أن حقيقة النعمة ترجع إلى ما لا يعقب ألما.

والسعير : النار الشديدة الإيقاد. وهو فعيل بمعنى مفعول ، أي مسعورة.

وأعيد الضمير على السعير في قوله : (خالِدِينَ فِيها) مؤنثا لأن (سَعِيراً) من صفات النار والنار مؤنثة في الاستعمال.

وجملة (لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) حال من ضمير (خالِدِينَ) أي خالدين في حالة انتفاء الولي والنصير عنهم فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون.

(يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا (٦٦))

(يَوْمَ) ظرف يجوز أن يتعلق ب (لا يَجِدُونَ) [الأحزاب : ٦٥] أي إن وجدوا أولياء ونصراء في الدنيا من يهود قريظة وخيبر في يوم الأحزاب فيوم تقلب وجوههم في النار لا يجدون وليا يرثي لهم ولا نصيرا يخلصهم. وتكون جملة (يَقُولُونَ) حالا من ضمير (يَقُولُونَ).

ويجوز أن يتعلق الظرف بفعل (يَقُولُونَ) على أن تكون جملة (يَقُولُونَ) حالا من ضمير (لا يَجِدُونَ).

ويجوز أن ينتصب بفعل محذوف تقديره : اذكر ، على طريقة نظائره من ظروف كثيرة واردة في القرآن ، وتكون جملة (يَقُولُونَ) حالا من الضمير في (وُجُوهُهُمْ).

والتقليب : شدة القلب. والقلب : تغيير وضع الشيء على جهة غير الجهة التي كان عليها.

والمعنى : يوم تقلب ملائكة العذاب وجوههم في النار بغير اختيار منهم ، أو يجعل الله ذلك التقلّب في وجوههم لتنال النار جميع الوجه كما يقلّب الشواء على المشوى

٣٣٦

لينضج على سواء ، ولو كان لفح النار مقتصرا على أحد جانبي الوجه لكان للجانب الآخر بعض الراحة.

وتخصيص الوجوه بالذكر من بين سائر الأعضاء لأن حرّ النار يؤذي الوجوه أشد مما يؤذي بقية الجلد لأن الوجوه مقرّ الحواس الرقيقة : العيون والأفواه والآذان والمنافس كقوله تعالى : (أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) [الزمر : ٢٤].

وحرف (يا) في قوله : (يا لَيْتَنا) للتنبيه لقصد إسماع من يرثي لحالهم مثل (يا حَسْرَتَنا) [الأنعام : ٣١]. والتمني هنا كناية عن التندم على ما فات ، وكذلك نحو (يا حَسْرَتَنا) أي أن الحسرة غير مجدية.

وقد علموا يومئذ أن ما كان يأمرهم به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو تبليغ عن مراد الله منهم وأنهم إذ عصوه فقد عصوا الله تعالى فتمنوا يومئذ أن لا يكونوا عصوا الرسول المبلغ عن الله تعالى.

والألف في آخر قوله : (الرَّسُولَا) لرعاية الفواصل التي بنيت عليها السورة فإنها بنيت على فاصلة الألف وهي ألف الإطلاق إجراء للفواصل مجرى القوافي التي تلحقها ألف الإطلاق. وقد تقدم ذلك في قوله تعالى : (وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا) [١٠] في هذه السورة ، وتقدمت وجوه القراءات في إثباتها في الوصل أو حذفها.

[٦٧ ، ٦٨] (وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا (٦٧) رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (٦٨))

عطف على جملة (يَقُولُونَ) [الأحزاب : ٦٦] فهي حال. وجيء بها في صيغة الماضي لأن هذا القول كان متقدما على قولهم : (يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللهَ) [الأحزاب : ٦٦] ، فذلك التمني نشأ لهم وقت أن مسّهم العذاب ، وهذا التنصل والدعاء اعتذروا به حين مشاهدة العذاب وحشرهم مع رؤسائهم إلى جهنم ، قال تعالى : (حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ) [الأعراف : ٣٨]. فدل على أن ذلك قبل أن يمسهم العذاب بل حين رصفوا ونسقوا قبل أن يصبّ عليهم العذاب ويطلق إليهم حرّ النار.

والابتداء بالنداء ووصف الربوبية إظهار للتضرع والابتهال.

٣٣٧

والسادة : جمع سيّد. قال أبو علي : وزنة فعلة ، أي مثل كملة لكن على غير قياس لأن صيغة فعلة تطّرد في جمع فاعل لا في جمع فيعل ، فقلبت الواو ألفا لانفتاحها وانفتاح ما قبلها. وأما السادات فهو جمع الجمع بزيادة ألف وتاء بزنة جمع المؤنث السالم. والسادة : عظماء القوم والقبائل مثل الملوك.

وقرأ الجمهور (سادَتَنا). وقرأ ابن عامر ويعقوب ساداتنا بألف بعد الدال وبكسر التاء لأنه جمع بألف وتاء مزيدتين على بناء مفرده. وهو جمع الجمع الذي هو سادة.

والكبراء : جمع كبير وهو عظيم العشيرة ، وهم دون السادة فإن كبيرا يطلق على رأس العائلة فيقول المرء لأبيه : كبيري ، ولذلك قوبل قولهم : (يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا) [الأحزاب : ٦٦] بقولهم : (أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا).

وجملة (إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا) خبر مستعمل في الشكاية والتذمر ، وهو تمهيد لطلب الانتصاف من سادتهم وكبرائهم. فالمقصود الإفضاء إلى جملة (رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ). ومقصود من هذا الخبر أيضا الاعتذار والتنصل من تبعة ضلالهم بأنهم مغرورون مخدوعون ، وهذا الاعتذار مردود عليهم بما أنطقهم الله به من الحقيقة إذ قالوا : (إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا) فيتجه عليهم أن يقال لهم : لما ذا أطعتموهم حتى يغروكم ، وهذا شأن الدهماء أن يسوّدوا عليهم من يعجبون بأضغاث أحلامه ، ويغرّون بمعسول كلامه ، ويسيرون على وقع أقدامه ، حتى إذا اجتنوا ثمار أكمامه ، وذاقوا مرارة طعمه وحرارة أوامه ، عادوا عليه باللائمة وهم الأحقاء بملامه.

وحرف التوكيد لمجرد الاهتمام لا لرد إنكار ، وتقديم قولهم : (إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا) اهتمام بما فيه من تعليل لمضمون قولهم : (فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا) لأن كبراءهم ما تأتّى لهم إضلالهم إلا بتسبب طاعتهم العمياء إياهم واشتغالهم بطاعتهم عن النظر والاستدلال فيما يدعونهم إليه من فساد وو خامة مغبّة. وبتسبب وضعهم أقوال سادتهم وكبرائهم موضع الترجيح على ما يدعوهم إليه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وانتصب (السَّبِيلَا) على نزع الخافض لأن أضل لا يتعدّى بالهمزة إلا إلى مفعول واحد قال تعالى : (لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ) [الفرقان : ٢٩]. وظاهر «الكشاف» أنه يتعدّى إلى مفعولين ، فيكون (ضل) المجرد يتعدى إلى مفعول واحد. تقول : ضللت الطريق ، و (أضل) يتعدى بالهمزة إلى مفعولين. وقاله ابن عطية.

٣٣٨

والقول في ألف (السَّبِيلَا) كالقول في ألف (الرَّسُولَا) [الأحزاب : ٦٦].

وإعادة النداء في قولهم : (رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ) تأكيد للضراعة والابتهال وتمهيد لقبول سؤلهم حتى إذا قبل سؤلهم طمعوا في التخلص من العذاب الذي ألقوه على كاهل كبرائهم.

والضعف بكسر الضاد : العدد المماثل للمعدود ، فالأربعة ضعف الاثنين. ولما كان العذاب معنى من المعاني لا ذاتا كان معنى تكرير العدد فيه مجازا في القوة والشدة.

وتثنية (ضِعْفَيْنِ) مستعملة في مطلق التكرير كناية عن شدة العذاب كقوله تعالى : (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ) [الملك : ٤] فإن البصر لا يخسأ في نظرتين ، ولذلك كان قوله هنا : (آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ) مساويا لقوله : (فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ) في سورة الأعراف [٣٨]. وهذا تعريض بإلقاء تبعة الضلال عليهم ، وأن العذاب الذي أعدّ لهم يسلط على أولئك الذين أضلّوهم.

ووصف اللعن بالكثرة كما وصف العذاب بالضعفين إشارة إلى أن الكبراء استحقوا عذابا لكفرهم وعذابا لتسببهم في كفر أتباعهم.

فالمراد بالكثير الشديد القوي ، فعبر عنه بالكثير لمشاكلة معنى التثنية في قوله : (ضِعْفَيْنِ) المراد به الكثرة.

وقد ذكر في الأعراف جوابهم من قبل الجلالة بقوله : (قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ) [الأعراف : ٣٨] يعني أن الكبراء استحقوا مضاعفة العذاب لضلالهم وإضلالهم وأن أتباعهم أيضا استحقوا مضاعفة العذاب لضلالهم ولتسويد سادتهم وطاعتهم العمياء إياهم.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً (٦٩))

لما تقضى وعيد الذين يؤذون الرسول عليه الصلاة والسلام بالتكذيب ونحوه من الأذى المنبعث عن كفرهم من المشركين والمنافقين من قوله : (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) [الأحزاب : ٥٧] حذر المؤمنين مما يؤذي الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم بتنزيههم عن أن يكونوا مثل قوم نسبوا إلى رسولهم ما هو أذى له وهم لا يعبئون بما في ذلك من إغضابه الذي فيه غضب الله تعالى. ولما كان كثير من الأذى قد يحصل عن غفلة

٣٣٩

أصحابه عما يوجبه فيصدر عنهم من الأقوال ما تجيش به خواطرهم قبل التدبر فيما يحفّ بذلك من الاحتمالات التي تقلعه وتنفيه ودون التأمل فيما يترتب عليه من إخلال بالواجبات. وكذلك يصدر عنهم من الأعمال ما فيه ورطة لهم قبل التأمل في مغبة عملهم ، نبه الله المؤمنين كيلا يقعوا في مثل تلك العنجهية لأن مدارك العقلاء في التنبيه إلى معاني الأشياء وملازماتها متفاوتة المقادير ، فكانت حرية بالإيقاظ والتحذير. وفائدة التشبيه تشويه الحالة المشبّهة لأن المؤمنين قد تقرر في نفوسهم قبح ما أوذي به موسى عليه‌السلام بما سبق من القرآن كقوله : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) [الصف : ٥] الآية.

والذين آذوا موسى هم طوائف من قومه ولم يكن قصدهم أذاه ولكنهم أهملوا واجب كمال الأدب والرعاية مع أعظم الناس بينهم. وقد حكى الله عنهم ذلك إجمالا وتفصيلا بقوله : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ) الآية (فلم يكن هذا الأذى من قبيل التكذيب لأجل قوله : (وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ) والاستفهام في قوله : (لِمَ تُؤْذُونَنِي) إنكاري). فكان توجيه الخطاب للمؤمنين من أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم مراعى فيه المشابهة بين الحالين في حصول الإذاية.

فالذين آذوا موسى قالوا مرة (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) [المائدة : ٢٤] فآذوه بالعصيان وبضرب من التهكم. وقالوا مرة (أَتَتَّخِذُنا هُزُواً) [البقرة : ٦٧] فنسبوه إلى الطيش والسخرية ولذلك قال لهم (أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) [البقرة : ٦٧]. وفي التوراة في الإصحاح الرابع عشر من الخروج «وقالوا لموسى فإذا صنعت بنا حتى أخرجتنا من مصر فإنه خير لنا أن نخدم المصريين من أن نموت في البرية». وفي الإصحاح السادس عشر «وقالوا لموسى وهارون إنكما أخرجتمانا إلى هذا القفر لكي تميتا كل هذا الجمهور بالجوع». وفي الحديث «إن موسى كان رجلا حييّا ستّيرا فقال فريق من قومه : ما نراه يستتر إلا من عاهة فيه. فقال قوم : به برص ، وقال قوم : هو آدر» ونحو هذا ، وكان قريبا من هذا قول المنافقين : إن محمدا تزوج مطلقة ابنه زيد بن حارثة.

وقد دلت هذه الآية على وجوب توقير النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتجنب ما يؤذيه وتلك سنة الصحابة والمسلمين وقد عرضت فلتات من بعض أصحابه الذين لم يبلغوا قبلها كمال التخلق بالقرآن مثل الذي قال له لما حكم بينه وبين الزبير في ماء شراح الحرّة : أن كان ابن عمتك يا رسول الله. ومثل التميمي خرفوص الذي قال في قسمة مغانم حنين : «هذه

٣٤٠