يجيئني ويقول : اشتر لي هذا الثوب وأُربحك كذا وكذا. فقال : أليس إن شاء أخذ وإن شاء ترك؟ قلت : بلى. قال : لا بأس ، إنّما يحلّل الكلام ويحرّم الكلام (١)» (٢).
وقد ورد بمضمون هذا الخبر روايات أُخر مجرّدة عن قوله عليهالسلام : «إنّما يحلّل .. إلخ» (٣) ، كلّها تدلّ على أنّه لا بأس بهذه المواعدة والمقاولة ما لم يوجب بيع المتاع قبل أن يشتريه من صاحبه.
ونقول : إنّ هذه الفقرة مع قطع النظر عن صدر الرواية تحتمل وجوهاً :
الوجوه المحتملة في معنى هذا الحديث : الوجه الأوّل |
الأوّل : أن يراد من «الكلام» في المقامين اللفظ الدالّ على التحليل والتحريم (٤) ، بمعنى أنّ تحريم شيءٍ وتحليله لا يكون إلاّ بالنطق بهما ، فلا يتحقّق بالقصد المجرّد عن الكلام ، ولا بالقصد المدلول عليه بالأفعال دون الأقوال.
الوجه الثان |
الثاني : أن يراد ب «الكلام» اللفظ مع مضمونه ، كما في قولك : «هذا الكلام صحيح» أو «فاسد» ، لا مجرّد اللفظ أعني الصوت ويكون المراد : أنّ المطلب الواحد يختلف حكمه الشرعي حِلاّ وحرمة (٥)
__________________
(١) في «ن» ، «خ» ، «م» و «ع» زيادة : «الخبر» ، والظاهر أنّه لا وجه له ؛ لأنّ الخبر مذكور بتمامه.
(٢) انظر الكافي ٥ : ٢٠١ ، الحديث ٦ ، والتهذيب ٧ : ٥٠ ، الحديث ٢١٦ ، والوسائل ١٢ : ٣٧٦ ، الباب ٨ من أبواب أحكام العقود ، الحديث ٤.
(٣) انظر الوسائل ١٢ : ٣٧٥ ، الباب ٨ من أبواب العقود.
(٤) كذا في «ف» ، وفي غيره : التحريم والتحليل.
(٥) في «ف» : أو حرمة.
باختلاف المضامين المؤدّاة بالكلام ، مثلاً (١) : المقصود الواحد ، وهو التسليط على البضع مدّة معيّنة يتأتّى بقولها : «ملّكتك بضعي» أو «سلّطتك عليه» أو «آجرتك نفسي» أو «أحللتها لك» ، وبقولها : «متّعتك (٢) نفسي بكذا» ، فما عدا الأخير موجب لتحريمه ، والأخير محلّل ، وبهذا (٣) المعنى ورد قوله عليهالسلام : «إنّما يحرّم الكلام» في عدّة من روايات المزارعة (٤).
منها : ما في التهذيب عن ابن محبوب ، عن خالد بن جرير (٥) ، عن أبي الربيع الشامي ، عن أبي عبد الله عليهالسلام : أنّه سُئل عن الرجل يزرع أرض رجلٍ آخر فيشترط عليه ثلثاً للبذر ، وثلثاً للبقر ، فقال : «لا ينبغي له أن يسمّي بذراً ولا بقراً ، ولكن يقول لصاحب الأرض : أزرع في أرضك ولك منها كذا وكذا : نصف ، أو ثلث ، أو ما كان من شرط ، ولا يسمّي بذراً ولا بقراً ؛ فإنّما يحرّم الكلام» (٦).
__________________
(١) كلمة «مثلاً» ساقطة من «خ» ، «م» ، «ع» و «ص».
(٢) كذا في «ف» ، وفي غيره : متّعت.
(٣) كذا في «ف» ، وفي غيره : على هذا.
(٤) راجع الوسائل ١٣ : ٢٠٠ ٢٠١ ، الباب ٨ من أبواب المزارعة والمساقاة ، الحديث ٤ ، ٦ و ١٠.
(٥) عبارة «عن خالد بن جرير» من «ش» والمصدر.
(٦) التهذيب ٧ : ١٩٤ ، الحديث ٨٥٧ ، وعنه الوسائل ١٣ : ٢٠١ ، الباب ٨ من أبواب المزارعة ، الحديث ١٠. وبما أنّ الحديث ورد مختلفاً في النسخ ، ومع تقديمٍ وتأخير في بعضها ، فلذلك أثبتناه طبقاً لنسخة «ش» التي هي مطابقة مع المصدر.
الوجه الثالث |
الثالث : أن يراد ب «الكلام» في الفقرتين الكلام الواحد ، ويكون تحليله وتحريمه (١) باعتبار (٢) وجوده وعدمه ، فيكون وجوده محلّلاً وعدمه محرّماً ، أو بالعكس ، أو باعتبار محلِّه وغير محلِّه ، فيُحِلّ في محلِّه ويُحرِّم في غيره ؛ ويحتمل هذا الوجه الروايات الواردة في المزارعة.
الوجه الرابع |
الرابع : أن يراد من الكلام المحلِّل خصوص المقاولة والمواعدة ، ومن الكلام المحرِّم إيجاب البيع وإيقاعه.
المناقشة في الوجه الأوّل |
ثمّ إنّ الظاهر عدم إرادة المعنى الأوّل ؛ لأنّه مع لزوم تخصيص الأكثر حيث إنّ ظاهره حصر أسباب التحليل والتحريم في الشريعة في اللفظ يوجب عدم ارتباطه بالحكم المذكور في الخبر جواباً عن السؤال ، مع كونه كالتعليل له ؛ لأنّ ظاهر الحكم كما يستفاد من عدّة روايات أُخر (٣) تخصيص الجواز بما إذا لم يوجب البيع على الرجل قبل شراء (٤) المتاع من مالكه ، ولا دخل لاشتراط النطق في التحليل والتحريم في هذا الحكم أصلاً ، فكيف يعلّل به؟
المناقشة في الوجه الثاني |
وكذا المعنى الثاني ؛ إذ ليس هنا مطلب واحد حتى يكون تأديته بمضمونٍ محلِّلاً ، وبآخر محرِّماً.
__________________
(١) كذا في «ف» ، وفي غيرها : تحريمه وتحليله.
(٢) كذا في «م» ، «ص» ومصحّحة «ن» ، وفي غيرها : اعتبار.
(٣) انظر الوسائل ١٢ : ٣٧٠ ، الباب ٥ من أبواب العقود ، الحديث ٤ ، والصفحة ٣٧٤ ، الباب ٧ من الأبواب ، الحديث ٣ ، والصفحة ٣٧٨ ، الباب ٨ من الأبواب ، الحديث ١١ و ١٣.
(٤) في «ف» : اشتراء.
تعيّن الوجه الثالث أو الرابع |
فتعيّن : المعنى الثالث ، وهو : أنّ الكلام الدالّ على الالتزام بالبيع لا يحرِّم هذه المعاملة إلاّ وجوده قبل شراء العين التي يريدها الرجل ؛ لأنّه بيع ما ليس عنده ، ولا يحلِّل إلاّ عدمه ؛ إذ مع عدم الكلام الموجب لالتزام البيع لم يحصل إلاّ التواعد بالمبايعة ، وهو غير مؤثّر.
فحاصل الرواية : أنّ سبب التحليل والتحريم في هذه المعاملة منحصر في الكلام عدماً ووجوداً (١).
أو المعنى الرابع ، وهو : أنّ المقاولة والمراضاة مع المشتري الثاني قبل اشتراء العين محلِّل للمعاملة ، وإيجاب البيع معه محرّم لها.
وعلى كلا المعنيين يسقط الخبر عن الدلالة على اعتبار الكلام في التحليل ، كما هو المقصود في مسألة المعاطاة.
استظهار اعتبار اللفظ من هذا الحديث بوجه آخر |
نعم ، يمكن استظهار اعتبار الكلام في إيجاب البيع بوجهٍ آخر بعد ما عرفت من أنّ (٢) المراد ب «الكلام» هو إيجاب البيع بأن يقال : إنّ حصر المُحلِّل والمُحرِّم في الكلام لا يتأتّى إلاّ مع انحصار إيجاب البيع في الكلام ؛ إذ لو وقع بغير الكلام لم ينحصر المُحلِّل والمُحرِّم في الكلام ، إلاّ أن يقال : إنّ وجه انحصار إيجاب البيع في الكلام في مورد الرواية هو عدم إمكان المعاطاة في خصوص المورد ؛ إذ المفروض أنّ المبيع عند مالكه الأوّل ، فتأمّل.
روايات اُخرى تشعر باعتبار اللفظ في البيع |
وكيف كان ، فلا تخلو الرواية عن إشعار أو ظهور. كما يشعر به قوله عليهالسلام في رواية أُخرى واردة في هذا الحكم أيضاً ، وهي رواية
__________________
(١) في «ف» : أو وجوداً.
(٢) في «خ» ، «م» ، «ع» ، «ص» ومصحّحة «ن» : بأنّ.
يحيى بن الحجّاج عن أبي عبد الله عليهالسلام : «عن رجلٍ قال لي : اشتر لي هذا الثوب أو هذه الدابّة ، وبعنيها أُربحك (١) فيها كذا وكذا؟ قال : لا بأس بذلك ، اشترها ، ولا تواجبه البيع قبل أن تستوجبها أو تشتريها» (٢) ؛ فإنّ الظاهر أنّ المراد من مواجبة البيع ليس مجرّد إعطاء العين للمشتري (٣).
ويشعر به أيضاً رواية العلاء الواردة في نسبة الربح إلى أصل المال ، قال : «قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : الرجل يريد أن يبيع بيعاً فيقول : أبيعك بده دوازده ، [أو ده يازده (٤)]؟ فقال : لا بأس ، إنّما هذه" المراوضة" فإذا جمع البيع جعله جملة واحدة» (٥) ؛ فإنّ ظاهره على ما فهمه بعض الشرّاح (٦) ـ : أنّه لا يكره ذلك في المقاولة التي قبل العقد ، وإنّما يكره حين العقد.
وفي صحيحة ابن سنان : «لا بأس بأن تبيع الرجل المتاع ليس عندك ، تساومه ثمّ تشتري له نحو الذي طلب ، ثمّ توجبه على نفسك ، ثمّ تبيعه منه بعد» (٧).
__________________
(١) في «ش» : ارابحك.
(٢) الوسائل ١٢ : ٣٧٨ ، الباب ٨ من أبواب أحكام العقود ، الحديث ١٣.
(٣) لم ترد عبارة : «فإنّ الظاهر إلى للمشتري» في «ف».
(٤) من «ش» والمصدر.
(٥) الوسائل ١٢ : ٣٨٦ ، الباب ١٤ من أبواب أحكام العقود ، الحديث ٥.
(٦) وهو المحدّث الكاشاني قدسسره في الوافي ١٨ : ٦٩٣ ، الحديث ١٨١٣١.
(٧) الوسائل ١٢ : ٣٧٥ ، الباب ٨ من أبواب العقود ، الحديث الأوّل.
تنبيهات المعاطاة |
وينبغي التنبيه على أُمور :
الأوّل
هل المعاطاة بيع حقيقة أم لا؟ |
الظاهر (١) : أنّ المعاطاة قبل اللزوم على القول بإفادتها الملك بيع ، بل الظاهر من كلام المحقّق الثاني في جامع المقاصد (٢) : أنّه ممّا لا كلام فيه حتى عند القائلين بكونها فاسدة ، كالعلاّمة في النهاية (٣). ودلّ على ذلك تمسّكهم له بقوله تعالى (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) (٤).
وأمّا على القول بإفادتها للإباحة (٥) ، فالظاهر : أنّها (٦) بيع عرفيّ لم يؤثّر شرعاً إلاّ الإباحة ، فنفي البيع عنها في كلامهم (٧) ومعاقد إجماعاتهم (٨) هو البيع المفيد شرعاً اللزوم زيادةً على الملك.
هذا على ما اخترناه سابقاً (٩) : من أنّ مقصود المتعاطيين في
__________________
(١) في «ف» : أنّ الظاهر.
(٢) جامع المقاصد ٤ : ٥٨.
(٣) نهاية الإحكام ٢ : ٤٤٩.
(٤) البقرة : ٢٧٥.
(٥) في «ف» زيادة : دون الملك.
(٦) كذا في «ف» ومصحّحة «م» و «ص» ، وفي غيرها : أنّه.
(٧) مثل ما تقدّم عن الخلاف في الصفحة ٢٦ ، وعن السرائر والغنية في الصفحة ٢٨ و ٢٩.
(٨) كذا في «ف» ، وفي غيرها : إجماعهم.
(٩) في الصفحتين ٢٥ و ٣٢.
المعاطاة التملّك (١) والبيع (٢) ، وأمّا على ما احتمله بعضهم (٣) بل استظهره (٤) ـ : من أنّ محلّ الكلام هو ما إذا قصدا (٥) مجرّد الإباحة ، فلا إشكال في عدم كونها بيعاً عرفاً ، ولا شرعاً.
حكم الشكّ في اعتبار شرط في المعاطاة |
وعلى هذا فلا بدّ عند الشكّ في اعتبار شرط فيها من الرجوع إلى الأدلّة الدالّة على صحّة هذه الإباحة العوضيّة من خصوصٍ أو عموم ، وحيث إنّ المناسب لهذا القول التمسّك في مشروعيّته بعموم : «الناس مسلّطون على أموالهم» (٦) كان مقتضى القاعدة هو نفي شرطيّة غير ما ثبت شرطيّته ، كما أنّه لو تمسّك لها بالسيرة كان مقتضى القاعدة العكس.
والحاصل : أنّ المرجع على هذا عند الشكّ في شروطها ، هي أدلّة هذه المعاملة ، سواء اعتبرت في البيع أم لا.
وأمّا على المختار : من أنّ الكلام فيما قصد (٧) به البيع ، فهل (٨)
__________________
(١) في هامش «ص» : التمليك ظ ، وهكذا أثبته المامقاني قدسسره في حاشيته ، انظر غاية الآمال : ١٨٧.
(٢) لم ترد «والبيع» في «ف».
(٣) وهو صاحب الجواهر قدسسره ، انظر الجواهر ٢٢ : ٢٢٤.
(٤) في «ف» : استظهر.
(٥) في «ف» : قصد.
(٦) عوالي اللآلي ١ : ٢٢٢ ، الحديث ٩٩.
(٧) في «ف» : يقصد.
(٨) كذا في «ص» و «ش» ، وفي غيرهما : هل.
هل يعتبر في المعاطاة شروط البيع ، أو لا؟ |
يشترط فيه شروط البيع مطلقاً ، أم لا كذلك ، أم يبتني (١) على القول بإفادتها للملك ، والقول بعدم إفادتها إلاّ الإباحة (٢)؟ وجوه :
يشهد للأوّل : كونها بيعاً عرفاً ، فيشترط (٣) فيها جميع ما دلّ على اشتراطه في البيع.
ويؤيّده : أنّ محلّ النزاع بين العامّة والخاصّة في المعاطاة هو : أنّ الصيغة معتبرة في البيع كسائر الشرائط ، أم لا؟ كما يفصح عنه عنوان المسألة في كتب كثيرٍ من الخاصّة والعامّة (٤) فما انتفى فيه غير الصيغة من شروط البيع ، خارج عن هذا العنوان وإن فرض مشاركاً له في الحكم ؛ ولذا ادّعى (٥) في الحدائق : أنّ المشهور بين القائلين بعدم لزوم المعاطاة : صحّة المعاطاة المذكورة إذا استكملت (٦) شروط البيع غير الصيغة المخصوصة ، وأنّها تفيد إباحة تصرّف كلٍّ منهما فيما صار إليه من العوض (٧).
ومقابل المشهور في كلامه ، قول العلاّمة رحمهالله في النهاية بفساد المعاطاة (٨) كما صرّح به بعد ذلك فلا يكون كلامه موهماً لثبوت
__________________
(١) في «ف» : مبنيّ.
(٢) في «ف» : إلاّ للإباحة.
(٣) في «ف» : ليشترط.
(٤) كذا في «ف» ، وفي غيرها : العامّة والخاصّة.
(٥) كذا في «ش» ، وفي «ف» غير مقروءة ، وفي غيرهما : أفتى.
(٦) كذا في «ف» ، وفي غيرها : استكمل.
(٧) الحدائق ١٨ : ٣٥٦.
(٨) نهاية الإحكام ٢ : ٤٤٩.
الخلاف في اشتراط صحّة المعاطاة باستجماع شرائط البيع.
ويشهد للثاني : أنّ البيع في النصّ والفتوى ظاهر فيما حكم فيه باللزوم ، وثبت له الخيار في قولهم : «البيّعان بالخيار ما لم يفترقا» ، ونحوه.
أمّا على القول بالإباحة ، فواضح ؛ لأنّ المعاطاة ليست على هذا القول بيعاً في نظر الشارع والمتشرّعة ؛ إذ لا نقل فيه عند الشارع ، فإذا ثبت إطلاق الشارع عليه في مقام (١) ، فنحمله على الجري على ما هو بيع باعتقاد العرف ، لاشتماله على النقل في نظرهم ، وقد تقدّم سابقاً في تصحيح دعوى الإجماع على عدم كون المعاطاة بيعاً (٢) بيان ذلك.
وأمّا على القول بالملك ، فلأنّ المطلق ينصرف إلى الفرد المحكوم باللزوم في قولهم : «البيّعان بالخيار» ، وقولهم : «إنّ الأصل في البيع اللزوم ، والخيار إنّما ثبت لدليل» ، و «أنّ البيع بقول مطلق (٣) من العقود اللازمة» ، وقولهم : «البيع هو العقد الدالّ على كذا» ، ونحو ذلك.
وبالجملة ، فلا يبقى للمتأمّل شكّ في أنّ إطلاق البيع في النصّ والفتوى يراد به ما لا يجوز فسخه إلاّ بفسخ عقده بخيار أو بتقايل (٤).
ووجه الثالث : ما تقدّم للثاني على القول بالإباحة ، من سلب
__________________
(١) لم ترد «في مقام» في «ف».
(٢) في الصفحة ٤١ وغيرها.
(٣) في «ف» : وأنّ البيع مطلقاً.
(٤) في «ف» : لخيار أو لتقايل.
البيع عنه ، وللأوّل على القول بالملك ، من صدق البيع عليه حينئذٍ وإن لم يكن لازماً.
ويمكن الفرق بين الشرط الذي ثبت اعتباره في البيع من النصّ ، فيحمل على البيع العرفي وإن لم يفد عند الشارع إلاّ الإباحة ، وبين ما ثبت بالإجماع على اعتباره في البيع بناءً على انصراف «البيع» في كلمات المجمعين إلى العقد اللازم.
مختار المؤلّف |
والاحتمال الأوّل لا يخلو عن قوّة ؛ لكونها بيعاً ظاهراً على القول بالملك كما عرفت من جامع المقاصد (١) ـ ، وأمّا على القول بالإباحة ؛ فلأنها لم تثبت إلاّ في المعاملة الفاقدة للصيغة فقط ، فلا تشمل الفاقدة للشرط الآخر أيضاً.
نفي الشهيد اعتبار بعض الشروط في المعاطاة |
ثمّ إنّه حكي عن الشهيد رحمهالله في حواشيه على القواعد أنّه بعد ما منع من إخراج المأخوذ بالمعاطاة في الخمس والزكاة وثمن الهدي إلاّ بعد تلف العين ، يعني العين الأُخرى ذكر : أنّه يجوز أن يكون الثمن والمثمن في المعاطاة مجهولين ؛ لأنّها ليست عقداً ، وكذا جهالة الأجل ، وأنّه لو اشترى أمةً بالمعاطاة لم يجز له (٢) نكاحها قبل تلف الثمن (٣) ، انتهى. وحكي عنه في باب الصرف أيضاً : أنّه لا يعتبر التقابض في المجلس في معاطاة النقدين (٤).
__________________
(١) راجع الصفحة ٣٢ وغيرها.
(٢) لم ترد «له» في «ف».
(٣) حكاه السيّد العاملي في مفتاح الكرامة ٤ : ١٥٨.
(٤) نفس المصدر ، الصفحة ٣٩٧.
المناقشة فيما أفاده الشهيد |
أقول : حكمه قدسسره بعدم جواز إخراج المأخوذ بالمعاطاة في الصدقات الواجبة وعدم جواز نكاح المأخوذ بها ، صريح في عدم (١) إفادتها للملك ، إلاّ أنّ حكمه رحمهالله بعدم اعتبار الشروط المذكورة (٢) للبيع والصرف معلِّلاً بأنّ المعاطاة ليست عقداً ، يحتمل أن يكون باعتبار عدم الملك ؛ حيث إنّ المفيد للملك منحصرٌ في العقد ، وأن يكون باعتبار عدم اللزوم ؛ حيث إنّ الشروط المذكورة شرائط للبيع العقدي اللازم.
والأقوى : اعتبارها وإن قلنا بالإباحة ؛ لأنّها بيع عرفي وإن لم يفد شرعاً إلاّ الإباحة ، ومورد الأدلّة الدالّة على اعتبار تلك الشروط هو البيع العرفي لا خصوص العقدي ، بل تقييدها بالبيع العقدي تقييد بغير الغالب ؛ ولِما عرفت من أنّ الأصل في المعاطاة بعد القول بعدم الملك ، الفساد وعدم تأثيره شيئاً ، خرج ما هو محلّ الخلاف بين العلماء من حيث اللزوم والعدم ، وهو المعاملة الجامعة للشروط عدا الصيغة ، وبقي الباقي.
جريان الربا في المعاطاة |
وبما ذكرنا يظهر وجه تحريم الربا فيها (٣) أيضاً وإن خصصنا الحكم بالبيع ، بل الظاهر التحريم حتّى عند من لا يراها (٤) مفيدة للملك ؛ لأنّها معاوضة عرفيّة وإن لم تفد الملك ، بل معاوضة شرعيّة ، كما (٥) اعترف بها
__________________
(١) في «ف» : صريح في قوله بعدم.
(٢) في «ف» : باعتبار الشرط المذكور.
(٣) كذا في «ف» و «م» ، وفي غيرهما : فيه.
(٤) في «ف» : عند من يراها.
(٥) كما» ساقطة من «ش».
الشهيد رحمهالله في موضعٍ من الحواشي ؛ حيث قال : إنّ المعاطاة معاوضة مستقلّة جائزة أو لازمة (١) ، انتهى.
ولو قلنا بأنّ المقصود للمتعاطيين (٢) الإباحة لا الملك ، فلا يبعد أيضاً جريان الربا ؛ لكونها معاوضة عرفاً ، فتأمّل (٣).
جريان الخيار في المعاطاة |
وأمّا حكم جريان الخيار فيها قبل اللزوم ، فيمكن نفيه على المشهور ؛ لأنّها إباحة (٤) عندهم ، فلا معنى للخيار (٥).
وإن قلنا بإفادة الملك ، فيمكن القول بثبوت الخيار فيه (٦) مطلقاً ؛ بناءً على صيرورتها بيعاً بعد اللزوم كما سيأتي عند تعرّض الملزمات فالخيار موجود من زمان المعاطاة ، إلاّ أنّ أثره يظهر بعد اللزوم ، وعلى هذا فيصحّ إسقاطه والمصالحة عليه قبل اللزوم.
ويحتمل أن يفصّل بين الخيارات المختصّة بالبيع ، فلا تجري ؛ لاختصاص أدلّتها بما وضع على اللزوم من غير جهة الخيار (٧) ، وبين
__________________
(١) حكاه عنه السيد العاملي في مفتاح الكرامة ٤ : ١٥٨.
(٢) في «ف» زيادة : إنشاء.
(٣) وردت عبارة «ولو قلنا إلى فتأمّل» في «ف» وهامش «ن» ، «خ» و «م» ، وكتب بعدها في «ن» : «إلحاق منه دام ظلّه» ، وفي «خ» و «م» : «إلحاق منه رحمهالله».
(٤) كذا في «ف» و «ش» ، وفي غيرهما : «جائزة» بدل «إباحة» ، لكن صُحّحت في «ع» بما أثبتناه.
(٥) في «ف» زيادة : مطلقاً.
(٦) لم ترد «فيه» في «ف».
(٧) عبارة «لاختصاص إلى الخيار» ساقطة من «ف».
غيرها كخيار الغبن والعيب بالنسبة إلى الردّ دون الأرش فتجري (١) ؛ لعموم أدلّتها.
وأمّا حكم الخيار بعد اللزوم ، فسيأتي (٢) بعد ذكر الملزمات إن شاء الله (٣).
__________________
(١) كذا في «ص» ومصحّحة «ن» ، وفي غيرهما : فيجري.
(٢) سيأتي في الأمر السابع ، الصفحة ١٠٣.
(٣) التعليق على المشيئة من «ف».
الأمر الثاني
حكم الإعطاء من جانب واحد |
إنّ المتيقّن من مورد المعاطاة : هو حصول التعاطي فعلاً من الطرفين ، فالملك أو الإباحة في كلٍّ منهما بالإعطاء ، فلو حصل الإعطاء من جانبٍ واحدٍ لم يحصل ما يوجب إباحة الآخر أو ملكيّته ، فلا يتحقّق المعاوضة ولا الإباحة رأساً ؛ لأنّ كلاّ منهما ملكٌ أو مباح في مقابل ملكيّة (١) الآخر أو إباحته ، إلاّ أنّ الظاهر من جماعة من متأخّري المتأخّرين (٢) تبعاً للشهيد في الدروس (٣) جعلُه (٤) من المعاطاة ، ولا ريب أنّه لا يصدق معنى المعاطاة ، لكنّ هذا لا يقدح في جريان حكمها عليه ؛ بناءً على عموم الحكم لكلّ بيعٍ فعليٍّ ، فيكون إقباض أحد العوضين من مالكه تمليكاً له بعوض ، أو مبيحاً (٥) له به ، وأخذ الآخر له تملّكاً له بالعوض ، أو إباحة له بإزائه ، فلو كان المعطى هو الثمن كان
__________________
(١) كذا في «ش» ، وفي «ف» : «الملك» ، وفي «ن» : «ملك» ، وفي غيرها : ملكه.
(٢) منهم : المحقّق الثاني في حاشية الإرشاد (مخطوط) : ٢١٧ ، والسيد المجاهد في المناهل : ٢٧٠ ، والشيخ الكبير في شرحه على القواعد (مخطوط) : الورقة : ٥١ ، وصاحب الجواهر في الجواهر ٢٢ : ٢٣٨ ، ويظهر من المحدّث البحراني والسيد العاملي أيضاً ، انظر الحدائق ١٨ : ٣٦٤ ، ومفتاح الكرامة ٤ : ١٥٨.
(٣) الدروس ٣ : ١٩٢.
(٤) كذا في «ش» ، وفي غيرها : «جعلوه» ، إلاّ أنّه صحّح في «خ» ، «ع» و «ص» بما في المتن.
(٥) في «ص» : إباحة.
دفعه على القول بالملك والبيع (١) اشتراءً ، وأخذه بيعاً للمثمن به ، فيحصل الإيجاب والقبول الفعليّان (٢) بفعلٍ واحدٍ في زمانٍ واحد.
ثمّ صحّة هذا على القول بكون المعاطاة بيعاً مملِّكاً واضحة ؛ إذ يدلّ عليها ما دلّ على صحّة المعاطاة من الطرفين ، وأمّا على القول بالإباحة ، فيشكل بأنّه بعد عدم حصول الملك بها لا دليل على تأثيرها في الإباحة ، اللهم إلاّ أن يدّعى قيام السيرة عليها ، كقيامها على المعاطاة الحقيقية.
هل تنعقد المعاطاة بمجرّد إيصال الثمن وأخذ المثمن؟ |
وربما يدّعى انعقاد المعاطاة بمجرّد إيصال الثمن وأخذ المثمن من غير صدق إعطاءٍ أصلاً ، فضلاً عن التعاطي ، كما تعارف أخذ الماء مع غيبة السقّاء ، ووضع الفلس في المكان المعدّ له إذا علم من حال السقّاء الرضا بذلك ، وكذا غير الماء من المحقّرات كالخضروات (٣) ونحوها ، ومن هذا القبيل الدخول في الحمّام ووضع الأُجرة في كوز صاحب الحمّام مع غيبته.
المعيار في المعاطاة |
فالمعيار في المعاطاة : وصول العوضين ، أو أحدهما (٤) مع الرضا بالتصرّف ، ويظهر ذلك من المحقّق الأردبيلي رحمهالله أيضاً في مسألة المعاطاة (٥) ، وسيأتي توضيح ذلك في مقامه (٦) إن شاء الله.
__________________
(١) في «ف» : أو البيع.
(٢) كذا في «ف» ، وفي غيرها : الفعليّين.
(٣) كذا في «ف» ، وفي غيرها : كالخضريات.
(٤) في «ف» زيادة : مقامه.
(٥) انظر مجمع الفائدة ٨ : ١٤١.
(٦) سيأتي في الصفحة ١١٢ ١١٣.
خلوّ المعاطاة من الإعطاء والإيصال رأساً |
ثمّ إنّه لو قلنا بأنّ اللفظ الغير المعتبر في العقد كالفعل في انعقاد المعاطاة ، أمكن خلوّ المعاطاة من الإعطاء والإيصال رأساً ، فيتقاولان على مبادلة شيءٍ بشيءٍ من غير إيصال ، ولا يبعد صحّته مع صدق البيع عليه بناءً على الملك ، وأمّا على القول بالإباحة ، فالإشكال المتقدّم هنا آكد.
[الأمر (١)] الثالث
تميّز البائع من المشتري في المعاطاة الفعليّة حالات العوضين في المعاطاة |
مع كون أحد العوضين ممّا تعارف جعله ثمناً كالدراهم والدنانير والفلوس المسكوكة واضح ؛ فإنّ صاحب الثمن هو المشتري ما لم يصرّح بالخلاف.
وأمّا مع كون العوضين من غيرها ، فالثمن ما قصدا (٢) قيامه مقام الثمن (٣) في العوضيّة ، فإذا أعطى الحنطة في مقابل اللحم قاصداً إنّ هذا المقدار (٤) من الحنطة يسوي درهماً هو ثمن اللحم ، فيصدق عرفاً (٥) أنّه اشترى اللحم بالحنطة ، وإذا انعكس انعكس الصدق ، فيكون المدفوع بنيّة البدليّة عن الدرهم والدينار هو الثمن ، وصاحبه هو (٦) المشتري.
ولو لم يلاحظ إلاّ كون أحدهما بدلاً عن الآخر من دون نيّة قيام أحدهما مقام الثمن في العوضيّة ، أو لوحظ القيمة في كليهما ، بأن لوحظ كون المقدار من اللحم بدرهم ، وذلك المقدار (٧) من الحنطة بدرهم ،
__________________
(١) من «ص».
(٢) في «ف» : ما قصد.
(٣) في «ف» ، «خ» ، «ع» و «ص» : المثمن.
(٤) في «ف» : القدر.
(٥) لم ترد «عرفاً» في «ف».
(٦) لم ترد «هو» في «ف».
(٧) في «ف» : القدر.
فتعاطيا من غير سبق مقاولة تدلّ على كون أحدهما بالخصوص بائعاً :
ففي كونه بيعاً وشراءً بالنسبة إلى كلٍّ منهما ؛ بناءً على أنّ البيع لغةً كما عرفت مبادلة مالٍ بمال ، والاشتراء : ترك شيءٍ والأخذ بغيره كما عن بعض أهل اللغة (١) فيصدق على صاحب اللحم أنّه باعه بحنطة ، وأنّه اشترى الحنطة ، فيحنث لو حلف على عدم بيع اللحم وعدم شراء الحنطة. نعم ، لا يترتّب عليهما أحكام البائع ولا المشتري ؛ لانصرافهما في أدلّة تلك الأحكام إلى من اختصّ بصفة (٢) البيع أو الشراء ، فلا يعمّ من كان في معاملة واحدة مصداقاً لهما باعتبارين.
أو كونه بيعاً بالنسبة إلى من يعطي أوّلاً ؛ لصدق الموجب عليه ، وشراءً بالنسبة إلى الآخذ ؛ لكونه قابلاً عرفاً.
أو كونها (٣) معاطاة مصالحة ؛ لأنّها بمعنى التسالم على شيء ؛ ولذا حملوا الرواية الواردة في قول أحد الشريكين لصاحبه : «لك ما عندك ، ولي ما عندي» (٤) على الصلح (٥).
__________________
(١) انظر لسان العرب ٧ : ١٠٣ ، والقاموس ٤ : ٣٤٨ ، مادّة : «شرى».
(٢) في «خ» ، «ع» و «ص» : «بصيغة» ، وفي نسخة بدلها : بصفة.
(٣) كذا في «ف» ، «ش» ومصحّحة «ن» ، وفي غيرها : «كونهما» ، وتأنيث الضمير باعتبار الخبر ، كما هي طريقة المصنّف قدسسره.
(٤) الوسائل ١٣ : ١٦٦ ، الباب ٥ من أبواب أحكام الصلح ، الحديث الأوّل.
(٥) فإنّهم استدلّوا بالرواية المذكورة على صحّة المصالحة مع جهالة المصطلحين بما وقعت فيه المنازعة ، انظر المسالك ٤ : ٢٦٣ ، والحدائق ٢١ : ٩٢ ، والجواهر ٢٦ : ٢١٦.
أو كونها معاوضة مستقلّة لا يدخل تحت العناوين المتعارفة ، وجوه.
لا يخلو ثانيها عن قوّة ؛ لصدق تعريف «البائع» لغةً وعرفاً على الدافع أوّلاً ، دون الآخر ، وصدق «المشتري» على الآخذ أوّلاً ، دون الآخر ، فتدبّر.
[الأمر (١)] الرابع
أقسام المعاطاة بحسب قصد المتعاطيين ١ ـ تمليك المال بإزاء المال |
أنّ أصل المعاطاة وهي إعطاء كلٍّ منهما الآخر (٢) ماله يتصوّر بحسب قصد المتعاطيين على وجوه :
أحدها : أن يقصد كلٌّ منهما تمليك ماله بمال الآخر ، فيكون الآخر (٣) في أخذه قابلاً ومتملّكاً (٤) بإزاء ما يدفعه ، فلا يكون في دفعه العوض إنشاء تمليكٍ ، بل دفع لما التزمه على نفسه بإزاء ما تملّكه ، فيكون الإيجاب والقبول (٥) بدفع العين الاولى وقبضها ، فدفع العين الثاني (٦) خارج عن حقيقة المعاطاة ، فلو مات الآخذ قبل دفع ماله مات بعد تمام المعاطاة ؛ وبهذا الوجه صحّحنا سابقاً (٧) عدم توقّف المعاطاة على قبض كلا العوضين ، فيكون إطلاق المعاطاة عليه من حيث حصول المعاملة فيه بالعطاء دون القول ، لا من حيث كونها متقوّمة
__________________
(١) من «ص».
(٢) في «ف» : لآخر.
(٣) عبارة «فيكون الآخر» ساقطة من «ش».
(٤) كذا في «ش» ، ومصحّحتي «ن» و «ص» ، وفي «ف» : «أو مملّكاً» ، وفي سائر النسخ : ومملّكاً.
(٥) وردت عبارة «إنشاء تمليك إلى الإيجاب والقبول» في «ف» هكذا : أنشأ نفسه بإزاء ما تملّكه ، فيكون تمليك ، بل دفعٌ لما التزمه على الإيجاب والقبول.
(٦) كذا في النسخ ، والصواب : الثانية ، كما في مصحّحة «ص».
(٧) راجع الصفحة ٧٤ ٧٥.