كتاب المكاسب - ج ٣

الشيخ مرتضى الأنصاري

كتاب المكاسب - ج ٣

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


المحقق: لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم
الموضوع : الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: شريعت
الطبعة: ٥
ISBN: 964-5662-17-6
ISBN الدورة:
964-5662-17-6

الصفحات: ٦٣٩

كثيرة (١) ، بل قد عرفت (٢) أنّ مقتضى إطلاق أدلّة الضمان في القيميّات هو ذلك بحسب المتعارف ، إلاّ أنّ المتيقّن من هذا المتعارف (٣) ما كان المثل فيه متعذّراً ، بل يمكن دعوى انصراف الإطلاقات الواردة في خصوص بعض القيميّات كالبغل والعبد ونحوهما (٤) لصورة تعذّر المثل ، كما هو الغالب.

استظهار الاجماع على ضمان القيمي بالقيمة مع تيسّر المثل

فالمرجع في وجوب القيمة في القيمي وإن فرض تيسّر المثل له كما في مَن أتلف عبداً من شخص باعه عبداً موصوفاً بصفات ذلك العبد بعينه ، وكما لو أتلف عليه ذراعاً من مائة ذراع كرباس منسوج على طريقة واحدة لا تفاوت في أجزائه أصلاً هو الإجماع ، كما يستظهر.

لو تيسّر المثل من جميع الجهات

وعلى تقديره ، ففي شموله لصورة تيسّر المثل من جميع الجهات تأمّل ، خصوصاً مع الاستدلال عليه كما (٥) في الخلاف (٦) وغيره (٧) بقوله تعالى (فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) (٨) ؛ بناءً على أنّ القيمة‌

__________________

(١) انظر الوسائل ١٦ : ٢٠ ٢١ ، الباب ١٨ من أبواب العتق ، الأحاديث ١ ، ٤ ، ٥ ، ٩ و ١٠ وغيرها.

(٢) في الصفحة ٢٢٨.

(٣) في «ف» : من التعارف.

(٤) تقدّمت الإشارة إلى مواردها في الصفحة السابقة.

(٥) لم ترد «كما» في «ف».

(٦) الخلاف ٣ : ٤٠٢ ، كتاب الغصب ، المسألة ١١ ، و ٤٠٦ ، المسألة ١٨.

(٧) مثل السرائر ٢ : ٤٨٠ ، والتذكرة ٢ : ٣٨٣.

(٨) البقرة : ١٩٤.

٢٤١

مماثلة (١) للتالف في المالية ، فإنّ ظاهر ذلك جعلها من باب الأقرب إلى التالف بعد تعذّر المثل.

وكيف كان ، فقد حكي الخلاف في ذلك عن الإسكافي (٢) ، وعن الشيخ والمحقّق في الخلاف والشرائع في باب القرض (٣).

فإن أرادوا ذلك مطلقاً حتّى مع تعذّر المثل فيكون القيمة عندهم بدلاً عن المثل حتّى يترتّب عليه وجوب قيمة يوم دفعها كما ذكروا ذلك احتمالاً في مسألة تعيّن القيمة (٤) متفرّعاً على هذا القول فيردّه إطلاقات (٥) الروايات الكثيرة في موارد كثيرة :

منها : صحيحة أبي ولاّد الآتية (٦).

ومنها : رواية تقويم العبد (٧).

ومنها : ما دلّ على أنّه إذا تلف الرهن بتفريط المرتهن سقط من ذمّته (٨)

__________________

(١) كذا في مصحّحة «ص» ، وفي غيرها : مماثل.

(٢) حكى عنه وعن ظاهر الشيخ والمحقّق ، السيّد العاملي في مفتاح الكرامة ٦ : ٢٤٣.

(٣) الخلاف ٣ : ١٧٥ ، كتاب البيوع ، المسألة ٢٨٧. والشرائع ٢ : ٦٨ ، لكنّه استحسن ضمان المثل بعد أن أفتى بضمان القيمة.

(٤) انظر مفتاح الكرامة ٦ : ٢٤٣ ، والجواهر ٢٥ : ٢٠.

(٥) في «ف» ، «ن» ، «خ» و «م» : إطلاق.

(٦) يأتي في الصفحة ٢٤٦ ٢٤٧.

(٧) المراد بها ظاهراً ما تقدّم في الصفحة ٢٤٠ من قوله عليه‌السلام : «مَن أعتق شقصاً من عبد قُوّم عليه».

(٨) في «ن» و «ش» : دينه.

٢٤٢

بحساب ذلك (١) ، فلولا ضمان التالف بالقيمة لم يكن وجه لسقوط الدين بمجرّد ضمان التالف.

ومنها : غير ذلك من الأخبار الكثيرة (٢).

وإن أرادوا أنّه مع تيسّر المثل يجب المثل لم يكن بعيداً ؛ نظراً إلى ظاهر آية الاعتداء (٣) ونفي الضرر (٤) ؛ لأنّ خصوصيات الحقائق قد تقصد ، اللهم إلاّ أن يحقّق إجماع على خلافه ولو من جهة أنّ ظاهر كلمات هؤلاء (٥) إطلاق القول بضمان المثل ، فيكون الفصل بين التيسّر وعدمه قولاً ثالثاً في المسألة.

ما هو المعيار في تعيين القيمة في المقبوض بالعقد الفاسد؟

ثمّ إنّهم اختلفوا في تعيين القيمة في المقبوض بالبيع الفاسد.

فالمحكيّ في غاية المراد (٦) عن الشيخين وأتباعهما : تعيّن قيمة يوم التلف ، وعن الدروس (٧) والروضة (٨) نسبته إلى الأكثر.

والوجه فيه على ما نبّه عليه جماعة ، منهم العلاّمة في التحرير (٩) ـ : أنّ الانتقال إلى البدل إنّما هو يوم التلف ؛ إذ الواجب قبله‌

__________________

(١) انظر الوسائل ١٣ : ١٢٩ ، الباب ٧ من أبواب أحكام الرهن.

(٢) المشار إليها في هامش الصفحة ٢٤١.

(٣) البقرة : ١٩٤.

(٤) انظر الوسائل ١٧ : ٣٤٠ ، الباب ١٢ من أبواب إحياء الموات.

(٥) يعني الإسكافي والشيخ والمحقّق قدس‌سرهم.

(٦) غاية المراد : ٨٥.

(٧) الدروس ٣ : ١١٣.

(٨) الروضة البهية ٧ : ٤١ ، وانظر الجواهر ٣٧ : ١٠٥.

(٩) التحرير ٢ : ١٣٩.

٢٤٣

هو ردّ العين.

وربما يورد (١) عليه : أنّ يوم التلف يوم الانتقال إلى القيمة ، أمّا كون المنتقل إليها قيمة يوم التلف فلا.

ويدفع : بأنّ معنى ضمان العين عند قبضه : كونه في عهدته ، ومعنى ذلك وجوب تداركه ببدله عند التلف ، حتّى يكون عند التلف (٢) كأنه لم يتلف ، وتداركه (٣) على هذا النحو بالتزام مال معادل له [قائم] (٤) مقامه.

الأصل في ضمان التالف : ضمانه بقيمته يوم التلف

وممّا ذكرنا ظهر أنّ الأصل في ضمان التالف : ضمانه بقيمته يوم التلف ، فإن خرج المغصوب من ذلك (٥) مثلاً فبدليل من (٦) خارج.

نعم ، لو تمّ ما تقدّم عن الحلّي في هذا المقام : من دعوى الاتّفاق على كون البيع (٧) فاسداً بمنزلة المغصوب إلاّ في ارتفاع الإثم (٨) ، ألحقناه بالمغصوب إن ثبت فيه حكم مخالف لهذا الأصل ، بل يمكن أن يقال : إذا ثبت في المغصوب الاعتبار بقيمة يوم الغصب كما هو ظاهر صحيحة‌

__________________

(١) لم نعثر على المورد ، نعم أورده في المناهل : ٢٩٨ بلفظ : «ولا يقال».

(٢) عبارة «حتّى يكون عند التلف» لم ترد في «ف».

(٣) في «ن» ، «م» ، «ع» و «ص» ونسخة بدل «خ» زيادة : «ببدله» ، ولكن شطب عليها في «ن».

(٤) من «ش» فقط.

(٥) لم يرد «من ذلك» في «ف».

(٦) كلمة «من» لم ترد في غير «ف».

(٧) في «ص» ومصحّحة «ن» : المبيع.

(٨) تقدّم في الصفحة ٢٠٧ ٢٠٨.

٢٤٤

الاستدلال بصحيحة أبي ولّاد على أنّ العبرة بقيمة يوم الضمان

أبي ولاّد الآتية كشف ذلك عن عدم اقتضاء إطلاقات الضمان لاعتبار قيمة يوم التلف ؛ إذ يلزم حينئذٍ أن يكون المغصوب عند كون قيمته يوم التلف أضعاف ما كانت يوم الغصب غير واجب التدارك عند التلف ؛ لما ذكرنا من أنّ معنى التدارك التزام (١) بقيمته يوم وجوب التدارك.

نعم ، لو فرض دلالة الصحيحة على وجوب أعلى القيم ، أمكن جعل التزام الغاصب بالزائد على مقتضى التدارك مؤاخذة له بأشقّ الأحوال.

فالمهمّ حينئذٍ صرف الكلام إلى معنى الصحيحة بعد ذكرها ؛ ليلحق به البيع الفاسد ، إمّا لما ادّعاه الحلّي (٢) ، وإمّا لكشف الصحيحة عن معنى التدارك والغرامة في المضمونات ، وكون العبرة في جميعها بيوم الضمان ، كما هو أحد الأقوال فيما نحن فيه من البيع الفاسد.

وحيث إنّ الصحيحة مشتملة على أحكام كثيرة وفوائد خطيرة ، فلا بأس بذكرها جميعاً وإن كان الغرض متعلّقاً ببعضها.

صحيحة أبي ولّاد على ما رواه الشيخ

فروى (٣) الشيخ في الصحيح عن أبي ولاّد ، قال : اكتريت بغلاً إلى قصر بني هبيرة (٤) ذاهباً وجائياً بكذا وكذا ، وخرجت في طلب غريمٍ‌

__________________

(١) كذا في النسخ ، والمناسب : «الالتزام» ، كما في مصحّحة «ص».

(٢) راجع الصفحة السابقة.

(٣) لمّا كانت النسخ مختلفة اختلافاً كثيراً في نقل الرواية ، آثرنا نقلها من التهذيب.

(٤) الوسائل : «قصر ابن هبيرة» ، وهو الموافق لما في معجم البلدان ٤ : ٣٦٥.

٢٤٥

لي ، فلمّا صرت إلى قرب قنطرة الكوفة خُبّرت أنّ صاحبي توجّه إلى النيل (١) ، فتوجّهت نحو النيل ، فلمّا أتيت النيل خُبّرت أنّه توجّه إلى بغداد ، فأتبعته فظفرت به وفرغت فيما بيني وبينه ، ورجعت إلى الكوفة ، وكان ذهابي ومجيئي خمسة عشر يوماً ، فأخبرت صاحب البغل بعذري ، وأردت أن أتحلّل منه فيما صنعت وأُرضيه ، فبذلت له خمسة عشر درهماً فأبى أن يقبل ، فتراضينا بأبي حنيفة ، وأخبرته بالقصّة وأخبره الرجل ، فقال لي : ما صنعت بالبغل؟ فقلت : قد رجعته سليماً. قال : نعم ، بعد خمسة عشر يوماً! قال : فما تريد من الرجل؟ قال : أُريد كرى بغلي فقد حبسه عليّ خمسة عشر يوماً. فقال : إنّي ما أرى لك حقّا ؛ لأنّه اكتراه إلى قصر بني هبيرة فخالف فركبه إلى النيل وإلى بغداد ، فضمن قيمة البغل وسقط الكرى ، فلمّا ردّ البغل سليماً وقبضته لم يلزمه الكرى. قال : فخرجنا من عنده وجعل صاحب البغل يسترجع ، فرحمته ممّا أفتى به أبو حنيفة ، وأعطيته شيئاً وتحلّلت منه ، وحججت تلك السنة فأخبرت أبا عبد الله عليه‌السلام بما أفتى به أبو حنيفة ، فقال : في مثل هذا القضاء وشبهه تحبس السماء ماءَها وتمنع الأرض بركتها. قال : فقلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : فما ترى أنت؟ قال : أرى له عليك مثل كرى البغل ذاهباً من الكوفة إلى النيل ومثل كرى البغل من النيل إلى بغداد ، ومثل كرى البغل من بغداد إلى الكوفة ، وتوفّيه إيّاه. قال : قلت : جُعلت فداك ، قد علفته بدراهم ، فلي عليه علفه؟ قال : لا ؛ لأنّك غاصب. فقلت : أرأيت لو عطب البغل أو أنفق ، أليس كان يلزمني؟

__________________

(١) سوف يأتي توضيحه في هامش الصفحة ٣٦٦.

٢٤٦

قال : نعم ، قيمة بغل يوم خالفته. قلت : فإن أصاب البغل كسر أو دَبر أو عقر؟ فقال : عليك قيمة ما بين الصحّة والعيب يوم تردّه عليه. قلت : فمَن يعرف ذلك؟ قال : أنت وهو ، إمّا أن يحلف هو على القيمة فيلزمك ، فإن ردّ اليمين عليك فحلفت على القيمة لزمك ذلك ، أو يأتي صاحب البغل بشهود يشهدون أنّ قيمة البغل حين اكتري كذا وكذا فيلزمك. قلت : إنّي أعطيته دراهم ورضي بها وحلّلني. قال : إنّما رضي فأحلّك حين قضى عليه أبو حنيفة بالجور والظلم ، ولكن ارجع إليه وأخبره بما أفتيتك به ، فإن جعلك في حلٍّ بعد معرفته فلا شي‌ء عليك بعد ذلك .. الخبر» (١).

محلّ الاستشهاد في صحيحة أبي ولّاد :

ومحلّ الاستشهاد فيه فِقْرتان :

الاولى : قوله : «نعم ، قيمة بغل يوم خالفته» إلى ما بعد ، فإنّ الظاهر أنّ اليوم قيد للقيمة ، إمّا بإضافة القيمة المضافة إلى البغل إليه ثانياً ، يعني قيمة يوم المخالفة للبغل ، فيكون إسقاط حرف التعريف من البغل للإضافة ، لا لأنّ ذا القيمة بغل غير معيّن ، حتّى توهم الرواية مذهب مَن جعل القيمي مضموناً بالمثل ، والقيمة إنّما هي قيمة المثل. وإمّا بجعل اليوم قيداً للاختصاص الحاصل من إضافة القيمة إلى البغل.

وأمّا ما احتمله جماعة (٢) من تعلّق الظرف بقوله : «نعم» القائم‌

__________________

(١) التهذيب ٧ : ٢١٥ ، الحديث ٩٤٣ ، وأورده في الوسائل ١٣ : ٢٥٥ ، الباب ١٧ من أبواب الإجارة ، الحديث الأوّل ، عن الكافي.

(٢) منهم : السيّد العاملي في مفتاح الكرامة ٦ : ٢٤٤ ، والمحقّق النراقي في المستند ٢ : ٣٦٨ ، وصاحب الجواهر في الجواهر ٣٧ : ١٠١ ١٠٢.

٢٤٧

مقام قوله عليه‌السلام : «يلزمك» يعني يلزمك يوم المخالفة قيمة بغل فبعيد جدّاً ، بل غير ممكن ؛ لأنّ السائل إنّما سأل عمّا يلزمه بعد التلف بسبب المخالفة بعد العلم بكون زمان المخالفة زمان حدوث الضمان ، كما يدلّ عليه : «أرأيت لو عطب البغل ، أو نفق أليس كان يلزمني؟» ، فقوله : «نعم» يعني يلزمك بعد التلف بسبب المخالفة قيمة بغل يوم خالفته.

وقد أطنب بعضٌ في (١) جعل الفِقْرة ظاهرة في تعلّق الظرف بلزوم القيمة عليه (٢) ، ولم يأتِ بشي‌ءٍ يساعده التركيب اللغوي ، ولا المتفاهم العرفي.

الثانية : قوله : «أو يأتي صاحب البغل بشهود يشهدون أنّ قيمة البغل يوم اكتري كذا وكذا» ، فإنّ إثبات قيمة يوم الاكتراء من حيث هو يوم الاكتراء لا جدوى فيه ؛ لعدم الاعتبار به (٣) ، فلا بدّ أن يكون الغرض منه إثبات قيمة يوم المخالفة ؛ بناءً على أنّه يوم الاكتراء ؛ لأنّ الظاهر من صدر الرواية أنّه خالف المالك بمجرّد خروجه من (٤) الكوفة ، ومن المعلوم أنّ اكتراء البغل لمثل تلك (٥) المسافة القليلة إنّما يكون يوم‌

__________________

(١) في «ش» بدل «في» : من.

(٢) الظاهر أنّه قدس‌سره أشار بهذا الكلام إلى ما حكاه صاحب الجواهر رحمه‌الله في كتاب الغصب بقوله : «نعم ، ربما قيل : إنّه ظاهر فيه ، يعني في تعلّق الظرف بالفعل المدلول عليه بقوله عليه‌السلام : نعم» ، كذا أفاده العلاّمة المامقاني في غاية الآمال : ٣١٥ ، وانظر الجواهر ٣٧ : ١٠٢.

(٣) في «ف» زيادة : قطعاً.

(٤) كذا في «ش» ومصحّحة «ن» ، وفي سائر النسخ : إلى.

(٥) لم ترد «تلك» في «ف».

٢٤٨

الخروج ، أو في عصر اليوم السابق. ومعلوم أيضاً عدم اختلاف القيمة في هذه المدّة القليلة.

وأمّا قوله عليه‌السلام في جواب السؤال عن إصابة العيب : «عليك قيمة ما بين الصحّة والعيب يوم تردّه» فالظرف متعلّق ب «عليك» لا قيد للقيمة ؛ إذ لا عبرة في أرش العيب بيوم الردّ إجماعاً ؛ لأنّ النقص الحادث تابع في تعيين يوم قيمته لأصل العين ، فالمعنى : عليك أداء الأرش يوم ردّ البغلة.

ويحتمل أن يكون قيداً ل «العيب» ، والمراد : العيب الموجود في يوم الردّ ؛ لاحتمال ازدياد العيب إلى يوم الردّ فهو المضمون ، دون العيب القليل الحادث أوّلاً ، لكن يحتمل أن يكون العيب قد تناقص إلى يوم الردّ ، والعبرة حينئذٍ بالعيب الموجود حال حدوثه ؛ لأنّ المعيب لو رُدّ إلى الصحّة أو نقص لم يسقط ضمان ما حدث منه وارتفع على مقتضى الفتوى (١) ، فهذا الاحتمال من هذه الجهة ضعيف أيضاً ، فتعيّن تعلّقه بقوله عليه‌السلام : «عليك».

والمراد ب «قيمة ما بين الصحّة (٢) والعيب» قيمة التفاوت بين الصحّة والعيب ، ولا تعرّض في الرواية ليوم هذه القيمة ، فيحتمل يوم الغصب ، ويحتمل يوم حدوث العيب الذي هو يوم تلف وصف الصحّة الذي هو بمنزلة جزء العين في باب الضمانات والمعاوضات ، وحيث عرفت ظهور الفِقْرة السابقة عليه واللاحقة له في اعتبار يوم الغصب ، تعيّن حمل هذا أيضاً على ذلك.

__________________

(١) عبارة «على مقتضى الفتوى» لم ترد في «ف».

(٢) في «ف» : قيمة يوم الصحّة.

٢٤٩

ما يوهن الاستدلال بالصحيحة على اعتبار قيمة يوم الضمان

نعم ، يمكن أن يوهن ما استظهرناه من الصحيحة بأنّه لا يبعد أن يكون مبنى الحكم في الرواية على ما هو الغالب في مثل مورد الرواية من عدم اختلاف قيمة البغل في مدّة خمسة عشر يوماً ، ويكون السرّ في التعبير ب «يوم المخالفة» دفع ما ربما يتوهّمه أمثال صاحب البغل من العوامّ : أنّ العبرة بقيمة ما اشتري به البغل وإن نقص بعد ذلك ؛ لأنّه خسّره (١) المبلغ الذي اشترى به البغلة.

ويؤيّده : التعبير عن يوم المخالفة في ذيل الرواية ب «يوم الاكتراء» (٢) فإنّ فيه إشعاراً بعدم عناية المتكلّم بيوم المخالفة من حيث إنّه يوم المخالفة.

إلاّ أن يقال : إنّ الوجه في التعبير بيوم الاكتراء مع كون المناط يوم المخالفة هو التنبيه على سهولة إقامة الشهود على قيمته في زمان الاكتراء ؛ لكون البغل فيه غالباً بمشهد من الناس وجماعةٍ من المُكارين ، بخلاف زمان المخالفة من حيث إنّه زمان المخالفة ، فتغيير التعبير ليس لعدم العبرة بزمان المخالفة ، بل للتنبيه على سهولة معرفة القيمة بالبيّنة كاليمين (٣) ، في مقابل قول السائل : «ومن يعرف ذلك؟» ، فتأمّل.

__________________

(١) في «ع» و «خ» : «خَسرة» ، قال في شرح الشهيدي بعد أن أثبت «خسّره» وشرح معناها ـ : هذا بناءً على «خسّره» بالضمير ، وأمّا بناء على عدمه كما في بعض النسخ المصحّحة من جهة حك الضمير فيه ، فالمعنى واضح. انظر هداية الطالب : ٢٣٩.

(٢) التعبير الموجود في ذيل الرواية هو : «حين اكتري» ، ولعلّ المؤلّف قدس‌سره نقل ذلك بالمعنى.

(٣) لم ترد «كاليمين» في «ف».

٢٥٠

ويؤيّده أيضاً : قوله عليه‌السلام في ما بعد ، في جواب قول السائل : «ومَن يعرف ذلك؟» قال : «أنت وهو ، إمّا أن يحلف هو على القيمة فيلزمك ، فإن ردّ اليمين عليك (١) فحلفت على القيمة (٢) لزمه ، أو يأتي صاحب البغل بشهودٍ يشهدون على (٣) أنّ قيمة البغل يوم اكتري كذا وكذا ، فيلزمك .. الخبر» ، فإنّ العبرة لو كان (٤) بخصوص يوم المخالفة لم يكن وجه لكون القول قول المالك مع كونه مخالفاً للأصل ، ثمّ لا وجه لقبول بيّنته ؛ لأنّ من كان القول قوله فالبيّنة بيّنة صاحبه.

وحمل الحلف هنا على الحلف المتعارف الذي يرضى به المحلوف له ويصدّقه فيه من دون محاكمة والتعبير بردّه (٥) اليمين على الغاصب من جهة أنّ المالك أعرف بقيمة بغله ، فكأنّ الحلف حقّ (٦) له ابتداء خلاف الظاهر.

وهذا بخلاف ما لو اعتبرنا يوم التلف ؛ فإنّه يمكن أن يحمل توجّه اليمين على المالك على ما إذا اختلفا في تنزّل القيمة يوم التلف مع اتّفاقهما أو الاطّلاع من الخارج على قيمته سابقاً ، ولا شكّ حينئذٍ أنّ القول قول المالك ، ويكون سماع البيّنة في صورة اختلافهما في قيمة البغل‌

__________________

(١) كلمة «عليك» من «ش» والمصدر.

(٢) كذا في «ش» والمصدر ، وفي سائر النسخ بدل على القيمة : له.

(٣) لم ترد «على» في المصدر ، وشطب عليها في «ص».

(٤) كذا ، والمناسب : «كانت» ، كما في مصحّحة «ص».

(٥) في «ف» : بردّ.

(٦) في «ش» : فكان الحلف حقّا.

٢٥١

سابقاً مع اتّفاقهما على بقائه عليها إلى يوم التلف ، فتكون الرواية قد تكفّلت بحكم صورتين من صور تنازعهما ، ويبقى بعض الصور ، مثل دعوى المالك زيادة قيمة يوم التلف عن يوم المخالفة ، ولعلّ حكمها أعني حلف الغاصب يعلم من حكم عكسها المذكور في الرواية.

وأمّا على تقدير كون العبرة في القيمة بيوم المخالفة ، فلا بدّ من حمل الرواية على ما إذا اتّفقا على قيمة اليوم السابق على يوم المخالفة ، أو اللاحق له وادّعى الغاصب نقصانه عن تلك (١) يوم المخالفة ، ولا يخفى بُعده.

وأبعد منه : حمل النصّ على التعبّد ، وجعل الحكم في خصوص الدابّة المغصوبة أو مطلقاً (٢) مخالفاً للقاعدة المتّفق عليها نصّاً (٣) وفتوى : من كون البيّنة على المدّعى واليمين على من أنكر (٤) ، كما حكي عن الشيخ في بابي الإجارة والغصب (٥).

الاستشهاد بالصحيحة على ضمان أعلى القيم والمناقشة فيه

وأضعف من ذلك : الاستشهاد بالرواية على اعتبار أعلى القيم من‌

__________________

(١) في «ف» بدل «تلك» : الملك.

(٢) كذا في «ف» ومصحّحة «ن» ، وفي «ش» : «وجعل حكم خصوص الدابة أو مطلقاً» ، وفي سائر النسخ : «وجعل الحكم مخصوصاً في الدابة المغصوبة أو مطلقاً».

(٣) انظر الوسائل ١٨ : ١٧٠ ، الباب ٣ من أبواب كيفية الحكم والدعوى وغيره.

(٤) في «ف» : على المنكر.

(٥) انظر النهاية : ٤٤٦ ، هذا في الإجارة ، ولم نعثر عليه في الغصب.

٢٥٢

حين الغصب إلى التلف كما حكي عن الشهيد الثاني (١) إذ لم يعلم لذلك وجهٌ صحيح ، ولم أظفر بمن وجّه دلالتها على هذا المطلب.

الاستدلال على أعلى القيم بوجه آخر ، والمناقشة فيه

نعم ، استدلّوا على هذا القول بأنّ العين مضمونة في جميع تلك الأزمنة التي منها زمان ارتفاع قيمته (٢).

وفيه : إنّ ضمانها في تلك الحال ، إن أُريد به وجوب قيمة ذلك الزمان لو تلف فيه فمسلّم ؛ إذ تداركه لا يكون إلاّ بذلك ، لكنّ المفروض أنّها لم تتلف فيه.

وإن أُريد به استقرار قيمة ذلك الزمان عليه فعلاً وإن تنزّلت بعد ذلك ، فهو مخالف لما تسالموا عليه من عدم ضمان ارتفاع القيمة مع ردّ العين.

وإن أُريد استقرارها عليه بمجرّد الارتفاع مراعى بالتلف ، فهو وإن لم يخالف الاتّفاق إلاّ أنّه مخالف لأصالة البراءة من غير دليلٍ شاغل ، عدا ما حكاه في الرياض عن خاله العلاّمة قدّس الله تعالى روحهما من قاعدة نفي الضرر الحاصل على المالك (٣).

__________________

(١) المسالك ٢ : ٢٠٩ ، والروضة البهية ٧ : ٤٣ ٤٤ ، وحكاه السيّد العاملي في مفتاح الكرامة ٦ : ٢٤٤.

(٢) ممّن استدلّ بذلك : الفاضل المقداد في التنقيح ٤ : ٧٠ ، وابن فهد الحلّي في المهذّب البارع ٤ : ٢٥٢ ، والشهيد الثاني في المسالك ٢ : ٢٠٩ ، وانظر مفتاح الكرامة ٦ : ٢٤٤.

(٣) الرياض ٢ : ٣٠٤ ، والمراد ب «خاله العلاّمة» هو العلاّمة الأكبر الآقا محمد باقر الوحيد البهبهاني قدس‌سره.

٢٥٣

وفيه نظر ، كما اعترف به بعض من تأخّر (١).

توجيه الاستدلال

نعم ، يمكن توجيه الاستدلال المتقدّم من كون العين مضمونة في جميع الأزمنة ـ : بأنّ العين إذا ارتفعت قيمتها في زمان وصار ماليتها مقوّمة بتلك القيمة ، فكما أنّه إذا تلفت حينئذٍ يجب تداركها بتلك القيمة ، فكذا إذا حيل بينها وبين المالك حتّى تلفت ؛ إذ لا فرق مع عدم التمكّن منها بين أن تتلف أو تبقى.

نعم ، لو ردّت تُدارَك تلك الماليّة بنفس العين ، وارتفاع القيمة السوقيّة أمر اعتباري لا يضمن بنفسه ؛ لعدم كونه مالاً ، وإنّما هو مقوّم لمالية المال ، وبه تمايز (٢) الأموال كثرةً وقلّة.

والحاصل : أنّ للعين في كلّ زمانٍ من أزمنة تفاوت قيمته مرتبة من الماليّة ، أُزيلت يد المالك منها وانقطعت سلطنته عنها ، فإن رُدّت العين فلا مال سواها يضمن ، وإن تلفت استقرّت عليا (٣) تلك المراتب (٤) ؛ لدخول الأدنى تحت الأعلى ، نظير ما لو فرض للعين منافع متفاوتة متضادّة ، حيث إنّه يضمن الأعلى منها.

ولأجل ذلك استدلّ العلاّمة في التحرير للقول باعتبار يوم الغصب بقوله : لأنّه زمان إزالة يد المالك (٥).

ونقول في توضيحه : إنّ كلّ زمانٍ من أزمنة الغصب قد أُزيلت‌

__________________

(١) المراد به صاحب الجواهر قدس‌سره في الجواهر ٣٧ : ١٠٥.

(٢) في «ف» : تميّز.

(٣) في «ف» و «ن» : أعلى.

(٤) في «ف» زيادة : عليه.

(٥) التحرير ٢ : ١٣٩.

٢٥٤

فيه يد المالك من العين على حسب ماليّته ، ففي زمانٍ أُزيلت من مقدار درهم ، وفي آخر عن درهمين ، وفي ثالث عن ثلاثة ، فإذا استمرّت الإزالة إلى زمان التلف وجبت غرامة أكثرها ، فتأمّل.

استدلال ثالث على أعلى القيم وتوجيهه

واستدلّ في السرائر وغيرها على هذا القول بأصالة الاشتغال (١) ؛ لاشتغال ذمّته بحقّ المالك (٢) ، ولا يحصل البراءة إلاّ بالأعلى.

وقد يجاب بأنّ الأصل في المقام البراءة ؛ حيث إنّ الشكّ في التكليف بالزائد (٣). نعم ، لا بأس بالتمسّك باستصحاب الضمان المستفاد من حديث اليد (٤).

المحكي عن جماعة أن الاعتبار بيوم البيع ، وتوجيهه

ثمّ إنّه حكي عن المفيد والقاضي والحلبي : الاعتبار بيوم البيع فيما كان فساده من جهة التفويض (٥) إلى حكم المشتري (٦) ، ولم يعلم له وجه ، ولعلّهم يريدون به يوم القبض ؛ لغلبة اتّحاد زمان البيع والقبض ، فافهم.

__________________

(١) السرائر ٢ : ٤٨١ ، الرياض ٢ : ٣٠٤ ، المناهل : ٢٩٩.

(٢) في «ف» : لاشتغال ذمّة المالك.

(٣) أجاب عنها بذلك في الجواهر ٣٧ : ١٠٦.

(٤) وهو ما ورد عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي» ، عوالي اللآلي ٣ : ٢٤٦ ، الحديث ٢.

(٥) في غير «ش» : تفويض.

(٦) المقنعة : ٥٩٣ ، ولم نعثر عليه في الكافي والمهذّب ، والظاهر أنّ المؤلّف قدس‌سره أخذ ذلك عن العلاّمة قدس‌سره في المختلف ٥ : ٢٤٣ و ٢٤٤ ، حيث نقل عن الشيخ في النهاية ما نصّه : من اشترى شيئاً بحكم نفسه ولم يذكر الثمن بعينه كان البيع باطلاً ، فإن هلك في يد المبتاع كان عليه قيمته يوم ابتياعه إلى أن قال وكذا قال المفيد وابن البرّاج وأبو الصلاح.

٢٥٥

لا عبرة بزيادة القيمة بعد التلف في القيمي

ثمّ إنّه لا عبرة بزيادة القيمة بعد التلف على جميع الأقوال ، إلاّ أنّه تردّد فيه في الشرائع (١) ، ولعلّه كما قيل (٢) من جهة احتمال كون القيمي مضموناً بمثله ، ودفع القيمة إنّما هو لإسقاط المثل.

وقد تقدّم أنّه مخالفٌ لإطلاق النصوص والفتاوى (٣).

ارتفاع القيمة بسبب الأمكنة

ثمّ إنّ ما ذكرنا (٤) من الخلاف إنّما هو في ارتفاع القيمة بحسب الأزمنة ، وأمّا إذا كان بسبب الأمكنة ، كما إذا كان في محلّ الضمان بعشرة ، وفي مكان التلف بعشرين ، وفي مكان المطالبة بثلاثين ، فالظاهر اعتبار محلّ التلف ؛ لأنّ مالية الشي‌ء تختلف بحسب الأماكن ، وتداركه بحسب ماليّته.

ارتفاع القيمة بسبب الزيادة العينية

ثمّ إنّ جميع ما ذكرنا من الخلاف إنّما هو في ارتفاع القيمة السوقيّة الناشئة من تفاوت رغبة الناس ، وأمّا إذا كان حاصلاً من زيادةٍ في العين ، فالظاهر كما قيل (٥) عدم الخلاف في ضمان أعلى القيم ، وفي الحقيقة ليست قِيَم التالف مختلفة ، وإنّما زيادتها في بعض أوقات الضمان لأجل الزيادة العينيّة الحاصلة فيه النازلة منزلة الجزء الفائت.

__________________

(١) الشرائع ٣ : ٢٤٠.

(٢) قاله الشهيد الثاني في الروضة البهيّة ٧ : ٤٠.

(٣) راجع الصفحة ٢٤٠ ٢٤٢.

(٤) في «ف» : ما ذكره.

(٥) قاله الشهيد الثاني قدس‌سره في عكس المسألة ، وهو ما إذا استند نقص القيمة إلى نقصٍ في العين ، انظر المسالك ٢ : ٢٠٩ ، والروضة البهية ٧ : ٤٤ ، وقرّره في الجواهر ٣٧ : ١٠٧. والظاهر أنّ المؤلّف قدس‌سره أراد من الزيادة : الزيادة الفائتة ، بدليل قوله فيما سيأتي : «النازلة منزلة الجزء الفائت» ، وقوله : «نعم يجري الخلاف المتقدّم في قيمة هذه الزيادة الفائتة».

٢٥٦

تعذر الوصول إلى العين في حكم التلف

نعم ، يجري الخلاف المتقدّم في قيمة هذه الزيادة الفائتة ، وأنّ (١) العبرة بيوم فواتها أو يوم ضمانها أو أعلى القيم.

الدليل على ثبوت بدل الحيلولة

ثمّ إنّ في حكم تلف العين في جميع ما ذكر من ضمان المثل أو القيمة حكم تعذّر الوصول إليه وإن لم يهلك ، كما لو سرق أو غرق أو ضاع أو أبق ؛ لما دلّ على الضمان بهذه الأُمور في باب الأمانات المضمونة (٢).

مورد بدل الحيلولة

وهل يقيّد ذلك بما إذا حصل اليأس من الوصول إليه ، أو بعدم رجاء وجدانه ، أو يشمل ما لو علم وجدانه في مدّة طويلة (٣) يتضرّر المالك من انتظارها ، أو (٤) ولو كانت قصيرة؟ وجوه.

ظاهر أدلّة ما ذكر من الأُمور (٥) : الاختصاص بأحد الأوّلين ، لكنّ ظاهر إطلاق الفتاوى الأخير ، كما يظهر من إطلاقهم أنّ اللوح المغصوب في السفينة إذا خيف من نزعه غَرْقُ مالٍ لغير الغاصب انتقل إلى قيمته إلى أن يبلغ الساحل (٦).

__________________

(١) في «ش» : فإنّ.

(٢) راجع الوسائل ١٣ : ١٢٧ ، الباب ٥ من أبواب أحكام الرهن ، الحديث ٨ ، والصفحة ٢٢٩ ، الباب ٥ ، الحديث الأوّل.

(٣) كلمة «طويلة» مشطوب عليها في «خ» و «ص».

(٤) لم ترد «أو» في «خ» ، «م» ، «ع» و «ص».

(٥) يعني : السرقة والغرق والضياع والإباق.

(٦) صرّح بذلك العلاّمة في القواعد ١ : ٢٠٧ ، والتذكرة ٢ : ٣٩٦ ، ونسبه السيّد العاملي إلى صريح جامع المقاصد والمسالك والروضة وظاهر غيرها ، راجع مفتاح الكرامة ٦ : ٢٨٤.

٢٥٧

ويؤيّده : أنّ فيه جمعاً بين الحقّين بعد فرض رجوع القيمة إلى ملك الضامن عند التمكّن من العين ؛ فإنّ تسلّط الناس على مالهم الذي فرض كونه في عهدته يقتضي جواز مطالبة الخروج عن عهدته عند تعذّر نفسه ، نظير ما تقدّم في تسلّطه على مطالبة القيمة للمثل المتعذّر في المثلي (١). نعم ، لو كان زمان التعذّر قصيراً جدّاً ، بحيث لا يحصل صدق عنوان الغرامة والتدارك على أداء القيمة ، أشكل الحكم.

المراد بالتعذّر

ثمّ الظاهر عدم اعتبار التعذّر المسقط للتكليف ، بل لو كان ممكناً بحيث يجب عليه السعي في مقدّماته لم يسقط القيمة زمان السعي ، لكن ظاهر كلمات بعضهم (٢) : التعبير بالتعذّر ، وهو الأوفق بأصالة عدم تسلّط المالك على أزيد من إلزامه بردّ العين ، فتأمّل ، ولعلّ المراد به التعذّر في الحال وإن كان لتوقّفه على مقدّمات زمانيّة يتأخّر لأجلها ذو المقدّمة.

هل يلزم المالك بأخذ البدل؟

ثمّ إنّ ثبوت القيمة مع تعذّر العين ليس كثبوتها مع تلفها في كون دفعها حقّا للضامن ، فلا يجوز للمالك الامتناع (٣) ، بل له أن يمتنع (٤) من‌

__________________

(١) تقدّم في الأمر السادس ، الصفحة ٢٢٦.

(٢) كالمحقّق في الشرائع ٣ : ٢٣٩ و ٢٤١ ، والعلاّمة في القواعد ١ : ٢٠٥ والتحرير ٢ : ١٣٩ و ١٤٠ وغيرهما ، والشهيد في الدروس ٣ : ١١٢ ، والمحقّق السبزواري في الكفاية : ٢٥٨.

(٣) عبارة «فلا يجوز للمالك الامتناع» وردت في «ف» قبل قوله : ثمّ إنّ ثبوت ..

(٤) كذا في «ص» ومصحّحة «ن» ، وفي سائر النسخ : أن يمنع.

٢٥٨

أخذها ويصبر إلى زوال العذر ، كما صرّح به الشيخ في المبسوط (١) ، ويدلّ عليه قاعدة تسلّط الناس على أموالهم.

وكما أنّ تعذّر ردّ العين في حكم التلف فكذا خروجه عن التقويم.

هل البدل ملك لمالك العين أو مباح له؟

ثمّ إنّ المال المبذول يملكه المالك بلا خلاف ،

كما في المبسوط (٢) والخلاف (٣) والغنية (٤) والسرائر (٥) وظاهرهم إرادة نفي الخلاف بين المسلمين ، ولعلّ الوجه فيه : أنّ التدارك لا يتحقّق إلاّ بذلك.

ولو لا ظهور الإجماع وأدلّة الغرامة (٦) في الملكية لاحتملنا أن يكون مباحاً له إباحةً مطلقة وإن لم يدخل في ملكه ، نظير الإباحة المطلقة في المعاطاة على القول بها فيها ، ويكون دخوله في ملكه مشروطاً بتلف العين ، وحكي الجزم بهذا الاحتمال عن المحقّق القمّي رحمه‌الله في أجوبة مسائله (٧).

هل تنقل العين إلى الضامن بإعطاء البدل؟

وعلى أيّ حالٍ ، فلا ينتقل العين إلى الضامن ، فهي غرامة لا تلازم فيها بين خروج المبذول عن ملكه ودخول العين في ملكه ،

__________________

(١) المبسوط ٣ : ٨٧.

(٢) المبسوط ٣ : ٩٥.

(٣) الخلاف ٣ : ٤١٢ ، كتاب الغصب ، المسألة ٢٦.

(٤) الغنية : ٢٨٢.

(٥) السرائر ٢ : ٤٨٦.

(٦) مثل قاعدة «على اليد» وآية «الاعتداء» ، وقاعدة «الإقدام» ، والروايات الواردة في الموارد الخاصّة ، المتقدّمة في الصفحات السابقة.

(٧) لم نعثر عليه.

٢٥٩

وليست معاوضة ليلزم الجمع بين العوض والمعوض ، فالمبذول هنا كالمبذول مع تلف العين في عدم البدل له.

وقد استشكل في ذلك المحقّق والشهيد الثانيان :

قال الأوّل في محكيّ جامعه : إنّ هنا إشكالاً ؛ فإنّه كيف يجب القيمة ويملكها الآخذ ويبقى العين على ملكه؟ وجعلها في مقابلة الحيلولة لا يكاد يتّضح معناه (١) ، انتهى.

وقال الثاني : إنّ هذا لا يخلو من إشكال من حيث اجتماع العوض والمعوَّض على ملك المالك من دون دليلٍ واضح ، ولو قيل بحصول الملك لكلّ منهما متزلزلاً ، و (٢) توقّف تملّك المغصوب منه للبدل على اليأس من العين وإن جاز له التصرّف ، كان وجهاً في المسألة (٣) ، انتهى. واستحسنه في محكيّ الكفاية (٤).

أقول : الذي ينبغي أن يقال هنا : إنّ معنى ضمان العين ذهابها من مال الضامن ، ولازم ذلك إقامة مقابله من ماله مقامه (٥) ؛ ليصدق ذهابها من كيسه.

__________________

(١) جامع المقاصد ٦ : ٢٦١ ، وفيه : إنّ هنا إشكالاً ؛ فإنّه كيف تجب القيمة ويملكها بالأخذ ويبقى العبد على ملكه ..

(٢) في مصحّحة «ن» والمصدر : أو.

(٣) المسالك (الطبعة الحجرية) ٢ : ٢١٠.

(٤) كفاية الأحكام : ٢٥٩.

(٥) كذا في النسخ ، والمناسب : إقامة مقابلها من ماله مقامها ، لرجوع الضمير إلى العين ، وكذا الكلام في الضمائر في الفقرة الآتية.

٢٦٠