كتاب المكاسب - ج ٣

الشيخ مرتضى الأنصاري

كتاب المكاسب - ج ٣

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


المحقق: لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم
الموضوع : الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: شريعت
الطبعة: ٥
ISBN: 964-5662-17-6
ISBN الدورة:
964-5662-17-6

الصفحات: ٦٣٩

له فلا يصحّ تقدّمه عليه (١).

وحكى في (٢) غاية المراد عن الخلاف : الإجماع عليه (٣) ، وليس في الخلاف في هذه المسألة إلاّ أنّ البيع مع تقديم (٤) الإيجاب متّفق عليه فيؤخذ به ، فراجع (٥).

جواز تقديم القبول عند جماعة

خلافاً للشيخ في المبسوط في باب النكاح ، وإن وافق الخلاف في البيع (٦) إلاّ أنّه عدل عنه في باب النكاح ، بل ظاهر كلامه عدم الخلاف في صحّته بين الإمامية ؛ حيث إنّه بعد ما ذكر أنّ تقديم القبول بلفظ الأمر في النكاح بأن يقول الرجل : «زوّجني فلانة» جائز بلا خلاف قال : أمّا البيع ، فإنّه إذا قال : «بعنيها» فقال : «بعتكها» صحّ عندنا وعند قومٍ من المخالفين ، وقال قومٌ منهم : لا يصحّ حتى يسبق الإيجاب (٧) ، انتهى.

وكيف كان ، فنسبة القول الأوّل إلى المبسوط مستند إلى كلامه في باب البيع ، وأمّا في باب النكاح فكلامه صريح في جواز التقديم ،

__________________

(١) ذكره المحقّق الثاني وقال : فإنّ القبول مبنيّ على الإيجاب ، انظر جامع المقاصد ٤ : ٦٠.

(٢) كذا في «ف» و «ش» ، وفي سائر النسخ : «عن» ، إلاّ أنّه صحّح في بعضها بما في المتن.

(٣) غاية المراد : ٨٠.

(٤) في «ف» : تقدّم.

(٥) الخلاف ٣ : ٣٩ ، كتاب البيوع ، المسألة ٥٦.

(٦) المبسوط ٢ : ٨٧.

(٧) المبسوط ٤ : ١٩٤.

١٤١

الاستدلال على جواز التقديم

كالمحقّق رحمه‌الله في الشرائع (١) والعلاّمة في التحرير (٢) والشهيدين في بعض كتبهما (٣) وجماعة ممّن تأخّر عنهما (٤) ؛ للعمومات السليمة عمّا يصلح لتخصيصها ، وفحوى جوازه في النكاح الثابت بالأخبار ، مثل خبر أبان بن تغلب الوارد في كيفية الصيغة المشتمل على صحّة تقديم القبول بقوله للمرأة : «أتزوّجكِ متعةً على كتاب الله وسنّة رسول الله (٥) صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» إلى أن قال ـ : فإذا قالت : «نعم» فهي امرأتك وأنت أولى الناس بها (٦).

ورواية سهل الساعدي المشهورة في كتب الفريقين كما قيل (٧) المشتملة على تقديم القبول من الزوج بلفظ «زوّجنيها» (٨).

__________________

(١) الشرائع ٢ : ١٣.

(٢) التحرير ١ : ١٦٤.

(٣) الشهيد الأوّل في الدروس ٣ : ١٩١ ، واللمعة : ١٠٩ ، والشهيد الثاني في المسالك ٣ : ١٥٤ ، وحاشية الشرائع (مخطوط) : ٢٧١.

(٤) منهم المحقّق الأردبيلي في مجمع الفائدة ٨ : ١٤٥ ، والمحقّق السبزواري في الكفاية : ٨٩ ، والمحدّث البحراني في الحدائق ١٨ : ٣٤٩ ، وصاحب الجواهر في الجواهر ٢٢ : ٢٥٤ ، وغيرهم.

(٥) في «ف» : رسوله ، وفي المصدر : نبيّه.

(٦) الوسائل ١٤ : ٤٦٦ ، الباب ١٨ من أبواب المتعة ، الحديث الأوّل.

(٧) قاله الشهيد الثاني في المسالك ٧ : ٨٩ ، والسيّد الطباطبائي في الرياض ٢ : ٦٩.

(٨) عوالي اللآلي ٢ : ٢٦٣ ، الحديث ٨ ، وسنن البيهقي ٧ : ٢٤٢ ، باب النكاح على تعليم القرآن ، وانظر الكافي ٥ : ٣٨٠ ، الحديث ٥ ، والتهذيب ٧ : ٣٥٤ ، الحديث ١٤٤٤.

١٤٢

مختار المؤلف : التفصيل بين ألفاظ القبول

والتحقيق : أنّ القبول إمّا أن يكون بلفظ «قبلت» و «رضيت» ، وإمّا أن يكون بطريق الأمر والاستيجاب ، نحو «بعني» فيقول المخاطب : «بعتك» ، وإمّا أن يكون بلفظ «اشتريت» و «ملكت» مخفّفاً و «ابتعت».

عدم جواز تقديم القبول بلفظ «قبلت» ونحوه

فإن كان بلفظ «قبلت» فالظاهر عدم جواز تقديمه ، وفاقاً لمن عرفته (١) في صدر المسألة (٢) ، بل المحكيّ عن الميسيّة (٣) والمسالك (٤) ومجمع الفائدة (٥) : أنّه لا خلاف في عدم جواز تقديم لفظ «قبلت» ، وهو المحكي عن نهاية الإحكام وكشف اللثام في باب النكاح (٦) ، وقد اعترف به غير واحدٍ من متأخّري المتأخّرين (٧) أيضاً ، بل المحكي هناك عن ظاهر التذكرة : الإجماع عليه (٨).

الاستدلال على عدم جواز التقديم في هذه الصورة

ويدلّ عليه مضافاً إلى ما ذكر ، وإلى كونه خلاف المتعارف من‌

__________________

(١) كذا في «ف» ، وفي «ش» : «لما عرفت» ، وفي سائر النسخ : لمن عرفت.

(٢) راجع الصفحة ١٤٠ ١٤١.

(٣) لا يوجد لدينا ، وحكاه السيّد العاملي في مفتاح الكرامة ٤ : ١٦٥.

(٤) المسالك ٣ : ١٥٤.

(٥) مجمع الفائدة ٨ : ١٤٦.

(٦) حكى ذلك عنهما السيّد العاملي في مفتاح الكرامة ٤ : ١٦٥ ، وأُنظر نهاية الإحكام ٢ : ٤٤٨ ، وكشف اللثام ٢ : ١٢.

(٧) منهم السيّد العاملي في مفتاح الكرامة ٤ : ١٦٥ ، والسيّد المجاهد في المناهل : ٢٧٢.

(٨) المشار إليه بقوله : «هناك» هو باب النكاح ، لكن لم نقف في مسألة تقديم الإيجاب على القبول على ما يظهر منه الإجماع ، والموجود فيه أنّه نقل المنع عن أحمد ونفى عنه البأس ، انظر التذكرة ٢ : ٥٨٣.

١٤٣

العقد ـ : أنّ القبول الذي هو أحد ركني عقد المعاوضة فرع الإيجاب ، فلا يعقل تقدّمه عليه ، وليس المراد من هذا القبول الذي هو ركن للعقد (١) مجرّد الرضا بالإيجاب حتى يقال : إنّ الرضا بشي‌ءٍ لا يستلزم تحقّقه قبله (٢) ، فقد يرضى الإنسان بالأمر المستقبل ، بل المراد منه الرضا بالإيجاب على وجهٍ يتضمّن إنشاء نقل ماله في الحال إلى الموجب على وجه العوضيّة ؛ لأنّ المشتري ناقل كالبائع ، وهذا لا يتحقّق إلاّ مع تأخّر الرضا عن الإيجاب ؛ إذ مع تقدّمه لا يتحقّق النقل في الحال ، فإنّ مَن رضي بمعاوضة ينشئها الموجب في المستقبل لم ينقل في الحال ماله إلى الموجب ، بخلاف من رضي بالمعاوضة التي أنشأها الموجب سابقاً ؛ فإنّه يرفع بهذا الرضا يده من ماله ، وينقله إلى غيره على وجه العوضية.

ومن هنا يتّضح فساد ما حكي عن بعض المحقّقين في ردّ الدليل المذكور وهو كون القبول فرعاً للإيجاب (٣) وتابعاً له وهو : أنّ تبعيّة القبول للإيجاب ليس تبعيّة اللفظ للّفظ ، ولا القصد للقصد حتى يمتنع تقديمه ، وإنّما هو على سبيل الفرض والتنزيل ، بأن يجعل القابل نفسه متناولاً لما يُلقى إليه من الموجب ، والموجب مناولاً ، كما يقول السائل في‌

__________________

(١) لم ترد عبارة «الذي هو ركنٌ للعقد» في «ف».

(٢) كذا في «ف» و «ش» ، والعبارة في سائر النسخ هكذا : «مجرّد الرضا بالإيجاب سواء تحقّق قبل ذلك أم لا ، حيث إنّ الرضا بشي‌ءٍ لا يستلزم تحقّقه في الماضي ، فقد يرضى الإنسان .. إلخ» إلاّ أنّه شطب في «ن» على بعض الكلمات وصُحّحت العبارة بنحو ما أثبتناه في المتن.

(٣) كذا في «ف» ، وفي غيرها : فرع الإيجاب.

١٤٤

مقام الإنشاء : «أنا راضٍ بما تعطيني وقابلٌ لما تمنحني» فهو متناول ، قدّم إنشاءه أو أخّر (١) ، فعلى هذا يصحّ تقديم القبول ولو بلفظ «قبلت» و «رضيت» إن لم يقم إجماع على خلافه (٢) ، انتهى.

ووجه الفساد : ما عرفت سابقاً (٣) من أنّ الرضا بما يصدر من الموجب في المستقبل من نقل ماله بإزاء مال صاحبه ، ليس فيه إنشاء نقل من القابل في الحال ، بل هو رضا منه بالانتقال في الاستقبال ، وليس المراد أنّ أصل الرضا بشي‌ءٍ تابعٌ لتحقّقه في الخارج أو لأصل الرضا به (٤) حتى يحتاج إلى توضيحه بما ذكره من المثال ، بل المراد الرضا الذي يعدّ قبولاً و (٥) ركناً في العقد.

عدم جواز تقديم القبول لو كان بلفظ الأمر

وممّا ذكرنا يظهر الوجه في المنع عن تقديم (٦) القبول بلفظ الأمر ، كما لو قال : «بعني هذا بدرهم» فقال : «بعتك» ؛ لأنّ غاية الأمر دلالة طلب المعاوضة على الرضا بها ، لكن لم يتحقّق بمجرّد الرضا بالمعاوضة المستقبلة نقل في الحال للدرهم إلى البائع ، كما لا يخفى.

__________________

(١) في «ف» زيادة : قال.

(٢) حكاه السيّد العاملي في مفتاح الكرامة ٤ : ١٦٥ ، لكن إلى كلمة «أو أخّر» ، ثمّ قال : وهذا قد ذكره الأُستاذ دام ظلّه.

(٣) في الصفحة السابقة.

(٤) في «ش» : «أوّلاً قبل الرضا به» ، ويظهر من شرحي المامقاني والشهيدي أنّ الموجود في نسختيهما هو ما أثبتناه ، انظر غاية الآمال : ٢٤٥ ، وهداية الطالب : ١٩٣.

(٥) لم ترد «قبولاً و» في «ف» و «ش» ، وشطب عليها في «ن».

(٦) كذا في «ش» ، وفي غيرها : تقدم.

١٤٥

وأمّا ما يظهر من المبسوط من الاتّفاق هنا على الصحّة به (١) ، فموهون بما ستعرف من مصير الأكثر على خلافه.

وأمّا فحوى جوازه في النكاح ، ففيها بعد الإغماض عن حكم الأصل ؛ بناءً على منع دلالة رواية سهل (٢) على كون لفظ الأمر هو القبول ؛ لاحتمال تحقّق القبول بعد إيجاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويؤيّده أنّه لولاه يلزم الفصل الطويل بين الإيجاب والقبول منع الفحوى ، وقصور دلالة رواية أبان (٣) ؛ من حيث اشتمالها على كفاية قول المرأة : «نعم» في الإيجاب.

اختلاف الفقهاء في صحّة تقديم القبول بلفظ الأمر

ثمّ اعلم : أنّ في صحّة تقديم القبول بلفظ الأمر اختلافاً كثيراً بين كلمات الأصحاب ، فقال في المبسوط : إن قال : «بعنيها بألف» فقال : «بعتك» ، صحّ ، والأقوى عندي أنّه لا يصحّ حتى يقول المشتري بعد ذلك : «اشتريت» (٤) ، واختار ذلك في الخلاف (٥).

كلمات المانعين

وصرّح به في الغنية ، فقال : واعتبرنا حصول الإيجاب من البائع والقبول من المشتري ، حذراً عن القول بانعقاده بالاستدعاء من المشتري ، وهو أن يقول : «بعنيه بألف» ، فيقول : «بعتك» فإنّه لا ينعقد حتى يقول المشتري بعد ذلك : «اشتريت» أو «قبلت» (٦) ، وصرّح به‌

__________________

(١) المبسوط ٤ : ١٩٤ ، وقد تقدّم في الصفحة ١٤١.

(٢) تقدّمت الإشارة إليها في الصفحة ١٤٢.

(٣) تقدّمت في الصفحة ١٤٢.

(٤) المبسوط ٢ : ٨٧.

(٥) الخلاف ٣ : ٣٩ ، كتاب البيوع ، المسألة ٥٦.

(٦) الغنية : ٢١٤.

١٤٦

أيضاً في السرائر (١) والوسيلة (٢).

وعن جامع المقاصد : أنّ ظاهرهم أنّ هذا الحكم اتّفاقي (٣) ، وحكي الإجماع أيضاً (٤) عن ظاهر الغنية أو صريحها (٥).

وعن المسالك : المشهور (٦) ، بل قيل : إنّ هذا الحكم ظاهر كلِّ من اشترط الإيجاب والقبول (٧).

كلمات المجوّزين

ومع ذلك كلّه ، فقد صرّح الشيخ في المبسوط في باب النكاح ـ : بجواز التقديم بلفظ الأمر بالبيع ، ونسبته إلينا مشعر (٨) بقرينة السياق إلى عدم الخلاف فيه بيننا ، فقال :

إذا تعاقدا ، فإن تقدّم الإيجاب على القبول فقال : «زوّجتك»

__________________

(١) السرائر ٢ : ٢٤٩ ٢٥٠.

(٢) لم نقف في الوسيلة على هذا التفصيل ، ولكن عدّ فيها من شرائط الصحّة : تقديم الإيجاب على القبول ، انظر الوسيلة : ٢٣٧ ، نعم صرّح بذلك العلاّمة في نهاية الإحكام ٢ : ٤٤٩ ، ولعلّ التشابه بين رمز الوسيلة «له» ورمز النهاية «يه» صار منشأً لاشتباه النسّاخ ، ويؤيّد هذا الاحتمال تأخير ذكرها عن السرائر.

(٣) جامع المقاصد ٤ : ٥٩.

(٤) وردت «أيضاً» في «ع» ، «ص» و «ش» بعد عبارة «ظاهر الغنية».

(٥) الغنية : ٢١٤ ، والترديد من السيّد العاملي في مفتاح الكرامة ٤ : ١٦١.

(٦) المسالك ٣ : ١٥٣.

(٧) قاله السيّد العاملي في مفتاح الكرامة ٤ : ١٦١ ، وفيه : .. الإيجاب والقبول والماضوية فيهما.

(٨) كذا في «ش» ، وفي غيرها : «مشعراً» ، وفي مصحّحة «ص» : ونسبه إلينا مشعراً.

١٤٧

فقال : «قبلت التزويج» صحّ ، وكذا إذا تقدّم الإيجاب على القبول في البيع صحّ بلا خلاف ، وأمّا إن تأخّر الإيجاب وسَبَق القبول ، فإن كان في النكاح فقال الزوج : «زوّجنيها» فقال : «زوّجتكها» صحّ وإن لم يُعِد الزوج القبول ، بلا خلاف ؛ لخبر الساعدي : «قال (١) : زوّجنيها يا رسول الله ، فقال : زوّجتكها بما معك من القرآن» (٢) ، فتقدّم (٣) القبول وتأخّر الإيجاب ، وإن كان هذا في البيع فقال : «بعنيها» فقال : «بعتكها» صحّ عندنا وعند قومٍ من المخالفين ؛ وقال قومٌ منهم (٤) : لا يصحّ حتى يسبق الإيجاب (٥) ، انتهى.

وحكي جواز التقديم بهذا اللفظ عن القاضي في الكامل (٦) ، بل يمكن نسبة هذا الحكم إلى كلّ من جوّز تقديم القبول على الإيجاب بقولٍ مطلق ، وتمسّك له في النكاح برواية سهل الساعدي المعبَّر فيها عن القبول بطلب التزويج ، إلاّ أنّ المحقّق رحمه‌الله مع تصريحه في البيع بعدم كفاية الاستيجاب والإيجاب صرّح بجواز تقديم القبول على الإيجاب (٧).

__________________

(١) في «ش» : قال الرجل.

(٢) انظر عوالي اللآلي ٢ : ٢٦٣ ، الحديث ٨ ، وسنن البيهقي ٧ : ٢٤٢ ، باب النكاح على تعليم القرآن.

(٣) كذا في «ش» والمصدر ، وفي سائر النسخ : فقدّم.

(٤) انظر المغني ؛ لابن قدامة ٣ : ٥٦١ ، والمجموع ٩ : ١٩٨.

(٥) المبسوط ٤ : ١٩٤.

(٦) حكاه عنه العلاّمة في المختلف ٥ : ٥٣.

(٧) الشرائع ٢ : ١٣.

١٤٨

وذكر العلاّمة قدس‌سره الاستيجاب والإيجاب ، وجعله خارجاً عن قيد اعتبار الإيجاب والقبول كالمعاطاة وجزم بعدم كفايته ، مع أنّه تردّد في اعتبار تقديم القبول (١).

وكيف كان ، فقد عرفت (٢) أنّ الأقوى المنع في البيع ؛ لما عرفت ، بل لو قلنا بكفاية التقديم بلفظ «قبلت» يمكن المنع هنا ؛ بناءً على اعتبار الماضوية فيما دلّ على القبول.

ثمّ إنّ هذا كلّه بناءً على المذهب المشهور بين الأصحاب : من عدم كفاية مطلق اللفظ في اللزوم وعدم القول بكفاية مطلق الصيغة في الملك.

وأمّا على ما قوّيناه (٣) سابقاً في مسألة المعاطاة : من أنّ البيع العرفي موجب للملك وأنّ الأصل في الملك اللزوم (٤) ، فاللازم الحكم باللزوم في كلّ مورد لم يقم إجماع على عدم اللزوم ، وهو ما إذا خلت المعاملة عن الإنشاء باللفظ رأساً ، أو كان اللفظ المنشأ به المعاملة ممّا قام الإجماع على عدم إفادتها اللزوم (٥) ، وأمّا في غير ذلك فالأصل اللزوم.

__________________

(١) القواعد ١ : ١٢٣.

(٢) في الصفحة ١٤٥.

(٣) في نسخة بدل «ن» ، «خ» ، «م» ، «ع» و «ش» : اخترناه.

(٤) راجع الصفحة ٤٠ و ٩٦.

(٥) في غير «ف» و «ش» زيادة : وهو ما إذا خلت المعاملة عن الإنشاء ، وفي «ن» ، «خ» ، «م» و «ع» كتب عليها : «نسخة».

١٤٩

وقد عرفت أنّ القبول على وجه طلب البيع قد صرّح في (١) المبسوط بصحّته ، بل يظهر منه عدم الخلاف فيه بيننا ، وحكي عن الكامل أيضاً (٢) ، فتأمّل.

جواز تقديم القبول لو كان بلفظ «اشتريت» ونحوه ، والاستدلال عليه

وإن كان التقديم بلفظ «اشتريت» أو (٣) «ابتعت» أو «تملّكت» أو «ملّكت هذا بكذا» فالأقوى جوازه ؛ لأنّه أنشأ ملكيته للمبيع بإزاء ماله عوضاً ، ففي الحقيقة أنشأ المعاوضة كالبائع (٤) إلاّ أنّ البائع ينشئ ملكيّة ماله لصاحبه بإزاء مال صاحبه ، والمشتري ينشئ ملكيّة مال صاحبه لنفسه بإزاء ماله ، ففي الحقيقة كلٌّ منهما يُخرج ماله إلى صاحبه ويدخل مال صاحبه في ملكه ، إلاّ أنّ الإدخال في الإيجاب مفهوم من ذكر العوض وفي القبول مفهوم من نفس الفعل ، والإخراج بالعكس.

وحينئذٍ فليس في حقيقة الاشتراء من حيث هو معنى القبول ، لكنّه لمّا كان الغالب وقوعه عقيب الإيجاب ، وإنشاء انتقال مال البائع إلى نفسه إذا وقع عقيب نقله (٥) إليه يوجب تحقّق المطاوعة ومفهوم القبول ، أُطلق عليه القبول ، وهذا المعنى مفقود في الإيجاب المتأخّر ؛ لأنّ المشتري إنّما ينقل ماله إلى البائع بالالتزام الحاصل من جعل ماله عوضاً ، والبائع إنّما ينشئ انتقال المثمن (٦) إليه كذلك ، لا بمدلول الصيغة.

__________________

(١) لم ترد «في» في غير «ش».

(٢) كما تقدّم في الصفحة ١٤٨.

(٣) في «ش» بدل «أو» : و.

(٤) في «ف» : كالتبايع.

(٥) في «ف» ، «ن» و «خ» زيادة : له.

(٦) كذا في «ف» ، وفي سائر النسخ : الثمن.

١٥٠

وقد صرّح في النهاية والمسالك على ما حكي (١) ـ : بأنّ «اشتريت» ليس قبولاً حقيقةً ، وإنّما هو بدل ، وأنّ الأصل في القبول «قبلت» ؛ لأنّ القبول في الحقيقة ما لا يمكن الابتداء به ، ولفظ «اشتريت» يجوز الابتداء به.

ومرادهما (٢) : أنّه بنفسه لا يكون قبولاً ، فلا ينافي ما ذكرنا من تحقّق مفهوم القبول فيه إذا وقع عقيب تمليك البائع ، كما أنّ «رضيت بالبيع» ليس فيه إنشاء لنقل ماله إلى البائع إلاّ إذا وقع متأخّراً ؛ ولذا منعنا عن تقديمه.

فكلٌّ من «رضيت» و «اشتريت» بالنسبة إلى إفادة نقل المال ومطاوعة البيع عند التقدّم والتأخّر متعاكسان.

فإن قلت : إنّ الإجماع على اعتبار القبول في العقد يوجب تأخير قوله (٣) : «اشتريت» حتى يقع قبولاً ؛ لأنّ إنشاء مالكيته لمال الغير إذا وقع عقيب تمليك الغير له يتحقّق فيه معنى الانتقال وقبول الأثر ، فيكون «اشتريت» متأخّراً التزاماً بالأثر عقيب إنشاء التأثير من البائع ، بخلاف ما لو تقدّم ؛ فإنّ مجرّد إنشاء المالكيّة لمالٍ لا يوجب تحقّق مفهوم القبول ، كما لو نوى تملّك (٤) المباحات أو اللقطة ، فإنّه لا قبول فيه رأساً.

__________________

(١) حكاه السيّد العاملي في مفتاح الكرامة ٤ : ١٥٣ ، وانظر نهاية الإحكام ٢ : ٤٤٨ ، والمسالك ٣ : ١٥٤.

(٢) في «ف» : مرادهم.

(٣) في «ف» : «قول» ، وفي «خ» : قبوله.

(٤) في «ف» : ملك.

١٥١

قلت : المسلّم من الإجماع هو اعتبار القبول من المشتري بالمعنى الشامل للرضا بالإيجاب ، وأمّا وجوب تحقّق مفهوم القبول المتضمّن للمطاوعة وقبول الأثر ، فلا.

فقد (١) تبيّن من جميع ذلك : أنّ إنشاء القبول لا بدّ أن يكون جامعاً لتضمّن إنشاء النقل وللرضا بإنشاء البائع تقدّم أو تأخّر ولا يعتبر إنشاء انفعال نقل البائع.

فقد تحصّل ممّا ذكرناه : صحّة تقديم القبول إذا كان بلفظ «اشتريت» وفاقاً لمن عرفت (٢) ، بل هو ظاهر إطلاق الشيخ في الخلاف ؛ حيث إنّه لم يتعرّض إلاّ للمنع عن الانعقاد بالاستيجاب والإيجاب (٣) ، وقد عرفت (٤) عدم الملازمة بين المنع عنه والمنع عن تقديم مثل «اشتريت» ، وكذا السيّد في الغنية ، حيث أطلق اعتبار الإيجاب والقبول ، واحترز بذلك عن انعقاده بالمعاطاة وبالاستيجاب والإيجاب (٥) ، وكذا ظاهر إطلاق الحلبي في الكافي ، حيث لم يذكر تقديم الإيجاب من شروط الانعقاد (٦).

__________________

(١) في «ف» : وقد.

(٢) في الصفحة السابقة.

(٣) الخلاف ٣ : ٣٩ ، كتاب البيوع ، المسألة ٥٦.

(٤) انظر الصفحة ١٤٨ ١٤٩.

(٥) الغنية : ٢١٤.

(٦) انظر الكافي في الفقه : ٣٥٢ (فصل في عقد البيع).

١٥٢

وهن الإجماع المنقول على وجوب تقديم الإيجاب

والحاصل : أنّ المصرح بذلك في ما وجدت من القدماء الحليّ (١) وابن حمزة (٢) ، فمن التعجّب بعد ذلك حكاية الإجماع عن الخلاف (٣) على (٤) تقديم الإيجاب ، مع أنّه لم يزد على الاستدلال لعدم (٥) كفاية الاستيجاب والإيجاب (٦) بأنّ ما عداه مجمعٌ على صحّته ، وليس على صحّته دليل (٧). ولَعَمري أنّ مثل هذا ممّا يوهن الاعتماد على الإجماع المنقول ، وقد نبّهنا على أمثال ذلك في مواردها.

نعم ، يشكل الأمر بأنّ المعهود المتعارف من الصيغة تقديم الإيجاب ، ولا فرق بين المتعارف هنا وبينه في المسألة الآتية ، وهو الوصل بين الإيجاب والقبول ، فالحكم لا يخلو عن شوب الإشكال.

ثمّ إنّ ما ذكرنا جارٍ في كلّ قبولٍ يؤدّى بإنشاءٍ مستقلٍّ كالإجارة التي يؤدّي قبولها بلفظ «تملّكت منك منفعة كذا» أو «ملكت» ، والنكاح‌

__________________

(١) السرائر ٢ : ٢٤٣ ، هكذا وردت الكلمة في «ش» ومصحّحة «ن» ، وفي سائر النسخ : «الحلبي» بدل «الحليّ» ، وهو سهوٌ أو تصحيف ، فإنّه قد تقدّم آنفاً : أنّ الحلبي أطلق ، ولم يذكر تقديم الإيجاب.

(٢) الوسيلة : ٢٣٧.

(٣) حكاه عنه الشهيد الأوّل في غاية المراد : ٨٠ ، كما تقدّم في صدر المسألة ، والشهيد الثاني في المسالك ٣ : ١٥٣.

(٤) في «ص» زيادة : لزوم.

(٥) كذا في «ش» ، وفي سائر النسخ : بعدم.

(٦) كذا في النسخ ، والظاهر سقوط كلمة : إلاّ.

(٧) انظر الخلاف ٣ : ٤٠ ، كتاب البيوع ، ذيل المسألة ٥٦.

١٥٣

الذي يؤدّي قبوله (١) بلفظ «أنكحت» (٢) و «تزوّجت».

تقديم القبول فيما لا إنشاء في قبوله إلّا «قبلت» ونحوه

وأمّا ما لا إنشاء في قبوله إلاّ «قبلت» أو ما يتضمّنه ك‍ «ارتهنت» فقد يقال بجواز تقديم القبول فيه ؛ إذ لا التزام في قبوله بشي‌ء (٣) كما كان في قبول البيع التزام (٤) بنقل ماله إلى البائع ، بل لا ينشئ به معنى غير الرضا بفعل الموجب ، وقد تقدّم (٥) أنّ الرضا يجوز تعلّقه بأمرٍ مترقّب (٦) كما يجوز تعلّقه بأمرٍ محقّق ، فيجوز أن يقول : «رضيت برهنك هذا عندي» فيقول : «رهنت».

التحقيق عدم الجواز

والتحقيق : عدم الجواز ؛ لأنّ اعتبار القبول فيه من جهة تحقّق عنوان المرتهن ، ولا يخفى أنّه لا يصدق الارتهان على قبول الشخص إلاّ بعد تحقّق الرهن ؛ لأنّ الإيجاب إنشاءٌ للفعل ، والقبول إنشاءٌ للانفعال (٧).

وكذا القول (٨) في الهبة والقرض ، فإنّه لا يحصل من إنشاء القبول‌

__________________

(١) في غير «ش» : قبولها.

(٢) كذا في «ف» ، وفي سائر النسخ : نكحت.

(٣) كذا في «ف» ، وفي سائر النسخ : لشي‌ء.

(٤) كذا في «ش» ، وفي سائر النسخ : التزاماً.

(٥) تقدّم في الصفحة ١٤٤.

(٦) في «ف» : مستقبل.

(٧) في نسخة بدل «خ» ، «م» ، «ع» و «ش» : لأنّ الإيجاب إنشاء للنقل ، والقبول إنشاء للانتقال.

(٨) في «خ» ، «ص» ومصحّحة «ع» : القبول.

١٥٤

فيهما (١) التزام بشي‌ء ، وإنّما يحصل به الرضا بفعل الموجب ، ونحوها (٢) قبول المصالحة المتضمّنة للإسقاط أو التمليك بغير عوض.

لزوم تأخير القبول في المصالحة المشتملة على المعاوضة

وأمّا المصالحة المشتملة على المعاوضة ، فلمّا كان ابتداء الالتزام بها جائزاً من الطرفين ، وكان نسبتها إليهما (٣) على وجه سواء ، وليس الالتزام (٤) الحاصل من أحدهما أمراً مغايراً للالتزام الحاصل من الآخر ، كان البادئ منهما موجباً ؛ لصدق الموجب عليه لغةً وعرفاً. ثمّ لمّا انعقد الإجماع على توقّف العقد على القبول ، لزم أن يكون الالتزام الحاصل من الآخر بلفظ القبول ؛ إذ لو قال أيضاً : «صالحتك» كان إيجاباً آخر ، فيلزم تركيب العقد من إيجابين.

وتحقّق من جميع ذلك : أنّ تقديم القبول في الصلح أيضاً غير جائز ؛ إذ لا قبول فيه بغير لفظ «قبلت» و «رضيت» ، وقد عرفت (٥) أنّ «قبلت» و «رضيت» مع التقديم لا يدلّ على إنشاءٍ لنقل العوض في الحال.

تلخيص ما سبق ، وبيان أقسام القبول

فتلخّص ممّا ذكرنا : أنّ القبول في العقود على أقسام (٦) :

__________________

(١) كذا في «ش» ومصحّحة «ن» و «ص» ، وفي غيرها : فيها.

(٢) في «ص» : نحوهما.

(٣) في «ف» : إليها.

(٤) في «ف» : وكان الالتزام.

(٥) في الصفحة ١٤٣ ١٤٤.

(٦) في «خ» ، «م» ، «ع» و «ص» : «ثلاثة أقسام» ، إلاّ أنّ «ثلاثة» محيت في «ن» تصحيحاً.

١٥٥

لأنّه إمّا أن يكون التزاماً بشي‌ءٍ من القابل ، كنقل مالٍ عنه أو زوجيّة ، وإمّا أن لا يكون فيه سوى الرضا بالإيجاب.

والأوّل على قسمين :

لأنّ الالتزام الحاصل من القابل ، إمّا أن يكون نظير الالتزام الحاصل من الموجب كالمصالحة ، أو متغايراً كالاشتراء.

والثاني أيضاً على قسمين :

لأنّه إمّا أن يعتبر فيه عنوان المطاوعة كالارتهان والاتهاب والاقتراض (١) ، وإمّا أن لا يثبت فيه اعتبار أزيد من الرضا بالإيجاب كالوكالة والعارية وشبههما.

ما يجوز تقديمه من تلك الأقسام

فتقديم القبول على الإيجاب لا يكون إلاّ في القسم الثاني من كلٍّ من القسمين.

ثمّ إنّ مغايرة الالتزام في قبول البيع لالتزام إيجابه اعتبار عرفي ، فكلّ من التزم بنقل مالِه على وجه العوضية لمالٍ آخر يسمّى مشترياً ، وكلّ من نقل مالَه على أن يكون عوضه مالاً من آخر يسمّى بائعاً.

وبعبارةٍ اخرى : كلُّ من ملَّك مالَه غيرَه بعوضٍ فهو البائع ، وكلّ (٢) مَن ملِك مالَ غيرِه بعوض ماله فهو المشتري ، وإلاّ فكلٌّ منهما في الحقيقة يملِّك مالَه غيرَه بإزاء مالِ غيرِه ، ويملك مالَ غيرِه بإزاء ماله.

__________________

(١) في «ف» : الإقراض.

(٢) في «ش» : فكلّ.

١٥٦

اشتراط الموالاة في العقد

الموالاة بين إيجابه وقبوله‌

ذكره الشيخ في المبسوط في باب الخلع (١) ، ثمّ العلاّمة (٢) والشهيدان (٣) والمحقّق الثاني (٤) ، والشيخ المقداد (٥).

ما أفاده الشهيد في اعتبار الموالاة

قال الشهيد في القواعد : الموالاة معتبرة في العقد ونحوه ، وهي مأخوذة من اعتبار الاتّصال بين الاستثناء (٦) والمستثنى منه ، وقال (٧) بعض العامّة : لا يضرّ قول الزوج بعد الإيجاب : «الحمد لله والصلاة‌

__________________

(١) المبسوط ٤ : ٣٦٢.

(٢) القواعد ٢ : ٤ و ٨٠ ، في النكاح والخلع.

(٣) أمّا الشهيد الأوّل فقد صرّح بذلك في كتاب الوقف من الدروس ٢ : ٢٦٤ ، وقال في كتاب البيع منه : «ولا يقدح تخلّل آنٍ أو تنفّسٍ أو سعال» ، الدروس ٣ : ١٩١. وأمّا الشهيد الثاني فقد صرّح بذلك في الهبة والخلع من المسالك ، انظر المسالك ٦ : ٩ ، و ٩ : ٣٨٤.

(٤) رسائل المحقّق الكركي ١ : ٢٠١ ، في الخلع ، وجامع المقاصد ٤ : ٥٩ ، في البيع.

(٥) التنقيح الرائع ٢ : ٢٤.

(٦) كذا في «ف» والمصدر ، وفي سائر النسخ : المستثنى.

(٧) في غير «ش» : فقال.

١٥٧

على رسول الله ، قبلت نكاحها» (١).

ومنه : الفوريّة في استتابة المرتدّ ، فيعتبر في الحال ، وقيل (٢) : إلى ثلاثة أيام.

ومنه : السكوت في أثناء الأذان ، فإن كان كثيراً أبطله.

ومنه : السكوت الطويل في أثناء القراءة أو قراءة غيرها (٣) ، وكذا التشهّد.

ومنه : تحريم المأمومين في الجمعة قبل الركوع ، فإن تعمّدوا أو نسوا حتى ركع فلا جمعة. واعتبر بعض العامّة تحريمهم معه قبل الفاتحة.

ومنه : الموالاة في التعريف بحيث لا ينسى (٤) أنّه تكرار ، والموالاة في سنة التعريف ، فلو رجع في أثناء المدّة استؤنفت (٥) ليتوالى (٦) ، انتهى (٧).

أقول : حاصله أنّ الأمر المتدرّج شيئاً فشيئاً إذا كان له صورة اتّصالية في العرف ، فلا بدّ في ترتّب الحكم المعلّق عليه في الشرع من اعتبار صورته الاتّصالية ، فالعقد المركّب من الإيجاب والقبول القائم‌

__________________

(١) قاله النووي ، انظر المجموع ١٧ : ٣٠٧.

(٢) قاله العلاّمة في الإرشاد ٢ : ١٨٩.

(٣) في المصدر زيادة : خلالها.

(٤) في «ف» : لا يصدق.

(٥) في «ف» : استأنف ، وفي المصدر : استؤنف.

(٦) القواعد والفوائد ١ : ٢٣٤ ، القاعدة ٧٣.

(٧) لم ترد «انتهى» في «ف» و «م».

١٥٨

بنفس المتعاقدين بمنزلة (١) كلامٍ واحدٍ مرتبط بعضه ببعض ، فيقدح تخلّل الفصل المخلّ بهيئته الاتّصالية ؛ ولذا لا يصدق التعاقد (٢) إذا كان الفصل مفرطاً في الطول كسنة أو أزيد ، وانضباط ذلك إنّما يكون بالعرف ، فهو في كلّ أمرٍ بحسبه ، فيجوز الفصل بين كلٍّ من الإيجاب والقبول بما لا يجوز بين كلمات كلّ واحدٍ (٣) منهما ، ويجوز الفصل (٤) بين الكلمات بما لا يجوز بين الحروف ، كما في الأذان والقراءة.

المناقشة فيما أفاده الشهيد

وما ذكره حسن لو كان حكم المِلك واللزوم في المعاملة منوطاً بصدق العقد عرفاً ، كما هو مقتضى التمسّك بآية الوفاء بالعقود (٥) ، وبإطلاق كلمات الأصحاب في اعتبار العقد في اللزوم بل الملك ، أمّا لو كان منوطاً بصدق «البيع» أو (٦) «التجارة عن تراضٍ» فلا يضرّه عدم صدق العقد.

وأمّا جعل المأخذ في ذلك اعتبار الاتّصال بين الاستثناء والمستثنى منه ، فلأنه منشأ الانتقال إلى هذه القاعدة ؛ فإنّ أكثر الكليات إنّما يلتفت إليها من التأمّل في موردٍ خاصّ ، وقد صرّح في القواعد‌

__________________

(١) لم ترد «بمنزلة» في «ف».

(٢) كذا في «ف» ، وفي غيرها : المعاقدة.

(٣) لم ترد «واحد» في «ف».

(٤) لم ترد «الفصل» في «ن» ، «م» و «ش» ، ووردت في «ص» ونسخة بدل «خ» و «ع» بعد «الكلمات» ، وما أثبتناه مطابق ل «ف».

(٥) المائدة : ١.

(٦) في «ف» بدل «أو» : «و».

١٥٩

مكرّراً بكون الأصل في هذه القاعدة كذا (١).

ويحتمل بعيداً أن يكون الوجه فيه : أنّ الاستثناء أشدّ ربطاً بالمستثنى منه من سائر اللواحق ؛ لخروج المستثنى منه معه عن حدّ الكذب إلى الصدق ، فصدقه يتوقّف عليه ؛ فلذا كان طول الفصل هناك أقبح ، فصار أصلاً في اعتبار الموالاة بين أجزاء الكلام ، ثمّ تُعدّي منه إلى سائر الأُمور المرتبطة بالكلام لفظاً أو معنى ، أو من حيث صدق عنوانٍ خاصٍّ عليه ؛ لكونه (٢) عقداً أو قراءة أو أذاناً ، ونحو ذلك.

ثمّ في تطبيق بعضها على ما ذكره خفاء ، كمسألة توبة المرتدّ ؛ فإنّ غاية ما يمكن أن يقال في توجيهه : إنّ المطلوب في الإسلام الاستمرار ، فإذا انقطع فلا بدّ من إعادته في أقرب الأوقات.

وأمّا مسألة الجمعة ، فلأنّ هيئة الاجتماع في جميع أحوال الصلاة من القيام والركوع والسجود مطلوبة ، فيقدح الإخلال بها.

وللتأمّل في هذه الفروع ، وفي صحّة تفريعها على الأصل المذكور مجال.

__________________

(١) منها ما أفاده في القاعدة المشار إليها آنفاً من قوله : «وهي مأخوذة من اعتبار الاتّصال بين الاستثناء والمستثنى منه» ، ومنها قوله في القاعدة ٨٠ (الصفحة ٢٤٣) : «وهو مأخوذ من قاعدة المقتضي في أُصول الفقه» ، ومنها قوله في القاعدة ٨٦ (الصفحة ٢٧٠) : «لعلّهما مأخوذان من قاعدة جواز النسخ قبل الفعل» ، ومنها قوله في القاعدة ١٠٥ (الصفحة ٣٠٨) : «واصلة الأخذ بالاحتياط غالباً».

(٢) في «ص» : ككونه.

١٦٠