« إنّ المنع تارةً ينشأ عن مفسدة في الفعل تبعث الشارع بما هو مراعٍ لمصالح عباده وحفظهم عن الوقوع في المفاسد على الزجر والردع عمّا فيه المفسدة ، وهذا هو المنع الشرعي ، لصدوره من الشارع بما هو شارع ، وفي قبالة الإباحة الشرعيّة الناشئة عن لا اقتضائيّة الموضوع وخلوّه عن المفسدة والمصلحة ، فإنّ سنّة الله ورحمته مقتضية للترخيص في مثله لئلاّ يكون العبد في ضيق منه. واخرى لا ينشأ عن مفسدة إمّا لفرض خلوّه عنها ، أو لفرض عدم تأثيرها فعلاً في الزجر كما في ما قبل تشريع الشرائع والأحكام في بدو الإسلام بل من حيث إنّه مالك للعبد وناصيته بيده يمنعه عن كلّ فعل إلى أن يقع موقع حكم من الأحكام حتّى يكون صدوره ووروده عن رأي مولاه ، فهذا منع مالكي لا شرعي ، وفي قباله الإباحة المالكيّة وهو الترخيص من قبل المالك لئلاّ يكون في ضيق منه إلى أن يقع الفعل موقع حكم من الأحكام ، فنقول : حيث إنّ الشارع كلّ تكاليفه منبعث عن المصالح والمفاسد لانحصار أغراضه المولويّة فيها فليس له إلاّزجر تشريعي أو ترخيص كذلك ، فمنعه وترخيصه لا ينبعثان إلاّعمّا ذكر ، ولا محالة إذا فرض خلوّ الفعل عن الحكم بقول مطلق ، أعني الحكم الذي قام بصدد تبليغه وإن كان لا يخلو موضوع من الموضوعات من حكم واقعي وحياً أو إلهاماً فليس الفعل منافياً لغرض المولى بما هو شارع فليس فعله خروجاً عن زيّ الرقّية ، ومنه يتبيّن أنّ الأصل فيه هو الإباحة لا الحظر ، فإنّ عدم الإذن المفروض في الموضوع لا يؤثّر عقلاً في المنع العقلي إلاّ باعتبار كون الفعل معه خروجاً عن زي الرقّية ، وحيث إنّه فرض فيه عدم المنع شرعاً فلا يكون خروجاً عن زيّ الرقّية إذ فعل ما لا ينافي غرض المولى بوجهٍ من الوجوه بل كان وجوده وعدمه على حدّ سواء لا يكون خروجاً عن زي الرقّية » (١).
فملخّص كلامه أنّه بما أنّ كلّ تكاليف الشارع صادرة عن المصالح والمفاسد فإذا فرض خلوّ الواقع عن الحكم كما في ما قبل الشرع فلا يكون فعل العبد حينئذٍ خروجاً عن زي الرقّية فيكون الأصل في هذه الحالة الإباحة ، فيكون لازم كلامه أنّ مالكيّة الله تعالى مندكّة في مولويته ، أي كلّ ما هو وظيفة للعباد يكون من طريق مولويته لا مالكيته لأنّ أغراضه منحصرة في المصالح والمفاسد التشريعيّة ، وحيث إنّ المفروض عدم وصول حكم من ناحية
__________________
(١) نهاية الدراية : ج ٢ ، ص ٢٠٥ ، طبع القديم.