توضيح ذلك : قد مرّ أنّ الاجتهاد بالمعنى العام هو استنباط الحكم عن أدلّته التفصيليّة وأنّ الاجتهاد بالمعنى الخاصّ هو تقنين المجتهد وتشريعه فيما لا نصّ فيه ، ولا إشكال في عدم لزوم التصويب المحال بناءً على الاجتهاد بالمعنى الخاصّ لأنّه ليس فيما لا نصّ فيه حكم على زعمهم حتّى يقال بأنّه لابدّ للطلب من مطلوب ، وقد نصّ على ذلك الغزالي في مستصفاه ، وقال : « إنّه ليس في الواقعة التي لا نصّ فيها حكم معيّن يطلب بالظنّ ، بل الحكم يتبع الظنّ ، وحكم الله تعالى على كلّ مجتهد ما غلب على ظنّه ، وهو المختار ، وإليه ذهب القاضي ، وذهب قوم من المصوّبة إلى أنّ فيه حكماً معيّناً يتوجّه إليه الطلب ، إذ لابدّ للطلب من مطلوب ، لكن لم يكلّف المجتهد إصابته ، فلذلك كان مصيباً وإن أخطأ ذلك الحكم المعيّن الذي لم يؤمر بإصابته ، بمعنى أنّه أدّى ما كلّف فأصاب ما عليه » (١).
وقد نسب مؤلّف الاصول العامّة القول الأوّل إلى محقّقي المصوّبة ، وقال بعد ذلك : « وقد عرف القسم الأوّل من التصويب على ألسنة بعض الباحثين من الاصوليين بالتصويب الأشعري كما عرف القسم الثالث بالتصويب المعتزلي » (٢).
فظهر أنّه بناءً على ما ذهب إليه مشاهير المصوّبة أنّه لا موضوع للقسم الأوّل من التصويب فيكون التقسيم ثلاثيّاً ، نعم أنّه رباعي بناءً على قول غيرهم ، كما ظهر أنّ التصويب الأشعري هو هذا المعنى المنسوب إلى مشاهير المصوبة ، لا ما مرّ من القسم الأوّل ، وأنّ التصويب المعتزلي هو نفس ما عليه المخطئة لا القسم الثاني من الأقسام الأربعة السابقة.
والحاصل أنّ الاشتباه في دعوى إستحالة القسم الأوّل من التصويب نشأ من توهّم كون المراد من الاجتهاد هو الاجتهاد بالمعنى المعروف ، أي استفراغ الوسع في كشف الحكم الشرعي عن أدلّتها ، بينما ليس مرادهم ذلك ، بل الاجتهاد عندهم هو استفراغ الوسع في طلب المصالح والفاسد وتشريع الأحكام على وفقها من ناحية المجتهد فليس هناك حكم واقعي يطلبه المجتهد حتّى يلزم المحال.
ثمّ إنّ للغزالي هنا في توجيه نظره كلاماً حاصله ما يلي : الكلام الكاشف للغطاء رحمهالله عن هذا الكلام المبهم هو أنّا نقول : المسائل منقسمة إلى ما ورد فيها نصّ وما لم يرد ، أمّا ما ورد فيه
__________________
(١) الاصول العامّة للفقه المقارن : ص ٦١٧.
(٢) المصدر السابق.