يتصدّ الاستنباط ولو في حكم واحد ، وقال في توضيحه : « أنّ ملكة الاجتهاد غير ملكة السخاوة والشجاعة ونحوهما من الملكات ، إذ الملكة في مثلهما إنّما يتحقّق بالعمل والمزاولة كدخول المخاوف والتصدّي للمهالك ، فإنّ بذلك يضعف الخوف متدرّجاً ويزول شيئاً فشيئاً حتّى لا يخاف صاحبه من الحروب العظيمة وغيرها من الامور المهام ، فترى أنّه يدخل الأمر الخطير كما يدخل داره ، وكذلك الحال في ملكة السخاوة فإنّ بالإعطاء متدرّجاً قد يصل الإنسان مرتبة يقدّم غيره على نفسه فيبقى جائعاً ويطعم ما بيده لغيره ، والمتحصّل أنّ العمل في أمثال تلك الملكات متقدّم على الملكة ، وهذا بخلاف ملكة الاجتهاد لأنّها إنّما يتوقّف على جملة من المبادىء والعلوم كالنحو والصرف وغيرهما ، والعمدة علم الاصول فبعد ما تعلّمها الإنسان تحصل له ملكة الاستنباط وإن لم يتصدّ للاستنباط ولو في حكم واحد » (١).
لكن الإنصاف أنّ هذا مجرّد فرض ، فإنّ من المحالات جدّاً أن تحصل للإنسان ملكة الاستنباط بمجرّد تحصيل المبادىء ولو لم يتصدّ للاستنباط في حكم واحد ، بلا فرق بينها وبين سائر الملكات ، وإن شئت فاختبر نفسك من لدن الشروع في تحصيل علم الفقه ومبانيها فإنّك ترى لزوم الممارسة في تطبيق القواعد الاصوليّة على مصاديقها وممارسة ردّ الفروع إلى الاصول في كثير من الكتب التي تدرس في الحوزات العلمية ككتاب مكاسب الشيخ وغيرها فإنّ طلاّب الفقه لا يقدرون على الاجتهاد حتّى في حدّ التجزّي بدون هذه الممارسات.
والحاصل أنّه لا فرق بين علم الطبّ وعلم الفقه وغيرهما من العلوم في لزوم الممارسة مدّة طويلة في تطبيق القواعد على مصاديقه وردّ الفروع إلى اصولها في العمل حتّى تتمّ ملكة الاجتهاد فيها ، بل من المحال عادةً حصول شيء منها بغير الممارسة العمليّة ، فالعالم بقواعد العلوم إذا لم يكن ممارساً لها عملاً لا يقدر على الاجتهاد فيها قطعاً ، ولو فرض قدرته عليه في بعض المسائل الساذجة فلا شكّ في عدم قدرته على الاجتهاد في المسائل الخطيرة المشكلة.
__________________
(١) التنقيح في شرح العروة الوثقى : ج ١ ، ص ٢١ ، طبعة مؤسسة آل البيت.