البراءة الشرعيّة مخصّصة لدليله ، فإنّ مخصّصيتها له ممّا يتوقّف على اعتبارها معه ، واعتبارها معه ممّا يتوقّف على مخصّصيتها له ، وهو دور محال ( انتهى كلامه مع شرح وتوضيح ).
ولكن يرد عليه : أنّ موضوع البراءة الشرعيّة إنّما هو الشكّ في الحكم الواقعي ، وهو باقٍ على حاله واقعاً حتّى بعد قيام الاستصحاب ، لأنّ المفروض أنّ الاستصحاب ليس أمارة حتّى يحصل به الاطمئنان بالواقع ، أضف إلى ذلك أنّه يجري عين هذا البيان ( لزوم التخصيص بلا مخصّص أو التخصيص على وجه دائر ) في الطرف المقابل أيضاً ، لأنّهما في عرض واحد ولسانهما واحد.
وذهب المحقّق النائيني رحمهالله إلى أنّه حاكم على البراءة الشرعيّة من باب « أنّها من الاصول غير التنزيلية ( غير المحرزة ) فيكون الاستصحاب المتكفّل للتنزيل رافعاً لموضوعها بثبوت التعبّد به شرعاً فيكون حاكماً عليها » (١).
ولكن يرد عليه أيضاً :
أوّلاً : ما مرّ سابقاً من أنّه لا فرق من هذه الجهة بين الأمارة والأصل ، فإنّ الشكّ مأخوذ في موضوع كليهما ، حيث إنّ الوارد في دليل حجّية الأمارة أيضاً ( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ) ( أي عند الشكّ وعدم العلم ) ، نعم كأنّه قال : « اسألوا حتّى تعلموا » فالغاية هو العلم بالواقع والوصول إلى الواقع ، بخلاف الأصل فإنّه لمجرّد رفع الحيرة في مقام العمل ، وبه لا يصل المكلّف إلى الواقع.
ثانياً : أنّ مفاد دليل الاستصحاب إنّما هو النهي عن نقض اليقين السابق حيث يقول : لا تنقض اليقين ( أي اليقين السابق ) بالشكّ ، ولا يقول : لا تنقض لأنّك على يقين من الحكم المتيقّن سابقاً حتّى يكون مفاده تنزيل المؤدّى منزلة الواقع.
ثمّ إنّ للشيخ الأعظم رحمهالله بياناً آخر للحكومة أي حكومة الاستصحاب على البراءة الشرعيّة بالنسبة إلى بعض أدلّتها مثل قوله عليهالسلام : « كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي » ونحوه ، وإليك نصّ كلامه : « إنّ دليل الاستصحاب بمنزلة معمّم للنهي السابق بالنسبة إلى الزمان اللاحق فقوله عليهالسلام : « لا تنقض اليقين بالشكّ » يدلّ على أنّ النهي الوارد لابدّ من إبقائه وفرض
__________________
(١) أجود التقريرات : ج ٢ ، ص ٤٩٤ ، طبعة مؤسسة مطبوعات ديني.