ويمكن تبيين هذا المعنى من طريق آخر وهو أنّ المراد من الشكّ في أدلّة حجّية الاستصحاب هو الحيرة الحاصلة من عدم وجود طريق إلى الواقع ، فإذا قامت عنده الأمارة التي هى من الطرق المعتبرة لم تبق له حيرة ولا يصدق عليه أنّه سالك بلا طريق ، فكأنّ معنى الشكّ عند العرف في أمثال المقام أضيق من الشكّ الفلسفي ، كما أنّ اليقين عندهم أوسع من اليقين الفلسفي ، وحينئذٍ لا يصدق على رفع اليد عن اليقين بالأمارة أنّه نقض اليقين بالشكّ بل يصدق عليه عند العرف أنّه نقض لليقين باليقين.
ويؤيّد ما ذكرنا ما مرّ من أنّ من أدلّة حجّية الاستصحاب هو بناء العقلاء ، ولا إشكال في أنّهم يعتمدون على الاستصحاب في خصوص موارد التردّد والحيرة ، وأمّا إذا قامت أمارة على تقنين قانون جديد مثلاً أو على عزل الوكيل عن وكالته فلا يجرون استصحاب بقاء القانون السابق أو استصحاب الوكالة كما لا يخفى.
فظهر أنّ الحقّ كون الأمارات واردة على الاستصحاب ، ولو تنزّلنا عن ذلك فلا أقلّ من الحكومة ( وهى أن يكون أحد الدليلين ناظراً إلى دليل آخر إمّا إلى موضوعه أو إلى متعلّقه أو إلى حكمه ، توسعة أو تضييقاً بالدلالة المطابقيّة أو التضمّن أو الالتزام البيّن ، وذلك لأنّ أدلّة حجّية خبر الواحد مثلاً عند الدقّة والتحليل ناظرة إلى أدلّة الاصول ، فإنّ مقتضى مفهوم آية النبأ ( أي عدم لزوم التبيّن في خبر العادل ) مثلاً إنّ ما أخبر به العادل مبيّن ( ولذلك لا يحتاج إلى التبيّن ) ولا إشكال في أنّ معناه عدم ترتيب آثار الشكّ ، وهكذا بالنسبة إلى قوله عليهالسلام « ما أدّيا عنّي فعنّي يؤدّيان » إذ إنّ معناه لزوم معاملة العلم مع ما أخبر عنه الثقة وعدم ترتيب آثار الشكّ ، ولعلّ تسمية الشاهدين العدلين باسم البيّنة كانت من هذه الجهة ، أي إذا شهدت البيّنة على شيء فرتّب عليه آثار العلم تعبّداً ولا ترتّب آثار الشكّ ، وليس هذا إلاّمن باب أنّ أدلّة هذه الأمارات حاكمة على أدلّة الاصول وناظرة إليها ومضيّقة لدائرتها بغير موارد قيام الأمارة ، فظهر ممّا ذكرنا أنّ إنكار المحقّق الخراساني للحكومة هنا في غير محلّه.
ولو تنزّلنا عن ذلك فيمكن أن يقال بالتخصيص في الجملة ، أي التوفيق العرفي بين أدلّة الأمارات وأدلّة الاستصحاب بتخصيص عموم الاستصحاب بموارد قيام الأمارة ، والإنصاف أنّه يتصوّر بالنسبة إلى بعض الأمارات قطعاً ، نظير موارد قيام قاعدة اليد ، حيث إنّه لو لم تكن اليد مقدّمة على الاستصحاب ومخصّصة لأدلّته ، لما بقي لقاعدة اليد مورد ، وذلك لأنّها في جميع