قد يقال : أنّ الأحكام الوضعيّة على ثلاثة أقسام :
قسم منها ما يقع تحت يد الجعل ذاتاً واستقلالاً نظير الزوجيّة والملكيّة.
وقسم منها ما يقع تحت يد الجعل بمنشأ انتزاعه كالجزئيّة والشرطيّة للمكلّف به ، فإنّ شرطيّة الطهارة أو مانعية النجاسة مجعول تبعي وأمره بيد الشارع وضعاً ورفعاً ، لكن من طريق وضع منشأ انتزاعه ورفعه.
وقسم ثالث ما لا يكون مجعولاً للشارع لا نفسه ولا منشأ انتزاعه ، لكونه من الامور التكوينيّة كشرائط التكليف ، مثل دلوك الشمس للصلاة وغيره ممّا يكون داعياً وباعثاً للمولى على الحكم ( ولكن قد ذكرنا سابقاً أنّ شرائط التكليف أيضاً ترجع إلى قيود الموضوع فتكن مجعولةً ).
أمّا القسم الأوّل فقال المحقّق الخراساني رحمهالله بعدم كون الاستصحاب فيه مثبتاً ، وأمّا القسم الثاني فقد يتوهّم كون الاستصحاب فيه مثبتاً لكونه من الامور الانتزاعيّة العقليّة لا الآثار الشرعيّة ، ولكن أجاب عنه المحقّق الخراساني رحمهالله بأنّه أيضاً مجعول للشارع تبعاً بجعل منشأ انتزاعه فأمره أيضاً بيد الشارع وضعاً ورفعاً ، فلا يكون الاستصحاب فيه مثبتاً ، وأمّا القسم الثالث فمن الواضح أنّ الاستصحاب فيه مثبت.
أقول : أوّلاً : أنّ هذا النزاع أيضاً ممّا لا طائل تحته ، لأنّه لا حاجة إلى استصحاب شرطيّة الطهارة مثلاً حتّى يقال بأنّه مثبت ، بل يكفي استصحاب حكم تكليفي يوجد في جنب هذا الحكم الوضعي ، وهو مفاد قوله تعالى ( إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا ... ) فيكفي استصحاب وجوب الوضوء عن استصحاب شرطيّة الوضوء للصلاة.
وثانياً : أنّ معنى الأصل المثبت في كلام المحقّق الخراساني رحمهالله في المقام نطاقه أوسع ممّا مرّ ، حيث إنّه في ما سبق كان عبارة عن ترتيب الآثار الشرعيّة بوساطة الآثار العقليّة أو العادية على المستصحب ، وفي المقام يعمّ ما إذا كان نفس المستصحب أو الأثر المترتّب عليه بلا واسطة أمراً عقيّاً ولم يكن له أثر شرعي ، وبهذا يندفع ما أورده المحقّق الأصفهاني رحمهالله عليه من هذه الناحية.
٣ ـ في أنّه لا فرق أيضاً في المستصحب أو المترتّب على المستصحب بين أن يكون هو ثبوت حكم ووجوده ، أو نفيه وعدمه.