بالموضوع المنوط به التكليف يتوقّف غالباً على الفحص بحيث لو أهمل الفحص لزم الوقوع في مخالفة التكليف كثيراً تعيّن هنا بحكم العقلاء اعتبار الفحص ثمّ العمل بالبراءة كبعض الأمثلة المتقدّمة فإنّ إضافة جميع علماء البلد أو أطبّائهم لا يمكن للشخص الجاهل إلاّبالفحص ، فإذا حصل العلم ببعض واقتصر على ذلك نافياً لوجوب إضافة ما عداه بأصالة البراءة من غير تفحّص زائد على ما حصل به المعلومين عدّ مستحقّاً للعقاب والملامة عند إنكشاف ترك إضافة من يتمكّن من تحصيل العلم به بفحص زائد ( انتهى كلامه ) (١).
أقول : الإنصاف في المسألة هو التفصيل بين موارد الشبهة ، فتارةً تكون ممّا أحرز إهتمام الشارع به جدّاً كما في الفروج والدماء وإنقاذ نفوس المؤمنين ونحوها فلا تجري البراءة فيها حتّى بعد الفحص بحدّ اليأس إذا كانت الشبهة باقية على حالها ، فإذا احتمل أنّ هذا سمّ قاتل بمجرّد شربه لم يجز شربه ولم تجر البراءة حتّى بعد الفحص إذا بقيت الشبهة على حالها ، هذا بالنسبة إلى البراءة النقليّة ، وكذلك البراءة العقليّة فإنّها لا تجري في مثل هذه الامور المهمّة بناءً على مبنى المشهور فضلاً عن المبنى المختار من عدم كون قاعدة قبح العقاب بلا بيان قاعدة عقليّة بل العقل يحكم بالاحتياط مطلقاً ، وأمّا بناء العقلاء فكذلك ، حيث لا إشكال في أنّ بنائهم على الاحتياط في الامور المهمّة ، وحينئذٍ لا ريب في أنّه باستكشاف وجوب الاحتياط شرعاً في مثل هذه الامور المهمّة من شدّة اهتمام الشارع بها يقيّد إطلاقات أدلّة البراءة الشرعيّة لو سلّم إطلاقها وعدم إنصرافها عن مثل هذه الامور.
واخرى يكون المورد ممّا يحصل العلم فيه بأدنى فحص ونظر ، وبتعبير المحقّق الحائري رحمهالله يكون العلم في كُمّه ، فيحصل مثلاً بالمراجعة إلى دفتره الخاصّ ليرى أنّه مديون لزيد مثلاً أو لا فلا إشكال في أنّ بناء العقلاء على وجوب الفحص والمراجعة والتأمّل في مثل هذه الامور ، ولا يجوز الأخذ ببراءة الذمّة عند الشكّ من دون مراجعة.
وثالثة يكون المورد المشكوك من الموارد التي تقتضي بماهيّته الفحص والاختبار ، فيكون ممّا لا يعلم غالباً إلاّبالفحص والمراجعة على نحو كأنّ الأمر به شرعاً مستلزم عرفاً لوجوب الفحص عنه ، وإلاّ لم يمتثل إلاّنادراً ، كما في الشكّ في بلوغ المال بحدّ الاستطاعة أو النصاب ،
__________________
(١) الرسائل : ج ٢ ، ص ٥٢٤ ـ ٥٢٦ ، طبع جماعة المدرّسين.