وبالجملة ، حقيقة الحكم إنّما هي الاعتبار لا غير ، وهو مسبوق بشيئين : الشوق ، والعلم بالصلاح ، وملحوق بشيئين أيضا : الإظهار الخارجي ، والوصول إلى المكلّف ، وذلك لأنّ اعتبار اللابدّيّة ـ مثلا ـ فعل من أفعال المولى ناشئ عن اشتياقه بما يعتبره على ذمّة العبد ، واشتياقه مسبّب عن علمه بوجود المصلحة الملزمة فيه ، ولا بدّ للمولى ـ بعد علمه بصلاح شيء واشتياقه به السابقين على الاعتبار وبعد الاعتبار ـ من الإظهار خارجا بلفظ ، مثل قوله : «افعل» أو كتابة أو إشارة أو غير ذلك ، وبعد إظهاره يتحقّق الوصول ، فهناك مراتب خمس ، ومن المعلوم أنّ الاعتبارين بما هما اعتباران لا تضادّ بينهما ذاتا ، إذ لا مانع من اعتبار كون الفعل والترك معا على ذمّة أحد ، ولا استحالة في الاعتبار ذاتا ، وإنّما التضادّ والاستحالة عرضيّ ناش من [التضادّ من] المرتبتين المتقدّمتين أو مرتبة الوصول ، إذ لا استحالة في مرتبة الإظهار الخارجي أيضا في نفسه ، ضرورة أنّه لا محذور في قوله : «افعل» و «لا تفعل».
ووجه الاستحالة في مرتبة العلم بالصلاح والاشتياق واضح ، إذ لا يمكن أن يكون لشيء واحد مصلحة ملزمة ومفسدة ملزمة مثلا ، ولا يعقل أن يكون الشيء مشتاقا إليه لأحد ومبغوضا له أيضا من جهة واحدة ، فالمولى إمّا أن يشتاق إلى شيء لمصلحة تكون فيه ، راجعة إلى نفسه أو إلى المأمور فيأمر به ، أو لا فلا.
وهكذا في مرتبة الوصول ، فإنّ النتيجة المرغوبة من الاعتبارين ـ وهي الانبعاث والانزجار ـ لا يمكن حصولها حيث إنّ المكلّف لا يقدر على الانبعاث والانزجار عن شيء بعثه المولى إليه وزجره عنه في زمان واحد ، بل الممكن له إمّا الانبعاث أو الانزجار.
وبذلك ظهر أنّ التضادّ العرضيّ ليس إلّا بين الحكمين الواقعيّين