أوجب عليه أن يقطع الحاكم يده في أن أخذ ما أعطاه ربه وآتاه ، وأكل ما به غذاه. فسبحان البعيد من ذلك ، الصادق في قوله ، العدل في جميع أموره وفعله.
فإن هم من بعد ذلك سألونا فقالوا : هل يقدر أحد أن يأكل غير ما رزقه الله؟. قيل لهم : إن مسألتكم هذه تخرج على معنيين ، وتنصرف في وجهين :
فإن أردتم أن كل شيء مما بث الله وأخرج رزق العباد ، فكذلك لعمري هو ؛ لأن الله قد سماه في الجملة بذلك ، فقال : (وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ) [ق : ١١ ـ ١٩] ، يقول سبحانه : أخرجنا به ما لا يخرج من الحب والأكل إلا بالماء. وقال : (أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) [الواقعة : ٦٣] ، وقال : (أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا وَعِنَباً وَقَضْباً وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً وَحَدائِقَ غُلْباً وَفاكِهَةً وَأَبًّا مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ) [عبس : ٢٥ ـ ٣٢] ، فقال : (شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا) ، يريد شققناها عن النبات الذي يخرج منها من الحب والفواكه وغيره ، وفلقناها فلقا. والأب : فهو الحشيش والعشب الذي تأكله الأنعام ، وينبت في الأودية والجبال والآكام ، (مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ) ، يقول : بلاغا لكم ولأنعامكم إلى وقت انقضاء آجالها وآجالكم ، فرزقناكم فواكه وحبا ، ورزقنا أنعامكم عضاها (٢٨٤) وأبا. فكل ما أخرج قد سماه لأهله ، ومن يملكه رزقا. فهو رزق لمن أجاز الله له أكله وأحل له أخذه وأمره عليه بشكره ، فقال : (كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) [البقرة : ٦] ، وقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) [البقرة : ١٧٢] ، وقال : (فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) [النحل : ١١٤]. فرزق ذو المن والسلطان والجبروت والبرهان كلّ عبد ما أحل له وأمره بأخذه ؛ فأما ما نهاه عن أكله وعذبه في قبضه فليس ذلك لعمرهم من رزقه ، وكيف يجوز على ذي الجلال والجبروت أن يجعل لعباده رزقا وقوتا به
__________________
(٢٨٤) العضاة : أعظم الشجر. تمت من اللسان.