لم يطيقوا أن يهتدوا إذا أبدا. ألا تسمع قوله : (وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً) فقال : (إِذاً) (٣٣٧) يريد : إن كان ما يقولون علينا مما ذكروا أنه على أبصارهم وأسماعهم وقلوبهم فعلا منا بهم ، فلن يهتدوا إذا أبدا إن كنا منعناهم بذلك عن الاهتداء ، فكيف نرسلك إلى من لا يستطيع أن يهتدي ، ولا يفلح ولا يقتدي؟ فهذا ما لا نفعله بك ولا بهم ، ولا نجيزه فيك ولا فيهم ، ولا نراه حسنا من فاعل لو فعله من البشر.
وقد يمكن أن يكون الجعل من الله عزوجل للأكنة والوقر الذي ذكر هو الخذلان لهم وتركهم من التوفيق والتسديد ، فلما تركوا من عون الله وتسديده تكمهوا وغووا وهلكوا ، ومالت قلوبهم في أكنة الهوى ، فأعقبهم ذلك شقاء ووقرا ، فالوقر هاهنا هو ترك الاستماع للحق وما يركبون من الفسق.
وأما ما قال وعنه سأل من قول الله عزوجل : (عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللهُ قَدِيرٌ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ، فتوهم أن الله جعل فيهم مودة قسرهم عليها ، وأدخلهم جبرا فيها ، وليس ذلك بحمد الله كذلك. وتفسير هذه الآية فهو يخرج على معنيين ، وكلاهما شاف ، ومن التطويل كاف :
فأولهما : ما جعل الله للمؤمنين من الإذن وأطلق لهم من البر والإقساط والإحسان إلى من كان على غير الإيمان من المشركين ، الذين لم يقاتلوهم ولم يخرجوهم من ديارهم ولم يظاهروا على إخراجهم ، فقال : (عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً) ، ثم قال : (لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) [الممتحنة : ٨] ، فكان ما أطلق لهم من البر والإقساط أول الرحمة منه لهم ، وجعل المودة بينهم ؛ إذ قد أطلق لهم من الفعل ما يجلب المودة ويزرع المحبة ، من اللطف والبر ، في العلانية والسر. فلما أن تباروا وتنافعوا ، جرت المحبة والمودة للمؤمنين في قلوب الكافرين لما ينفعونهم به ويحسنون إليهم فيه ، فكان الإذن من الله عزوجل للمؤمنين بما يجتلب المودة في الإقساط إلى الكافرين أفضل المنة منه على
__________________
(٣٣٧) سقطت من (ب).