يحتج إلى جنة ولا نار ، ولما وقع تمييز بين فجار ولا أبرار ، وقد ميز الله ذلك فقال : (لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ) [الحشر : ٢٠] ، ولو كان ذلك كذلك لكان معنى الملك والتمليك عند الله سبحانه ساقطا هنالك (٢١٦) ولكنه سبحانه لما خلق الخلق لم يكن للخلق بد من عمل ، ولم يكن العمل كله لله رضا ، ولا كله سخطا طرا معا ، ولما كان من الأعمال مرض لله ومسخط ، لم يكن بد من الأمر بالعمل المرضي ، والنهي عن العمل المسخط. فلما كان ذلك كذلك لم يكن بد من الترغيب على العمل الصالح بالثواب ، والترهيب على العمل الطالح بالعقاب ، فجعل الجنان ترغيبا ، والنيران ترهيبا. وترهيب الشيء من الشيء الذي لا يستطيع أن يرهبه محال ، كما أن ترغيب الشيء فيما لا يقدر على أن يرغب فيه فاحش من الفعال ، ولا يكون ترغيب إلا لمن يقدر على الرغبة ، ولا ترهيب إلا لمن يقدر على الرهبة ، ولا أمر ولا نهي إلا لمن يميز بين المأمور به والمنهي عنه. فجعل الله وركب فيهم استطاعة وتمييزا ، ليعرفوا رضاه فيتبعوه ، ويفهموا سخطه فيتجنبوه ، فيثيبهم أو يعاقبهم على ما يكون من أفعالهم باختيارهم ؛ لأن المثيب على فعله إنما هو مجاز لنفسه ، ثم أمرهم عزوجل ونهاهم ، ثم قال : (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) [الكهف : ٢٩] ، ولو لم يعلم أن له مشيئة وتمييزا واقتدارا على الفعل والترك لم يقل : (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) ، وقال سبحانه : (يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) [مريم : ١٢] ، ولو لم يكن فيه استطاعة مركبة قبل الأمر ، ولم يكن قادرا على أخذ الكتاب ، لم يقل (خُذِ) ، وهو لا يقدر على الأخذ ؛ لأن القائل للحجارة ، وما كان مثلها ، يقال : مخطئ محيل في المقال ، فتعالى الله عن ذلك. وقال : (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) [الجاثية : ١٤] ، ولو لم يكن المؤمنون يقدرون على الغفران لمن أمروا بالمغفرة له لم يقل : (يَغْفِرُوا) ، وكان يحدث فيهم الغفران لأولئك ، فيغفرون ، ولم يكن ليأمرهم من الأمر بما لا يطيقون.
__________________
(٢١٦) في (أ) : هناك.