يضله حتى اتخذ إلهه هواه وعبده من دون الله ، وعلم ذلك منه ومن فعله ، فأضله الله بعد ما فعل وبعد ما كان منه ، ولعلمه أنه لا يؤمن ولا يدع ما هو عليه من الكفر ، فهذا معنى علم الله به ، لم يدخله العلم في شيء ، ولم يحل بينه وبين شيء ، وإنما هو أخبر بإضلاله له. والإضلال من الله إنما هو في إهماله وترك تسديده ، وتوفيقه للخير ، ألا ترى كيف يقول سبحانه في موضع آخر : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) [البقرة : ٦] ، وذلك لعلمه سبحانه أنه قد استحوذ عليهم إبليس وأحبوا ما هم فيه من الكفر والضلال حتى لم يتلفتوا إلى شيء مما يوعظون به ، ولا تعمل فيهم الموعظة ، ولا يتدبرون ما هم عليه من الكفر الذي قد دخل في قلوبهم ، فسواء أنذرتهم أم لم تنذرهم ، أو وعظتهم أم لم تعظهم لا يؤمنون ، أي لا يصدقون بشيء مما تدعوهم إليه ولا يخافون مما تخوفهم منه ، قد أعمت حلاوة الكفر أبصارهم ، وأصمّت أسماعهم ، وختمت على قلوبهم حتى منعت حلاوة الموعظة أن تصل أو تدخل في قلوبهم ، أو يلتفتون إلى شيء مما يعظهم به محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم.
واحتجوا أيضا بقوله : (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها) [الحديد : ٢٢] ، وتأولوا في ذلك بأقبح التأويل ، ولم يتدبروا الآية فيصح لهم فساد تأويلهم ، وزعموا أن المصيبة هي الكفر وغيره من أعمال الإثم ، وليس ذلك كذلك ؛ لأن آخر الآية يدل على غير ما تأولوا وقالوا ، وإنما أراد بقوله سبحانه : ما أصاب الناس في الأرض من مصيبة ، ولا أصابتكم في أنفسكم ، إلا وقد علم الله ذلك من قبل أن يبرأ النفس ، وهو خلقها برؤها ، فعنى ما في الدنيا من الآفات التي تقع في الأموال والثمار وغيرها من المصيبات التي يكثر شرحها ، ولم يرد بذلك سبحانه الإيمان والكفر والعصيان. ولو أراد سبحانه ، ما تأوله الجاهلون من الجبر على الإيمان والكفر ، ما قال : (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) ، وكيف يكون كافرا وفاسقا من كان محسنا صابرا ، ومبشرا بالخير؟ ألا ترى إلى تصديق ما قلنا في تمام الآية حين يقول : (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ) [الحديد : ٢٣] ، فصح عند كل فهم أنه إنما أراد بهذا القول محن الدنيا وبلواها ،