وأوجدها فيهم ، وجعلها حجة له عليهم ، وسببها لهم سبحانه وتعالى تسبيبا ، وركبها فيهم احتجاجا عليهم تركيبا ، فهي حجة الله العظيمة ، ونعمته على خلقه الكريمة ، تدعو أبدا إلى الخير والهدى ، وتنفي عن الخلق الضلالة والردى ، تدل على الخالق ذي الجلال ، وتنفي عمن أراد الحق التكمه والضلال ، فهي أبدا لمن استعملها داعية إلى الإسلام ، مخرجة له من حنادس دياجير الظلام.
ثم قسمها سبحانه بين خلقه ليدلهم على ما أوجب عليهم من حقه ، فأعطى كل من أوجب عليه أداء فريضة منها أكثر مما يحتاج إليه في أداء ما افترض عليه ، فليس منهي يجب عليه عقاب ، ولا مأمور يجب له ثواب إلا وقد ركب الله فيه من العقل ، وقسم له وعليه أكثر من الحاجة في أداء مفترضه وما يخرجه بحمد الله إن استعمله من جهالته.
ثم أمرهم باستعمال ما أعطاهم من الحجة المركبة فيهم ، وأخبرهم أنهم إن لم يستعملوها لم يصلوا إلى علم ما لعلمه أعطوها. فأمرهم أن يستعملوها فيفكروا ، وينظروا ويميزوا ويتدبروا. فإذا فكروا وميزوا بتلك الحجة التي لن يضل معها طول الأبد إن أنصفها ـ بحمد الله ـ من أحد ، ولذلك ما قاله جل جلاله عن أن يحويه قول أو يناله : (فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) [الحشر : ٢] ، يقول : انظروا بأبصاركم ثم دبروا فاعتبروا بعقولكم فيما ترون وتبصرون ، هل له من خالق غير الله فيما تعلمون؟ كما قال سبحانه : (أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) وقال : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) [الزخرف : ٩] ، وقال : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [القصص : ٧١ ـ ٧٣]. ثم قال تنبيها لهم وحثا على استعمال العقول ، ليصح لهم الحق من القول إذا نظروا وفيما ذكر الله مما أراهم وفطر لهم تفكروا ، فقال الله سبحانه : (حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [الجاثية : ١ ـ ٥] ، فقال في أول السورة : (لَآياتٍ