سبحانه ما أنكرت من التوحيد ؛ لأن حواسك وعقلك أدوات مجعولات ، مركبات على درك المخلوقات مثلهنّ المصورات بالخلق كتصويرهنّ ، فأما ما لم يكن لهنّ مشابها ، ولا لمعانيهنّ مشاكلا ، وكان عن ذلك متعاليا ، ولم يكن له حد ينال ، ولا شبه تضرب له فيه الأمثال ، فلا يدرك جل جلاله بهنّ ، ولا تدرك معرفته سبحانه بشيء منهنّ ، ولا يستدل عليه إلا بما دل به على نفسه ، من أنه هو ، وأنه القائم بذاته ، فلمّا صح عند ذوي العقول والتبيان وثبت في عقل كل ذي فهم وبيان أن الحواس المخلوقة ، والألباب المجعولة لا تقع إلا على مثلها ، ولا تلحق إلا بشكلها ، ولا تحد إلا نظيرها ، صحت له سبحانه ـ لما عجزت عن درك تحديده ـ الوحدانية ، وثبتت للممتنع عليها من ذلك الربوبية ؛ لأنه مخالف لها في كل معانيها ، بائن عنها في كل أسبابها ، ولو شاكلها في سبب من الأسباب ، لوقع عليه ما يقع عليها من درك الألباب. فلما تباينت ذاته وذاتها ، وكانت هي فعله وكان هو فاعلها ، بانت بأحق الحقائق صفاته وصفاتها ، فكان درك الأفهام والعقول لها بالتبعيض والتحديد والانحدار منها والتصعيد ، وكان درك معرفته سبحانه بأفعاله وما أظهر من آياته ، ودل به على نفسه من دلالاته ، من خلق أرضه وسماواته ، وما ابتدع مما بينهما من خلقه. فكان الدرك بالصنع والأفعال للصانع الفاعل كالدرك بالعيان سواء سواء ، عند كل فهم عاقل ، وكان (١٣٣) درك الحواس لما شاكلها ، وما كان منها ومثلها بالتحديد والعيان ، وكان دركها لما باينها فلم يشابهها ، وكان على خلاف ما هي عليه من تقديرها وتصويرها ، متقدسا عن مشاكلتها بما تدركه من أفعاله ، وتقف عليه من آياته في أنفسها دون غيرها ، ثم في غيرها من بعدها. فلمّا أن وجدت العقول والحواس أجساما مثلها متصورات (١٣٤) في الخلق كتصويرها ، وأعراضا لا تقوم إلا بغيرها استدلت على الفاعل بفعله ، ووقفت على معرفة الخالق بخلقه ، كما تعرف كل ذي عمل بعمله ، وتستدل على كل صانع بفعله ؛ لأنك متى وقفت على جدار مبني علمت أن له فاعلا بانيا ، وكذلك إذا
__________________
(١٣٣) في (ب) : فكان.
(١٣٤) في (ب) و (ج) : مصورات.