المأثور عليه إذا كان ذكر المأثور يشير إليه كما إذا كان المأثور والمأثور عليه ضدين كما هنا لما هو شائع من المقابلة بين الحياة الدنيا والآخرة.
وقد يترك ذكر المأثور اكتفاء بذكر المأثور عليه إذا كان هو الأهم كقوله تعالى : (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ) [الحشر : ٩] لظهور أن المراد يؤثرون الفقراء.
والمراد بالحياة الدنيا حظوظها ومنافعها الخاصة بها ، أي التي لا تشاركها فيها حظوظ الآخرة ، فالكلام على حذف مضاف ، تقديره : نعيم الحياة.
ويفهم من فعل الإيثار أن معه نبذا لنعيم الآخرة. ويرجع إيثار الحياة الدنيا إلى إرضاء هوى النفس ، وإنما يعرف كلا الحظين بالتوقيف الإلهي كما عرف الشرك وتكذيب الرسل والاعتداء على الناس والبطر والصلف وما يستتبعه ذلك من الأحوال الذميمة.
وملاك هذا الإيثار هو الطغيان على أمر الله ، فإن سادتهم ومسيريهم يعلمون أن ما يدعوهم إليه الرسول هو الحق ولكنهم يكرهون متابعته استكبارا عن أن يكونوا تبعا للغير فتضيع سيادتهم.
وقد زاد هذا المفاد بيانا قوله بعده : (وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ) الآية. وبه يظهر أن مناط الذم في إيثار الحياة الدنيا هو إيثارها على الآخرة ، فأما الأخذ بحظوظ الحياة الدنيا التي لا يفيت الأخذ بها حظوظ الآخرة فذلك غير مذموم ، وهو مقام كثير من عباد الله الصالحين حكاه الله تعالى عن صالحي بني إسرائيل من قولهم لقارون : (وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا) [القصص : ٧٧].
وقوله : (مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ) مقابل قوله : (مَنْ طَغى) لأن الخوف ضد الطغيان وقوله : (نَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى) مقابل قوله : (وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا)
ونهى الخائف نفسه مستعار للانكفاف عن تناول ما تحبه النفس من المعاصي والهوى ، فجعلت نفس الإنسان بمنزلة شخص آخر يدعوه إلى السيئات وهو ينهاه عن هذه الدعوة ، وهذا يشبه ما يسمى بالتجريد ، يقولون : قالت له نفسه كذا فعصاها ، ويقال : نهى قلبه ، ومن أحسن ما قيل في ذلك قول عروة بن أذينة :
وإذا وجدت لها وساوس سلوة |
|
شفع الفؤاد إلى الضمير فسلها |
والمراد ب (الْهَوى) ما تهواه النفس فهو مصدر بمعنى المفعول مثل الخلق بمعنى المخلوق ، فهو ما ترغب فيه قوى النفس الشهوية والغضبية مما يخالف الحق والنفع