وفي السادسة والأربعين ما نصّه : انتهت هيبة المنصور بن أبي عامر وضبطه للجند واستخدام ذكور الرجال (١) وقوّام الملك إلى غاية لم يصلها ملك قبله ، فكانت مواقفهم في الميدان على احتفاله مثلا في الإطراق ، حتى إنّ الخيل لتتمثّل إطراق فرسانها فلا تكثر الصهيل والحمحمة (٢) ، ولقد وقعت عينه على بارقة سيف قد سلّه بعض الجند بأقصى الميدان لهزل أو جدّ بحيث ظنّ أنّ لحظ المنصور لا يناله ، فقال : عليّ بشاهر السيف ، فمثل بين يديه لوقته ، فقال : ما حملك على أن شهرت سيفك في مكان لا يشهر فيه إلّا عن إذن؟ فقال : إنّي أشرت به إلى صاحبي مغمدا فذلق (٣) من غمده ، فقال : إن مثل هذا لا يسوغ بالدعوى ، وأمر به فضربت عنقه بسيفه ، وطيف برأسه ، ونودي عليه بذنبه انتهى.
وفي السابعة والأربعين : أن المنصور كان به داء في رجله ، واحتاج إلى الكيّ فأمر الذي يكويه بذلك وهو قاعد في موضع مشرف على أهل مملكته ، فجعل يأمر وينهى ويفري الفريّ في أموره ، ورجله تكوى والناس لا يشعرون ، حتى شمّوا رائحة الجلد واللحم ، فتعجّبوا من ذلك وهو غير مكترث.
وأخباره ـ رحمه الله تعالى! ـ تحتمل مجلّدات ، فلنمسك العنان ، على أنّا ذكرنا في الباب الرابع والسادس من هذا الكتاب جملة من أخباره ، رحمه الله تعالى! فلتراجع إلى آخره.
وقال الفتح في المطمح (٤) : وكان ممّا أعين به المنصور على المصحفيّ ميل الوزراء إليه ، وإيثارهم له عليه ، وسعيهم في ترقّيه ، وأخذهم بالعصبيّة فيه ، فإنها وإن لم تكن حميّة أعرابية ، فقد كانت سلفيّة سلطانية ، يقتفي القوم فيها سبيل سلفهم ، ويمنعون بها ابتذال شرفهم ، غادروها سيرة ، وخلّفوها (٥) عادة أثيرة ، تشاحّ الخلف فيها تشاحّ سلفهم أهل الديانة ، وصانوا بها مراتبهم أعظم صيانة ، ورأوا أنّ أحدا لا يلحق فيها غاية ، ولا يتعاقد لها راية. فلمّا اصطفى الحكم المستنصر بالله جعفر بن عثمان واصطنعه ، ووضعه من أثرته حيث وضعه ، وهو نزيع بينهم ونابغ فيهم (٦) ، حسدوه وذمّوه ، وخصّوه بالمطالبة وعمّوه. وكان أسرع صنف (٧) الطائفة من أعالي الوزراء وأعاظم الدولة إلى مهاودة المنصور عليه ، والانحراف عنه إليه ، آل أبي
__________________
(١) ذكور الرجال : أي الأبطال الشجعان.
(٢) الحمحمة : صوت الحصان دون الصهيل.
(٣) في ب : فزلق.
(٤) في ج : وفي الثامنة والأربعين.
(٥) في ج : وتخلقوها.
(٦) في ه : نابع فيهم.
(٧) في ه : أسرع هذه الطائفة.