أكثرت عذلي كأنّي كنت أول من |
|
بكى على مسكن أو حنّ للسّكن |
لا تلح إنّ من الإيمان عند ذوي ال |
|
إيمان منّا حنين النّفس للوطن |
على أنني أقول : اللهمّ يسّر لي ما فيه الخيرة لي بالمشارق أو بالمغارب ، وجد لي من فضلك حيث حللت بجميع ما فيه رضاك من المآرب ، بجاه نبيّنا وشفيعنا المبعوث رحمة للأحمر والأسود والأعاجم والأعارب ، عليه أفضل صلاة وأزكى سلام ، وعلى آله وأصحابه الأعلام ، والتابعين لهم بإحسان ما ذرّ شارق ، وتعاقب طالع وغارب.
ثم جدّ بنا السّير في البرّ أياما ، ونأينا عن الأوطان التي أطنبنا في الحديث حبّا لها وهياما ، وكنّا عن تفاعيل فضلها (١) نياما ، إلى أن ركبنا البحر ، وحللنا منه بين السّحر والنّحر (٢) ، وشاهدنا من أهواله ، وتنافي أحواله ، ما لا يعبّر عنه ، ولا يبلغ له كنه : [مخلع البسيط]
البحر صعب المرام جدّا |
|
لا جعلت حاجتي إليه |
أليس ماء ونحن طين |
|
فما عسى صبرنا عليه |
فكم استقبلنا (٣) أمواجه بوجوه بواسر (٤) ، وطارت إلينا من شراعه عقبان كواسر ، قد أزعجتها أكفّ الرّيح من وكرها ، كما نبّهت اللجج من سكرها ، فلم تبق شيئا من قوّتها ومكرها ، فسمعنا للجبال صفيرا ، وللرياح دويّا عظيما وزفيرا ، وتيقّنّا أنّا لا نجد من ذلك إلّا فضل الله مجيرا وخفيرا ، (وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ) [الإسراء : ٦٧]. وأيسنا من الحياه ، لصوت تلك العواصف والمياه ، فلا حيّا الله ذلك الهول المزعج ولا بيّاه ، والموج يصفّق لسماع أصوات الرياح فيطرب بل ويضطرب ، فكأنه من كأس الجنون يشرب أو شرب ، فيبتعد ويقترب ، وفرقه تلتطم وتصطفق ، وتختلف ولا تكاد تتفق ، فتخال الجوّ يأخذ بنواصيها (٥) ، وتجذبها أيديه من قواصيها ، حتى كاد سطح الأرض يكشف من خلالها ، وعنان السّحب يخطف في استقلالها ، وقد أشرفت النفوس على التّلف من خوفها واعتلالها ، وآذنت الأحوال بعد انتظامها باختلالها ، وساءت الظنون ، وتراءت في صورها المنون ، والشّراع في قراع مع جيوش الأمواج ، التي أمدّت منها الأفواج بالأفواج ، ونحن قعود ، كدود على عود ، ما بين فرادى وأزواج ، وقد نبت (٦) بنا من القلق أمكنتنا ، وخرست من الفرق (٧) ألسنتنا ، وتوهّمنا
__________________
(١) في ب : وصلها.
(٢) السّحر : الرئة.
(٣) في ب : استقبلتنا.
(٤) وجوه بواسر : عابسة مقطبة.
(٥) القواصي : جمع قاصية ، وهي البعيدة.
(٦) نبت : أي بعدت.
(٧) الفرق : الخوف والفزع.