وعلم الأصول عندهم متوسّط الحال ، والنّحو عندهم في نهاية من علوّ الطبقة ، حتى إنهم في هذا العصر فيه كأصحاب عصر الخليل وسيبويه ، لا يزداد مع هرم الزمان إلّا جدّة ، وهم كثيرو البحث فيه وحفظ مذاهبه كمذاهب الفقه ، وكل عالم في أيّ علم لا يكون متمكّنا من علم النحو ـ بحيث لا تخفى عليه الدقائق ـ فليس عندهم بمستحقّ للتمييز ، ولا سالم من الازدراء ، مع أن كلام أهل الأندلس الشائع في الخواصّ والعوامّ كثير الانحراف عمّا تقتضيه أوضاع العربية ، حتى لو أنّ شخصا من العرب سمع كلام الشلوبيني (١) أبي عليّ المشار إليه بعلم النحو في عصرنا الذي غرّبت تصانيفه وشرّقت وهو يقرئ درسه لضحك بملء فيه من شدّة التحريف الذي في لسانه ، والخاصّ منهم إذا تكلّم بالإعراب وأخذ يجري على قوانين النحو استثقلوه واستبردوه ، ولكن ذلك مراعى عندهم في القراءات والمخاطبات بالرسائل. وعلم الأدب المنثور من حفظ التاريخ والنظم والنثر ومستظرفات الحكايات أنبل علم عندهم ، وبه يتقرّب من مجالس ملوكهم وأعلامهم ، ومن لا يكون فيه أدب من علمائهم فهو غفل مستثقل.
والشعر عندهم له حظّ عظيم ، وللشعراء من ملوكهم وجاهة ، ولهم عليهم حظ ووظائف ، والمجيدون منهم ينشدون في مجالس عظماء ملوكهم المختلفة ، ويوقّع لهم بالصّلات على أقدارهم ، إلّا أن يختلّ الوقت ويغلب الجهل في حين ما ، ولكن هذا الغالب. وإذا كان الشخص بالأندلس نحويّا أو شاعرا فإنه يعظم في نفسه لا محالة ويسخف ويظهر العجب ، عادة قد جبلوا عليها.
وأما زيّ أهل الأندلس ، فالغالب عليهم ترك العمائم ، لا سيما في شرق الأندلس ، فإنّ أهل غربها لا تكاد ترى فيهم قاضيا ولا فقيها مشارا إليه إلّا وهو بعمامة ، وقد تسامحوا بشرقها في ذلك ، ولقد رأيت عزيز بن خطاب أكبر عالم بمرسية حضرة السلطان في ذلك الأوان ، وإليه الإشارة ، وقد خطب له بالملك في تلك الجهة ، وهو حاسر الرأس ، وشيبه قد غلب على سواد شعره. وأما الأجناد وسائر الناس ، فقليل منهم من تراه بعمّة في شرق منها أو في غرب ، وابن هود الذي ملك الأندلس في عصرنا رأيته في جميع أحواله ببلاد الأندلس وهو دون عمامة ، وكذلك ابن الأحمر الذي معظم الأندلس الآن في يده ، وكثيرا ما يتزيّا سلاطينهم وأجنادهم بزيّ النصارى المجاورين لهم ، فسلاحهم كسلاحهم ، وأقبيتهم من الإشكرلاط (٢) وغيره كأقبيتهم ، وكذلك أعلامهم وسروجهم.
__________________
(١) هو عمر بن محمد بن عمر بن عبد الله الأستاذ أبو علي الإشبيلي الأزدي المعروف بالشلوبين أو الشلوبيني. كان إمام عصره في العربية ذا معرفة بنقد الشعر ، بارعا في التعليم انظر (بغية الوعاة ٢ : ٢٢٤).
(٢) الاشكرلاط : نوع من الجوخ ، أحمر اللون.