بعد ، يفتحها الله عليك ، إن شاء الله تعالى ، فملىء سرورا. وكان شفوف (١) طارق قد غمّه ، فساروا به في جانب ساحل شذونة ، فافتتحها عنوة ، وألقوا بأيديهم إليه ، ثم سار إلى مدينة قرمونة ، وليس بالأندلس أحصن منها ، ولا أبعد على من يرومها بحصار أو قتال ، فدخلها بحيلة توجّهت بأصحاب يليان ، دخلوا إليهم كأنهم فلّال وطرقهم موسى بخيله ليلا ففتحوا لهم الباب ، وأوقعوا بالأحراس ، فملكت المدينة. ومضى موسى إلى إشبيلية جارتها فحاصرها ، وهي أعظم مدائن الأندلس شأنا ، وأعجبها بنيانا ، وأكثرها آثارا ، وكانت دار الملك قبل القوطيين ، فلما غلب القوطيون على ملك الأندلس حوّلوا السلطان إلى طليطلة ، وبقي رؤساء الدين فيها أعني إشبيلية ، فامتنعت أشهرا على موسى ، ثم فتحها الله عليه ، فهرب العلوج عنها إلى مدينة باجة ، فضمّ موسى يهودها إلى القصبة ، وخلّف بها رجالا ، ومضى من إشبيلية إلى لقنت (٢) إلى مدينة ماردة ، وكانت أيضا دار مملكة لبعض ملوك الأندلس في سالف الدهر ، وهي ذات عزّ ومنعة ، وفيها آثار وقصور ومصانع وكنائس جليلة القدر فائقة الوصف ، فحاصرها أيضا ، وكان في أهلها منعة شديدة وبأس عظيم ، فنالوا من المسلمين دفعات ، وآذوهم ، وعمل موسى دبّابة دبّ المسلمون تحتها إلى برج من أبراج سورها جعلوا ينقبونه ، فلمّا قلعوا الصخر أفضوا بعده إلى العمل المدعو بلسان العجم ألاشه ماشه (٣) ، فنبت عنه معاولهم (٤) وعدّتهم ، وثار بهم العدوّ على غفلة ، فاستشهد بأيديهم قوم من المسلمين تحت تلك الدبابة ، فسمّي ذلك الموضع برج الشهداء ، ثم دعا القوم إلى السّلم ، فترسل إليه في تقريره قوم من أماثلهم أعطاهم الأمان واحتال في توهيمهم في نفسه ، فدخلوا عليه أول يوم ، فإذا هو أبيض الرأس واللحية كما نصل (٥) خضابه ، فلم يتّفق لهم معه أمر ، وعاودوه قبل الفطر بيوم ، فإذا هو قد قنأ لحيته بالحنّاء فجاءت كضرام عرفج ، فعجبوا من ذلك ، وعاودوه يوم الفطر ، فإذا هو قد سوّد لحيته ، فازداد تعجّبهم منه ، وكانوا لا يعرفون الخضاب ولا استعماله ، فقالوا لقومهم : إنّا نقاتل أنبياء يتخلّقون كيف شاؤوا ، ويتصوّرون في كل صورة أحبّوا ؛ كان ملكهم شيخا فقد صار شابّا ، والرأي أن نقاربه ونعطيه ما يسأله ، فما لنا به طاقة ، فأذعنوا عند ذلك ، وأكملوا صلحهم مع موسى على أنّ أموال القتلى يوم الكمين ، وأموال الهاربين إلى جلّيقيّة ، وأموال الكنائس وحليّها للمسلمين.
__________________
(١) شفوف طارق : أراد هنا ظفره وانتصاره ، وأصل الشفوف جمع شف ، وهو الريح.
(٢) في ب : لفنت.
(٣) ألاشه ماشه : أي الاسمنت كما جاء في حواشي طبعة ليدن.
(٤) نبت عنه معاولهم : أي لم تنل منه. والمعول : آلة للهدم.
(٥) نصل خضابه : ذهب أثره. والخضاب : ما يصبع به الشعر.