فلذلك ما ظلّ عدوّه أبو جعفر المنصور ـ بصدق حسّه ، وبعد غوره ، وسعة إحاطته ـ يسترجح عبد الرحمن كثيرا ، ويعدله بنفسه ، ويكثر ذكره ، ويقول : لا تعجبوا لامتداد أمرنا مع طول مراسه وقوة أسبابه ، فالشأن في أمر فتى قريش الأحوذيّ (١) الفذّ في جميع شؤونه ، وعدمه لأهله ونشبه ، وتسلّيه عن جميع ذلك ببعد مرقى همّته ، ومضاء عزيمته ، حتى قذف نفسه في لجج المهالك لابتناء مجده ، فاقتحم جزيرة شاسعة المحل ، نائية المطمع ، عصبية الجند ، ضرب بين جندها بخصوصيته ، وقمع بعضهم ببعض بقوة حيلته ، واستمال قلوب رعيّتها بقضية سياسته ، حتى انقاد له عصيّهم ، وذلّ له أبيّهم ، فاستولى فيها على أريكته ، ملكا على قطيعته (٢) ، قاهرا لأعدائه ، حاميا لذماره ، مانعا لحوزته ، خالطا الرغبة إليه بالرهبة منه ، إنّ ذلك لهو الفتى كلّ الفتى لا يكذب مادحه.
وجعل ابن حيّان من النوادر العجيبة موافقة عبد الرحمن هذا لأبي جعفر المنصور في الرجولية والاستيلاء والصّرامة ، والاجتراء على الكبائر والقساوة ، فإن (٣) أمّ كلّ واحد منهما بربرية. وكان الداخل يقعد للعامّة ، ويسمع منهم ، وينظر بنفسه فيما بينهم ، ويتوصّل إليه من أراده من الناس ، فيصل الضعيف منهم إلى رفع ظلامته إليه دون مشقّة ، وكان من عادته أن يأكل معه من أصحابه من أدرك وقت طعامه ، ومن وافق ذلك من طلاب الحوائج أكل معه.
وفي كتاب ابن زيدون (٤) أنه كان أصهب (٥) ، خفيف العارضين ، بوجهه خال ، طويل القامة ، نحيف الجسم ، له ضفيرتان ، أعور ، أخشم ؛ والأخشم : الذي لا يشمّ ، وكان يلقّب «بصقر قريش» لكونه تغرّب وقطع البرّ والبحر ، وأقام ملكا قد أدبر وحده.
ولمّا ذكر الحجاري أنه أعور قال : ما أنشد فيه إلّا قول امرئ القيس : [المنسرح]
لكن عوير وفى بذمّته |
|
لا عور شانه ولا قصر (٦) |
وقال ابن خلدون : وفي سنة ست وأربعين سار العلاء بن مغيث اليحصبي من إفريقية إلى
__________________
(١) الأحوذي : الذي يسوق الأمور سوقا حسنا لعلمه بها ، أو السريع في كل ما يقوم به.
(٢) في ب : قطعته.
(٣) في ب وأن.
(٤) كتاب ابن زيدون هو «التبيين في خلفاء بني أمية بالأندلس» لأبي الوليد بن زيدون. ولعل هذا الكتاب لابنه أبي بكر. وقد ذكر هذا الكتاب ابن سعيد في تذييله على رسالة ابن حزم في فضل الأندلس.
(٥) الأصهب : الأشقر المائل إلى الحمرة.
(٦) عوير : هو عوير بن شجنة الطائي / وقد أجار ابنة حجر الكندي أخت امرئ القيس فمدحه امرؤ القيس بالوفاء (ديوان امرئ القيس ١٣٣).