قلنسوته ، وخضع نحو مكان القبر ، ودعا ، ثم ردّ قلنسوته إلى رأسه. وأمر المستنصر بإنزال أردون في دار الناعورة ، وقد كان تقدّم في فرشها بضروب الغطاء والوطاء ، وانتهى من ذلك إلى الغاية ، وتوسّع له في الكرامة ولأصحابه ، فأقام بها الخميس والجمعة ، فلمّا كان يوم السبت تقدّم المستنصر بالله باستدعاء أردون ومن معه بعد إقامة الترتيب وتعبية الجيوش والاحتفال في ذلك من العدد والأسلحة والزينة ، وقعد المستنصر بالله على سرير الملك في المجلس الشرقي من مجالس السطح ، وقعد الإخوة وبنوهم والوزراء ونظراؤهم صفّا في المجلس ، فيهم القاضي منذر بن سعيد والحكّام والفقهاء ، فأتى محمد بن القاسم بن طملس (١) بالملك أردون وأصحابه وعالي لبوسه ثوب ديباجي روميّ أبيض ويلبوال من جنسه وفي لونه ، وعلى رأسه قلنسوة رومية منظومة بجوهر ، وقد حفته جماعة من نصارى وجوه الذمّة بالأندلس يؤنسونه ويبصرونه ، فيهم وليد بن حيزون (٢) قاضي النصارى بقرطبة وعبيد الله بن قاسم مطران طليطلة وغيرهما ، فدخل بين صفّي الترتيب يقلّب الطّرف في نظم الصفوف ، ويجيل الفكر في كثرتها وتظاهر أسلحتها ورائق حليتها ، فراعهم ما أبصروه ، وصلّبوا على وجوههم ، وتأمّلوا ناكسي رؤوسهم غاضّين من أجفانهم قد سكّرت أبصارهم (٣) حتى وصلوا إلى باب الأقباء أوّل باب قصر الزهراء ، فترجّل جميع من كان خرج إلى لقائه ، وتقدّم الملك أردون وخاصّة قوامسه على دوابّهم ، حتى انتهوا إلى باب السّدّة ، فأمر القوامس بالترجّل هنالك والمشي على الأقدام ، فترجّلوا.
ودخل الملك أردون وحده راكبا مع محمد بن طملس ، فأنزل في برطل (٤) البهو الأوسط من الأبهاء القبلية التي بدار الجند على كرسي مرتفع مكسوّ الأوصال بالفضة ، وفي هذا المكان بعينه نزل قبله عدوّه ومناوئه شانجه بن ردمير الوافد على الناصر لدين الله ـ رحمه الله تعالى! ـ فقعد أردون على الكرسي ، وقعد أصحابه بين يديه ، وخرج الإذن لأردون الملك من المستنصر بالله بالدخول عليه ، فتقدّم يمشي وأصحابه يتبعونه إلى أن وصل إلى السطح ، فلمّا قابل المجلس الشرقي الذي فيه المستنصر بالله وقف وكشف رأسه وخلع برنسه ، وبقي حاسرا إعظاما لما بان له من الدنو إلى السرير ، واستنهض ، فمضى بين الصّفّين المرتبين في ساحة السطح ،
__________________
(١) محمد بن القاسم بن طملس : كان في أيام الحكم المستنصر يشغل منصب الوزير صاحب الحشم وقد قتل في حروب العدوة سنة ٣٦٢ ه. (المقتبس ص ٩٦).
(٢) في ب : خيزران.
(٣) سكّرت أبصارهم : حارت وارتبكت.
(٤) البرطل مأخوذة عن الاسبانيةportal ومعناها المدخل.