ثم أوطأ عساكره أرض العدوة من المغرب الأقصى والأوسط ، وتلقّى دعوته ملوك زناتة من مغراوة ومكناسة ، فبثّوها في أعمالهم ، وخطبوا بها على منابرهم ، وزاحموا بها دعوة الشّيعة فيما بينهم. ووفد عليه من بني خزر (١) وبني أبي العافية ، فأجزل صلتهم ، وأكرم وفادتهم ، وأحسن منصرفهم ، واستنزل بني إدريس من ملكهم بالعدوة في ناحية الرّيف. وأجازهم البحر إلى قرطبة ، ثم أجلاهم إلى الإسكندرية.
وكان محبّا للعلوم ، مكرّما لأهلها ، جمّاعا للكتب في أنواعها بما لم يجمعه أحد من الملوك قبله ، قال أبو محمد بن حزم : أخبرني تليد الخصيّ ـ وكان على خزانة العلوم والكتب بدار بني مروان ـ أنّ عدد الفهارس التي فيها تسمية الكتب أربع وأربعون فهرسة ، وفي كل فهرسة عشرون (٢) ورقة ، ليس فيها إلّا ذكر أسماء الدواوين لا غير ، وأقام للعلم والعلماء سوقا نافقة (٣) جلبت إليها بضائعه من كل قطر.
قال أبو محمد بن خلدون : ولما وفد (٤) على أبيه أبو علي القالي صاحب كتاب «الأمالي» من بغداد أكرم (٥) مثواه ، وحسنت منزلته عنده ، وأورث أهل الأندلس علمه ، واختصّ بالحكم المستنصر ، واستفاد علمه.
وكان يبعث في الكتب إلى الأقطار رجالا من التجّار ، ويرسل إليهم الأموال لشرائها ، حتى جلب منها إلى الأندلس ما لم يعهدوه. وبعث في كتاب «الأغاني» إلى مصنّفه أبي الفرج الأصفهاني ، وكان نسبه في بني أمية ، وأرسل إليه فيه بألف دينار من الذهب العين ، فبعث إليه بنسخة منه قبل أن يخرجه إلى العراق. وكذلك فعل مع القاضي أبي بكر الأبهري المالكي في شرحه لمختصر ابن عبد الحكم ، وأمثال ذلك. وجمع بداره الحذّاق في صناعة النّسخ والمهرة في الضبط والإجادة في التجليد ، فأوعى (٦) من ذلك كلّه ، واجتمعت بالأندلس خزائن من الكتب لم تكن لأحد من قبله ولا من بعده ، إلّا ما يذكر عن الناصر العباسي بن المستضيء. ولم تزل هذه الكتب بقصر قرطبة إلى أن بيع أكثرها في حصار البربر ، وأمر بإخراجها وبيعها الحاجب واضح من موالي المنصور بن أبي عامر. ونهب ما بقي منها عند دخول البربر قرطبة واقتحامهم إيّاها عنوة ، انتهى كلام ابن خلدون ببعض اختصار.
__________________
(١) في بعض نسخ الكتاب : من بني الحرز. وقد صححناها من ج ٤ / ١٨٧ ط دار الفكر بيروت.
(٢) في الجمهرة : خمسون ورقة.
(٣) يقال : نفقت السوق ، أي راجت.
(٤) في ب : ووفد.
(٥) في ب : فأكرم.
(٦) أوعى : حفظ. وفي القرآن الكريم (جَمَعَ فَأَوْعى).