صددناك عن البيت ، وما قاتلناك ، اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله أهل مكة. فقال صلىاللهعليهوسلم : «اكتب ما يريدون». فهمّ المؤمنون أن يبطشوا بهم ، وكان في نفس المؤمنين أن لا يرجعوا إلّا بأحد الثلاثة بالنحر في المنحر ، وأبوا أن لا يكتبوا محمدا رسول الله ، وبسم الله ، فأنزل الله السكينة عليهم ، فلمّا سكن رسول الله صلىاللهعليهوسلم سكن المؤمنون ، فلمّا فرغ من قضية الكتاب قال صلىاللهعليهوسلم لأصحابه : «قوموا فانحروا ثم احلقوا» (١). فما قام منهم أحد حتى قال ذلك ثلاث مرات لما حصل لهم من الغم. فقام صلىاللهعليهوسلم ودخل على أم سلمة ، فذكر لها ما لقي من الناس من عدم امتثال أمره صلىاللهعليهوسلم فقالت له : يا نبي الله اخرج ولا تكلّم أحدا منهم حتى تنحر بدنك وتدعو حالقك فيحلقك ، فخرج ، ففعل ذلك ، فلما رأوا ذلك منه صلىاللهعليهوسلم قاموا ، فنحروا ، وجعل بعضهم يحلق بعضا ، (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى) أي ألهم الله المؤمنين كلمة الشهادة وهي : «لا إله إلّا الله» حتى لا يلتفتوا إلى ما سوى الله تعالى ، (وَكانُوا أَحَقَّ بِها) أي كانوا أحق بكلمة التوحيد في علم الله تعالى ، (وَأَهْلَها) أي وكانوا متصفين بكلمة التقوى في الدنيا ، لأن الله تعالى اختارهم لصحبة نبيه ، (وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) (٢٦) فيسوق كل شيء إلى مستحقه ، (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِ) أي لقد جعل الله رؤيا رسوله صادقة صدقا ، ولم يجعلها أضغاث أحلام. وقوله : (بِالْحَقِ) إما صفة لمصدر محذوف أي صدقا ، ملتبسا بالحكمة البالغة وهي التمييز بين الراسخ في الإيمان والمتزلزل فيه ، أو حال من «الرؤيا» ، أي ملتبسة بالصدق ليست من نوع أضغاث الأحلام حيث قال النبي صلىاللهعليهوسلم لأصحابه وقت خروجه إلى الحديبية : والله (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ) تعالى (آمِنِينَ) من العدو ، فلا تخافون عدوكم من أن يخرجكم في المستقبل (مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ). فقوله تعالى : (لَتَدْخُلُنَ) إشارة إلى أداء الحج ، و (مُحَلِّقِينَ) إشارة إلى تمام الحج (لا تَخافُونَ) من العدو فيبقى أمنكم بعد خروجكم عن الإحرام ، لأن الإنسان إذا خرج عن الإحرام بالحلق لا يحرم عليه القتال ، وكان عند أهل مكة يحرم قتال من أحرم ومن دخل الحرم ، أي رأى عام الحديبية رسول الله صلىاللهعليهوسلم قبل خروجه إلى الحديبية كأنه وأصحابه قد دخلوا مكة آمنين ، وقد حلقوا رؤوسهم وقصروا فقصّ الرؤيا على أصحابه ، ففرحوا ، وحسبوا أنهم دخلوا مكة في عامهم ، فلمّا خرجوا معه صلىاللهعليهوسلم وصدّهم الكفار
__________________
(١) رواه أبو نعيم في تاريخ أصفهان ، والشجري في الأمالي (١ : ٢٠٥) ، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين (٥ : ٢٠٤) ، والمتقي الهندي في كنز العمال (٢١٣٩) ، وابن ماجة في السنن (١٣٣٣) ، والسيوطي في الحاوي للفتاوي (٢ : ٤٨) ، وابن كثير في التفسير (٧ : ٣٤٢) ، والقرطبي في التفسير (١٦ : ٢٩٣) ، والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (١ : ٣٤١) ، والعقيلي في الضعفاء (١ : ١٧٦) ، وابن العراقي في تنزيه الشريعة (٢ : ١٠٦) ، والعجلوني في كشف الخفا (٢ : ٣٧٨) ، وعلي القاري في الأسرار المرفوعة ٣٥٧ ، والفتني في تذكرة الموضوعات ٤٨ ، والشوكاني في الفوائد المجموعة ٣٥ ، والسيوطي في اللئالئ المصنوعة (٢ : ١٧) ، وابن الجوزي في الموضوعات (٢ : ١٠٩) ، وابن القيسراني في تذكرة الموضوعات ٨٧٦.