الفلوات شبيها بالماء الجاري ، وليس بماء ولكن الذي ينظر إليه من بعيد يظنه ماء جاريا. وقيل : هو لمعان الشمس على الفلوات يظن أنه ماء يجري. (يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ) أي ويقصد الظمآن ما ظنه ماء ولا يزال جائيا إليه حتى إذا جاءه (لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً) أصلا ، كما كان يراه من قبل. فالكافر الذي يأتي بأعمال البر ، كصلة الرحم وسقاية الحاج ، وعمارة الكعبة ، وقرة الأضياف ، وإغاثة الملهوفين يعتقد أن له ثوابا عند الله ، فإذا مات ووافى عرصات القيامة لم يجد الثواب الذي كان يظنه ، بل وجد العقاب العظيم ، فعظمت حسرته ، وتناهى غمّه. فيشبه حاله حال العطشان الذي اشتدت حاجته إلى الماء ، فإذا شاهد السراب ، تعلق قلبه به ويقوى طعمه فإذا جاءه أيس مما كان يرجوه فيعظم ذلك عليه. (وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ) أي وجدوا حكم الله عند المجيء يوم القيامة أو وجد الله بالمرصاد عليه (فَوَفَّاهُ حِسابَهُ) أي أعطاه جزاء عمله كاملا بالعقاب ، فتغير ظن النفع العظيم إلى تيقن الضرر العظيم وإفراد الضمير الراجع إلى الذين كفروا لإرادة الجنس ، أو لإرادة كل واحد منهم. وقد قيل : نزلت هذه الآية في شأن عتبة بن ربيعة بن أمية كان قد تعبّد في الجاهلية ، ولبس المسوح ، والتمس الدين فلما جاء الإسلام كفر. (وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ) (٣٩) لأنه عالم بجميع المعلومات فلا يشق عليه الحساب (أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ).
وروي عن ابن كثير أنه قرأ «سحاب» و «ظلمات» بالجر على البدل من «ظلمات» كقراءة قنبل بتنوين «سحاب» وبجر «ظلمات» بجعلها بدلا من «ظلمات» الأولى. وروي عن ابن كثير أيضا على إضافة «سحاب» كقراءة البزي بجعل الموج المتراكم بمنزلة السحاب. وقرأ الباقون «سحاب» و «ظلمات» كلاهما بالرفع والتنوين و «يغشاه» صفة ثانية لـ «بحر» ، وجملة «من فوقه موج من» مبتدأ وخبر صفة لـ «موج» وجملة «من فوقه سحاب» صفة لـ «موج» الثاني و «ظلمات» خبر مبتدأ محذوف وقوله : (أَوْ كَظُلُماتٍ) عطف على كـ «سراب» وأو للتقسيم أي إن عمل الكافر قسمان قسم كالسراب وهو العمل الحسن وقسم كالظلمات وهو العمل القبيح : والمعنى. أو الذين كفروا أعمالهم القبيحة كظلمات كائنة في بحر عميق يعلوه موج كائن ، من فوقه موج كائن من فوق ذلك الموج سحاب ستر ضوء النجوم. وما تقدم ذكره ظلمات متراكمة ، وهي ظلمة البحر ، وظلمة الموج الأول ، وظلمة الموج الثاني ، وظلمة السحاب. وهذا بيان لكمال شدة الظلمات. كما أن قوله تعالى : (نُورٌ عَلى نُورٍ) بيان لغاية قوة النور ، إلا أن ذلك متعلق بالمشبه ، وهذا بالمشبه به (إِذا أَخْرَجَ) أي من في هذه الظلمات (يَدَهُ) لينظر إليها (لَمْ يَكَدْ يَراها) أي لم يقارب أن يراها ولم يحصل له رؤيتها مع أنها قريبة من عينه (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) (٤٠) أي ومن لم يشأ الله أن يهديه لنوره الذي هو القرآن ولم يوفقه للإيمان به فما له هداية أصلا من أحد (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ) أي قد علمت يا