على الغيوب الكثيرة في الماضي والمستقبل ، ولأن العلوم الموجودة فيه كثيرة جدا ، (كِتاباً مُتَشابِهاً) أي يشبه بعضه بعضا ـ كما قاله ابن عباس ـ فإن كل ما فيه من الآيات يقوي بعضها بعضا. والمقصود منها بأسرها الدعوى إلى الدين وتقرير عظمة الله ، (مَثانِيَ) فإنه أكثر الأشياء المذكورة وقعت زوجين زوجين : آية الرحمة والعذاب ، وآية الوعد والوعيد ، وآية الأمر والنهي ، وآية القصص والأحكام وغير ذلك. (تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ) فإن الإنسان إذا تأمل في الدلائل الدالة على أنه يجب تنزيه الله عن التحيز والجهة فههنا يقشعر جلده ، لأن إثبات موجود لا داخل العالم ولا خارج عنه ، ولا متصل بالعالم ، ولا منفصل عنه مما يصعب تصوره فههنا تقشعر الجلود ، وإذا تأمل في الدلائل الدالة على أنه يجب أن يكون الله تعالى فردا أحدا ، وثبت أن كل متحيز منقسم فههنا يلين جلده وقلبه إلى ذكر الله ، و «عدي» و «تلين» بـ «إلى» ، لأن تقدير الكلام : تلين جلودهم وقلوبهم حال وصولها إلى حضرة الله ، وهو لا يحسن بالإدراك ويقال : إنهم إذا سمعوا القرآن وذكر آيات العذاب أصابتهم خشية أو ذكر آيات الرحمة اطمأنت جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله وإنما قال الله إلى ذكر الله ، ولم يقل إلى ذكر رحمة الله ، لأن المحب المحق الذي في الدرجة العالية هو من أحب الله لا لشيء سواه ، وأما من أحب الله لأجل رحمته ، فهو ما أحب الله وإنما أحب شيئا غيره (ذلِكَ) أي الكتاب الذي هو أحسن الحديث (هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ) وهو الذي شرح صدره لقبول هذه الهداية ، (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ) أي ومن جعل الله قلبه قاسيا مظلما بليد الفهم ، منافيا لقبول هذه الهداية (فَما لَهُ مِنْ هادٍ) (٢٣) ، يخلصه من ورطة الضلال.
وقرأ ابن كثير بإثبات الياء في الوقف. (أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) (٢٤)! والهمزة للاستفهام الإنكاري ، والفاء عاطفة على جملة مقدر ، و «من» اسم موصول مبتدأ وخبره محذوف. وقيل : معطوف على «يتقي». وتقدير الكلام : أكل الناس سواء فمن يجعل وجهه قائما مقام الدرقة يقي به وجهه العذاب الشديد يوم القيامة وتقول لهم خزنة النار : ذوقوا عذاب ما كنتم تكسبونه في الدنيا ، كمن هو آمن من العذاب! قيل : يلقى الكافر في النار مغلوبة يداه إلى عنقه ، وفي عنقه صخرة من كبريت مثل الجبل العظيم فتشتعل النار فيها وهي في عنقه فحرها على وجهه لا يطيق دفعها عنه للأغلال التي في يديه وعنقه. قيل : نزلت هذه الآية في حق أبي جهل وأصحابه. (كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي قبل قومك من الأمم السالفة ، (فَأَتاهُمُ الْعَذابُ) المقدر لكل أمة منهم (مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ) (٢٥) ، أي من الجهة التي لا يحتسبون ، ولا يخطر ببالهم أن الشر يأتيهم منها بينما هم آمنون إذ أتاهم العذاب من الجهة التي توقعوا الأمن منها ، (فَأَذاقَهُمُ اللهُ الْخِزْيَ) أي الذل (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ) ، أي فالعذاب المدخر لهم في يوم القيامة أعظم من ذلك الذي وقع ، (لَوْ كانُوا