حكم المؤاخذة به ليس لخلوه عن الذنب في نفسه بل لسعة المغفرة الربانية (هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ) أي هو تعالى أعلم بأحوالكم يعلمها حين ابتدأ خلقكم من تراب ، فإن كل واحد أصله من التراب فإنه يصير غذاء ، ثم يصير دما ، ثم يصير نطفة وحين صوّركم في الأرحام. وهذا تنبيه على كمال العلم والقدرة فإن بطن الأم في غاية الظلمة ومن علم بحال الجنين في بطن الأم لا يخفى عليه ما ظهر من حال العباد (اتَّقى) (٣٢) أي إذا كان الأمر كذلك فلا تثنوا على أنفسكم بالطهارة عن المعاصي بالكلية على سبيل الإعجاب أو الرياء ولا تقولوا لمن لا تعرفون حقيقته نحن خير منك ، ولا تقطعوا أيها المؤمنون بخلاصكم من العذاب فإن الله أعلم بمن أطاع وأخلص العمل ، أما على سبيل الاعتراف بالنعمة فجائز ، وذلك بأن أعتقد أن ما عمله من الأعمال الصالحة بتوفيق الله ولم يقصد بذلك الاعتراف بالمدح. وهذا لم يكن من المزكين أنفسهم ، فإن المسرة بالطاعة طاعة ، وذكرها شكر (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (٣٣) وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى) (٣٤) أي أفرأيت الذي أدبر عن الإيمان وأعطى شيئا قليلا من المال المسمى وقطع العطاء. قيل : نزلت هذه الآية في الوليد بن المغيرة كان يجلس عند النبي صلىاللهعليهوسلم وسمع وعظه وأثرت الحكمة فيه تأثيرا قويا : فقال له رجل من المشركين لم تركت دين آبائك؟ فقال : أخشى عذاب الله. فقال له : لا تخف وأعطني كذا ، وأنا أتحمل عنك العذاب ، فتولى الوليد عن الوعظ وسماع الكلام من النبي صلىاللهعليهوسلم وأعطاه الوليد بعض المشروط وبخل بالباقي فلا يبقى بالعهد ولا يحصل بذلك حمل الوزر ، (أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى) (٣٥) أي أعنده علم بالأمور الغيبية فهو يعلم أن صاحبه يتحمل عنه ذنوبه يوم القيامة (أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى (٣٦) وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى (٣٧) أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) (٣٨) أي بل لم يخبر بالخبر الذي كان في التوراة وفي صحف إبراهيم الذي بالغ في الوفاء بما عاهد الله تعالى أنه لا تحمل نفس حمل نفس أخرى ، أي أنه لا يؤاخذ أحد بذنب غيره. وعن ابن عباس قال : كانوا قبل إبراهيم يأخذون الرجل بذنب غيره ، فكان أهل المقتول إذا ظفروا بأبي القاتل أو ابنه ، أو أخيه أو عمه ، أو خاله قتلوه حتى نهاهم إبراهيم عن ذلك وبلغهم عن الله أن لا تزر وازرة وزر أخرى ، (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) (٣٩) أي وأنه ليس الإنسان يوم القيامة إلّا ما عمل في الدنيا من خير وشر ، فإن حسنة الغير لا تفيد نفعا وإن المسيء لا يجد حسنة الغير ثوابا ولا يتحمل عنه أحد عقابا ، (وَأَنَّ سَعْيَهُ) أي عمله من خير وشر (سَوْفَ يُرى) (٤٠) أي يعرض عليه ويكشف له يوم القيامة في ديوانه وميزانه ، (ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى) (٤١) ثم يجزي الإنسان سعيه بالجزاء الأتم. (وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى) (٤٢) أي المرجع بعد الموت ، وعند ذلك يجازي الرب الشكور ويجزي الكفور ، والقراءة المشهورة فتح الهمزة على العطف على ما ، فهذا في الصحف أيضا وهو الحق ، فالمخاطب به موسى وإبراهيم على التوزيع. وقرئ بالكسر على الابتداء ، فالمخاطب بهذا إما عام وهو كل سامع فهو تهديد للمسيء وحث للمحسن ، أو خاص وهو