وقال الرازي : والظاهر أن المعنى ارتفع محمد بالمكان وهو بالمكان الأعلى رتبة في رفعة القدر ، لا حقيقة في الحصول في المكان ، فإنه صلىاللهعليهوسلم بلغ الغاية وصار نبيا وهو واصل إلى الأفق الأعلى الفارق بين المنزلتين ، (ثُمَّ دَنا) أي بعد ما مدّ جبريل جناحه وهو بالأفق الأعلى عاد إلى الصورة التي كان يعتاد النزول عليها ، وقرب من النبي صلىاللهعليهوسلم (فَتَدَلَّى) (٨) أي فنزل من الأفق الأعلى إلى النبي صلىاللهعليهوسلم ، فضمه إلى نفسه وجعل يمسح الغبار عن وجهه حتى أفاق وسكن روعه صلىاللهعليهوسلم ، ويقال : دنا جبريل من النبي فبقي متدليا من الهواء واقفا بين السماء والأرض ، فإن التدلي هو التعلق من الهواء ، (فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى) (٩) أي فكان مقدار جبريل والنبي مقدار قوسين ، بل أقرب من ذلك بنصف قوس ، (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) (١٠) ، أي فأوحى الله إلى جبريل ما أوحى جبريل إلى كل رسول ، فإن جبريل أمين لم يخن في شيء مما أوحي إليه. (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) (١١) أي صدق فؤاد محمد فيما رأى شيئا من صورة جبريل ، ومن الله تعالى ليلة المعراج ، ومن الآيات العجيبة الإلهية أي إن قلبه صلىاللهعليهوسلم لم يقل إن المرئي خيال لا حقيقة له ، ولم يقل : إنه جني أو شيطان ، ويحتمل أن يقال : لم يكذب جنس الفؤاد ما رأى صلىاللهعليهوسلم ببصره بأن يقول كيف يرى الله وهو ليس في مكان ولا جهة ، وليس على هيئة ، أو كيف يرى جبريل مع أنه ألطف من الهواء ، والهواء لا يرى ، فرؤية الله تعالى رؤية جبريل على ما رآه محمد صلىاللهعليهوسلم جائزة عند من له قلب ، فالفؤاد لا ينكر ذلك وإن كانت النفس المتوهمة تنكره.
وقرأ هشام «ما كذب» بالتشديد ، أي إن ما رآه محمد بعينه صدقه بقلبه ، أي ما قال فؤاده لما رآه بصره لم أعرفك ، و «ما» مفعول به موصولة ، والعائد محذوف ، وكذا قيل في قراءة التخفيف. وقيل فيه على إسقاط الخافض أي فيما رآه (أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى) (١٢) أي أفتجادلونه يا معشر المشركين على ما قد رأى وقرأ الأخوان «أفتمرونه» بفتح التاء وسكون الميم ، أي أفتنكرونه. وقرأ عبد الله بن مسعود والشعبي بضم التاء وسكون الميم أي أفتجدونه شاكا فيما رأى ، (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (١٣) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى) (١٤) أي وبالله لقد رأى محمد جبريل على صورته الحقيقة مرة أخرى عند شجرة نبق في السماء السابعة عن يمين العرش ، وهو موضع لا يتعداه ملك ولا روح من الأرواح.
قال مقاتل : وهي شجرة تحمل الحلي والحلل والثمار من جميع الألوان ، لو وضعت ورقة منها في الأرض لأضاءت لأهلها ، وهي شجرة طوبى (عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى) (١٥) أي الجنة التي يأوي إليها المتقون وأرواح الشهداء (إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى) (١٦) ، و «إذ» ظرف لـ «رآه» ، أي ولقد رآه عند السدرة وقت علاها ما علاها من فراش من ذهب ، أو من ملائكة يأتونها كأنها طيور ، أو من أنوار الله تعالى ، لأن النبي صلىاللهعليهوسلم لما وصل إليها تجلى ربه لها ، وظهرت الأنوار ، (ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى) (١٧) أي ما التفت محمد إلى الجراد ولا إلى غيره ، وما جاوز إلى ما سوى الله تعالى ، أو ما