قال ابن عباس : بنوا حائطا من حجر طوله في السماء ثلاثون ذراعا وعرضه عشرون ذراعا ، وملئوه نارا ، فطرحوا سيدنا إبراهيم فيها (فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً) أي شرا حرقا بالنار ، (فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ) (٩٨) أي الأذلين بإبطال كيدهم بجعل النار عليه بردا وسلاما ، أي أن إبراهيم عليهالسلام في وقت المحاجة حصلت الغلبة له وعند ما ألقوه في النار صرف الله عنه ضرر النار فصار هو الغالب عليهم. (وَقالَ) إبراهيم لما انقضت هذه الواقعة : (إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي) أي إلى مواضع دين ربي وهي أرض الشام. فالمراد بالذهاب إلى الرب هو الهجرة من الديار ، (سَيَهْدِينِ) (٩٩) إلى ما فيه صلاح ديني ، فلما هاجر إلى الأرض المقدسة أراد الولد فقال : (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ) (١٠٠) أي ولدا من المرسلين ، فاستجبنا له ، (فَبَشَّرْناهُ) على لسان الملائكة (بِغُلامٍ) ، أي بولد ذكر (حَلِيمٍ) (١٠١) ، أي ذي حلم كثير وهو إسماعيل عليهالسلام (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ) أي فوهبنا له فنشأ ، فلما بلغ رتبة أن يسعى معه في أشغاله وحوائجه. (قالَ) إبراهيم لإسماعيل عليهماالسلام (يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ) أي إني أرى في المنام ما يوجب أن أذبحك في اليقظة.
روي أن إبراهيم رأى ليلة التروية في منامه كأن قائلا يقول له : إن الله يأمرك بذبح ابنك هذا ، فلما أصبح تروى في ذلك من الصباح إلى الرواح ، أمن الله هذا الحلم أم من الشيطان فمن ثمّ سمي يوم التروية ، فلما أمسى رأى مثل ذلك فعرف أنه من الله ، فسمي يوم عرفة ، ثم رأى مثله في الليلة الثالثة فهمّ بنحره فسمي يوم النحر. (فَانْظُرْ ما ذا تَرى) بفتح التاء والراء أي أيّ شيء تشير إلي برأيك.
وقرأ حمزة والكسائي بضم التاء وكسر الراء ، أي أيّ الذي ترى من نفسك الصبر والتسليم.
وقرئ مبنيا للمفعول أي ما تظن ذلك الرؤيا. (قالَ) أي ذلك الغلام : (يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ) أي ما أمرت به ، (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) (١٠٢) على قضاء الله وعلى الذبح (فَلَمَّا أَسْلَما) أي انقادا لأمر الله تعالى واتفقا. وقال قتادة : أسلم إبراهيم ابنه وإسماعيل نفسه (وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) (١٠٣) أي أضجعه على جنبه ، وجواب «لما» محذوف ، أي نادته الملائكة من الجبل : يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا.
حكي أن إبراهيم لما أراد ذبحه قال : يا بني خذ الحبل والمدية وانطلق بنا إلى الشعب نحتطب ، فلما توسطا شعب ثبير أخبره بما أمر به فقال : يا أبت اشدد رباطي في كي لا أضطرب ، واكفف عني ثيابك كي لا ينضح عليها شيء من دمي فتراه أمي فتحزن ، واستحد شفرتك ، وأسرع إمرارها على حلقي ليكون أهون علي ، فإن الموت شديد ، واقرأ على أمي سلامي. وإن رأيت أن ترد قميصي على أمي فافعل فإنه عسى أن يكون أسهل لها. فقال إبراهيم عليهالسلام : نعم العون أنت يا بني على أمر الله ، ثم أقبل عليه يقلبه وقد ربطه ، وهما يبكيان ، ثم وضع السكين على حلقه ، فلم تؤثر شيئا فقال الابن : كبني على وجهي فإنك إذا نظرت وجهي رحمتني وأدركتك رقة