وكل قصة من هذه القصص ذكر مستقل متجدد النزول ، قد أتاهم من الله تعالى ، وما كان أكثرهم مؤمنين بعد ما سمعوها على التفصيل قصة بعد قصة بأن لا يعتبروا بما في كل واحدة منها من الدواعي إلى الإيمان ، والزواجر عن الكفر والطغيان وبأن لا يتأملوا في شأن الآيات الكريمة الناطقة بتلك القصص على ما هي عليه مع علمهم بأنه صلىاللهعليهوسلم لم يسمع شيئا منها من أحد أصلا ، وصاروا كأنهم لم يسمعوا شيئا يزجرهم عن الكفر والضلال واستمروا على ذلك (وَإِنَّهُ) أي القرآن الذي من جملته هذه القصص (لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ) (١٩٢) أي منزل من خالق المخلوقين فليس بشعر ولا أساطير الأولين ، ولا غير ذلك مما قالوه فيه (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ) (١٩٣).
قرأ نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، وحفص بتخفيف «الزاي» ، ورفع «الروح». والباقون بتشديد «الزاي» ونصب «الروح» ، وذكر الله تعالى دليل التنزيل بقوله تعالى : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ) إلخ ، فالروح : هو جبريل عليهالسلام سمي بالروح ، لأنه به نجاة الخلق في باب الدين ، فهو كالروح الذي تثبت معه الحياة. وبالأمين ، لأنه مؤتمن على ما يؤديه إلى الأنبياء عليهمالسلام ، (عَلى قَلْبِكَ) أي جعل الله تعالى جبريل نازلا بالقرآن على قدر حفظك أي فهمك القرآن وأثبته في قلبك إثبات ما لا ينسى. وهذا تنبيه على نبوة محمد صلىاللهعليهوسلم وعلى أن الإخبار عن هذه القصص ممن لم يتعلمها لا يكون إلا وحيا من الله تعالى (لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (١٩٤) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) (١٩٥) أي أنزل الله تعالى بالقرآن لتنذرهم بما فيه من العقوبات الهائلة ، وكان إنزاله بلغة عربية واضحة المعنى لئلا يبقى لهم عذر ما له منه مناص لو نزله باللسان الأعجمي لقالوا له صلىاللهعليهوسلم : ما نصنع بما لا نفهمه فيتعذر الإنذار به وقوله : (لِتَكُونَ) متعلق بنزل. وكذا قوله : (بِلِسانٍ) ويجوز أن يكون بدلا من به ، وأما جعله متعلقا بالمنذرين فيفيد أن غاية الإنزال كونه لله من جملة المنذرين باللغة العربية فقط. وهذا لا ينبغي فإن سبب كونه صلىاللهعليهوسلم من جملة المنذرين مجرد إنزال القرآن عليه صلىاللهعليهوسلم لا إنزاله بخصوص اللسان العربي والذين أنذروا باللسان العربي خمسة فقط محمد وإسماعيل ، وهود ، وصالح ، وشعيب عليهم الصلاة والسلام (وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ) (١٩٦) أي وإن معنى القرآن وصفته لفي الكتب المتقدمة ، فإن الله تعالى أخبر في كتب الأولين عن القرآن وإنزاله في آخر الزمان والله تعالى بين أصول معانيه في كتبهم (أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ) (١٩٧) ، أي أغفل أهل مكة عن القرآن ولم يكن لهم آية دالة على أنه تنزل من رب العالمين ، وأنه في زبر الأولين أن يعرفه علماء بني إسرائيل بنعوته المذكورة في كتبهم ، ويعرفوا من أنزل عليه ، وكانوا خمسة : أسد ، وأسد ، وابن يامين ، وثعلبة ، وعبد الله بن سلام فهؤلاء الخمسة من علماء اليهود وقد حسن إسلامهم.
قال ابن عباس : بعث أهل مكة إلى اليهود بالمدينة فسألوهم عن محمد صلىاللهعليهوسلم فقالوا : إن هذا لزمانه وإنا لنجد نعته في التوراة ، فكان ذلك آية على صدقه صلىاللهعليهوسلم.