مطارح الأنظار

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني

مطارح الأنظار

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني


المحقق: علي الفاضلي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: معهد الإمام الخميني والثورة الإسلامية
المطبعة: مؤسسة العروج
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7986-36-6
الصفحات: ٦١٥

وكاشفا عنه ، فلا بدّ من طرح ما يخالفه ، أو تأويله إلى ما لا ينافيه بتصرّف في صغرى القضية أو في كبراها.

وأمّا تفصيلا ، فنقول : أمّا فتوى غير واحد من العلماء بصحّة صلاة المقتدي في الصورة المفروضة [ فـ ] ـلعلّها مبنية على أنّ الطهارة ليست من الشروط الواقعية بل هي من الشروط العلمية ولو بأحد الأسباب الشرعية كالاستصحاب مثلا.

وأمّا حديث الشبهة المحصورة ، فواضح السقوط ؛ لعدم كونه من موارد النقض ؛ لأنّ العلم التفصيلي إنّما يحصل بعد الارتكاب ، والانتقاض إنّما هو فيما لو ارتكبها دفعة ولا قائل به ، ومن هنا يظهر عدم الانتقاض فيما لو اقتدى شخص ثالث بكلّ منهما في الفرض السابق في صلاتين ؛ فإنّ العلم بالفساد يحصل بعد الاقتداء ، فلا يصلح نقضا ، ولو فرض أحد (١) من العلماء قال [ بـ ] ـجواز الارتكاب في الشبهة المحصورة دفعة واحدة ، فلعلّه مبني على عدم تسليمه الوجوب في الاجتناب عن مطلق النجس ولو في مفروض المسألة.

وأمّا ما هو المنقول عن الشيخ ، فيمكن حمل كلامه على التخيير ولو في مرحلة الظاهر كما صرّح به المحقّقون ، وبهذا يندفع ما قد يورد عليه ، والتعرّض له يوجب الخروج عن الوظيفة.

وأمّا كلام العلاّمة ، فلم نقف له على وجه صحيح إلاّ ما قد يتخيّل من حمل كلامه على خصوص الموارد التي لا يلزم من فرق القولين فرق عمل (٢) الفريقين كما لو اختلف الأمّة على قولين في وجوب شيء وحرمته ، فالرجوع إلى الإباحة ـ كما هو مقتضى الأصل ـ لا ينافي عمل الفريقين في صورتي الترك والفعل ؛ لتوافقه في الحالتين أحد القولين.

نعم ، هو مخالف لهما في مجرّد الفتوى ، ولا ضير فيه بادّعاء عدم شمول ما دلّ على

__________________

(١) « ش » : أحدا.

(٢) في هامش « ل ، خ ل » : خرق.

٤١

عدم جواز الإفتاء (١) بغير ما أنزل الله به في المقام.

وأمّا إذا كان القول بالفصل ينافي القولين في العمل أيضا كأن يفتي المجتهد مثلا في الظهر والجمعة بعدم وجوبه ، فالأدلّة الناهية عن الفتوى بغير ما أنزل الله به قائمة فيه ، ولا يجوز قطعا ، ويحتمل حمل كلامه على جوازه فيما لو كان أحدهما موافقا للأصل وإن كان بعيدا في الغاية ، وغريبا في النهاية.

وأمّا ما ذكروه في كتاب الصلح ، فهو لو اقتضى ما ذكر ، فلا بدّ من القول بالصلح القهري بينهما بمعنى أنّ الشارع قد تعبّدنا بالحكم بالتنصيف بينهما على وجه يكون ذلك سببا لإدخال ملك الغير في ملكه حسما لمادّة النزاع ؛ ومن هنا يظهر الوجه في مسائل التداعي أيضا.

وأمّا مسألة التحالف ، فإن قلنا بأنّ التحالف يوجب فسخ العقد ، فالأمر واضح لكنّه شاذّ جدّا ، وإلاّ فلا بدّ من أن يكون التصرّف فيه من جهة التقاصّ إلاّ أنّه يشكل فيما يزيد قيمة الثمن أو المثمن عن الآخر ؛ فإنّ قضيّة التقاصّ جواز التصرّف في ملك (٢) الغير على قدر ماله لا فيما يزيد عليه.

فنقول حينئذ : إن قام الإجماع على إمضاء الشارع تصرّف أحدهما في مال الآخر مطلقا ، فلا إشكال أيضا ؛ لجواز أن يجعل الشارع ما يزيد عوضا عمّا ينقص ؛ لحكمة تقتضيه ، وإلاّ فلا بدّ من القول بوجوب الدّس في ماله على ما يزيد عن (٣) ماله.

وإذا عرفت ما تقدّم من الأمرين ، فاعلم أنّ المخالفة القطعية في العلم الإجمالي على قسمين :

أحدهما : أن يخالف ما علم استقرار فتواهم عليه وإن لم يلازم المخالفة في العمل على حذو ما قرّره فيما نقل عن العلاّمة من جواز الخرق في الإجماع المركّب ، ولا فرق

__________________

(١) « ل » : الإنشاء؟

(٢) « ش » : مال.

(٣) « ل » : في.

٤٢

في ذلك بين أن يكون الواجب تعبّديا أو توصّليا إلاّ من جهة قصد القربة المعتبرة (١) في الأوّل دون الثاني ، ففي المقام لو قصد القربة في فعله ، يوافق في (٢) العمل القائل بالوجوب (٣) ، وإلاّ فيوافق القول بالحرمة مطلقا على ما مرّ فرضه.

والثاني : أن يخالفه من حين العمل أيضا كما فيما لو اختلف الأمّة على قولين في وجوب الظهر والجمعة ، فالقول بعدم وجوبهما جميعا (٤) مخالف لما علم إجمالا من (٥) وجوب أحدهما حتّى في العمل ، وكذا القول بعدم وجوب الصلاة لا قصرا ولا تماما في أربعة فراسخ ، وكلاّ من القسمين تارة يلاحظ بالنسبة إلى الموضوع الخارجي ، وأخرى بالنسبة إلى الحكم الشرعي ، فهاهنا أقسام أربعة لا بدّ لنا من بيانها :

القسم (٦) الأوّل : يجوز المخالفة القطعية في الفتوى فقط في الموضوعات الخارجية مع موافقة العمل لأحد طرفي العلم الإجمالي إجماعا (٧) على ما ادّعاه أستادنا المرتضى ، وأمثلته كثيرة في الفقه جدّا.

منها : لو شكّ في مائع معلوم هل هو ماء أو بول؟ فلو توضّأ منه ، يحكم بطهارة بدنه وبقاء حدثه مع العلم إجمالا بتلازم الطهارة ورفع الحدث في الواقع وجودا وعدما لكنّ العمل ليس بخارج عنه كما لا يخفى.

ومنها : لو (٨) أقرّ واحد بأخوة الآخر أو بزوجية امرأة ، وأنكر الآخر والزوجة أخوّته وزوجيته ؛ فإنّه يؤخذ بإقراره فيهما دونهما مع أنّ العلم الإجمالي يخالفه.

ومنها : تعارض الاستصحابين فيما لم يكن أحدهما مزيلا ، والآخر مزالا.

__________________

(١) « ش » : المعتبر.

(٢) « ل » : ـ في.

(٣) « ل » : للوجوب.

(٤) المثبت من « ل » و « خ ل » بهامش « ش » وفي « ش » : وجوب جميعهما.

(٥) « ل » : عن.

(٦) لم يرد « القسم » في « ش » وكذا في الموارد الآتية.

(٧) « ل » : ـ إجماعا.

(٨) « ش » : ما لو.

٤٣

القسم الثاني : هل يجوز المخالفة العملية في الموضوعات أو لا؟ فيه تفصيل بين ما يلزم من المخالفة طرح خطاب تفصيلي يتوجّه إلى المخاطب ، فلا يجوز ؛ للزوم الإطاعة شرعا وعقلا بعد التكليف ، وبين ما لا يلزم ، فيجوز.

و (١) من أمثلة الأوّل الشبهة المحصورة كما إذا علمنا بنجاسة أحد الإناءين إجمالا ؛ فإنّ قضيّة النهي عن استعمال النجاسة الظاهرة في الواقعية منها لزوم (٢) الاجتناب ، فيحرم المخالفة القطعية ، فيجب الموافقة القطعية ؛ فإنّ بعد ما فرض من (٣) أنّ المطلوب الاجتناب عن النجاسة الواقعية المشتبهة في الخارج ، فلا ريب في وجوب الاجتناب عن أطراف الشبهة بتمامها ، وإلاّ فلا بدّ من القول بجواز الارتكاب مطلقا ، أو فيما سوى مقدار المحرّم ، فظهر أنّ القول بحرمة المخالفة القطعية يلازم القول بوجوب الموافقة القطعية في المقام ، والمنكر مكابر.

ومن أمثلته لو جهل جهة القبلة ، فلا بدّ من الإتيان بالصلاة مكرّرا على الجهات على حسب ما يقتضيه الجهل فيها ، وإلاّ فيلزم طرح خطاب تفصيلي يدلّ على وجوب الصلاة على جهة القبلة الواقعية.

ومن الأمثلة ممّا لو علم بأنّ الموجود المعلوم إمّا خمر أو بول ، فمقتضى لزوم الاجتناب عن النجس لزومه فيه.

ومن الأمثلة ما لو تزوّج أحد امرأة واشترى أمة ، فعلم حريّة الأمة أو مرضعية الزوجة ، فيلزم الاجتناب عنهما في لوازمهما ؛ لئلاّ يلزم طرح خطاب تفصيلي متوجّه إليه وهو قوله تعالى : ( فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ )(٤) فإنّ المفروض في صورة عدم الاجتناب القطع بأنّه مقدم على الابتغاء بما وراء ما ذكره في صدر الآية ، فلا بدّ من الاجتناب.

__________________

(١) « ل » : ـ و.

(٢) « ش » : للزوم.

(٣) « ل » : ـ من.

(٤) المؤمنون : ٧ ؛ المعارج : ٣١.

٤٤

فظهر أنّ المناط في الجواز وعدمه لزوم طرح الخطاب تفصيلا لا كون طرفي العلم الإجمالي من الأمور المتجانسة كما تخيّله صاحب الحدائق (١) ، وبنى عليه في الردّ على صاحب المدارك (٢) حيث استدلّ الأخير على عدم لزوم الاجتناب في الشبهة المحصورة مطلقا بأنّه لو كان واجبا ، لوجب الاجتناب أيضا لو علم بوقوع نجاسة من الميزاب مثلا ، وشكّ في أنّه وقع في الثوب أو القدح ؛ فإنّه أيضا شبهة محصورة ، واللازم باطل ؛ لوضوح عدم لزوم الاجتناب عن مثله ، فكذا الملزوم ولو كان من غير الفرض ؛ لعدم تعقّل الفرق بين الأقسام ، فأورد عليه الأوّل بإحداث الفرق وإبداء الفارق بين المفروض وغيره بأنّ طرفي الشبهة فيه ليسا (٣) بمتجانسين ، فلا يتمّ التقريب ، وعلى ما قلنا يظهر الوجه في ضعف الدليل والإيراد كليهما.

وقد يوجّه كلام صاحب الحدائق بوجه يرجع إلى ما بنينا عليه كأن يقال إنّ مراده أنّ مرجع لزوم الاجتناب عن الأرض النجسة إلى النهي عن الصلاة فيها بخلاف لزوم الاجتناب عن القدح ، فإنّه ينحلّ إلى النهي عن شربه مثلا ، فالخطابان مختلفان لا يعلم مخالفة أحدهما تفصيلا كما في الفرض الأوّل ، فالأصل براءة الذمّة عنهما معا مع عدم المعارض على ما ستعرفه إن شاء الله إلاّ أنّه لا يخفى ما فيه أيضا ، فإنّ تحليل الخطاب إلى ما ذكر يوجب التفصيل في المتجانسين أيضا في بعض الأحوال كما إذا كان هناك قدحان أحدهما من جنس المأكول ، والآخر من جنس المشروب ، فإنّ الاجتناب عن كلّ منهما في ظرف التحليل يرجع إلى (٤) النهي عن أكله وشربه ، ومثل ذلك لا يلتزم به أحد لا هو ولا غيره ، فتأمّل.

هذا تمام الكلام فيما يلزم عند عدم الاجتناب طرح خطاب تفصيلي ، وأمّا إذا لم

__________________

(١) الحدائق ١ : ٥١٧ ، وسيأتي عنه وعن المدارك أيضا في البراءة ٤٧٢.

(٢) مدارك الأحكام ١ : ١٠٨.

(٣) « ل » : ليس.

(٤) « ل » : عن.

٤٥

يلزم ، فلا يجب الاجتناب وإن لزم العلم بمخالفة أحد الخطابين ـ لو لم يجتنب ـ إجمالا في كلتا الواقعتين للأصل السالم عن معارضة خطاب تفصيلي ، والعلم بمخالفة أحد الخطابين إجمالا لم يعلم تأثيره في قطع الأصل ؛ لعدم الدليل عليه ، فالأصل عدم انقطاعه به (١).

ومن أمثلته لو اشترى دارا وتزوّج امرأة ، ثمّ علم إجمالا أنّ أحد العقدين فاسد إمّا لأنّ الزوجة مرضعة له ، أو أنّ الدار وقف على الفقراء والمساكين ، ولا فرق في ذلك بين علمه بذلك قبل الإقدام أو بعده بإحدى الواقعتين.

لا يقال : إنّ قضيّة تعليق (٢) أدلّة البراءة موردها بحصول العلم عدم جريانها عند حصوله مطلقا إجماليا كان أو تفصيليا كما في الشبهة المحصورة ، فلا وجه للاستناد إليها في مثل المقام.

لأنّا نقول : مرجع العلم الإجمالي في المقام إلى شكّين تفصيليّين عند التحليل بخلاف الشبهة المحصورة ، فلو لم يكن فيها خطاب تفصيلي يجب الأخذ به ، لما قلنا بالاجتناب فيها أيضا ، فإنّ أدلّة البراءة عقلا ونقلا في مورد الشكّ محكّمة ، والعلم المردّد بين الواقعتين لا يوجب العلم بخصوصية إحداهما ، فكلّ منهما مشكوك تفصيلا ، ولا يجب امتثال خطابات الشارع ما لم يعلم (٣) تعلّقها بالخصوص ، ولو كان مجملا في محلّه كأن نعلم في المثال المفروض تعلّق الخطاب إجمالا بحرمة الزوجة ، وعدمه على هذا الوجه في المقام أيضا معلوم ؛ إذ الإجمال يكون بين الواقعتين ، فتدبّر.

فإن قلت : في المقام أيضا خطاب تفصيلي يلزم طرحه عند طرح العلم الإجمالي في الواقعتين وهو ما دلّ على وجوب الانتهاء عن المحرّمات وحرمة ارتكابها.

قلت : لو سلّمنا ذلك ، فلا يكفي ولا يجدي فيما نحن فيه ؛ فإنّه على تقديره أمر

__________________

(١) « ل » : ـ به.

(٢) « ل » : تعلّق.

(٣) « ش » : نعلم.

٤٦

إرشادي عقلي لا يورث ثوابا ولا عقابا ، وإلاّ يلزم أنّ من ترك واجبا ، أو أتى بمحرّم أن يعاقب بعقابين ولم يقل به أحد.

ودعوى استقرار بناء العقلاء على الاجتناب عن (١) مثل المقام عهدتها على مدّعيها ، بل لنا أن ندّعي أنّ بناءهم على الخلاف ؛ ألا ترى قبول عذر المرتكب لإحدى الواقعتين بعدم العلم؟

والقول بعدم الفرق (٢) بين المعلوم بالإجمال في المقام وغيره فيما يجب الاجتناب بعد وضوح الفرق واه جدّا ، وكفاك شاهدا في الفرق جواز تصريح الشارع بعدم اعتبار العلم الإجمالي في مثل المقام دون غيره كما لا يخفى.

ومنه ظهر أنّ اعتبار مثل العلم يحتاج إلى جعل فما لم يثبت فالأصل عدمه ؛ لأنّا نقول : لا يجوز ذلك مع توجّه الخطاب التفصيلي على المكلّف وبقائه على ظاهره كما هو كذلك.

نعم ، يجوز ذلك مع ارتكاب تأويل في ظاهر الخطاب كأن يقول : يجب عليك الاجتناب عن النجس إذا كان معلوما بالتفصيل.

وبالجملة ، إنّ مبنى هذا التحقيق أمران :

أحدهما : إبقاء الأوامر الشرعية على ظواهرها ، وعدم تقييدها بالعلم التفصيلي كما فعله البعض.

وثانيهما : عدم الاعتماد بالخطابات المنتزعة من الخطابات الشرعية الواردة في مقام بيان الأحكام ، فلا يصحّ في الفرض المذكور أن يقال : إنّ التكليف بالاجتناب المنتزع عن إحدى الواقعتين موجود إجمالا ؛ فإنّه ليس من الأدلّة الشرعية ، والقول باعتبار مثله يتوقّف على دعوى استقلال العقل ـ ولو بعد ملاحظة خطاب الشارع مجملا ـ بلزوم الاجتناب ، فيكون الخطاب التفصيلي خطابا عقليا وإن لم يكن شرعيّا ، ولا أظنّ

__________________

(١) « ل » : من.

(٢) « ل » : تفرّق.

٤٧

صدقها بل والمدّعي بذلك (١) لا يدّعيها أيضا كما لا يخفى.

فظهر الفرق بين الشبهة المحصورة وبين المقام ؛ فإنّه يجب الاجتناب فيها دون المقام ، فلو ارتكب أحد إحدى الإناءات المشتبهة ، وصادف النجس الواقعي ، ترتّب عليها ما يترتّب عليه من الأحكام الواقعية من الثواب والعقاب والمفسدة والمصلحة وغير ذلك ، فلم لم (٢) يصادف ينعطف الحكم إلى ما ذكرناه في التجرّي ، ولا يلزم من عدم التفطّن (٣) بالخطابات كون الشاكّ مكلّفا ولو لم يكن عالما إجمالا كما قد يتوهّم ؛ فإنّ عدم التكليف إنّما هو من جهة جهل المكلّف لا من قصور في الخطاب.

لا يقال : إنّ اتّصاف الأعيان بالحلّ والحرمة ، والنجاسة والطهارة راجع إلى ملاحظة حال فعل المكلّف ، فحرمة الخمر راجعة إلى حرمة شربه وإن كان ذلك ممّا تقتضيه الحكمة الكامنة (٤) في نفس تلك الأعيان بأنفسها من غير ملاحظة العلم والجهل فيها إلاّ أنّ إضافتها إلى المكلّف تقضي بلزوم العلم فيها.

لأنّا نقول : إن أريد باعتبار العلم في معاني تلك الأعيان ، فسقوطه واضح ؛ لأنّ ما ذكر لا يصلح وجها للتصرّف في معنى اللفظ (٥) ، وإن أريد بقيد الخطاب بمطلق العلم ، فلا جدوى فيه ؛ لأنّه موجود في صورة الإكمال أيضا ، وليس كذلك فيما لم يكن هناك خطاب تفصيلي كما في المثال المفروض ؛ إذ وجود كلّ من الخطابين مشكوك بالشكّ التفصيلي ، والعلم الإجمالي لا ينتج شيئا إلاّ بعد ضمّ كبرى كلّية إليه إمّا بأن يدلّ على اعتباره في المقام دليل ، أو يكون في الشرع دليل خاصّ تفصيلي ينهض كبرى للقياس ، ومن المعلوم انتفاؤها (٦) ، والخطاب الانتزاعي قد مرّ حاله. ثمّ إنّ هاهنا أقوالا أخر في المسألة لا بأس بالتنبيه عليها.

__________________

(١) كذا في النسختين ، والأظهر : لذلك.

(٢) « ل » : ـ لم.

(٣) المثبت من « خ ل » بهامش « ل » وفيها و « ش » : تخصيص.

(٤) « ل » : الكائنة.

(٥) « ل » : ـ اللفظ.

(٦) « ش » : انتفاؤهما.

٤٨

الأوّل : جواز الارتكاب مطلقا ، ومبناه دعوى ظهور الألفاظ في المعلومة منها تفصيلا وضعا أو إطلاقا ، وعموم أدلّة البراءة القاضية برفع ما حجب الله علمه عن العباد (١).

ويدفعه ما قلنا من عدم جواز التصرّف في الظواهر الظاهرة في معانيها الواقعية ، ومنع عمومها الشامل للمقام مطلقا بعد وجود الخطاب التفصيلي على ما قلنا.

الثاني : لزوم الاجتناب مطلقا سواء استلزم طرح خطاب تفصيلي على ما اخترناه أوّلا.

والجواب عنه عدم دليل على لزومه فيما لم يستلزم طرح دليل تفصيلي إلاّ ما قد ينتزع من الخطاب ، ثمّ (٢) بانضمام كبرى كلّية ـ مأخوذة من طريقة العقلاء ، أو الحكم العقلي القاطع ، أو غير ذلك ممّا استوفينا الكلام فيه ـ إلى صغرى انتزاعية يتمّ المطلوب ؛ ونحن قد فرغنا عن إبطال صغراه وكبراه على حسب اختلافها.

الثالث : التفصيل على ما اختاره صاحب الحدائق ؛ وقد مرّ الكلام فيه بجوابه (٣).

الرابع : ما عزي إلى بعضهم من التفصيل بين أن يكون طرفا الشبهة حكما واحدا كالحرمة أو الوجوب ، أو حكمين مختلفين ، فقضى بالاجتناب في الثاني دون الأوّل ، فلو علمنا إجمالا إمّا أنّ المرأة الفلانية مرضعة ، أو في القدح الفلاني خمر ، يجب الاجتناب كما لو علمنا بأنّ اليوم هذا من شهر رمضان ، أو سلّم علينا شخص ، يجب ردّ السلام ويحرم عليه الإفطار ؛ ولعلّ مبنى هذا القول تخيّل عدم إمكان الاحتياط فيما لو دار الأمر بين موضوعي الوجوب أو الحرمة كما لو دار الأمر بين كلّ منهما مع الآخر ؛ وهو بمكان من الضعف.

الخامس : التفصيل بين الشبهة الوجوبية كاشتباه جهة القبلة بين الجهات ، فيجب

__________________

(١) زيادة هنا في « ش » : منهم؟

(٢) « ل » : ـ ثمّ.

(٣) مرّ في ص ٤٥.

٤٩

الاحتياط ، أو التحريمية كاشتباه أحد الإناءين بالآخر ، فيحرم لو قصد ارتكاب الجميع في أوّل الأمر ، وإلاّ فلا وإن ارتكب الجميع أيضا ، ومبناه في الشبهة الوجوبية ظاهر ، وفي الشبهة التحريمية أنّه على الأوّل تعلّق قصده بارتكاب المحرّم فيحرم ، وعلى الثاني لم يقصده وإنّما ارتكبه (١) من غير اختيار واستناد إليه.

وتوضيحه يحتاج إلى مقدّمة وهي أنّ الألفاظ وإن قلنا بوضعها للمعاني الواقعية من غير استنادها إلى الاختيار وعدمه إلاّ أنّ وقوعها تلو الأمر والنهي يقضي (٢) بكونها ألفاظا للمعاني المستندة إلى الاختيار ، فقولنا : اضرب ، معناه طلب ضرب اختياري من المخاطب ، فلو ضرب وهو نائم ، لا يعدّ ممتثلا ، وعلى قياسه قولنا : لا تضرب مثلا (٣).

وإذ قد تمهّد هذه ، فنقول : إنّ المفصّل أراد أنّه عند عدم القصد والاختيار لا يكون منهيّا عنه ، فلا يحرم ، وكما أنّه لو أراد ضرب اليتيم تأديبا ، فضربه ، فبان مقتولا ، فإنّه لا يقال : إنّه قتل الطفل المنهيّ عنه اختيارا ، فكذا لو شرب أحد الإناءين لا بعنوان نجاسته بل رجاء (٤) منه بأنّ النجس إنّما هو الآخر ، ثمّ بان أنّ المشروب هو النجس ، لا يقال عرفا : إنّه قصد شرب النجس ، فليس منهيّا عنه ؛ لما تقدّم.

ثمّ إنّه قد يتوهّم أنّ المقدّمة المزبورة هي المسألة المعنونة في كلماتهم بأنّ الأصل في الأوامر أن يكون متعلّقها تعبّديا لا توصّليا ، و (٥) ليس على ما توهّم ؛ فإنّ الكلام في المقام من جهة اعتبار القصد والاختيار مطلقا (٦) ، وفيها من حيث قصد القربة وعدمها ، فالقاعدة المزبورة تغاير المسألة المذكورة ، وحينئذ يمكن منع الثاني ؛ لعدم الدليل على اعتبار أمر زائد على مطلق القصد بخلاف الأوّل كما هو ظاهر.

والجواب عنه أنّ ما ذكره من تعلّق الطلب بالأمور الاختيارية ممّا لا يدانيه شائبة

__________________

(١) « ل » : ارتكب.

(٢) « ل » : يقتضي.

(٣) « ل » : ـ مثلا.

(٤) « ش » : برجاء ( ظ ).

(٥) « ل » : ـ و.

(٦) « ل » : لا مطلقا.

٥٠

الارتياب إلاّ أنّه لا يجدي ؛ فإنّ قضيّة مراعاة قواعد اللفظ حصول المقصود من الأمر ، وترتّب ما يترتّب عليه من المصالح والمفاسد على كلّ من الاختياري وغيره ، لما قد نقل عليه إجماع السكّاكي (١) من أنّ المصادر المجرّدة عن اللام والتنوين ـ التي هي متعلّقات الأوامر والنواهي ـ موضوعة للماهية (٢) المعرّاة عن جميع اللواحق ، ومدلول الهيئة لا يزيد على طلب تلك المادّة من غير تقييدها (٣) باختيار ولا غيرها ، غاية الأمر أنّ الطلب الصادر من الآمر لا يتعلّق بغير الاختياري (٤) ، وذلك لا يوجب تقييد (٥) مدلول المادّة به (٦).

والحاصل : أنّا نفرّق بين المقصود والمطلوب ، ففي الأوّل يكفي اختيارية الفعل نوعا ، وفي الثاني لا بدّ من كونه اختياريا شخصا ، والمدار على الأوّل في الامتثال ؛ إذ لا يقضي لفظ الأمر بأمر زائد عليه ؛ وعدم الكفاية في الثاني إنّما هو من جهة قصور في الطلب لا من جهة عدم صلوح اللفظ ؛ فما ذكره المفصّل ـ من عدم الامتثال فيهما لو ضرب نائما بعد الأمر به ـ في معرض المنع.

نعم ، ذلك الضرب ليس مطلوبا ، واختلاف أحكام الطلب وما تعلّق به الأمر ممّا لا يخفى على أحد ، وعلى مثل ذلك يبنى في صحّة الصلاة في الدار المغصوبة ؛ فإنّ الصلاة الصادرة على وجه (٧) المحرّم تنافي كونها مطلوبة لكن لا تنافي التوصّل بها إلى مقصود المولى ، فإنّ الماهيّة بجميع أفرادها من حيث إطلاقها متعلّقة للأمر ، ومتصوّرة في أوّل (٨) الأمر ، وعدم كون الفرد المحرّم مطلوبا ـ كما لو (٩) قلنا ـ إنّما هو من جهة قصور في الطلب

__________________

(١) عنه في القوانين ١ : ٩١ ، ١٢١ ، ٢٠٠ ـ ٢٠١ ، ٢٠٢ ؛ وفي هداية المسترشدين : ١٧٨ و ٢١٢ ؛ وفي الفصول : ٧١ ؛ وفي كفاية الأصول : ٧٧ ؛ وتهذيب الأصول ١ : ١٢٩ و ٢٧٢.

(٢) « ش » : للماهية.

(٣) « ش » : تقيّدها؟

(٤) « ل » : لا يتعلّق إلاّ بالاختياري.

(٥) « ش » : تقيّد؟

(٦) « ل » : المادّية؟

(٧) كذا في النسختين ، والصحيح : الوجه.

(٨) « ل » : ـ أوّل.

(٩) « ش » : ـ لو.

٥١

لا من جهة عدم تعلّق القصد به ، فتأمّل.

وقد يجاب أيضا بأنّ المرتكب في الصورة المفروضة لا يعدّ عرفا غير قاصد ، ولا فرق في ذلك بين قصده شرب الكلّ والبعض.

نعم ، قد يمكن القول بذلك فيما لو قطع بالخلاف ، فانكشف الخلاف ؛ فإنّه يلحقه أحكام الاضطرار (١).

[ القسم ] الثالث : من أقسام المخالفة هو المخالفة القطعية الحكمية في مجرّد الفتوى كما إذا اختلفت الأمّة في وجوب شيء وحرمته على قولين ، فالحكم بأصالة البراءة والقول بالإباحة مخالف لفتوى الفريقين في نفس القول ، وأمّا العمل ففي صورة اختيار الفعل يوافق القول بالوجوب ، وفي صورة اختيار الترك يطابق القول بالحرمة ، فلا مخالفة في العمل فلا ريب (٢) في جوازها كما تقدّم منّا في توجيه كلام العلاّمة نظرا إلى عدم انصراف الحكم على خلاف ما أنزل الله تعالى إلى مثله.

بل قد يقال : إنّه أخذ بمقتضى الأدلّة الظاهرية بعد امتناع الوصول إلى الواقع إلاّ أنّه يظهر من الأصحاب فيما إذا دار الأمر بين المتباينين ـ كما في المقام ـ التخيّر بين الحكمين والتديّن بأحد الوجهين تخييرا بدويا أو استمراريا على الخلاف المقرّر كما في أخذ المقلّد وتديّنه بفتوى أحد المجتهدين عند اختلافهما في الحكم بوجوب شيء وحرمته.

وليس على ما ينبغي ؛ فإنّ مبناه تخيّلهم اعتبار العلم الإجمالي في مثل المقام ولا دليل عليه ، وعلى تقديره ، فاللازم منه بعده هو التخيير (٣) بين الفعل والترك المساوق للإباحة لا التخيير (٤) بينهما على جهة استنادهما إلى أحد الحكمين.

__________________

(١) في هامش « ش » : ثمّ لا يخفى أنّ الأقوال المسطورة أقواها ما عرفت من التفصيل المختار ثمّ بعد ذلك فالأقوى القول بالمنع في الجميع وبعده التفصيل الأخير ، فتدبّر. « منه ».

(٢) « ش » : ولا ريب.

(٣) في النسخ : التخيّر.

(٤) في النسخ : « التخيّر ».

٥٢

والسرّ في ذلك أنّ مقتضى العلم الإجمالي فيما دار الأمر بين المتباينين كالظهر والجمعة أوّلا تحصيل الموافقة القطعية ، فلا بدّ في المقام من الفعل والترك حيث إنّ ذلك غير ممكن ، فلا بدّ من المصير إلى ما لا يلزم معه المخالفة القطعية ، وهذه لا تقضي بأزيد من التخيير (١) بين الفعل والترك المساوق للإباحة ، وأمّا أنّ الفعل أو الترك لا بدّ وأن يقع على أحد الوجهين ، فلا دليل عليه إلاّ أن يقال : إنّ حكمهم بالتخيير (٢) على هذا الوجه مبني على دليل آخر كأدلّة وجوب الإطاعة نظرا إلى عدم تحقّقها إلاّ على الوجه المذكور ولو احتياطا ، وللأخبار الواردة في علاج المتعارضين الحاكمة بالتخيير (٣) بينهما بدعوى ظهورها فيه على وجهها.

القسم الرابع : من أقسام المخالفة هو المخالفة الحكمية في الفتوى والعمل أيضا وهي أيضا ـ كما في الموضوعية ـ تنقسم إلى قسمين ؛ فإنّه تارة يلزم فيها طرح خطاب تفصيلي ، وأخرى لا يلزم ، مثال الأوّل اختلافهم في وجوب الظهر والجمعة ، فلو قيل بعدم وجوبهما رأسا ، يلزم مخالفة العلم الإجمالي فتوى وعملا ، ويلزم طرح خطاب الصلاة المتوجّه على المكلّف تفصيلا.

لا يقال : خطاب صلاة الجمعة يغاير خطاب صلاة الظهر ، فليس من المفروض.

لأنّا نقول أوّلا : يتوجّه على المكلّف وقت الظهر في الجمعة خطاب واحد وإن كان مردّدا بين الصلاتين ، ومجملا بالنسبة إليهما.

وثانيا : وإن سلّمنا تعدّد الخطاب إلاّ أنّهما (٤) في حكم الواحد بعد العلم بأنّ البراءة في أحدهما تقضي (٥) بها في الآخر ، وتعدّد الخطاب إنّما يجدي فيما إذا لم يكن بين الخطابين

__________________

(١) « ش » : التخيّر.

(٢) « ش » : التخيّر.

(٣) « ش » : التخيّر.

(٤) « ل » : أنّها؟

(٥) « ل » : تقتضي.

٥٣

علقة يرتفع أحدهما بارتفاع الآخر (١).

وثالثا : قوله (٢) تعالى : ( حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى )(٣) إنّما يراد منه الصلاة الوسطى في يوم (٤) الجمعة ، إمّا الجمعة وإمّا الظهر وهو خطاب واحد ، كيف كان (٥) ، ففي المفروض التحقيق عدم جواز المخالفة ؛ إذ لو بنينا في أمثال المقام على جوازها ، يلزم الخروج من الدين.

ومثال الثاني كما لو فرضنا وجود رواية على وجوب الصلاة عند سماع اسم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ورواية أخرى تدلّ على وجوب قراءة الدعاء عند رؤية الهلال ، وعلمنا أنّ إحدى الروايتين إجمالا مطابقة للواقع ، فإنّه لا يلزم من طرحها والرجوع إلى البراءة طرح خطاب تفصيلي ولا ضير فيها على ما مرّ مفصّلا في الشبهة الموضوعية مع جريان أقوالها إلاّ التفصيل الأخير ؛ فإنّه يختصّ بها كما لا يخفى.

وقد يفصّل في المقام أيضا بما لا يجري فيها وهو أن يقال : إن كان متعلّق العلم الإجمالي في الأحكام انتقاض أحد الأصلين العمليين ، فلا عبرة به كما لو ثبت جواز شرب العصير العنبي بأصالة البراءة وجواز شرب التتن بها أيضا ، فعلمنا بانتقاض أحدهما إجمالا بغيره (٦) ، وإن كان تعلّق العلم الإجمالي بانتقاض أحد الأصلين اللفظيّين فنعتبره كما إذا دلّ دليل على عدم جواز الصوم في السفر ، ودليل آخر على أنّ مسافة القصر أربعة فراسخ ، ثمّ علمنا (٧) بأنّ المعصوم عليه‌السلام صام في يوم عرفة ، فنعلم إجمالا بأنّ أحد الدليلين لا يراد منه ظاهره ، فيسري الإجمال منه إلى الآخر (٨) ، فيحتاط فيهما.

وأيضا قد يوجد في بعض الأخبار ما يستفاد منها بطلان الصلاة من المرأة المقتدية

__________________

(١) من قوله : « وتعدّد الخطاب » إلى هنا سقط من « ل ».

(٢) « ل » : في قوله.

(٣) البقرة : ٢٣٨.

(٤) « ش » : ـ يوم.

(٥) « ش » : ـ كان.

(٦) « ش » : نعتبره.

(٧) « ش » : علمناه.

(٨) « ل » : آخر.

٥٤

بالإمام إذا كانت محاذية للرجال ، وكذا لو كانت صلاتها مخالفة لصلاة الإمام نوعا ؛ فإنّه يعلم إجمالا أنّ جهة الفساد إمّا التحاذي ، وإمّا التخالف ، فلا بدّ من التصرّف في أحد الدليلين الدالّ أحدهما على جواز التحاذي ، والآخر على جواز التخالف ، فلا يراد من أحدهما ظاهره فيسري منه الإجمال إلى الآخر.

لا يقال : لا فرق في المقام بين الأصلين اللفظيّين والعمليّين ، فلا وجه للتفصيل بينهما.

لأنّا نقول : فرق واضح بين المقامين ، فإنّ الأصول العملية معتبرة من باب التعبّد والسببية المطلقة ، والظاهر من أدلّتها انقطاعها بعد وجود العلم التفصيلي في مجراها كما يشهد بذلك قوله : « إلاّ بيقين مثله » في بعضها ، فالعلم الإجمالي لا ينقطع بشيء منها في مجراها بخلاف الأصول اللفظية ، فإنّ اعتبارها من جهة الكشف ، وبعد ما فرضنا من تعلّق العلم الإجمالي بما يخالف أحدهما لا يحصل الكشف ، فلا يعتبر.

وفيه نظر يطلب من محلّه ؛ لجواز انقطاع الأصل بالعلم الإجمالي ، والتطويل في بيانه يوجب الخروج عن الوظيفة. هذا تمام الكلام بالنسبة إلى الشكّ في التكليف والمكلّف به (١).

وأمّا الكلام في الشكّ في المكلّف ، فيرجع إجمالا إلى ما تقدّم من الاجتناب فيما يلزم طرح خطاب تفصيلي ، وعدمه فيما إذا لم يلزم.

وتفصيل الكلام فيه أنّه ينقسم إلى (٢) قسمين :

الأوّل : أن يتردّد (٣) موضوع من الموضوعات الشرعية ـ المترتّب عليه الأحكام الشرعية ـ بين المكلّفين فصاعدا كما لو علم حصول الجنابة ولم يعلم تعلّقها بشخص بالخصوص.

__________________

(١) « ل » : في المكلّف به والتكليف.

(٢) « ش » : ـ إلى.

(٣) « ل » : أن يردّد. وكذا في المورد الآتي.

٥٥

الثاني : أن يتردّد مكلّف واحد بين موضوعين من الموضوعات الشرعية كالخنثى المردّد بين الصنفين بعد العلم بعدم خروجه عنهما ، فالكلام في القسم الأوّل يقع في موارد ؛ فإنّه تارة يتكلّم من حيث أحكام كلّ واحد منهما بالنسبة إلى نفسه ، وأخرى بالنسبة إلى آخر ، ومرّة من حيث أحكام غيرهما بالنسبة إليهما أو أحدهما.

أمّا الكلام بالنسبة إلى الأحكام الراجعة إلى نفسهما ، فالظاهر جريان البراءة في كلّ منهما (١) ، والحكم بالطهارة في المفروض بل قد يقال بنفي الخلاف فيه بعد جهل التكليف ، ولا يلزم من جريانها طرح خطاب تفصيلي.

وأمّا الكلام بالنسبة إلى كلّ منهما مع الآخر كاقتداء أحدهما بالآخر ، فإن قلنا بأنّ الطهارة شرط في الاقتداء واقعا كما هو الظاهر ، فلا يصحّ قطعا ؛ لما عرفت من اعتبار العلم التفصيلي المتولّد من العلم الإجمالي ، وإن قلنا بأنّها من الشروط العلمية ، فيمكن القول بالصحّة وعدم اعتبار العلم حسبما فصّل فيما تقدّم.

وربّما يتوهّم أنّه لو استأجر أحدهما الآخر لقراءة العزائم حتّى يتبعه في القراءة من أمثلة المقام ، وليس كذلك ؛ فإنّ القراءة فيهما راجعة إلى نفسهما ، ولا علقة بين عملهما كالاقتداء.

ولو قيل بأنّ الموجر مثلا يعلم بأنّه إمّا (٢) فاعل للحرام من جهة قراءة نفسه (٣) على تقدير جنابته ، أو استأجر الآخر لعمل يحرم عليه (٤) على تقدير جنابة الآخر ، لكان أوجه إلاّ أنّه أيضا لا وجه له ؛ لعدم الدليل على عدم جواز استيجار الجنب لقراءة العزائم أيضا.

نعم ، لو علم بجنابته واقعا ، يحرم الاستيجار ، وليس المقام منه كما لا يخفى.

ومن هنا يظهر حكم ما لو حمل أحدهما الآخر في دخول المسجد ، فإنّه جائز ، أمّا

__________________

(١) « ل » : كلّ حكم منهما.

(٢) « ل » : يعلم إمّا أنّه.

(٣) « ل » : ـ نفسه.

(٤) « ش » : « محرّم » بدل : « يحرم عليه ».

٥٦

دخوله ، فلأنّه طاهر بالأصل ، وأمّا إدخاله الغير ، فلأنّ الغير طاهر أيضا بالأصل ، وعلى تقدير جنابته ، فلا دليل على عدم جواز إدخال الجنب في المسجد ؛ لأنّ الدخول غير الإدخال.

وأمّا الكلام بالنسبة إلى الخارج منهما معا ، فمثل ما مرّ آنفا من عدم جواز الاقتداء بهما في صلاتيه لو قلنا بالطهارة الواقعية ، وجوازه لو قلنا بالمعلومة ، وينبغي أن يعلم أنّ الإجارة وإن لم تكن حراما إلاّ أنّ الموجر لا يملك عملهما ؛ لكونه محرّما ، ولا يجوز للثالث التصرّف في أجرتهما كما لا يخفى.

والكلام في القسم الثاني أيضا يقع في موردين :

الأوّل : في بيان حكم الغير بالنسبة إليه ، والمرجع في ذلك إلى ما تقتضيه الأصول فيعمل به (١) ، وإن خالف العلم الإجمالي فيما لم يلزم (٢) طرح خطاب تفصيلي ، فتزويج الغير ممّا لا يترتّب عليه الأثر ؛ لأصالة عدم الصحّة ، ودعوى عموم وجوب الوفاء بالعقد واهية ، لاختصاصها فيما إذا (٣) كان المحلّ قابلا ، فلا يصحّ التمسّك به في الشبهة الموضوعية. وأمّا وطؤها ، ففي صورة الشبهة (٤) ممّا (٥) لا إشكال في عدم جوازه ، وأمّا بدونها ، فيحتمل الجواز نظرا إلى أنّ ثقبتها غير معلومة فرجيّتها. وأمّا النظر إليها ، فيحتمل الجواز عملا بأصالة البراءة بعد عدم لزوم طرح الخطاب التفصيلي (٦) ؛ لأنّ الناظر لو كان رجلا ، فيحتمل كونها مماثلا له في الرجولية ، فلا علم بتعلّق الخطاب ، وكذا لو كانت الناظرة أنثى ، ويحتمل عدم الجواز نظرا إلى عموم الأمر بالغضّ للمؤمن والمؤمنة ، خرج ما علم رجوليته للأوّل وأنوثيّته للثاني بقي الباقي تحت العامّ على الخلاف المقرّر من جواز التمسّك بالعامّ في الموضوعات وعدمه ولو اشترى الخنثى

__________________

(١) « ش » : بها.

(٢) « ل » : لا يلزم.

(٣) « ش » : ـ إذا.

(٤) « خ ل » بهامش « ش » : الشهوة؟!

(٥) « ل » : ـ ممّا.

(٦) « ش » : خطاب تفصيلي.

٥٧

أخوها ، فهل ينعتق عليه أم لا؟ الأصل عدم الانعتاق ، وأمّا في الإرث فالأصل عدم استحقاقها ممّا (١) يزيد على حصّة النساء وإن كان قد يعارض بأنّ الأصل عدم زيادة حصّة الغير عنها.

الثاني : في بيان حكمها بالنسبة إلى نفسها وإلى غيرها في المثال المفروض ، فالمرجع فيه أيضا إلى ما فصّلناه من طرح الخطاب وعدمه ، فلا يجوز لها النظر إلى الغير نظرا إلى علمه بوجوب الغضّ تفصيلا ، وجهل المتعلّق لا يسري في الحكم ، فيجب الاحتياط.

وقد يتمسّك للجواز بلزوم العسر المنفيّ على تقدير عدمه ، وأمّا وطؤه الغير ، فالأصل جوازه ؛ لاحتمال زيادة الآلة.

ولو دخل الخنثى بالأنثى ، والرجل على الخنثى ، وجب الغسل على الخنثى دون الرجل والأنثى ؛ لحصول العلم التفصيلي بالنسبة إلى الخنثى دون الرجل والأنثى ، وأمّا تزويجها الغير فكما تقدّم الأصل عدم ترتّب الآثار عليه ، وكذا مسألة العتق.

وأمّا حكمها في العبادات فيختلف الموارد ، فلو رجع شكّها إلى ما هو شرط لها أوّلا كوجوب تغطية الرأس ، فيجب على القول بالاشتغال ، ولا يجب على البراءة ، ومثله الجهر والإخفات لو (٢) قلنا بجواز الإخفات لها في موضع الجهر ، وأمّا لو قلنا بوجوبه ، فيحتمل لزوم تكرير العمل بأن يقرأ حمدين وسورتين ، ويلتزم بجواز التكرير في المقام أو تكرير الصلاة ، ويحتمل التخيير بينهما كما عن الشهيد في الذكرى مع أنّ طريقها الاحتياط في غير المورد. قال : الخنثى يتخيّر في الجهر والإخفات ، وإن جهرت في موضع الإخفات (٣) فهو أولى إذا لم يستلزم سماع من يحرم سماعه (٤).

__________________

(١) « ش » : عمّا.

(٢) « ل » : ولو؟

(٣) في المصدر : مواضع الجهر ، وهو الصواب.

(٤) الذكرى ٣ : ٣٢٢ ، وفي ط الحجري : ص ١٩٠.

٥٨

وقد أورد عليه المحقّق القمّي (١) بأنّ ذلك ينافي إلحاقه الخنثى في مسألة الستر. وأجاب عنه بعض الأجلّة (٢) بأنّ الحكم بالتخيير إنّما هو لخصوصية قاضية وهو معذورية الجاهل بالحكم فيه.

وفيه نظر ؛ فإنّ المسلّم من العذر فيما لو كان الحكم والموضوع معا مجهولا ، وأمّا إذا كان عالما بالحكم جاهلا بالموضوع ، فلا دليل على معذوريته كما في المقام ، فتدبّر جيّدا.

__________________

(١) القوانين ٢ : ٤١.

(٢) الفصول : ٣٦٣.

٥٩
٦٠