مطارح الأنظار

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني

مطارح الأنظار

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني


المحقق: علي الفاضلي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: معهد الإمام الخميني والثورة الإسلامية
المطبعة: مؤسسة العروج
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7986-36-6
الصفحات: ٦١٥

وأمّا على الثاني ، فلأنّ دعوى الإجماع منه على إرادة خلاف الظاهر من الكتاب تنافي دعواه بامتناع الاطّلاع على الإجماع في تحرير الدليل.

مضافا إلى أنّ حكمه بفقد السنّة المتواترة فيه لفظا ومعنى غير موافق للواقع ؛ لوجودها كثيرا في الفقه مع أنّ تقدير الوجود في اللفظي منها لا يضرّ بما هو في صدده من انسداد باب العلم ، إذ لا يفيد العلم كالكتاب ، فكما أنّ وجود الكتاب غير مضرّ في مطلوبه ، فكذلك السنّة المتواترة اللفظية ، والمستفاد من كلامه تسليم إفادة القطع على تقدير وجودها ، وسيجيء إن شاء الله ما يظهر به بطلان ما أبطل به البراءة الأصلية.

ثمّ إنّ قوله : « ويستوي الظنّ الحاصل من ظاهر الكتاب والظنّ المستفاد من غيره » يستقيم لو جاز تعارض الظنّين ، وظاهر بطلانه إلاّ أن يراد من أحدهما الظنّ النوعي ، أو يراد من التسوية بينهما تساويهما من حيث الحجّية بمعنى أنّ الظنّ الحاصل من الخبر مثلا كما يكون حجّة من جهة الظنون الخاصّة ، فكذلك الظنّ الحاصل من الكتاب فتأمّل.

ثمّ ابتناؤه على الوجه المزبور ممّا لم نقف له على ابتناء في زبر الأوّلين ، فإنّ غرضه لو كان من جهة حصول القطع للمشافه دون غيره ، فقد عرفت عدم اطّراده في المشافه أيضا ، وإن كان من جهة حجّيته من باب الظنون الخاصّة ، فقد مرّ ما يعمّ بالنسبة إلى المشافه وغيره ، ولو لا الإجماع قديما وحديثا ، لكفى في الحجّية لغير المشافه.

وأمّا ما قد يمنع من صحّة الإجماع ؛ للزوم الفحص لغير المشافه دون المشافهين ، فواضح الضعف ، فإن لزوم الفحص لا يلازم عدم الحجّية من جهة الظنون الخاصّة ، كيف؟ ومنشأ الفحص العلم الإجمالي بكثرة المتعارضات ، ومبنى عدم الحجّية عدم الدليل على الحجّية ، وأين أحدهما من الآخر؟

وأمّا قوله : « ولظهور اختصاص الإجماع والضرورة الدالّين على اشتراك التكليف » ففيه عدم اختصاص الإجماع في صورة عدم وجود الخبر الجامع عليه ، بل الإجماع

١٠١

قائم عليه في الصورتين كما عرفت ، وعدم جواز العمل بظاهر الكتاب في صورة المخالفة مع حجّية الخبر المخالف لا يقدح في حجّية الكتاب لو لم نقل بتعاضده كما هو الشأن في جميع المتعارضات.

ثمّ إنّ صالح العلماء قد وجّه كلام صاحب المعالم بتوجيه ، وكذا جمال المحقّقين قد وجّهه بتوجيه آخر ، ونحن أيضا نوجّهه بتوجيه لعلّه أوجه ، وبه يندفع جملة من الإيرادات المذكورة في كلامهم.

قال الأوّل : « قول صاحب المعالم : ويستوي ... » لمّا دفع بقوله : « فيحتمل » ما ذكره المورد أوّلا من أنّ الظنّ (١) المستفاد من ظاهر الكتاب معلوم لا مظنون ، دفع بهذا ما أورده ثانيا بعد التسليم من أنّ الظنّ المستفاد من ظاهر الكتاب ظنّ مخصوص ، فهو من قبيل الشهادة لا يعدل عنه إلى غيره.

ثمّ قال : وتوضيح الدفع أنّه إذا ثبت جواز حمل الظاهر على خلافه عند معارضة الخبر إيّاه ، صار الظاهر ظنّيا ويساوي (٢) غيره ممّا يفيد غيره (٣) في إفادة الظنّ وفي إناطة التكليف [ به ] ، وليس المراد أنّهما متساويان من جميع الوجوه ، فلا يرد أنّ هذا ينافي ما مرّ من الخبر الراجح (٤).

ثمّ أفاد أنّ وجه مساواتهما في ذلك أمران :

أحدهما : ابتناء الفرق والحكم بأنّ الظنّ المستفاد من ظاهر الكتاب من قبيل الشهادة ، فلا يعدل عنه إلى غيره ممّا يفيد الظنّ على كون الخطاب متوجّها إلينا ؛ إذ الصارف حينئذ هو الخبر وقد مضت (٥) ذلك ، ولكن [ قد ] عرفت بحكم المقدّمة الثانية أنّ الخطاب ليس بمتوجّه إلينا ، بل إلى الموجودين في زمانه ، ويجوز أن يقترن به ما

__________________

(١) في المصدر : الحكم. وما في المتن مطابق أيضا لنقل المفاتيح.

(٢) في المصدر والمفاتيح : ساوى.

(٣) في المصدر والمفاتيح : « ظنّا » بدل : « غيره ».

(٤) في المصدر : من أنّ الخبر أرجح منه. وكذا في المفاتيح من دون لفظة « أنّ ».

(٥) في المصدر والمفاتيح : منعت.

١٠٢

يدلّ (١) على إرادة خلافه قطعا ، والخبر حينئذ معرّف لا صارف.

وثانيهما : أنّ الإجماع والضرورة ـ الدالّين على مشاركتنا لهم في التكليف بظاهر الكتاب ممّا (٢) تقتضيه المقدّمة الثانية ـ مختصّان بظاهر غير معارض للخبر (٣) الجامع للشرائط الآتية ، المفيدة للظنّ الراجح بأنّ التكليف بخلاف الظنّ المستفاد بظاهر (٤) الكتاب ، لأنّه لا إجماع ولا ضرورة على تلك المشاركة عند المعارضة فينتفي القطع به ، وينتفي كون الظنّ المستفاد منه من قبيل الشهادة أيضا فليتأمّل (٥). انتهى.

وقال الثاني بعد الإشارة إلى ما ذكره في المعالم : فلا بدّ لنا من تحقيق الحال فيما ذكره في الجواب عن ذلك الإيراد لا يخلو عن تشويش ، وكأنّه يحتمل وجهين :

أحدهما : أنّه بعد ما أبطل الإيراد [ الأوّل ] ـ من « لا يقال » وهو كون الحكم المستفاد من ظاهر الكتاب معلوما لما ذكره من الوجه ـ بما ذكره من كون أحكام الكتاب كلّها من قبيل خطاب المشافهة ، وأنّه مخصوص بالموجودين في زمن الخطاب ، وأنّ ثبوت حكمه فيمن تأخّر إنّما هو بالإجماع وقضاء الضرورة باشتراك التكليف من (٦) الكلّ ، فيكون حاصل جوابه أنّ الإجماع والضرورة إنّما هو بالاشتراك (٧) بيننا وبينهم فيما علمنا [ كانوا مكلّفين ] به لا في وجوب العمل بظواهر القرآن ، وحينئذ نقول : إن نحن (٨)

__________________

(١) في المصدر : يدلّهم. وفي المفاتيح : دلّ.

(٢) في المصدر والمفاتيح : كما.

(٣) في المصدر والمفاتيح : بالخبر.

(٤) في المصدر والمفاتيح : من ظاهر.

(٥) شرح معالم الدين : ٢٣٢ ، هامش المعالم ( الطبعة الحجرية ) : ١٨٣. وعنه في مفاتيح الأصول : ٤٧٤ قال بعد نقل كلام صاحب المعالم : ويظهر من سلطان المحقّقين رضاه بما قاله حيث إنّه أشار إليه ولم يجب عنه وكذلك يظهر ذلك من جدّي الصالح المازندراني في الحاشية ومن جمال الدين الخوانساري حيث إنّهما حقّقا ما ذكره مقتصرين عليه غير متعرّضين لردّه على ما ينبغي فقال الأوّل ... ثمّ ذكر كلامهما.

(٦) في المفاتيح : بين.

(٧) في المفاتيح : هما في الاشتراك.

(٨) في المفاتيح : « إنّا » بدل « إن نحن ».

١٠٣

لا نعلم كونهم مكلّفين بها (١) فيما لم يقترن به قرينة صارفة عنه ، وأمّا فيما اقترن بها ، فكانوا مكلّفين بمقتضى القرينة لا بالظاهر ؛ لاحتمال (٢) أن يكون لهم قرينة صارفة عنه ، ولم تصل تلك القرينة إلينا ، فغاية الأمر أنّه لمّا لم يظهر تلك القرينة ، فيجوز أن يحصل لنا ظنّ بعدمها وبكونهم مكلّفين فيه بالظاهر ، وهذا ليس إلاّ مجرّد الظنّ ، ولم يقم على اعتباره بخصوصه (٣) دليل قطعي حتّى يقال به : لأنّه (٤) ظنّ مخصوص لا يلزم من اعتباره اعتبار كلّ ظنّ.

ثمّ قال : ولا يخفى أنّه لا يلائم الجواب (٥) عند قوله : « فيحتمل » ولا حاجة إلى ضميمة ذلك ، فيحتمل أن يكون إشارة إلى جواب آخر وهو أنّه يحتمل أن يكون من جملة تلك القرائن الموجبة للانتقال (٦) عن الظاهر خبر الواحد ، وحينئذ ففيما وجد فيه خبر الواحد على خلاف ظاهر القرآن لا علم لنا بكونهم مكلّفين بظاهر القرآن حتّى يعلم منه كوننا أيضا مكلّفين به بل يحتمل أن يكونوا مكلّفين بمقتضاه في مثلهم (٧) ، فلا يمكن لنا في مثله طرح الخبر والعمل بالظاهر بناء على إفادة (٨) العلم ، أو لكونه مفيدا للظنّ (٩) ؛ إذ قد ظهر انتفاء كليهما.

وثانيهما : أن يكون المراد وقوع الإجماع وقضاء الضرورة بكوننا أيضا مكلّفين بظاهر القرآن مثلهم وإن لم يشمل الخطاب لنا بكونه عامّا ، لكنّه يقول : إنّهم لم يكونوا مكلّفين بالظواهر مطلقا بل إذا لم تكن قرينة صارفة عنها كما ذكرنا ، فنحن أيضا بحكم

__________________

(١) في المفاتيح : كونهم مكلّفين بظواهر القرآن في الجميع حتّى يعلم بضميمة الإجماع والظاهر كوننا أيضا مكلّفين بها.

(٢) في المفاتيح : لا بالظاهر وقد علمنا ذلك في مواضع بالإجماع ونحوه وعلى هذا ففيما لم نجد قرينة أيضا لا علم لنا بكونهم مكلّفين فيه بالظاهر لاحتمال.

(٣) في المفاتيح : اعتبار خصوصه.

(٤) في المفاتيح : يقال إنّه.

(٥) في المفاتيح : أنّه على هذا يتمّ الجواب.

(٦) في المفاتيح : الموجبة لهم الانتقال.

(٧) في المفاتيح : مكلّفين بمقتضى الخبر ويكون أيضا مكلّفين بمقتضاه مثلهم.

(٨) في المفاتيح : إفادته.

(٩) في المفاتيح : لظنّ مخصوص.

١٠٤

الإجماع والضرورة المزبورين نكون مكلّفين بالظواهر ، إذا لم تكن قرينة صارفة مطلقا ، وعلى هذا فيحتمل أن يكون من جملة تلك القرائن خبر الواحد المفيد للظنّ ، ففيما وجد فيه ذلك ليس لنا علم بكوننا مكلّفين بالظواهر وطرح الخبر ، فما يستفاد من الظنّ فيه ليس علما ولا ظنّا مخصوصا قام على وجوب العمل به دليل ، وعلى هذا يكون تمام الكلام جوابا [ واحدا ].

لكن لا يخفى أنّه على هذا لا حاجة إلى التمسّك بحديث خطاب المشافهة واختصاصه بالموجودين ، بل يكفي فيه أنّ التمسّك بالظواهر لا ريب في اختصاصه بما إذا لم يقم قرينة صارفة عنها ، ويحتمل أن يكون أخبار الآحاد من جملة تلك القرائن ، فعلى هذا فمع وجود الأخبار الصارفة لا يحصل لنا العلم بالظواهر والظنّ (١) المخصوص فتدبّر (٢). انتهى.

وأنت خبير بما فيهما بعد التدبّر لا سيّما الأخير منهما ، والتحقيق في التوجيه لكلام صاحب المعالم هو أن يقال : قوله : أحكام الكتاب كلّه من قبيل خطاب المشافهة ، وقوله : وقد مرّ أنّه مخصوص بالموجودين في زمن الخطاب وأنّ ثبوت حكمه في حقّ من تأخّر إنّما هو بالإجماع وقضاء الضرورة باشتراك التكليف ، إشارة إلى الجواب عن الشقّ الأوّل من الإيراد وهو كون الخطابات علميا (٣) ؛ إذ من الجائز أن يكون قد اقترن ببعض تلك الظواهر ما يدلّهم على إرادة خلافها كما ذكره.

وقوله : « وقد وقع ... » شروع في الجواب عن الشقّ الثاني من الاستدلال وهو كون الكتاب من الظنون الخاصّة ، فإنّ الأوّل لا ينهض بذلك بل إنّما هو منع إجمالي ، وهذا

__________________

(١) في المفاتيح : من الظواهر ولا الظنّ.

(٢) عنه في مفاتيح الأصول : ٤٧٤ ـ ٤٧٥ ، وما بين المعاقيف منه ، ولم تذكر لآقا جمال الدين الخوانساري حاشية على المعالم وذكرت لوالده آقا حسين كما في الذريعة ٦ : ٢٠٦ ويحتمل أنّها وردت في بعض كتبه الأخر كحاشيته على شرح مختصر الأصول.

(٣) كذا. والصحيح : علمية.

١٠٥

بيان تفصيلي لبعض الأقسام بأنّه قد يعلم قيام القرينة بسبب الإجماع ونحوه ، وقد يشكّ كما في معارضة الخبر الجامع للشرائط المقرّرة في محلّه لها ، وكان الأنسب إلحاق قسم آخر وهو ما يعلم عدم صارف عنه أصلا ، ثمّ يبيّن بعده الحكم في صورة الشكّ ، وحكم بانتفاء القطع والتساوي في كونهما من الظنون المطلقة ، ثمّ علّل انتفاء القطع بما ذكره من الابتناء والتساوي باختصاص الإجماع والضرورة بغير صورة المعارضة مع الخبر الجامع للشرائط الآتية.

١٠٦

[ القول في الإجماع المنقول ] (١)

الثالث من الأمور التي عدّت من الظنون الخاصّة الخارجة عن تحت الأصل هو الإجماع المنقول ، واعلم أنّ النزاع في الإجماع المنقول ـ من أنّه هل هو من الظنون الثابتة بالدليل ، أو لا ـ إنّما يتأتّى لو قلنا بحجّية أخبار الآحاد بادّعاء عموم أدلّة الخبر وشمولها له ، أو بعدم شمولها له بدعوى أنّ الظاهر منها إنّما هو حجّية الأخبار الحسّية دون الحدسية كما هو التحقيق ، وأمّا لو لم نقل بحجّية أخبار الآحاد ، فلا ينبغي التوهّم في عدم خروجه عن تحت الأصل بواسطة قيام القاطع عليه.

والحقّ أن يقال : إنّ خروج هذا الإجماع موقوف على مقدّمتين :

إحداهما : عموم أدلّة الأخبار وشمولها له كما قلنا.

وثانيتهما (٢) : أن يكون الإجماعات المنقولة في كتب أصحابنا التي يستدلّ بها في المسائل الفرعية موافقة لما اصطلح عليه علماؤنا وهو الاتّفاق الكاشف عن دخول الإمام عليه‌السلام في المجمعين أو عن رضائه عليه‌السلام ، وكلتاهما بمكان من المنع عندنا ، سواء كان الإجماع المذكور محكيّا بطريق القدماء ، أو المتأخّرين ، فإنّ الأوّل منهما إخبار عن دخول قول المعصوم عليه‌السلام في أقوال المجمعين بطريق الحدس. والثاني منهما إخبار برضاه عليه‌السلام بطريق الحدس أيضا ، وتفصيل ذلك موكول إلى بحث الأخبار والإجماع ، فلا وجه

__________________

(١) العنوان من هامش « ش ».

(٢) « ش » : ثانيهما.

١٠٧

للتعرّض لهما (١) فيما نحن فيه إلاّ أنّه لا بدّ أن يعلم إجمالا أنّ شمول أدلّة الأخبار للأخبار الحدسية يلازم جواز تقليد المجتهدين ، فإنّ المراد من الخبر حينئذ ما يقابل الإنشاء ، وفتوى المجتهد خبر عن قول الإمام ، أو عن رضاه عليه‌السلام وبطلان اللازم كالملازمة واضح.

ولا دليل على لزوم حمل الإجماعات في كلمات أصحابنا كالشيخ والسيّد وأضرابهما على المعنى الاصطلاحي إلاّ ما قد يتخيّل من أصالة إرادة كلّ متكلّم عن كلّ لفظ له فيه اصطلاح المعنى الذي اصطلح عليه (٢) ما لم يدلّ على خلافه دليل ، وهذا أيضا غير مقيّد في المقام ؛ لوجود موهنات كثيرة للحمل على هذا المعنى مثل أنّ جملة من الإجماعات المنقولة مخالفة لما اشتهر بينهم بل بعض مدّعي الإجماع قد ناقضه بنفسه في كتاب آخر ، بل في باب آخر ، وبعض آخر منهم قد صرّحوا بأنّ دعوى الإجماع مبنيّة على كون مدارك المسألة إجماعية ، فقد ذكر المحقّق (٣) في بعض الموارد أنّ دعوى الإجماع فيه لكون دليل المسألة البراءة واعتبارها إجماعي ، ولا ريب أنّ بعد ملاحظة هذه الموهنات لا يبقى بعد وثوق بإرادة المعنى المصطلح منها.

لا يقال : فيلزم فسقهم من جهة تدليسهم و (٤) حاشاهم عن ذلك.

لأنّا نقول : إنّما يلزم ذلك لو علمنا أنّ مقصودهم من الإجماع أن يكون دليلا لمن تأخّر عنهم ولم يعلم.

ثمّ [ إنّ ] لبعض أفاضل متأخّري المتأخّرين ـ وهو الشيخ الأجلّ الشيخ أسد الله الدزفولي (٥) ـ مسلكا آخر في اعتبار الإجماع المنقول ، وحاصله الفرق والتفصيل بين الإجماع الكاشف عن رضا المعصوم ونقله ، وبين نقل المنكشف ، وتحقيقه أنّ الإجماع

__________________

(١) « ل » : لها.

(٢) « ل » : فيه.

(٣) الرسائل التسع : ٢١٦ في توجيه كلام السيّد المرتضى.

(٤) « ل » : ـ و.

(٥) كشف القناع : ٤٠٠.

١٠٨

المدّعى على أمر يتضمّن أمرين :

أحدهما : إخبار مدّعي الإجماع باتّفاق العلماء وإطباقهم عليه.

وثانيهما : إخباره برضا المعصوم عليه‌السلام من حيث الاتّفاق في وجه ، أو بدخول المعصوم في وجه آخر.

والأوّل إخبار من العادل على (١) أمر حسّي وهو موافقة فتاوى المجمعين جميعا ، والثاني إخبار منه على أمر حدسي.

ودعوى عدم انتهاض أدلّة قبول خبر العدل إنّما هو (٢) في الثاني ، وأمّا الأوّل فمن المعلوم اندراجه في دليل اعتبار خبر العادل على تقدير دلالته عليه وحيث إنّ الخبر المذكور معنى قبوله ترتيب (٣) آثاره الواقعية على ما أخبر به ، فلا مناص من القول باعتباره ، فإنّ من جملة اللوازم العادية للاتّفاق كشفه عن رضا الإمام ومطابقته لقول المعصوم ، فلا بدّ من الالتزام بلوازمه ، فإنّ الأخذ بشيء أخذ بلوازمه ولو بحسب العادة فلكلّ إجماع منقول في لسان عدل جهتان : جهة إخباره عن الاتّفاق الملزوم عادة ، لمطابقته لقول الإمام عليه‌السلام مثلا ، وجهة إخباره عن رضا المعصوم ، أو عن قوله بواسطة حدس ، أو تخمين منه ، فيقبل منه من الجهة الأولى كما فيما لو أخبر مائة عدل بسماعه عن مائة عدل أنّ زيدا مثلا قد مات ، وقضيّة حجّية إخبار العدل تنزيله منزلة الواقع ، والأخذ بلوازمه العادية والعقلية والشرعية ، ومن اللوازم العادية لإخبار مائة عدل (٤) مطابقة الخبر مثلا للواقع ، فيترتّب عليه آثار موت زيد ، ولا يقبل من الجهة الثانية ؛ لأنّ مرجعه إلى حجّية قطع الغير لغيره ولا دليل عليه. مضافا إلى لزوم الهرج والمرج على تقديره.

ومن هنا ينقدح لك أنّ جريان هذا الوجه إنّما هو فيما لو عبّر عن المقصود بلفظ

__________________

(١) « ل » : في.

(٢) كذا. والأنسب : هي.

(٣) « ل » : ترتّب.

(٤) « ل » : عادل.

١٠٩

الإجماع ونحوه من الألفاظ الدالّة على الاتّفاق كاتّفقت العصابة ، أو أجمعت الأمّة ونحوها ، وأمّا لو قال مثلا بلفظ آخر لا يدلّ على الاتّفاق ، فلا عبرة به قطعا كما فيما لو قال : « قطعا » ونحوه.

فإن قلت : إنّ مقتضى التعبّد بخبر الواحد لا يزيد على الأخذ بنفسه ، وأمّا إجراء أحكامه العادية ولوازمه العقلية فلا ، كما في الأصول المثبتة على ما سيجيء تحقيقه إن شاء الله.

قلت : ذلك في الاستصحاب وأمثاله ـ من الأمور التعبّدية التي من الطرق الظاهرية ـ كذلك ، فإنّ نظر الشارع في جعل تلك الطرق ليس إلى الواقع ، وأمّا في الأدلّة الاجتهادية كخبر الواحد وأمثاله ، فليس كذلك ، فلو أخبرنا عدل (١) بوجود النار في محلّ ، لا بدّ من الأخذ بلوازمه العادية كالإحراق ، والعقلية كالحرارة مثلا كما لو أخبرنا بطلوع الشمس فنحكم باستضاءة العالم ونحوه ، إلاّ أنّه لا بدّ وأن يعلم بأنّ العامل بالإجماع إذا لم يأخذ بما ادّعاه العدل من الانكشاف ، وأخذ (٢) بمجرّد الكاشف ، فتارة على وجه يحصل له الكشف من الكاشف المنقول ، وأخرى لا يحصل.

وعلى الأوّل ، فلا إشكال في حجيته لو كان الكاشف والكشف قطعيا ، وإلاّ فهو طريق ظنّي مبنيّ حجّيته على اعتبار مطلق الظنّ ، وستسمع الكلام فيه عن قريب بما لا مزيد عليه إن شاء الله.

وينبغي التنبيه على أمور :

الأوّل (٣) : أنّه بناء على هذا المسلك ينبغي أن لا يكون فرق بين نقل الإجماع والشهرة كما لا يخفى سيّما بعد ملاحظة انطباق فتاويهم بالنصوص غالبا ؛ فإنّ السلف

__________________

(١) « ل » : عادل.

(٢) « ل » : الأخذ.

(٣) « ل » : الأمر الأوّل.

١١٠

كانوا يأخذون بفتاوى الشيخ أبي الحسن عليّ ابن بابويه القمّي عند إعواز النصوص ، فإنّ الشهرة قد تكون أدخل في كشفها عن وجود أمارة قطعية على الحكم خصوصا فيما إذا كان الحكم على خلاف الأصول والقواعد ، ولا سيّما إذا كانت المسألة مشهورة بين قدماء أصحابنا كالشيخ ومن قبله ، ولا سيّما إذا كانت عظيمة تكاد تبلغ حدّ الإجماع ، وكان المخالف فيها معدودا في زمرة الشذوذ ، بل قد يمكن الكشف على تقدير نقل اتّفاق جماعة كثيرة ، وتحصيل اتّفاق جماعة أخرى على أن يكون الكشف مستندا إلى المنقول والمحصّل ، فتأمّل ؛ فإنّ الشهرة المحكية قد يحتمل أن تكون أقوى من الإجماع المنقول.

ثمّ لا يخفى أنّ هذا المسلك إنّما يتمّ على تقدير عموم أدلّة الخبر الواحد بنقل فتاوى العلماء لا انحصاره فيما إذا حصل من النقل الاطمئنان.

وقد يفهم من كلام القائل هذا لزوم الأخذ بالكاشف تعبّدا ؛ ثمّ الاستكشاف فقد يورد عليه بأنّ الكشف لا يتأتّى فيه التعبّد كما لا يخفى ، ولذلك وجّهنا كلامه بما مرّ من الأخذ باللوازم العادية للخبر على تقدير قبول الخبر تعبّدا كما في البيّنة ، فإنّه يؤخذ بلوازم الموضوع الثابت بها.

الثاني : قد حكي عن ثاني الشهيدين والمحقّقين في شرح الألفية وجامع المقاصد (١) ثبوت التواتر فيما كان التواتر فيه معتبرا لو كان منقولا بخبر الواحد العدل ، فإنّ قضية الأدلّة الدالّة على وجوب اتّباع قول العادل ذلك ، ومن هنا قد حكما بصحّة القراءة بقراءة ما عدا السبعة من القرّاء العشرة ، وهم مشايخ القراءة : أبو جعفر وخلف

__________________

(١) المقاصد العلية في شرح رسالة الألفية : ٢٤٤ ـ ٢٤٥ ، وفي ط الحجري : ١٣٧ ؛ جامع المقاصد ٢ : ٢٤٦ نقلا ذلك عن الشهيد فقط دون العلاّمة وسيأتي نصّ كلامه في مخالفة ذلك في التعليقة التالية. وقال في هامش فرائد الأصول ١ : ٢٢٩ : ويبدو أنّ المصنّف اعتمد في ذلك على ما نقله السيّد المجاهد في مفاتيح الأصول : ٣٢٦.

١١١

ويعقوب ، مع عدم كون قراءتهم متواترة لنقل العلاّمة والشهيد في الذكرى تواترها (١).

قال الشهيد الثاني في روض الجنان بعد نقل الشهرة عن المتأخّرين وشهادة الشهيد على التواتر قال : ولا يقصر ذلك عن ثبوت الإجماع بخبر الواحد ، فيجوز القراءة بها (٢).

واعترض عليه (٣) في المدارك (٤) بأنّ ما اشترط فيه التواتر لا يكفي فيه نقل التواتر ، إذ النقل لا يجعل المنقول متواترا بل هو تواتر منقول.

والتحقيق أنّ اعتبار التواتر المنقول يتوقّف على أمرين :

أحدهما : أن يكون ناقل التواتر مصرّحا بعدد المخبرين من حيث إنّ التواتر أيضا كالإجماع يشتمل على خبر حسّي ، وعلى خبر حدسي والأوّل معتبر دون الثاني ؛ لعدم انصراف الأدلّة إليه ، فيقبل منه في جهة الكاشف دون المنكشف ، وإن حصل الكشف ، فهو ، وإلاّ فيحكم به من جهة أنّ الكشف من جملة اللوازم العادية لإخبار مائة مخبر.

وثانيهما : أن يكون ما دلّ على اشتراط التواتر فيما اشترط به دالاّ على اشتراط التواتر ولو لم يكن معلوما بالعلم الوجداني بل لو كان معلوما بالعلم الأعمّ من الوجداني والشرعي ، لكان أيضا كافيا ، فإنّه بعد تحقّق هذين الأمرين لا شكّ أنّه ممكن الاكتفاء بالتواتر المنقول ، وأمّا إذا لم يكن أحد الأمرين متحقّقا ، فلا يكتفى ،

__________________

(١) الذكرى ٣ : ٣٠٥ ، وفي ط الحجري : ١٨٧ وخالف ذلك العلاّمة قال في تذكرة الفقهاء ٣ : ١٤١ وفي ط الحجري ١ : ١١٥ : يجب أن يقرأ بالمتواترات من القراءات وهي السبعة ، ولا يجوز أن يقرأ بالشواذّ ، ولا بالعشرة ، وجوّز أحمد قراءة العشرة.

قال في منتهى المطلب ١ : ٢٧٣ ط الحجري : يقرأ بما نقل متواترا في المصحف الذي يقرأ به الناس أجمع ، ولا يقول على ما يوجد في مصحف ابن مسعود ؛ لأنّ القرآن ثبت بالتواتر ومصحف ابن مسعود لم يثبت بتواتر ، ولو قرأ به بطلت صلاته خلافا لبعض الجمهور ... يجوّز أن يقرأ بأيّ قراءة شاء من السبعة ؛ لتواترها أجمع ، ولا يجوّز أن يقرأ بالشاذّ ، وإن اتّصلت روايته تواترها.

ونحوه قال في تحرير الأحكام ١ : ٢٤٥.

(٢) روض الجنان ٢ : ٧٠٠ وفي ط الحجري : ٢٦٤.

(٣) « ش » : عليهما.

(٤) المدارك ٣ : ٣٣٨.

١١٢

وبهذا العلم وجد الاختلاف الحاصل بين هؤلاء الأعلام ، فتأمّل.

الثالث : أنّ الإجماع المنقول على القول بحجّيته يجري عليه أحكام الخبر من حيث المتن والسند والمعارض ، فبملاحظة السند ينقسم إلى الصحيح والضعيف ، ومن حيث المتن إلى المطلق والمقيّد ، ومن حيث المعارض إلى أقسام التعارض الحاصلة من اختلاف النسب بين المتعارضين.

الرابع : الظاهر من قدماء أصحابنا بل وجماعة من المتأخّرين أنّهم لم يصطلحوا في الإجماع اصطلاحا جديدا بل إنّما اتّبعوا في ذلك ما اصطلحوا (١) العامّة عليه ؛ حيث عرّفوه بأنّه اتّفاق المجتهدين. ولقد صرّح بذلك في أصول الغنية (٢) حيث حصر الأدلّة في غير الإجماع ، ثمّ أورد بأنّ الحصر لا يصحّ مع أنّ الإجماع أيضا منها.

ثمّ أجاب عنه بأنّ الإجماع كان من الأدلّة عند العامّة ، ولمّا عرضوه علينا [ و ] رأينا أنّه لا بدّ أن يكون حجّة من جهة الكشف عن دخول الإمام عليه‌السلام أو رضاه ، قلنا (٣) به ، فعلى هذا ، فما يوجد كثيرا ـ من الإجماع المنقول في لسان السيّد والشيخ وأضرابهما ممّا يكون المخالف موجودا ـ لا يمكن أن يحمل على ما هو المصطلح عندهم إلاّ إذا كان المخالف في غاية الشذوذ بل لا بدّ من الحمل على أنّ مدار الحكم ومدركه إجماعي ، أو نحو ذلك.

نعم ، يمكن الحمل على المعنى المصطلح عندهم إذا فرض الغفلة والاشتباه وأمثال ذلك ممّا هو مدفوع بالأصل وعلى تقديره لا يمكن العمل به.

__________________

(١) على لغة « أكلوني البراغيث ».

(٢) الغنية ( المطبوع في الجوامع الفقهية ) : ٤٧٨.

(٣) جواب « لمّا ».

١١٣
١١٤

[ القول في الشهرة ] (١)

الرابع من الأمور التي عدّت من الظنون الخاصّة الخارجة عن الأصل المذكور الشهرة.

قال الشهيد : وألحق بعضهم المشهور بالمجمع عليه ، فإن أراد في الإجماع ، فهو ممنوع ، وإن أراد في الحجّية ، فهو قريب (٢) لمثل ما قلناه ، ولقوّة الظنّ في جانب الشهرة (٣).

والمراد بقوله (٤) : « لمثل ما قلناه » ما علّله به حجّية ما « لو أفتى جماعة ولم يعلم لهم مخالف من أنّ عدالتهم تمنع عن الاقتحام على الإفتاء بغير علم ، ولا يلزم من عدم الظفر بالدليل عدم الدليل خصوصا ، وقد تطرّق التغيّر (٥) إلى كثير من الأحاديث ، لمعارضة الدول المخالفة ، ومباينة الفرق المنافية ، وعدم تطرّق الباقين إلى الردّ له مع أنّ الظاهر وقوفهم عليه مع أنّهم لا يقربون (٦) ما يعلمون خلافه ـ إلى أن قال ـ : وقد كان الأصحاب يتمسّكون بما يجدونه في شرائع الشيخ أبي الحسن ابن بابويه القمّي عند إعواز النصوص ، لحسن ظنّهم به وأنّ فتواه كروايته ، وبالجملة تنزّل فتاويهم منزلة رواياتهم » (٧).

__________________

(١) العنوان من هامش « ش ».

(٢) في المصدر : في الحجّة فقريب.

(٣) الذكرى ١ : ٥١ ـ ٥٢ وفي ط الحجري : ٥ ( الخامس ).

(٤) « ش » : من قوله.

(٥) في الذكرى : الدروس.

(٦) في الذكرى : لا يقرّون.

(٧) الذكرى ١ : ٥١ ( الرابع ).

١١٥

وأورد عليه في المعالم بقوله : وهذا الكلام عندي ضعيف ؛ لأنّ العدالة إنّما يؤمن معها تعمّد الإفتاء بغير ما يظنّ بالاجتهاد دليلا ، وليس الخطأ بمأمون على الظنون (١).

وفيه نظر ؛ لأنّ (٢) الظاهر أنّ مراد الشهيد ما يكون كاشفا كشفا قطعيا عن مدرك قطعي بقرينة الاستشهاد بأنّ الأصحاب كانوا يتمسّكون بها ، وتنزيل الفتاوي منزلة النصوص ، فإنّ المعهود من القدماء موافقة فتاويهم غالبا لألفاظ النصوص ، ولا ريب في حجّية مثل هذه الشهرة ، فإنّ الاعتماد حينئذ على المدرك المعلوم بالإجمال من طريق الشهرة ، ولا فرق بين أن يكون المدرك معلوما تفصيلا ، أو إجمالا كما أنّه لا ريب في إمكان هذا الكشف سيّما إذا كانت المسألة مخالفة للأصول والقواعد المقرّرة في المذهب ، وخصوصا فيما إذا كان المخالف شاذّا نادرا مع ظهور اختلاف مشارب العلماء في كيفية الأحكام ، وربّما يشعر بذلك عدّه قوّة الظنّ دليلا آخر ، فسقط ما زعمه صاحب المعالم ، فإنّ بعد المقدّمات المذكورة لا يحتمل تطرّق الخطأ بظنونهم.

ثمّ إنّه لا كلام في حجّية الشهرة من حيث الكشف كما أنّه لا كلام من حيث دخولها تحت الدليل الرابع ، وبرهان الانسداد على تقدير تماميته ، بل الكلام في المقام في أنّه هل دلّ دليل خاصّ على اعتبار الشهرة ، أو لا؟ فقد توهّم بعضهم (٣) ذلك مستندا إلى وجهين :

الأوّل : فحوى ما دلّ على حجّية أخبار الآحاد ، فإنّ الشهرة قد تكون أقوى ظنّا منه ، ويتمّ في الباقي بعدم القول بالفصل ، وقد وقع نظير ذلك للشهيد (٤) في الحكم بحجّية الذياع والشياع بفحوى ما دلّ على حجّية الشهادة ، وقد سمّاه بعضهم بمفهوم الموافقة.

وفساده أظهر من أن يخفى على ذي مسكة ؛ لأنّ الدليل الدالّ على حجّية الخبر لو

__________________

(١) معالم الدين : ١٧٦.

(٢) « ش » : فإنّ.

(٣) انظر مفاتيح الأصول : ٤٩٨ ـ ٤٩٩.

(٤) روض الجنان ٢ : ١٠٢٥ وفي ط الحجري : ٣٨٤ ؛ مسالك الأفهام ١٤ : ٢٣٠ وفي ط الحجري ٢ : ٣٢٧.

١١٦

كان من باب الظنّ ، فليس الاقتصار على الشهرة في محلّه ، وإلاّ فلا وجه للاستناد إليه ، مضافا إلى ما في دعواه الإجماع المركّب من الوهن.

وأمّا تسمية ذلك بمفهوم (١) الموافقة ، فإنّما هو مجرّد تغيير في العبارة ، فإنّها أولوية صرفة ومفهوم الموافقة ما يكون مستفادا من اللفظ كآية التأفيف ، ومنه يظهر ما في كلام الشهيد الثاني أيضا.

الثاني : ظواهر جملة من الروايات ، فمنها : مقبولة عمر بن حنظلة عن الصادق عليه‌السلام في اختلاف الحاكمين قال : « ينظر إلى ما كان من روايتهم عنّا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه عند (٢) أصحابك ، فيؤخذ به من حكمهما ، ويترك الشاذّ الذي ليس بمشهور ، فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه » (٣).

والتقريب أنّ قوله عليه‌السلام : « ويترك الشاذّ الذي ليس بمشهور » دالّ على لزوم أخذ الشهرة وحينئذ لا بدّ أن يكون قوله : « فإنّ المجمع عليه » (٤) هو المشهور.

ومنها : مرفوعة زرارة عن الباقر عليه‌السلام قال : سألت الباقر عليه‌السلام : جعلت فداك يأتي عنكم الخبران والحديثان المتعارضان ، فبأيّهما آخذ؟ فقال : « خذ بما اشتهر بين أصحابك ، ودع الشاذّ النادر ... » (٥).

تقريب الاستدلال (٦) أنّ لفظة « ما » في الحديث عامّ ، فيلزم الأخذ (٧) لكلّ مشهور ؛ لمكان الأمر به.

__________________

(١) في النسختين : بالمفهوم.

(٢) في النسختين : من.

(٣) الوسائل ٢٧ : ١٠٦ ، باب ٩ من أبواب صفات القاضي ، ح ١. وستأتي بتمامها في ج ٤ ، ص ٥٧٦.

(٤) « ل » : + لا ريب فيه.

(٥) عوالى اللآلى ٤ : ١٣٣ / ٢١٤١٣ وعنه في بحار الأنوار ٢ : ٢٤٥ ، باب ٢٩ ، ح ٥٧ ، ومستدرك الوسائل ١٧ : ٣٠٣ ، باب ٩ من أبواب صفات القاضي ، ح ٢. وستأتي بتمامها في ج ٤ ، ص ٥٨٢.

(٦) « ش » : والتقريب.

(٧) « ش » : ـ الأخذ.

١١٧

والجواب : أمّا عن الأولى منهما أنّ صدر الرواية وذيلها يعطي أن يكون الشهرة على معناها لغة ، يقال : سيف شاهر أي عار ، وشهر سيفه أي أعراه ، فالرواية المشهورة حينئذ ما لا يخفى على أحد ، فيصحّ إطلاق المجمع عليه عليها ، ولا احتياج إلى ارتكاب مثل ذلك التأويل البعيد ، والرواية الغير المشهورة ما لا يكون بهذه المثابة ، فيكون في العمل بها ريب ، فظهر وجه التوصيف والتعليل أيضا.

وأمّا عن الثانية ، فبعد الغضّ عن ضعفها عدم عموم لفظة « ما » بالنسبة إلى الفتاوى كما هو محل الكلام ، وعلى تقدير التسليم فمعناها قد عرفت في الأولى ، مضافا إلى أنّ التمسّك بأمثال الروايات في أمثال المقام قد يكون دوريا على بعض الوجوه إلاّ أن يقال : إنّها من الظنون الخاصّة ، فتأمّل.

ثمّ إنّ بعض (١) من ادّعى انطباق الرواية على حجّية الشهرة فسّر الفقرة الموجودة في الرواية الأولى ـ وهي قول الراوي : كلاهما مشهوران ـ بأنّها من جهة التعارض بين شهرة القدماء وشهرة المتأخّرين ، ولعمري إنّه كلام سخيف يكاد تضحك منه الثكلى.

__________________

(١) وسيأتي عن البعض في بحث التعادل والتراجيح : ج ٤ ، ص ٥٨٨.

١١٨

[ القول في حجّية خبر الواحد ] (١)

الخامس : من الأمور التي عدّت من الظنون الخاصّة الخارجة عن الأصل المذكور هو خبر الواحد.

واعلم أوّلا أنّه قد يتوهّم أنّ التركيب (٢) في قولهم : « خبر الواحد » توصيفي كقولهم : « الخبر المتواتر » و « الخبر المستفيض » ونحو ذلك ، وليس الأمر كذلك ، بل الحقّ (٣) أنّه تركيب إضافي ، ويشهد على ذلك صحّة قولهم : « تواترت الأخبار واستفاضت الآثار » دون قولهم : « اتّحدت » فالتواتر وصف للرواية نفسها بخلاف الوحدة ، فإنّها وصف لها باعتبار راويها ، وعلى هذا فلا بدّ من التخريج على بعض الوجوه ما قد يتراءى على خلاف ذلك ، كقولهم الرواية من الآحاد.

وكيف كان ، فالكلام في خبر الواحد يقع في جهات ثلاثة ، وكذا في كلّ دليل لفظي :

الأولى من حيث صدوره عن الحجّة.

الثانية من حيث جهة صدوره كأن يكون على وجه التقية أو لا على وجهها.

الثالثة من حيث الدلالة.

وقد سبق الكلام في الجهة الثالثة في الكتاب والسنّة بأقسامها وغيرهما ، فلا نطيل بإعادته.

__________________

(١) العنوان من هامش « ش ».

(٢) « ل » : التركّب.

(٣) « ش » : التحقيق.

١١٩

وأمّا الكلام في الجهة الثانية ، فالكتاب والأخبار النبوية معلومة جهة صدورهما ؛ حيث إنّه لا معنى للتقية هناك.

وأمّا الأخبار الإمامية ـ ولو كانت متواترة ـ فيحتمل صدورها على وجه الاتّقاء إلاّ أنّ التقية هي التورية على ما اقتضته المصلحة ، ولا يصار إليها إلاّ بعد دلالة دليل عليها ، وعلى تقدير عدمه فالأصل عدمها.

مضافا إلى أنّ الظاهر من الكلام على ما تقدّم أن يكون مسوقا لبيان ما هو المتعارف استفادته منه في العادة.

وأمّا الكلام في الجهة الأولى ، فالكتاب قطعي الصدور ، ولا حاجة إلى تجشّم استدلال كما قد ارتكبه البعض ، وكذا السنّة المتواترة على تقدير وجودها.

وأمّا أخبار الآحاد ، فهي العمدة في المقام ، فذهب بعض قاصري الدراية من الأخبارية إلى أنّ صدورها قطعي ، واستند في ذلك الفاضل المحدّث الحرّ العاملي (١) إلى وجوه تبلغ ثلاثة وثلاثين.

وأورد أمينهم في فوائده (٢) وجوها عديدة متقاربة لا دلالة في كلّها فضلا عن بعضها على المدّعى.

واستقربه المحدّث البحراني (٣) ، وحيث إنّ فساد الدعوى بمكان من الوضوح ، فلا غائلة في الانصراف عنها إلى ما هو أهمّ.

وذهب جملة منهم إلى أنّها قطعية اعتبارا بواسطة شهادة المؤلفين على صحّة مؤلّفاتهم ، وتبعهم في ذلك بعض الأصوليين (٤) إلاّ أنّه اشترط شرطين :

__________________

(١) لم أجده. انظر وسائل الشيعة ( الخاتمة ) ٣٠ : ١٩٣ وما بعدها ؛ تحرير وسائل الشيعة : ١٣٨ و ٢٠٩.

(٢) انظر الفوائد المدنية : ١٣٦ وما بعدها ، ١٧٤ ـ ١٧٨. وفي ط الحجري : ٦٣ وما بعدها ، ٨٨ ـ ٨٩.

(٣) انظر الدرر النجفية : ١٦٦ ـ ١٦٩.

(٤) كالتوني في الوافية : ١٦٦.

١٢٠