مطارح الأنظار

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني

مطارح الأنظار

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني


المحقق: علي الفاضلي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: معهد الإمام الخميني والثورة الإسلامية
المطبعة: مؤسسة العروج
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7986-36-6
الصفحات: ٦١٥

ولكنّك خبير بانقطاع الأصلين بالعلم الإجمالي بأنّ عشرة من الشهر أيّام حيضها ، فيرجع الحكم بالاحتياط إلى الشبهة المحصورة ، فتدبّر.

السادس :

قد تقدّم (١) أنّ المحدّث البحراني قد أجاب عمّا أورده صاحب المدارك على المشهور من حكمهم بوجوب الاجتناب (٢) في الشبهة المحصورة مع عدم وجوبه فيما إذا علمنا بوقوع النجاسة إمّا على الأرض أو خارج الإناء أو في الإناء (٣) مع أنّ المفروض منها باختلاف جنس أطراف الشبهة ، وقد عرفت أيضا عدم استقامته إلاّ أنّه ربّما يتراءى في جليل النظر من الفرق بين المختلفين اللذين يجمعهما (٤) عنوان تفصيلي من عناوين الأدلّة الشرعية كالإناءين المشتبهين أو الأرض والإناء المردّد وقوع النجاسة في أحدهما ، فإنّه يجمعهما عنوان تفصيلي من عناوين الأدلّة الشرعية وهو لزوم الاجتناب عن النجس ، وبين المختلفين اللذين لا يجمعهما عنوان تفصيلي شرعي كما إذا علم إمّا بأنّ زوجته مرضعة له أو أنّ الإناء الفلاني نجس ، أو علم بأنّ إمّا داره غصب أو زوجته مرضعة ، فإنّ في الأدلّة الشرعية ليس ما يجمعهما فيقال بلزوم الاجتناب في الأوّل وعدمه في الثاني نظرا إلى لزوم المخالفة في الأوّل دون الثاني ؛ إذ المفروض عدم وجوب خطاب تفصيلي يجمعهما (٥) حتّى يلزم من عدم الاجتناب مخالفته ولا يلزم مخالفة الخطابين المخصوصين لكلّ واحد منهما لكون كلّ واحد منهما مشكوكا تفصيلا ، وأحدهما أيضا ليس من العناوين الشرعية ، فارتكاب كلّ واحد من أطراف الشبهة ممّا لا غبار عليه.

لكن النظر الدقيق لا يفرق بين المقامين لاستقلال العقل بحرمة المخالفة وصدق

__________________

(١) تقدّم في التنبيه الثالث في ص ٤٧٢.

(٢) « ج » : الاحتياط.

(٣) « س » : ـ أو في الإناء.

(٤) « س » : يجتمعهما.

(٥) « ج ، م » : يجمعها!

٤٨١

المخالفة فيما لو ارتكب كلاّ من طرفي الشبهة بأن يشرب الإناء ويتصرّف في الدار على الوجه المذكور ممّا لا يدانيه ريبة فلا فرق في نظر العقل بين أن يكون أطراف الشبهة متجانسة كما زعمه المحدّث البحراني أو مجتمعة في عنوان تفصيلي كما قد يتراءى في جليل النظر أو غيرها.

نعم ، لا يبعد دعوى القول بالتفصيل في الصورة المفروضة بين ما يقع من المكلّف مقصودا وبين ما لا يقع مقصودا ، كذا أفاد سلّمه الله إلاّ أنّ ذلك أيضا ممّا لا يتمّ إلاّ بعد التقييد في دليل الواقع وبعد ذلك فلا فرق بين المقصود وغيره ، فليتأمّل في المقام.

السابع :

قد يتوهّم في المقام معاضدة استصحاب الحرمة فيما لو كانت الحالة السابقة هي الحرمة للقول بحرمة الارتكاب بل قد يجعل دليلا له بإتمام المطلوب بدعوى الإجماع المركّب ، وقد يعارض باستصحاب الحلّ فيما كانت الحالة السابقة هو الحلّ بدعوى الإجماع أيضا.

ولا عبرة بشيء منهما فإنّ التحقيق عدم اعتبار الحالة السابقة في موارد (١) الشبهة المحصورة سواء كانت الحرمة أو الحلّ لانقطاع الحالة السابقة بالعلم الإجمالي.

مضافا إلى أنّ الحرمة المعلومة في السابق غير الحرمة (٢) التي يدّعي القائل بالتحريم ثبوتها لأنّ الحرمة هذه مقدّمية عقلية ، والحرمة السابقة نفسية شرعية وهي قد انقطعت ولا يجدي في إثبات الحرمة المقدّمية كما لا يخفى.

وبالجملة ، ففي موارد الشبهة إمّا أن نعلم بالحالة السابقة في كلا الطرفين ، وإمّا أن لا نعلم بها فيهما ، أو نعلم بأحدهما دون الآخر موافقا أو مخالفا ، ولا عبرة بشيء منهما إذ المفروض علمنا بطهارة الإناءين في المثال المشهور ونجاسة الآخر ، ولا فرق في ذلك

__________________

(١) « س » : « فموارد » بدل : « في موارد ».

(٢) « س » : ـ الحرمة.

٤٨٢

بين أن نعلم بنجاستهما أو بطهارتهما ، أو لا نعلم بشيء منهما (١) ، أو بطهارة الأوّل دون الثاني كما لا يخفى.

الثامن :

إذا اشتبه أحد الأطراف بسلسلة أخرى ، ثمّ منها إلى غيرها ، فعلى ما اخترناه يجب الاجتناب عنها أيضا للعلم بوجوب الاجتناب عن أحد الأطراف في جميع السلاسل ولو كانت متصاعدة إجمالا لكن ينبغي أن يستثنى من ذلك ما لو انتهت إلى الشبهة الغير المحصورة في كلّ السلاسل ، أو في مجموعها ، فتدبّر.

التاسع :

لو اضطرّ المكلّف إلى ارتكاب أحد الأطراف ، فهل يجب الاجتناب عن الباقي مطلقا ، أو لا (٢) ، أو يفصّل بين موارد الأدلّة ، أو بين حصول العلم الإجمالي بعد الاضطرار ، أو قبله وجوه.

والتحقيق أن يقال : إنّ الدليل الدالّ على جواز الارتكاب قد يفيد حلّية المحرّم الواقعي في غير موضوع الاضطرار ، فلا يجب الاجتناب عن الباقي ، وقد يفيد جواز الارتكاب مع قطع النظر عن وروده على الأدلّة الواقعية بارتكاب تقييد فيها ، فيجب الاجتناب عن الباقي.

أمّا الأوّل ، فلرجوع الشبهة فيه إلى الشبهة البدوية إذ بعد احتمال حلّية المضطرّ عن أصله ينقلب الشكّ بدويا صرفا كما في صورة الامتناع.

وأمّا الثاني ، فلأنّ قضية الجمع بين الدليلين هو القول ببدلية الباقي عن الواقع من غير تقييد في الأدلّة الواقعية.

وأمّا لو شكّ في إفادة الدليل هل هي على الوجه الأوّل ، أو على الأخير ، ففيه

__________________

(١) سقط قوله : « إذ المفروض » إلى هنا من نسخة « س ».

(٢) « س » : ـ أو لا.

٤٨٣

إشكال من أنّ الشكّ مرجعه إلى الشكّ في نفس بعد الشكّ في كون الدليل على وجه يجب معه الاجتناب ومن لزوم الاجتناب نظرا إلى عدم العلم بالبراءة إلاّ به (١) ، ولعلّ الأوّل أقوى.

العاشر :

لو حدث حادث في أحد الأطراف على وجه يطهر النجس الواقعي لو صادفه واقعا ، فهل يجب الاجتناب ، أو لا؟ قد يظهر في النظر القول بعدم وجوب الاجتناب لارتفاع العلم الإجمالي إلاّ أنّ التأمّل قد يقضي بلزوم الاجتناب استصحابا للنجاسة (٢) اليقينية من غير معارض ، فتدبّر.

الحادي عشر :

قد عرفت في أوائل (٣) الأصل ، هذا انقسام الشبهة التحريمية الموضوعية في الشكّ في المكلّف به عند دوران الأمر بين المتباينين إلى المحصورة وقد مضى (٤) تحقيق القول فيها بما لا مزيد عليه ، وإلى غيرها ، وتوضيح الحال فيها في مقامات :

__________________

(١) « م » : « الذمّة » بدل : « إلاّ به ».

(٢) « س » : استصحاب النجاسة.

(٣) « ج » : أوّل.

(٤) « ج » : وقد عرفت معنى.

٤٨٤

المقام الأوّل

في بيان موضوعها ، فقد وكلها جماعة ممّن حام حولها إلى العرف.

وهو كما ترى لا يجدي (١) شيئا كما في غيرها ممّا يرجع إليه لاشتباه كثير من أهله في كثير من مواردها ؛ إذ المقصود بالتميز بيان حقيقتها على وجه يستعلم منه الأفراد المشكوكة فإنّ الأفراد الظاهرة لا حاجة فيها إلى التميز كما في عكسها.

وقد يظهر من غير واحد منهم بأنّ غير المحصورة ما يوجب العسر في اجتنابها ؛ فإن أرادوا بيان مفهومها وكشف القناع عن حقيقتها ، فظاهر السقوط لعدم مدخلية العسر في ماهيّة الغير المحصورة ، وإن أرادوا التفسير باللازم كما هو الظاهر فلا يستقيم طردا وعكسا ؛ لانتقاضها (٢) بالمحصورة فيما لو استلزم العسر ، وبغيرها فيما لم يستلزمه ولو لغالب أفراد النوع في غالب أحوالهم.

وقرّرها ثاني المحقّقين والشهيدين وجماعة ممّن تأخّر عنهم (٣) بأنّها ما يوجب العسر

__________________

(١) « ج » : قد يجدي!

(٢) « م » : لانتقاضهما. « ج » : لاتنهاضهما.

(٣) قال الشهيد الثاني في روض الجنان فى شرح ارشاد الأذهان ٢ : ٥٩٩ وفي ط الحجري ٢٢٤ :

وإنّما يجب اجتناب المشتبهة بالنجس ( في ) الموضع ( المحصور ) عادة كالبيت والبيتين ( دون غيره ) ، أي غير المحصور عادة كالصحراء فإنّ حكم الاشتباه فيه ساقط لما في وجوب اجتناب الجميع من المشقّة.

وإنّما اعتبرنا في الحصر وعدمه المتعارف في العادة لعدم معهود له شرعا فيرجع فيه إلى العرف لتقدّمه على اللغة ، ولأنّ الأعداد الموجودة في الخارج منحصرة لغة وإن تضاعفت أضعافا كثيرة مع عدم وجوب اجتناب جميع ذلك إجماعا ، وهذا الحكم ، أعني وجوب اجتناب المحصور دون غيره ، آت في كثير من أبواب الفقه ، كالمياه والمكان واللباس ، والمحرم بالأجنبيّ في النظر والنكاح ، والمذكّى من الحيوان بغيره وغير ذلك. والمرجع في ذلك كلّه إلى العرف ، وما حصل فيه الاشتباه بعد الاعتبار يرجع فيه إلى الأصل إلى أن يعلم

٤٨٥

__________________

الناقل عنه.

قال المحقّق الكركي في جامع المقاصد في شرح القواعد ٢ : ١٦٦ ـ في شرح قول العلاّمة :

ويجتنب كلّ موضع فيه اشتباه بالنجس إن كان محصورا كالبيت ، وإلاّ فلا ـ : لمّا كان المشتبه بالنجس قد امتنع التمسّك فيه بأصل الطهارة للقطع بحصول النجاسة في أحد المشتبهين الناقل عن حكم الأصل كان للمشتبه بالنجس حكم النجس ... هذا إذا كان محصورا في العادة كالبيت والبيتين ، أمّا ما لا يعدّ محصورا كالصحراء فإنّ حكم الاشتباه فيه ساقط ، والظاهر أنّه اتّفاقي لما في وجوب اجتناب الجميع من المشقّة.

قال المحقّق الكركي أيضا في حاشية شرائع الاسلام المطبوع في حياة الكركى وآثاره ١٠ : ١٤١ عند قول المحقّق : ( وإذا كانت النجاسة في موضع محصور كالبيت وشبهه ... ) : المراد بالمحصور وغير المحصور ما كان كذلك في العادة ؛ لأنّ الحقيقة العرفية مقدّمة على اللغوية عند فقد الشرعية ، ولأنّه لو لا إرادة العرفية هنا ، لامتنع تحقّق الحكم ، فإنّ كلّ ما وجد من المعدودات فهو قابل للعدد [ للعدّ ظ ] والحصر ، والمراد به ما تعسّر حصره وعدّه عرفا باعتبار كثرة آحاده.

وطريق ضبطه وضبط أمثاله أنّك إذا أخذت مرتبة من مراتب العدد عليا تقطع بأنّها ممّا لا يحصر ولا يعدّ عادة ؛ لعسر ذلك في الزمان القصير كالألف مثلا تجعلها طرفا ، ثمّ تأخذ مرتبة أخرى دنيا كالثلاثة ممّا تقطع بكونها محصورة ومعدودة ؛ لسهولة عدّها في الزمان القصير فتجعلها طرفا مقابلا للأوّل ، ثمّ تنظر فيما بينهما من الوسائط ، فكلّ ما جرى مجرى الطرف الأوّل تلحقه به ، وما جرى مجرى الطرف الثاني تلحقه به ، وما وقع فيه الشكّ يعرض على القوانين والنظائر ويراجع فيه القلب [ كذا ] ، فإنّ غلب على الظنّ إلحاقه بأحد الطرفين فذلك ، وإلاّ عمل فيه بالاستصحاب إلى أن يعلم الناقل.

وهذا ضابط لما ليس بمحصور شرعا في أبواب الطهارة والنكاح غيرهما ، فمتى اشتبه المذكّى بغيره ، والطاهر بالنجس في الثياب والمكان والأواني والمياه وغير ذلك ، والمحرم بالأجنبيات وكان غير محصور لم يجب الاجتناب ، وإلاّ وجب.

قال الفاضل الهندي في كشف اللثام عن قواعد الأحكام ٣ : ٣٤٨ ـ ٣٤٩ : ( ويجتنب ) السجود على ( كلّ موضع فيه اشتباه بالنجس ) ... وإنّما يرشد إليه ما ورد في الماءين المشتبهين ، والحلال المشتبه بالحرام ، وإنّما يجتنب ( إن كان محصورا ) عرفا ( كالبيت ) والدار ( وإلاّ )

٤٨٦

في عدّها من حيث كثرة أطراف الشبهة بمعنى أنّ القضايا المنتزعة عن أطراف الشبهة على سبيل منع الخلوّ تبلغ في الكثرة حدّا يوجب العسر لو أريد تحديدها من حيث تعيين المشتبه ، وأمّا لو تعلّق بالإعداد والتحديد غرض آخر غير تعيين المشتبه ، فقد لا يكون العدّ عسرا كما لا يخفى لاختلاف العسر واليسر باختلاف وقوع الفعل على الوجوه المتكثّرة.

وينبغي أن يراد من الكثرة كثرة أطراف الشبهة لا كثرة المشتبهات ليدخل في المحصورة ويخرج عنها ما لو قلّت أطراف الشبهة وإن كثرت المشتبهات كما في شبهة الكثير في الكثير فإنّه لو اشتبهت ألف دراهم بعشرة آلاف دراهم ، فإنّ المشتبهات كثيرة يوجب إحصاؤها عسرا إلاّ أنّ أطراف الشبهة عشرة بعد إسقاط المكرّرات وعدم اعتبار الصور المتداخلة.

ثمّ إنّ المراد بأطراف الشبهة أيضا ما يكون في العرف والعادة متعارفا جعلها أطراف الشبهة فإنّ الحبّة الواحدة من السمسم وما يشابهه في الصغر لا يكون من أطراف الشبهة (١) عندهم فيما لو اشتبه واحدة بمنّ منه بل أطراف (٢) الشبهة في أمثاله ما هو المتعارف في استعمالاته من القبضات ونحوها كما لا يخفى ، ومع ذلك كلّه فلا يجدي شيئا كما يظهر من الضابطة التي قرّرها في المقام ، حيث جزم بكون الألف من غير المحصورة قطعا ، وأحال الأمر إلى ما يقتضيه الأدلّة عند الشكّ ، فإنّ المقصود على ما عرفت إقعاد قاعدة يتميّز بها صور الشكّ على ما هو ظاهر لا سترة عليه (٣) ، وبعد الرجوع إلى الأدلّة فلا جدوى في القاعدة.

__________________

كالبلد ( فلا ) للحرج والأداء إلى الترك.

ولعلّ الضابط أنّ ما يؤدّي اجتنابه إلى ترك الصلاة غالبا فهو غير محصور ، كما أنّ اجتناب شاة أو مرأة مشتبهة في صقع من الأرض يؤدّي إلى الترك غالبا.

(١) « س » : ـ الشبهة.

(٢) « م » : الأطراف!

(٣) « ج ، م » : ـ عليه.

٤٨٧

وحيث إنّ بيان الموضوعات فيما لم يكن في عنوان الأدلّة الشرعية كما (١) في ألفاظ الكتاب والسنّة أو موردا لنقل الإجماع أو معقدا للإجماع ممّا لا يترتّب عليه كثير فائدة ، فلا وجه للإطناب في المقام بإيراد النقوض والإبرام ؛ لعدم ورود هذا اللفظ في عنوان دليل ، إلاّ أن يقال : إنّ المحقّق الثاني بعد ما فسّرها بما مرّ ادّعى الإجماع على عدم وجوب الاجتناب عنه (٢) ، فلعلّ (٣) مورد نقله الإجماع هو ما فسّرها ، وهو كما ترى.

المقام الثاني

في أنّه هل يجب الموافقة القطعية فيها ، أو لا؟ الحقّ عدم الوجوب ؛ للأدلّة الأربعة كتابا وسنّة وإجماعا وعقلا.

أمّا الأوّل ، فالآيات الدالّة على عدم جعل الحرج في الدين ، والتقريب بوجهين :

__________________

(١) « م » : + هو.

(٢) تقدّم نصّ عبارة المحقّق الكركي في التعليقة السابقة ، قال المحدّث البحراني في الحدائق ٥ : ٢٨١ : قال المحقّق الشيخ حسن في المعالم : وإذا علمت الملاقاة على الوجه المؤثّر واشتبه محلّها فإن كان موضع الاشتباه غير محصور لم يظهر للنجاسة أثر وبقي كلّ واحد من الأجزاء التي وقع فيها الاشتباه على أصل الطهارة لا نعرف في ذلك خلافا ، وإن كان محصورا فظاهر جماعة من الأصحاب أنّه لا خلاف حينئذ في وجوب اجتناب ما حصل فيه الاشتباه كما مرّ في اشتباه الإناء من الماء الطاهر بالنجس ، ولم يذكروا على الحكم هنا حجّة وقد بيّنّا في مسألة الإناءين أنّ العمدة في الحكم بوجوب اجتنابهما على الإجماع المدّعى هناك ، وأنّ ما عداه من الوجوه التي احتجّوا بها ضعيفة مدخولة ، ولعلّ اعتمادهم في الحكم هنا أيضا على الإجماع لا على تلك الوجوه. انتهى.

أقول : أمّا ما ذكره بالنسبة إلى المحصور ـ من أنّه ظاهر جماعة من الأصحاب المؤذن بعدم الاتّفاق على ذلك ـ فهو مردود بأنّه لم يوجد المخالف في هذه المسألة بكلّ من طرفيها ـ أعني المحصور وغير المحصور ـ سواه ومن في طبقته ومن تأخّر عنه ، ولهذا أنّه في المدارك كما قدّمنا في عبارته قال : هذا الحكم إشارة إلى المحصور مقطوع به في كلام الأصحاب.

(٣) « ج » : فلعلّه.

٤٨٨

الأوّل : أنّ الاجتناب عن الشبهة الغير المحصورة يلازم العسر في الأغلب للعلم الحاصل لأغلب أفراد النوع بأنّ أغلب الأجناس الموجودة عندهم والمستعملة لديهم ـ من المأكولات والمشروبات والملبوسات وغيرها ممّا يشتمل على فرد محرّم ـ على وجه لا ينفكّ في أغلب الأحوال الاحتراز عنها عن العسر والحرج والضيق.

والثاني : أنّ في ترك الأفراد المباحة الكثيرة والإلزام به مقدّمة لترك الحرام المشتبه بينها عسرا لا ينكره إلاّ المكابر ، ولهذا قد قلنا بأنّ الحرام المشتبه لو كان ممّا يعتدّ بشأنه عندنا ويهتمّ به كما لو كان النبيّ أو المعصوم مشتبها في جماعة غير محصورة يجوز قتلهم يجب الموافقة القطعية فإنّ الفعل يختلف عسرا ويسرا بحسب اختلاف وجوهه ووقوعه على عدّة وجوه كما لا يخفى هذا ، إلاّ أنّ التقريب الأوّل يتوقّف على مقدّمتين يتطرّق إليهما المنع :

إحداهما : هو لزوم العسر على الأغلب في أغلب الشبهات الغير المحصورة في أغلب الأحوال (١) كما هو المصرّح به في التقريب.

وثانيتهما (٢) : الدليل الدالّ على ارتفاع العسر والحرج بهذه المثابة.

وكلتا المقدّمتين في محلّ من المنع.

أمّا الأولى ، فظاهرة.

وأمّا الثانية ، فالأدلّة الدالّة على ارتفاع العسر والحرج (٣) عن هذه الأمّة المرحومة لا تخلو عن أقسام ثلاثة (٤) :

أحدها : ما يدلّ على ارتفاع العسر عن الكلّ في الكلّ على وجه يكون المناط هو العسر الشخصي على كلّ شخص كما هو المستفاد من قوله تعالى : ( ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي

__________________

(١) هنا في « س » زيادة ما يلي : كما هو المصرّح به في أغلب الأحوال!

(٢) « ج ، س » : ثانيهما.

(٣) سقط قوله : « بهذه المثابة » إلى هنا من نسخة « س ».

(٤) في النسخ : ثلاث.

٤٨٩

الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ )(١) فإنّ الظاهر المتبادر منه عدم جعل حكم يشتمل (٢) على عسر على كلّ أحد في الدين ، وهذا هو المتيقّن من رفعه كما هو المعمول عند الفقهاء كما لا يخفى.

وثانيها : ما يدلّ على عدم جعل الحكم المشتمل على العسر في الأغلب على الكلّ كما هو المستفاد عن بعض أخبار الباب ، فإنّ جملة منها ظاهرة في أنّ الحكمة في جعل الحكم الفلاني على الكلّ اشتماله على العسر في الأغلب على الأغلب.

وهذا بعيد عن مظانّ كلماتهم ومطاوي استدلالاتهم ؛ فإنّ عملهم ليس على الحكم في الأحكام كما لا يخفى.

وثالثها : ما يدلّ على اشتمال الدين على الأحكام العسرة بمعنى أنّ مبنى الأمر في الدين على اليسر دون العسر كما يقال في العرف : إنّ رأي المجتهد الفلاني عسر ، ورأي الآخر فيه يسر ، ولا يراد به أنّ تمام أحكامه مشتمل على العسر ، ورأي غيره على اليسر ، بل المقصود أنّ مبنى أمر فتوى الأوّل على العسر ، والآخر على اليسر ، ولا ينافي أن يكون بعض أحكام الأوّل غير عسر ، وبعض الأحكام للثاني عسرا ، ولا ينافي ذلك يسره على البعض في الأوّل ، وعسره على البعض في الآخر كما هو مستفاد من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « بعثت على الملّة السمحة السهلة » (٣) فإنّ الظاهر منه هو ما ذكرنا.

وهذا وإن كان بعيدا عن مساق كلامهم إلاّ أنّه قريب عن مساق تلك الأدلّة في حدود ذواتها فإنّها لكونها واردة في مقام الامتنان تنافي التخصيص لكونه أضحوكة عندهم في مقام الامتنان ، ولا سيّما فيما إذا تكثّر كما في المقام.

وبالجملة ، فالقدر المتيقّن من ارتفاع العسر والحرج إنّما هو على الوجه الأوّل على ما يساعد عليه كلمات الفقهاء أيضا ، واعتبار العسر النوعي إنّما يتوقّف على دليل

__________________

(١) الحجّ : ٧٨.

(٢) « ج » : يشمل.

(٣) الوسائل ١ : ٢١٠ ، باب ٨ من أبواب الماء المضاف والمستعمل ، ح ٣ ، وفيه : « فإن أحبّ دينكم إلى الله الحنيفية السمحة السهلة » وورد في النهاية لابن الأثير ١ : ٤٣٤ : بعثت بالحنيفية السمحة السهلة ».

٤٩٠

خاصّ خارج كما ثبت في بعض المقامات ، ولا يكفي في إثباته الاستناد إلى أدلّة العسر ، فاحفظ ما ذكرنا واضبطه ، فلعلّه ينفعك في كثير.

و (١) أمّا الثاني ، فصنفان :

الأوّل : ما بخصوصه يدلّ على جواز الارتكاب في الشبهة الغير المحصورة كما عرفت (٢) في خبر أبي الجارود في حديث الجبنّ وهو يشعر بما ذكرنا في تقريب الاستدلال بالآيات في الوجه الثاني كما لا يخفى.

والثاني : ما بعمومه وإطلاقه يدلّ على الجواز كقوله : « كلّ شيء يكون فيه حلال وحرام » (٣).

والتقريب أنّ الرواية المذكورة على ما مرّ غير مرّة محمولة على الشبهة البدوية وحيث إنّ الشبهات البدوية لا تنفكّ غالبا عن الشبهة الغير المحصورة ، فما (٤) يدلّ على جواز الارتكاب فيها يدلّ على جواز الارتكاب فيها أيضا بالالتزام.

لا يقال : إنّ الإطلاق لا دخل له في هذه الجهة وإنّما هو منساق لبيان حكم الشبهة البدوية في حدّ ذاتها.

لأنّا نقول : قد قرّر في مباحث المطلق والمقيّد أنّ المطلق لو صادف في الأغلب شيئا آخر وحكم الإطلاق بحلّيته ، فلا بدّ من القول بتسرية الحكم إلى الآخر أيضا ، وإلاّ لانحصر مورد المطلق في النادر فتأمّل.

ثمّ إنّ ممّا قرّرنا يظهر الوجه في عدم الانتقاض بالشبهة المحصورة إذ (٥) لا نقول بشمول الرواية بإطلاقها لغير المحصورة حتّى يتوجّه النقض بها كما لا يخفى.

وأمّا الثالث ، فقد نقل جملة من أعيان الفقه وأركان العلم الإجماع عليه ، مضافا إلى

__________________

(١) « م » : ـ و.

(٢) عرفت في ص ٤٦٥.

(٣) تقدّم في ص ٣٥٩.

(٤) « ج » : فيما!

(٥) « س » : ـ إذ.

٤٩١

تحقّق الإجماع في الجملة في بعض الأقسام عندنا.

وأمّا الرابع ، فلأنّ المبنى في لزوم الاجتناب هو حكم العقل بلزوم دفع الضرر العقابي المحتمل في كلّ من الأطراف ، ونحن نشاهد عيانا ، ونعاين وجدانا عدم الاعتداد بهذا (١) الاحتمال في الشبهة الغير المحصورة على وجه يعدّ المجتنب عنها سفيها ، ومحلّ الاجتناب عنها ملحق بآراء أصحاب السوداء والجنون ، ومن العجب مساواة الاحتمال لكلّ واحد من الأطراف وإن لم يكن محصورا (٢) ومع ذلك فلا يعتني (٣) العقل بالاحتمال بمعنى أنّ العقل عند ملاحظة معارض آخر ولو في الجملة يحكم بتقديم معارضه عليه مع أنّ الضرر العقابي على ما عرفت في موضوع احتماله لا ينبغي أن يعارضه شيء ، فكيف بالتقديم عليه.

وبالجملة ، العقل لا يبالي من عدم الاجتناب فيما إذا تكثّرت أطراف الشبهة مع تساوي الاحتمال في الواقع بالنظر إلى كلّ واحد منها إلاّ أنّ النفس ربما (٤) تحتال (٥) في تحصيل الظنّ بالبعض ، ومنه يعلم وجه إلحاق المشكوك في الغلبة.

ثمّ إنّ من هنا يمكن استنباط مناط المقام وتحصيل معيار يعلم به المحصورة عن غيره كأن يقال : إنّ الغير المحصورة ما لا ينافي العقل بارتكابه بعد العلم بوقوع المحرّم فيها كما لا يخفى ، كذا أفاد سلّمه الله إلاّ أنّه كغيره أيضا ممّا لا يجدي فائدة ؛ لعدم العلم في تمام الموارد ، فتدبّر.

__________________

(١) « م » : وبهذا!

(٢) « س ، م » : محصورة.

(٣) « س » : فلا يفتي.

(٤) « س » : بما!

(٥) في النسخ : يحتال.

٤٩٢

المقام الثالث

في أنّه هل يجوز المخالفة القطعية ، أو لا؟ فنقول : إنّ قضية الأدلّة القائلة بعدم وجوب الموافقة القطعية لا تزيد على مدلولها المذكور سيّما فيما لو كان مقصودا ابتداء فإنّ منها الأدلّة النافية للعسر ، وظاهر عدم انتهاضها على ارتكاب جميع أطراف الشبهة.

وأمّا الأخبار ، فالعامّة منها كقوله : « كلّ شيء يكون فيه حلال » (١) لا دلالة فيها على جواز المخالفة كما عرفت في الشبهة المحصورة لعدم مقاومتها لأدلّة (٢) الواقع ، فإنّ العمدة في المقام كما عرفت في بعض الأمور المتقدّمة هو عدم وقوع تمام أطراف الشبهة في محلّ الابتلاء ، ولذلك يصير الدليل الدالّ على الحرمة مقيّدا لئلاّ يلزم الاستنكار العرفي ، وأمّا في محلّ الابتلاء ينجّز التكليف بالواقع ولا يجوز المخالفة.

وأمّا الأخبار الخاصّة كخبر أبي الجارود (٣) ، فالظاهر أنّ دلالتها على جواز المخالفة ظاهرة.

وأمّا الإجماع ، فالحقّ عدم دلالته بوجه على جواز المخالفة فإنّ المجمعين على ما يظهر من مساق كلامهم في مقام بيان عدم وجوب الاجتناب كما في الشبهة المحصورة ، وأمّا جواز المخالفة فغير ظاهر كلامهم فيه ، ويرشدك إلى هذا عدم تعرّضهم لبيان الأحكام الوضعية المترتّبة على جواز المخالفة عند دعوى الإجماع على عدم لزوم الاجتناب من لزوم التطهير فيما إذا اشتمل على نجس ونحوه ، مع أنّ من المناسب ذكره في مثل المقام كما لا يخفى.

وأمّا العقل ، فهو يفصّل بين أن يكون بانيا على ارتكاب الجميع ابتداء فيحكم بعدم الجواز ، وبين ما يلزم منه المخالفة من غير قصد إلى ارتكاب الكلّ ، فلا يبالي بالمخالفة.

__________________

(١) تقدّم في ص ٣٥٩.

(٢) « ج » : للأدلّة!

(٣) تقدّم في ص ٤٦٥.

٤٩٣

كذا أفاد سلّمه الله إلاّ أنّ قضية تنجّز التكليف بالواقع عدم جواز المخالفة مطلقا كما في الشبهة المحصورة ، والتفصيل المذكور لو تمّ ، فهو جار فيها أيضا إلاّ أن يقال بالفرق بينهما كما عرفت في بيان دلالة العقل على عدم وجوب الموافقة القطعية. هذا تمام الكلام في الشبهة الغير المحصورة التحريمية.

وأمّا الشبهة الغير المحصورة الوجوبية ، فيحتمل أن يقال بلزوم الإتيان بقدر المشتبهات من الأطراف الغير المحصورة على وجه لا يحصل له العلم بالمخالفة على حسب اختلاف كثرة المشتبهات وقلّتها ، فلو كانت خمسة مثلا ، يجب الإتيان بها ، أو العشرة يجب الإتيان بها ، ويحتمل أن يقال بلزوم الإتيان على قدر وسعه وطاقته بحيث لا ينجرّ إلى العسر والحرج بدعوى استقرار بناء العقلاء على ذلك ، فنهض (١) فارقا بين المقام وبين الشبهة التحريمية في الغير المحصورة حيث قد عرفت بعدم لزوم الاجتناب فيها.

كذا أفاد سلّمه الله ، وللمنع فيه مجال واسع ، لعدم الفرق بين المقامين في جليل النظر ، اللهمّ إلاّ أن يقال إنّ الشبهة التحريمية لا تنفكّ (٢) دائما عن احتمال الامتثال إلاّ عند استيعاب تمام الأطراف بالارتكاب بخلاف الشبهة الوجوبية حيث إنّ ترك الكلّ ممكن ، فيلزم المخالفة القطعية ، وقد مرّ أنّ (٣) المخالفة القطعية في التحريمية أيضا إثبات جوازها ممّا دونها خرط القتاد ، فتأمّل.

ثمّ إنّك قد عرفت فيما تقدّم في المقام الأوّل أنّ مقام الشكّ في انحصار الشبهة وعدم انحصارها لا بدّ من الرجوع إلى الاحتياط وقد يتوهّم الرجوع إلى البراءة عند الشكّ إلاّ أنّ عدم التخصيص في الأدلّة الواقعية يقضي (٤) بلزوم الاحتياط كما تقدّم في كلام المحقّق الثاني.

__________________

(١) « ج » : فينهض.

(٢) في النسخ : لا ينفكّ.

(٣) « ج » : « يكون » بدل : « مرّ أنّ »!

(٤) « ج » : تقتضي.

٤٩٤

أصل

[ في دوران الأمر بين الواجب والحرام من الشكّ في المكلّف به ]

في الشبهة الموضوعية عند الشكّ في المكلّف به فيما دار الأمر بين الواجب والحرام ، وملخّص القول في المقام هو لزوم فعل أحدهما دائما وترك الآخر كذلك فإنّه أسلم الوجوه المتصوّرة في المقام ؛ لاستلزام فعل الكلّ وتركهما موافقة قطعية مصاحبا مع مخالفته كذلك ، وترك أحدهما في البعض وفعل الآخر كذلك يوجب العلم بمخالفة واقعية في البعض بخلاف اختيار أحدهما دائما وترك الآخر كذلك ، لاحتمال الموافقة دائما مع عدم العلم بالمخالفة ولو في بعض الأوقات ، و (١) لا ريب في ترجيح العقل له على غيره من القسمين الآخرين عند الدوران بينهما.

وهذا ممّا لا يدانيه ريبة إلاّ أنّه لا بدّ من أن يعلم أنّ الحكم على الوجه المزبور إنّما يتمّ فيما إذا لم يكن هناك أصل موضوعي يشخّص الحلال من الحرام والواجب من غيره ، وأمّا عند إمكان التعيين بالأصل ، فلا ريب في الأخذ بمقتضاه كما أنّه لا ريب في أنّ ما ذكر إنّما يتمّ فيما لو لاحظنا مجرّد الوجوب والحرمة من غير ملاحظة أمر خارج عنهما كما إذا كان أحدهما متعدّدا فيما لم يكن الآخر بمكان من الأهمّية فإنّه يجب الأخذ بالمتعدّد حينئذ لأنّ تحصيل الامتثالين أولى بخلاف ما إذا كان الآخر أهمّ ، فيجب مراعاته وإن كان متّحدا.

__________________

(١) « م » : ـ و.

٤٩٥

ثمّ إنّ ما ذكرنا إنّما يتمّ فيما إذا كان المتعدّد معلوما من بين المشتبهات كأن يعلم إمّا بحرمة شرب هذين الإناءين أو وجوب شرب الإناء الآخر أو (١) بالعكس ، وأمّا إذا لم يعلم بالمتعدّد ، فلا فرق في ذلك أيضا كما لا يخفى.

وبالجملة ، فلا بدّ للفقيه من ملاحظة الموارد ، فربّ واجب يقدّم على الحرام وإن قلنا بأولوية دفع المضرّة عن جلب المنفعة ، وربّما ينعكس المطلوب ولو مع قطع النظر عن القاعدة المذكورة ، فلتكن (٢) على خبر منه.

__________________

(١) « ج » : و.

(٢) « ج ، م » : فليكن.

٤٩٦

أصل

[ في الشبهة الوجوبية الحكمية من الشكّ في المكلّف به فيما دار الأمر بين المتباينين ]

قد عرفت في أوّل البحث انقسام الشبهة إلى الشكّ في (١) التكليف ، والشكّ في المكلّف به ، وأنّ كلّ واحد منهما إمّا موضوعية ، وإمّا حكمية ، وقد فرغنا عن بيان أحكام الشبهات التكليفية موضوعية وحكمية ، وعن الشبهة (٢) في المكلّف به في الشبهات الموضوعية على حسب اختلاف أقسامها ؛ من المتباينين وجوبية وتحريمية ، ودوران الأمر بين المحذورين ، وما (٣) دار الأمر بين الأقلّ والأكثر.

بقي الكلام في الشبهة الحكمية عند الشكّ في المكلّف به ، فتارة يقع الكلام في المتباينين ، وأخرى في الأقلّ والأكثر ، وعلى الأوّل فتارة في الشبهة الوجوبية ، وأخرى في التحريمية ، ومرّة في دوران الأمر بين المحذورين.

والأصل هذا معقود لبيان الشبهة الوجوبية منها ، فتارة فيما إذا تعارض النصّان ، فتفصيل الكلام فيه في الخاتمة إن شاء الله ، وأخرى لفقد النصّ أو إجماله.

أمّا الكلام عند التعارض ، فمحصّله التخيير على ما سيجيء ، وأمّا عند فقد النصّ أو إجماله كما إذا علمنا بوجوب الظهر ، أو الجمعة إجمالا ولم نحقّق الواجب بالخصوص

__________________

(١) « م » : ـ الشكّ في.

(٢) « م » : الشكّ.

(٣) « م » : « فيما » بدل : « وما ».

٤٩٧

لعدم النصّ عليه ، أو لإجمال (١) فيه (٢) ، فيقع الكلام فيه في مقامين (٣) : فتارة في جواز المخالفة القطعية وعدمه ، وأخرى في وجوب الموافقة وعدمه.

الكلام فيها في مقامين : المقام الأوّل في جواز المخالفة القطعية وعدمه أمّا الكلام في المقام الأوّل ، فقد يظهر من المحقّق القمّي تبعا للمحقّق العلاّمة الخوانساري (٤) ـ على ما حكاه عنه ـ جواز المخالفة ، والحقّ عدمه كما ستعرف.

وقد يتوهّم إحالة الأمر في المقام إلى ما تقدّم في الشبهة المحصورة.

وليس على ما ينبغي للفرق الظاهر بين المقامين للعلم بوجوب الاجتناب عن النجس في الواقع وإن كان مردّدا بين أشياء ، والقطع بتعلّق الطلب فعلا أو تركا على حسب اختلاف المقامات فيها بخلاف المقام (٥) ؛ فإنّ الخطاب غير معلوم المراد ، فما هو مقطوع لا يجدي ؛ لأنّه بمنزلة مجرّد الصوت ، وما هو مجد غير معلوم وهو المراد ، فربّما يسبق إلى الوهم القول بالبراءة في المقام دون الشبهة المحصورة فإنّ الوهم (٦) فيها بمكان من البعد على ما عرفت.

ثمّ إنّه قد يتوهّم أيضا قياس المقام بما مرّ في دوران الأمر بين الواجب والحرام في الشبهة الحكمية التكليفية.

وسقوطه ظاهر ؛ لاستلزامه المخالفة العملية في جميع صوره بخلافه كما عرفت تفصيلا.

وكيف كان فاحتجّ القائل بأنّ التكليف في المقام إمّا بأحدهما معيّنا ، أو بأحدهما غير معيّن ، أو بالواقع المجهول عندنا (٧) ، والكلّ باطل.

أمّا الأوّل ، فلعدم الأمر به كما هو المفروض ، ويكشف عنه قبح العقاب عند العقول السليمة على ترك أحدهما بالخصوص.

__________________

(١) « س » : إجماله. « ج » : لإجماله.

(٢) « ج » : ـ فيه.

(٣) « ج » : المقامين.

(٤) القوانين ٢ : ٣٦ و ٣٧ ؛ مشارق الشموس : ٧٧.

(٥) « ج » : المقام الأوّل.

(٦) « س » : الموهم.

(٧) « ج » : ـ عندنا. « م » : عنده.

٤٩٨

وأمّا الثاني ، فلعدم دلالة الأمر على أحدهما بهذا الوصف ؛ لكونه أمرا انتزاعيا لا يناط عليه الخطابات الشرعية ولا غيرها.

وأمّا الثالث ، فلقبح العقاب عليه مع كونه مجهولا كما في الشكوك البدوية إن أريد إثبات الوجوب بالنسبة إليه بمجرّد الخطاب المجهول عندنا ؛ إذ المفروض عدم العلم به ، وإن أريد (١) إثبات التكليف بواسطة أدلّة أخرى من إجماع على لزوم الإتيان بشيء ، أو أخبار الاحتياط ، فعلى تقدير وجوده ممّا لا يضرّ بما نحن بصدده من اقتضاء القواعد كما لا يخفى.

والجواب عنه أنّ التكليف بالواقع المجهول عندنا ولا ضير فيه ؛ لأنّ الجهل بالخطاب غير مضرّ بعد العلم بنفس التكليف كما في صورة العلم التفصيلي فيما لو علمنا تفصيلا بأنّ المائع الفلاني إمّا هو خمر ، وإمّا ماء مغصوب فإنّ الخطاب مجهول ، وحيث إنّ العلم حاصل ، فلا ضير في جهل الخطاب ، ففي المقام نحن ندّعي أنّ العلم الإجمالي بمنزلة العلم التفصيلي ، فكما أنّ الجهل بالخطاب مع حصوله لا يضرّ في لزوم العمل على طبقه ، فكذا (٢) في المقام ، فالعلم الإجمالي منجّز للتكليف كالعلم التفصيلي لعموم إطاعة أوامره ونواهيه تعالى عقلا ونقلا.

ويكشف عن ذلك تكليف الكفّار بالفروع مع عدم العلم التفصيلي (٣) بخصوصيات الأحكام الفرعية إجماعا منّا ، وصحّة عقاب الجاهل المقصّر (٤) كما حقّق في محلّه ، وقوله عليه‌السلام فيما سأله السائل عن سماع صوت الجواري في الخلأ : « ما أسوأ حالك لو كنت تموت

__________________

(١) سقط قوله : « إثبات الوجوب بالنسبة » إلى هنا من نسخة « س ».

(٢) « س » : وكذا.

(٣) سقط قوله : « لعموم إطاعة أوامره » إلى هنا من نسخة « س ».

(٤) سقط من « ج » : قوله : إجماعا منّا ... الجاهل المقصّر.

٤٩٩

بهذه الحالة » (١) وعليه استقرّ طريقة العقلاء في إطاعة مواليهم وتعذيب عبيدهم كما هو أوضح من الشمس ، وأبين من الأمس عند الرجوع إلى سجيّتهم.

فالمانع إمّا أن يقول بأنّ مجرّد الجهل بالخطاب يقضي بعدم التكليف ولو جرّد النظر عن جميع ما عداه ، فكلامه منقوض بصورة التمكّن من تحصيل العلم التفصيلي ؛ إذ بمجرّد الجهل سقط التكليف ، ولا دليل على وجوب مقدّمة الواجب بعد سقوط ذيها ، فلا دليل على تحصيل العلم ؛ لأنّ مقدّمة الواجب المشروط ليس بواجب اتّفاقا ، ولهذا قد طعن على القائل بلزوم الفحص مع عدم القول بوجوب الواقع عند الجهل كالمقدّس الأردبيلي ومن تابعة كصاحب المدارك ونحوه (٢) جمال المحقّقين (٣) بأنّ وجوب المقدّمة مع عدم وجوب ذيها من أعجب العجائب.

اللهمّ إلاّ أن يقال بأنّ الفحص واجب نفسي لا مقدّمي كما يراه بعض الأجلّة (٤) تبعا

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٣٣١ ، باب ١٨ من أبواب الأغسال المسنونة ، ح ١ وفيه : « ما أسوأ حالك لو متّ على ذلك » وتقدّم في ص ٨٤ و ٢٢٤ وسيأتي في ص ٥٨٤.

(٢) مجمع الفائدة والبرهان ٢ : ١١٠ ؛ مدارك الأحكام ٢ : ٣٤٤ ـ ٣٤٥ و ٣ : ٢١٩ ، وقال المحقّق السبزواري في الذخيرة : ١٦٧ بعد نقل كلام صاحب المدارك : وبالجملة الظاهر أنّ التكليف متعلّق بمقدّمات الفعل كالنظر والسعي والتعلّم ، وإلاّ لزم تكليف الغافل ، أو التكليف بما لا يطاق والعقاب يترتّب على ترك النظر لكن لا يبعد أن يكون متضمّنا لعقاب التارك مع العلم.

ولا يخفى أنّه يلزم على هذا أن لا يكون الكفّار مخاطبين بالأحكام ، وإنّما يكونون مخاطبين بمقدّمات الأحكام ، وهذا خلاف ما قرّره الأصحاب ، وتحقيق هذا المقام من المشكلات.

وسيأتي عنهم أيضا في ص ٥٨٠. انظر أيضا بحث القطع والظنّ : ٢٢٧ ؛ مطارح الأنظار ، بحث مقدّمة الواجب ١ : ٤١٧ ؛ فرائد الأصول ٢ : ٤١٨.

(٣) الحاشية على شرح اللمعة : ٣٤٥ ، عند قول الشهيد في كتاب الصوم : « ولو نسي صحّ والجاهل عامد ».

(٤) ذهب في الفصول : ٨٦ في بحث مقدّمة الواجب أنّه واجب غيري قال : ولا يذهب عليك أنّ وجوب تحصيل العلم أو الظنّ في موارده غيريّ إذ الواجب في الحقيقة هو العمل المعلوم أو

٥٠٠