مطارح الأنظار

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني

مطارح الأنظار

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني


المحقق: علي الفاضلي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: معهد الإمام الخميني والثورة الإسلامية
المطبعة: مؤسسة العروج
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7986-36-6
الصفحات: ٦١٥

الخارجة (١) عن المتعارضين على وجه يحصل الظنّ بصدور الخبر ، مثلا من الظنّ الحاصل من تلك الأمارة والمرجّح كالشهرة والإجماع المنقول والأولوية والاستقراء ونحوها بنفس الحكم ، والظنّ بالحكم في تلك المرجّحات إنّما يستند إلى نفس الخبر بعد اقترانه بها ، فهو خارج عمّا عقد المقام له بل التحقيق في استكشاف هذا الإجماع إنّما هو من (٢) تعليلاتهم تقديم (٣) بعض الأخبار على بعضها في مقام التعارض من غير ذكر الوجه في ذلك التعليل ، مثلا يحكمون بتقديم الرواية التي رواها أكثر على غيرها معلّلا في ذلك بقولهم : « لأنّه أرجح » من غير تعرّض للدليل في وجوب تقديم الأرجح على غيره ، فكأنّه كبرى إجماعية لصغرى وجدانية ، أو برهانية بحسب الاختلاف في الموارد.

قال المحقّق في المعارج ما حاصله : وجوب تقديم [ مضمون الخبر الموافق للقياس ؛ لأنّه أقرب إلى الواقع من مضمون الآخر ](٤).

وقال المحقّق البهبهاني الأستاذ الأكبر (٥) في الفوائد الحائرية : [ وعند الأخباريين أنّ بناء المرجّحات على التعبّد ... وأمّا المجتهدون ، فلمّا كان بناؤهم على التحرّي وتحصيل ما هو أقرب في ظنّهم في السند والدلالة والتوجيه ، فلا يستشكلون في هذه الأخبار أيضا ، وكلّ يبني الأمر فيها على ما هو الأقرب عنده ](٦). ويظهر ذلك عند المراجعة إلى

__________________

(١) « ل » : الخارجية.

(٢) « ل » : عن.

(٣) « ل » : بتقديم.

(٤) لم يرد مقول قوله في النسختين وموضعه بياض ، استدركناه ما بين المعقوفين من معارج الأصول : ٢٦١ ـ ٢٦٢ وعنه في الرسائل ١ : ٦٠٩.

(٥) « ل » : ـ الأستاذ الأكبر.

(٦) لم يرد مقول قوله في النسختين وموضعه بياض ، استدركناه ما بين المعقوفين من الفوائد الحائرية : ٢١٢ ـ ٢١٣ وعنه في مفاتيح الأصول : ٦٨٨.

وقال أيضا في الفوائد الحائرية : ٢١٣ : وحيث ظهر أنّ بناء الترجيح على ما يورث الظنّ والرجحان فلا اعتداد ببعض المرجّحات التي ذكرها بعض.

٣٢١

طرقهم في التراجيح حتّى أنّ من المعلوم عندهم ذلك.

ويؤيّده ما يظهر من العامّة العمياء تقديمهم الرواية التي رواها أهل المدينة على غيرها معلّلين بكونها أرجح حيث إنّهم على زعمهم مهابط وحي الله ، ومنازل روح القدس ، وذلك مثل ما يستكشف الإجماع على اعتبار التعدّد في الشهادة ممّا تداول الاستدلال به عندهم (١) كما في مقام التقويم وغيره (٢) بقولهم : لأنّه شهادة ، فالمهمّ عندهم بيان الصغرى ، فالكبرى مسلّمة لديهم وقد نقله بعض أساطين العلماء.

ومنها : دليل الانسداد ، وبيانه أنّه لا مناص من الترجيح في الأخبار المتعارضة لكثرتها بوجه يوجب المخالفة القطعية كثيرا لو قلنا بالطرح فيهما كما فيما لو قلنا بالتخيير بينهما ، والمرجّحات المعلومة من الأمور الراجعة إلى الدلالة في المتعارضين كالنصوص والظهور والظاهر والأظهر ممّا لا تفي بجميع أبواب الفقه بوجه ، يرتفع معها العلم الإجمالي ، فلا بدّ من الترجيح بمطلق الظنّ.

لا يقال : إنّ الأعدلية وموافقة الكتاب ومخالفة العامّة ونحوها من المرجّحات المنصوصة ممّا يكفي في مقام الترجيح مع كونها قدرا متيقّنا بالنسبة إلى غيرها من المرجّحات.

لأنّا نقول : لو سلّم الكفاية بها ، فلا ريب في استوائها لسائر الظنون ؛ لأنّ غاية ما دلّ على جواز الترجيح بها هو الخبران المأثوران ، والناظر فيهما بعد إمعان النظر في مواردهما من الاختلاف الواقع في الترتيب بينهما ـ والأمر تارة بالأخذ بما هو أوثق منهما (٣) ـ يحكم حكما جزميا بأنّ المدار على مطلق الظنّ.

مضافا إلى المنقول من الإجماع والمحقّق من الشهرة ، فلا وجه للقول بكون المرجّحات المزبورة قدرا متيقّنا بالنسبة إلى غيرها.

__________________

(١) المثبت من « ل » وهامش « ش » وفيها : عنهم.

(٢) « ل » : غيرهم.

(٣) « ل » : فيهما.

٣٢٢

وفي كلّ من الوجوه المذكورة نظر :

أمّا في الأوّل ، فلأنّ الأصل لا يعارض إطلاق أدلّة التخيير بقسميها من الأخبار الواردة فيه (١) ابتداء ، أو بعد المرجّحات المنصوصة.

قلت : ولعلّ إطلاق الأخبار الآمرة بالأخذ بها ممّا ينافي الاشتغال أيضا ، فلا عبرة به في قبال الدليل.

وأمّا في الثاني ، فلأنّ غاية ما يفيد ظهور الإجماع وما نقله البعض هو الظنّ بجواز الترجيح ، والمفروض عدم حجّية الظنّ في المسألة الأصولية أيضا كما في الفروع على ما قرّرناه في أوّل الكلام.

وأمّا في الثالث ، فللمنع من لزوم المخالفة القطعية بعد إعمال المرجّحات المعلومة في الدلالات ، ألا ترى أنّ جملة من العلماء زعموا قطعية الأخبار ومع ذلك لا محلّ للتعارض السندي ، فوجه الترجيح عندهم منحصر في الدلالة ولا حرج فيه كما لا يخفى.

قال الأستاد : الإنصاف أنّ التعويل على الظنّ في مقام الترجيح لو كان مستندا إلى إجماع ، فلا كلام ، وإلاّ فهو في الحقيقة كلام لا يرجع إلى حاصل.

اللهمّ إلاّ أن يرجع إلى توهين الطرف المخالف على وجه يخرج عن موضوع ما هو الحجّة بحسب الدليل ، لكنّه خلاف ما هو المفروض بالبحث في المقام ، فإنّ الكلام ـ على ما نبّهنا عليه في أوّل البحث ـ إنّما هو في المتعارضين بعد كونهما حجّتين ومشمولين لما دلّ على اعتبارهما نوعا ، والتوهين إنّما يتأتّى على القول بحجّية الأخبار المفيدة للظنّ ، أو على القول بحجّية الظنون المطلقة.

نعم ، يمكن القول بتقديم الخبر الموافق لخصوص الشهرة والإجماع المنقول المفيد للظنّ على القول بحجّية الأخبار تعبّدا ، أو نحوه نظرا إلى عدم انصراف الدليل الدالّ

__________________

(١) « ل » : فيها.

٣٢٣

على الحجّية إلى ما خالف الشهرة.

وبالجملة ، فالتخلّف عن الشهرة والإجماع المنقول في مقام التعارض ممّا دونه خرط القتاد وإن كان إثبات الإجماع عليه أصعب ، فتدبّر.

تذنيب

لو كان هناك خبران متعارضان من جهة الصدور ، وبعد الغضّ عن جهة الصدور علما أو ظنّا ، وعن الدلالة ، فهل يصحّ الشهرة وغيرها من الظنون للترجيح في مقام جهة التعارض من حيث جهة الصدور ، أو لا؟ وجهان : فإن قلنا بأنّ أصالة عدم التقية من الأصول التعبّدية كأصالة الحقيقة ، فلا عبرة بالشهرة ، وإلاّ فيؤخذ بها مرجّحا ولعلّ الأوّل أقوى.

ثمّ لو كان الشهرة موافقة لأحد المتعارضين وعلمنا بأنّها من مرجّحات الدلالة ، أو السند ، أو جهة الصدور ، فإن قلنا بأنّها مرجّحة في المقامات الثلاثة ، فلا كلام كما أنّه كذلك فيما لو قلنا بأنّها ليست مرجّحة فيها بأجمعها ، إنّما الإشكال فيما لو كان ممّا يقع بها الترجيح بالنسبة إلى بعض المقامات كالسند دون الدلالة ، أو جهة الصدور دون غيرها مثلا ، ولم يعلم أنّ الترجيح في أيّ منها ، فهل تعتبر تلك الشهرة مرجّحة لما وافقها من الخبرين ، أو لا؟ الأقوى عدم وقوع الترجيح به ؛ لعدم العلم بالترجيح فيما يعتبر فيه الترجيح ، فلا بدّ من الوقف. هذا آخر ما أردنا إيراده ( في هذا المجلّد ، ويتلوه مجلّد آخر إن شاء الله محرّرا في شهر رجب ١٢٨٣ ) (١).

__________________

(١) ما بين الهلالين من نسخة « ش » وفي هامشها : بلغ مقابلته مع نسخة الأصل بحمد الله تعالى ومنّه.

٣٢٤

[ مباحث الأصول العملية

البراءة والاشتغال ]

٣٢٥
٣٢٦

أصل

[ فى الأصول العقلية ]

[ البراءة العقلية ]

ومن الأحكام العقلية التي يبتني ثبوتها (١) على القول بالتحسين والتقبيح العقليين الحكم بخلوّ الذمّة وفراغها عن عهدة التكليف عند الشكّ فيه سواء قلنا بالملازمة بين الحكمين ـ كما هو التحقيق على ما مرّ ـ أو لم نقل ؛ فإنّ الملازمة المبحوث عنها إنّما هو فيما إذا أدرك العقل الحسن والقبح في أفعال العباد التي هي محالّ للأحكام الشرعية وليس الأمر كذلك فيما نحن بصدده ؛ إذ مرجع الحكم في المقام إلى قبح التكليف بلا بيان والعقاب بلا برهان وليس شيء منهما بأفعال العباد ؛ فإنّ التكليف والعقاب من أفعاله تعالى ، وليس أفعاله ممّا يتعلّق بها حكم شرعي على ما هو المقرّر في مقامه ، وهذا الحكم العقلي المتوصّل به إلى نفي الحكم الشرعي والعقاب هو المعبّر عندهم بأصالة البراءة ، وقد يسمّى بالبراءة الأصلية وأصالة النفي.

وقد يستشكل في المقام بأنّ الدليل العقلي هو حكم عقلي يتوصّل به إلى حكم شرعي ـ على ما مرّ تفصيل القول فيه في أوائل المقصد ـ فعلى هذا لا وجه لعدّ البراءة من الأدلّة العقلية ؛ فإنّ غاية ما يمكن (٢) التوصّل بها إليه هو نفي العقاب ودفع المؤاخذة ووضع التكليف ـ كما هو المستفاد من جملة من الأخبار الواردة فيها أيضا كما سيأتي

__________________

(١) « س » : التي ثبوتها مبني.

(٢) « ج » : + به.

٣٢٧

إن شاء الله ـ ونفي العقاب وأمثاله ليس من الأحكام الشرعية ، فلا يصير الموصل إليه دليلا عقليا اصطلاحا.

وأمّا الحكم بالإباحة الظاهرية ، فهو ممّا يدلّ عليه الدليل الشرعي كقوله : « كلّ شيء مطلق » (١) وأمثاله ، وليس ممّا يستفاد من العقل كما توهّمه بعض الأجلّة (٢) تبعا لجماعة كثيرة منهم ؛ لما عرفت من أنّ العقل لا يزيد حكمه على نفي العقاب والمؤاخذة ، ولا يحكم حكما إنشائيا بالإباحة الظاهرية.

لا يقال : الأدلّة الشرعية كأخبار الآحاد مثلا قد تنهض على نفي الحكم الشرعي كالوجوب أو الحرمة ، فقضيّة ما ذكرت لا بدّ وأن لا يكون دليلا شرعيا.

لأنّا نقول : الكلام في المقام إنّما هو في حكم العقل بصرافته من غير ارتباط حكم شرعي به ، وما يستفاد من إثبات حكم آخر غير ما هو المنفيّ في الأدلّة الشرعية ، إنّما هو بواسطة العلم الحاصل شرعا بعدم جواز خلوّ الواقعة عن جميع الأحكام ، فنفي الوجوب مثلا يلازم شرعا ثبوت حكم آخر وذلك بخلاف الأحكام العقلية ؛ فإنّ في نظر العقل لا دليل على عدم جواز خلوّ الواقعة عن الحكم ، فالعقل يحكم بعدم الوجوب ، ولا ينافي عدم حكمه بالإباحة أيضا ؛ لجواز خلوّه عن جميع الأحكام كأفعال البهائم والصبيان والغافل والناسي وأمثال ذلك.

وبالجملة ، فالخبر النافي لوجوب شيء يدلّ بالالتزام على ثبوت حكم آخر فيه ، ولأجله يسمّى دليلا شرعيا بخلاف العقل كما لا يخفى.

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ (٣) الحكم الشرعي أعمّ من الإثبات ـ كما في الحكم بالوجوب والحرمة والاستحباب والكراهة والإباحة ـ والنفي كما في الحكم بنفي أحدها ، ولكنّه لا يخفى على المتأمّل أنّه مع ذلك التعميم والتسامح في الحكم الشرعي لا وجه لعدّه (٤) من

__________________

(١) تقدّم في ص ١٥٩.

(٢) الفصول : ٣٥١.

(٣) « س » : بأنّ.

(٤) « ج » : لعدّها!

٣٢٨

الأحكام الظاهرية ، فإنّ حكم العقل بقبح العقاب عند عدم البيان حكم واقعي لا يناط بالظاهر أصلا وقد مرّ فيما سبق من أنّ مناط انقسام الأحكام إلى الظاهرية (١) والواقعية هو إمكان الأحكام الشأنية مع إمكان عدم الوصول إلى المكلّفين وهذا منتف في الأحكام العقلية ولو كان في موضوع الجهل.

ثمّ إنّ المراد بالأصل في هذا التركيب يمكن أن يكون معناه اللغوي بحسب واحد من موارد استعماله كقولهم (٢) : « أصل الإنسان التراب » أي (٣) الحالة السابقة من الحالة اللاحقة الموجودة فيه هو هكذا كأن يكون المعنى البراءة التي كانت موجودة ثابتة قبل ، وكثيرا ما يراد منه هذا المعنى فيما لو كان التركيب توصيفيا كقولهم البراءة الأصلية.

ويمكن أن يكون المراد به القاعدة من معانيه الاصطلاحية أي القاعدة العقلية التي توجب الحكم بخلوّ الذمّة والبراءة عن التكليف عند الشكّ مثلا ، وأغلب ما يراد به (٤) هذا فيما لو كان التركيب إضافيا.

وأمّا الدليل ، فيمكن إرادته فيه بتكلّف على أن يكون الإضافة بيانية. وما توهّمه بعض الأجلّة (٥) من أنّ الكلام في المقام في نفس المدلول دون الدليل غير سديد على التقدير المذكور. وأمّا الراجح ، فيحتمل إرادته أيضا بالتكلّف (٦) المذكور ولو كان في التركيب الإضافي ، وإلاّ ففي التركيب الحملي ممّا لا يدانيه ريب كما لا يخفى.

وأمّا الاستصحاب ، فلا يصحّ أن يراد بالأصل في المقام لا لما زعمه بعض الأجلّة (٧) من اختلاف مدارك المسألتين والأقوال فيهما لإمكان القول بخروجه عن محلّ النزاع في مسألة الاستصحاب كما احتمله بعضهم بل لأنّ الجهة المبحوث عنها في البراءة تباين

__________________

(١) « ج » : بالظاهرية.

(٢) « س » : استعمالهم كقوله.

(٣) « م » : هي.

(٤) « م » : منه.

(٥) الفصول : ٣٥١.

(٦) « م » : التكليف.

(٧) الفصول : ٣٥١.

٣٢٩

الجهة المذكورة في الاستصحاب ؛ فإنّ الاستصحاب عبارة عن الحكم بوجود شيء في الزمن اللاحق تعويلا على ثبوته في السابق على ما عرّفه جماعة (١) ، فالحكم في الاستصحاب إنّما هو بواسطة ملاحظة وجوده في السابق ، وفي البراءة يكفي في نفي الحكم نفس الشكّ فيه ، ومجرّد عدم العلم بالتكليف كاف في الحكم بالبراءة من غير أن يكون منوطا بملاحظة ثبوت الحكم في الزمن السابق بل ولو فرض استناد الحكم بوجوده في السابق لا يسمّى من هذه الجهة بالبراءة ولهذا ترى صاحب المعالم (٢) نسب إلى المحقّق قول المرتضى في الاستصحاب مع أنّه في المعتبر (٣) يقول باعتبار البراءة الأصلية ، وعدم الدليل دليل العدم بعد تقسيم مطلق الاستصحاب إلى الأقسام الثلاثة.

وبالجملة ، فالحكم في البراءة إنّما هو باعتبار مجرّد الشكّ في التكليف ، فلو فرض عدم وجود الزمان أيضا ، جاز الاستناد إليها في محلّه.

وأمّا الاستصحاب ، فالحكم فيه إنّما هو بواسطة التعويل على ثبوته في الزمن السابق ، فلا وجه لإرادته في هذا المقام.

نعم ، موارد البراءة من موارد الاستصحاب أيضا وذلك لا يقضي بصحّة إرادته في هذا التركيب كما لا يخفى ، فإنّ الشيخ بنى في العدّة (٤) على مثل ذلك في الردّ على من زعم الحكم بإمضاء الصلاة للمتيمّم فيما لو وجد الماء في الأثناء ، فإنّه يحكم بالإمضاء لعدم دليل على وجوب النقض لا للاستصحاب وإن كان المورد ممّا يصحّ التمسّك به على القول به.

وأمّا عدّهم البراءة الأصلية من أقسام الاستصحاب ، فإنّما هو بواسطة اتّحاد

__________________

(١) عرّفه الخوانساري في مشارق الشموس : ٧٦ ناسبا له إلى الأصوليين كما سيأتي في أوّل مبحث الاستصحاب.

(٢) معالم الدين : ٢٣٥.

(٣) المعتبر في شرح المختصر ١ : ٣٢.

(٤) عدّة الأصول ٢ : ٧٥٦.

٣٣٠

الموردين فيه كما عرفت.

ثمّ إنّ هناك أصولا أخر كأصالة الأقلّ عند الشكّ بينه وبين الأكثر وأصالة العدم وعدم الدليل دليل العدم لا بأس بالتنبيه على النسبة بينها ، فنقول :

أمّا أصالة الأقلّ ، فهو أخصّ مطلقا من أصالة البراءة لكونها من أفرادها ، وقد يؤخذ من أصالة العدم ، فهي إذا شعبة من شعبها.

وأمّا عدم الدليل دليل العدم ، فهو أعمّ مطلقا من البراءة ؛ لاختصاصها بالأحكام الشرعية التكليفية وجريانه في غيرها (١) أيضا ، فإنّ عدم الدليل على ثبوت الوضع في الألفاظ ، أو على النبوّة مثلا دليل على عدم (٢) الوضع والنبوّة ، وعدم الدليل على الوجوب دليل على عدم الوجوب ، ولا فرق في ذلك بين موارده. وهذا (٣) بناء على ما هو التحقيق من أنّ النافي يحتاج إلى دليل مثبت للنفي ؛ إذ القضايا المطلوبة إثبات نسبها في الواقع لا تنحصر في الموجبات ، فإنّ السوالب أيضا أحكام محتاجة إلى الإثبات (٤).

نعم ، المانع المردّد الشاكّ الذي لا يجزم بأحد طرفي الخلاف لا يحتاج إلى الدليل ، وأمّا على ما توهّمه بعضهم من عدم الاحتياج إلى الدليل في النفي ، أو على التفصيل بين العقليات والشرعيات ـ كما نقله الشيخ في العدّة (٥) وابن زهرة في أصول الغنية (٦) ـ فلا مورد لهذا الأصل أصلا على أحد الوجهين ، ويختصّ بالشرعيات على الآخر كما لا يخفى.

لكن ينبغي أن يعلم أنّ عدم الدليل دليل العدم قد (٧) يفيد القطع كما إذا كان المدلول ممّا لا يتحقّق بدون دلالة دليل عليه كالأحكام التكليفية المنجّزة في رقاب العباد ، فإنّ الوجوب الفعلي تحقّقه مشروط بالعلم ، فعدم ما يدلّ عليه في الحقيقة دليل على عدمه

__________________

(١) « س » : غيره.

(٢) « م » : العدم!

(٣) « ج » : ـ وهذا.

(٤) « ج » : إثباتها.

(٥) نقله عن قوم الطوسي في عدّة الأصول ٢ : ٧٥٢.

(٦) الغنية المطبوع في الجوامع الفقهية : ٥٤٨.

(٧) « م » : « فلا » بدل : « قد »!

٣٣١

في الواقع ، وقد يفيد الظنّ كما إذا كان الحكم ممّا يعمّ به البلوى ، وقد لا يفيد شيئا منهما فلو كان هناك استقرار طريقة العقلاء على العمل به ولو بإرجاعه إلى قاعدة العدم ، فهو وإلاّ (١) فلا وجه للاستناد إليه.

وأمّا قاعدة العدم ، فأعمّ من الجميع كما عرفت ممّا مرّ ، فلا نطيل بالإعادة. هذا تمام الكلام في ملاحظة النسبة بين البراءة وسائر الأصول على حسب ما يقتضيه المقام.

[ قاعدة الاشتغال ]

وأمّا قاعدة الاشتغال المعمولة في قبال قاعدة البراءة ، فلا بأس بالتنبيه على بيان الحكم فيها وكيفيّة حكم العقل بها تتميما لما مرّ ، فإنّ الأشياء تعرف بأضدادها ، على أنّ الموارد الآتية ـ المتنازع فيها جريان البراءة والاشتغال ـ ممّا لا مناص تحقيق الكلام فيها وتصوير النزاع من تصوير الاشتغال أيضا ، ويستتبعه الكلام في أصالة التخيير والاستصحاب على وجه يعلم به كيفية حكم العقل فيهما ، فنقول :

قولهم : قاعدة الاشتغال إنّما هو جزء من القضية القائلة بأنّ الاشتغال اليقيني يحتاج إلى فراغ يقيني ، كقولهم : قاعدة « على اليد » فكأنّه عبارة عنها وكناية منها أقيمت (٢) مقامها للاختصار ، والأصل في قولهم : أصل الاشتغال القاعدة يعني القاعدة المستفادة من حكم العقل بأنّ بعد العلم بالاشتغال لا يجوز الاقتناع بالشكّ ، ولا يكفي الشكّ في البراءة بل لا بدّ من تحصيل اليقين بالفراغ في قبال قاعدة البراءة ، فكما أنّ العقل يستقلّ بأنّ عند الشكّ في التكليف لا بدّ من إجراء أحكام عدم التكليف وعدم الالتزام به ، فكذلك يستقلّ بأنّ عند الشكّ في الفراغ لا بدّ من الحكم بعدم الفراغ وعدم الالتزام به ، ومن إجراء أحكام التكليف ، وهذا الحكم العقلي في المقامين إنّما يناط بنفس الشكّ في التكليف والفراغ ، وبمجرّد عدم العلم بهما ، ومن هنا يظهر أنّه لا

__________________

(١) « س » : أو لا!

(٢) « م » : أقيم.

٣٣٢

حاجة في إثبات الاشتغال أو البراءة إلى الاستصحاب بل لا يعقل الاستصحاب فيهما وفي نظائرهما.

وتوضيح ذلك وتحقيقه يتوقّف على تمهيد مقدّمة هي (١) أنّ المطلوب في الاستصحاب هو ترتيب أحكام مترتّبة على بقاء المستصحب عليه حال الشكّ في بقائه وارتفاعه ، وأمّا لو كان الأحكام ممّا يترتّب على حدوث شيء ، فعند الشكّ في بقائه لا وجه للاستصحاب ؛ لعدم ارتباط الشكّ في البقاء بترتّب أحكام الحدوث عليه ، فالحدوث حال الشكّ في البقاء قطعي ، ولا حاجة إلى استصحاب الحادث ليترتّب عليه أحكام الحدوث بل ولا يعقل ؛ لاختصاص مورد الاستصحاب بالشكّ اللاحق والمفروض هو العلم في اللاحق أيضا ، ولا يجدي في جريانه تقدير عدمه وفرض انتفائه ؛ إذ المقدّر أنّ الأحكام ممّا يترتّب على الحدوث ، والاستصحاب يحكم ببقائه ، ولا ملازمة بين الحدوث والبقاء في ترتيب أحكام أحدهما على الآخر ، مثلا لو فرضنا أنّ (٢) جواز الدخول في الصلاة إنّما هو ممّا يترتّب على نفس الوضوء في السابق ولو لم يكن باقيا في اللاحق ، فعند الشكّ في البقاء لا وجه لاستصحاب الطهارة ليترتّب عليه جواز الدخول في الصلاة ، فإنّ جواز الدخول على الفرض قطعي في اللاحق ، فلا يجري الاستصحاب.

وإذ قد تمهّد هذه ، فنقول : إنّ العقل إنّما يستقلّ بإتيان الصلاة في أربع جهات عند اشتباه القبلة على القول بثبوت التكليف حال الجهل أيضا ، وأمّا على القول بعدم تعلّق التكليف حال الجهل باعتبار إجمال الدليل كما يراه بعضهم ، فالكلام المذكور ساقط عن أصله ، وحكمه هذا إنّما يستند إلى الشكّ في الفراغ ، والعقل (٣) الحاكم بالصلاة في أربع جهات إنّما هو موجود قبل الفعل وبعده وفي أثنائه ، والعلّة التي استند إليها العقل في

__________________

(١) « ج » : وهي.

(٢) « م » : ـ أنّ.

(٣) « م » : فالعقل.

٣٣٣

ذلك هو الشكّ في الفراغ ، وهو موجود حتّى يحصل العلم بالفراغ فالاستصحاب إمّا أن يقول القائل به (١) بجريانه قبل الفعل ، أو في أثنائه ، وعلى التقديرين لا وجه له.

أمّا على الأوّل ، فظاهر ؛ لأنّ المفروض أنّ العقل بواسطة عدم العلم بالبراءة والشكّ في الفراغ حكم بالإتيان على أربع جهات.

وأمّا على الثاني ، فلأنّ العقل الحاكم بالاحتياط موجود ولم يحدث بعد (٢) شيء به يرتفع حكمه بوجود العلّة وهو الشكّ في الفراغ وعدم العلم بالامتثال.

فإن قلت : إنّ الاستصحاب قد يجري في موارد الأدلّة الاجتهادية مع العلم بوجود الحكم السابق في اللاحق باعتبار الدليل ولكن بعد فرض انتفاء الدليل غاية الأمر عدم الحاجة إليه وذلك لا ينافي جريانه ، ففي المقام أيضا لا مانع من القول بجريانه ولو بعد تقدير عدم حكم العقل بالاحتياط بواسطة الشكّ في الفراغ.

قلنا : ذلك في موارد الأدلّة الاجتهادية مجد بخلاف ما نحن بصدده ؛ فإنّ بعد فرض انتفاء حكم العقل بتحصيل العلم بالفراغ ، استصحاب الاشتغال لا يقضي بإتيان الصلاة في أربع جهات إلاّ بعد ملاحظة حكم العقل (٣) بإتيانها فيها من حيث إنّها مقدّمة علمية ، فظهر ممّا ذكر أنّ الحكم بوجوب الإتيان بالمحتملات إنّما يترتّب على حدوث الاشتغال والشكّ في الفراغ ، وليس ذلك من آثار بقاء الاشتغال وأحكامه ، فيحرز بقاؤه بالاستصحاب ليترتّب عليه أحكامه كما هو المقصود في الاستصحاب في مجاريه ، وذلك نظير ما مرّ الإشارة إليه في مباحث الظنّ من أنّ الشكّ في الحجّية يكفي في نفيها ، ولا يصحّ التعويل في ترتّب (٤) آثارها على استصحاب عدم الحجّية.

فإن قلت : إذا تعلّق الأمر بشيء تعيينا ، وشكّ في الإتيان بالمأمور به ، فلا مناص من استصحاب الأمر والاشتغال ، ولا ضير فيه أصلا ؛ فإنّ الإطاعة واجبة عند العلم

__________________

(١) « ج » : ـ به.

(٢) « م » : بعده.

(٣) سقط قوله : « بتحصيل العلم ... » إلى هنا من نسخة « س ».

(٤) « م » : ترتيب.

٣٣٤

التفصيلي ولو لم نقل بلزوم دفع الضرر المحتمل كما هو المناط في القاعدة المذكورة ، وعند الشكّ في بقاء الأمر وارتفاعه يستصحب الأمر ، فيصير معلوما تفصيلا (١) بالعلم الشرعي ، فيجب ترتيب آثار المتيقّن (٢) عليه من لزوم الإطاعة والامتثال ، وهذا الحكم إنّما هو من آثار بقاء الأمر والاشتغال ولا مدخل لحدوثه فيه ، فإنّه لو فرض عدم البقاء ، لا يجب الإتيان والامتثال.

قلنا : فرق ظاهر بين ما ذكر وبين ما نحن بصدده ، فإنّ الكلام يقع تارة فيما إذا علم التكليف (٣) وشكّ في الإتيان بالمكلّف به الذي هو معلوم تفصيلا ـ كما إذا أمر المولى بالصلاة مثلا وشكّ في إتيانها في وقتها ـ وأخرى فيما إذا شكّ في أنّ المكلّف به أيّ فعل من الأفعال المردّدة مثلا ، وما ذكر (٤) إنّما يتمّ في المقام الأوّل ، وليس هناك ممّا يجري فيه قاعدة الاحتياط والاشتغال بل هو مجرى الاستصحاب ولا غائلة فيه لثبوت أحكام المتيقّن عند الاستصحاب على ما فرضه و (٥) كما هو المطلوب بالاستصحاب في مجاريه بخلاف المقام الثاني كما هو محلّ الكلام في المقام ، فإنّه من مجاري الاشتغال ، والاستصحاب فيها (٦) ممّا لا يجدي بعد عدم القول بوجوب دفع الضرر المحتمل ولزوم تحصيل العلم عند الشكّ في الفراغ ، فإنّ وجوب الصلاة في الجهات التي لم (٧) يقع فيها الصلاة ليس ممّا يترتّب على استصحاب الاشتغال كما لا يخفى.

وتوضيحه : أنّ المكلّف بعد ما شكّ في المكلّف به فإمّا أن يقال بسقوط التكليف في حقّه كما يراه بعضهم ، وإمّا أن يقال ببقائه حال الجهل أيضا ، لا كلام على الأوّل ، وعلى الثاني فالحكم بالإتيان بجميع المحتملات ابتداء وفي أثناء العمل ممّا لا يجدي فيه الاستناد إلى الاستصحاب.

__________________

(١) « ج » : تفصيليا.

(٢) « س » : المتّفق.

(٣) « س » : بالتكليف.

(٤) « ج ، م » : ذكره.

(٥) « ج » : ـ و.

(٦) « ج » : فهذا. « س » : فهما.

(٧) « ج » : ـ لم.

٣٣٥

أمّا الأوّل ، فظاهر.

وأمّا الثاني ، فلأنّ الحكم بإتيان بعض المحتملات التي لم يأت بها المكلّف ممّا لا يترتّب على بقاء الاشتغال ؛ إذ غاية ما يفيده الاستصحاب هو بقاء الاشتغال ، ومقتضاه الإتيان بالمكلّف به واقعا ، ولا يزيد على ذلك كما إذا كان الاشتغال في أوّل الأمر قطعيا ، فإنّ الاستصحاب إنّما يوجب تنزيل المشكوك فيه منزلة المقطوع به ، ومن المعلوم أنّ الاشتغال القطعي لا يقضي (١) بالإتيان بالمحتملات لا في أوّل الأمر ولا في الأثناء إلاّ بعد انضمام مقدّمة خارجية هي (٢) حكم العقل بتفريغ الذمّة عند العلم بالاشتغال وعدم العلم بالفراغ والشكّ في البراءة ، فالاشتغال الثابت بحكم الاستصحاب كيف يعقل اقتضاؤه للإتيان بالمحتملات مع كونه منزّلا منزلة الواقع؟!

اللهمّ إلاّ أن يقال في المثال المذكور : استصحاب بقاء الاشتغال مثبت لكون الباقي من الجهات المحتملة هي (٣) القبلة ، وهو ـ كما ترى ـ بمكان من الوهن والضعف سيّما إذا كان الجهة الغير المأتيّ بها متعدّدة ، فإنّ الأمر بالعكس إذ احتمال كون الباقية قبلة واقعية (٤) يقضي بإتيانها لا أنّها قبلة واقعية ، فيجب إتيان الصلاة فيها كما لا يخفى.

فظهر ممّا مرّ أنّ استصحاب الاشتغال يجري فيما لا يجري فيه قاعدة الاشتغال والاحتياط ، وما يجري فيه الاشتغال وقاعدة الاحتياط لا يجري فيه الاستصحاب.

وما عسى يتوهّم ـ من تمسّك بعضهم باستصحاب الاشتغال كالمحقّق (٥) في المتيمّم الواجد للماء في أثناء الصلاة حيث أفاد أنّ استصحاب الصحّة يعارضه استصحاب الاشتغال ـ فإنّما هو مبنيّ على مجرّد المناقشة في الدليل وأمثاله ، وإلاّ فكيف يعقل التمسّك به مع وضوح فساده وظهور كساده من جهة أخرى أيضا؟ وهو عدم مقاومة استصحاب الاشتغال باستصحاب الصحّة لكونه واردا عليه ورود الاجتهادي على

__________________

(١) « ج » : لا يقتضي.

(٢) « خ ل » بهامش « س » : بل.

(٣) « ج ، س » : هو.

(٤) « س » : ـ واقعية.

(٥) معارج الأصول : ٢٨٩ ذكره في عداد أدلّة المانعين ثمّ أجاب عنه.

٣٣٦

العملي كما لا يخفى ، وإلاّ فلم يبق هناك مورد للاستصحاب وهذا هو تمام الكلام في أصالة الاشتغال.

[ أصالة التخيير ]

وأمّا أصالة التخيير ، فمرجعها إلى حكم العقل بعدم تعيين واحد من الدليلين (١) عند تعذّر الأخذ بهما معا وطرحهما كذلك مع عدم ما يعيّن أحدهما بالخصوص.

وأمّا الاستصحاب ، فهو حكم العقل ببقاء الشيء عند الشكّ في وجوده في اللاحق بعد العلم بوجوده في السابق من حيث ثبوته في السابق ، فمستند حكم العقل بالبقاء في الاستصحاب هو الوجود السابق لكنّه ظنّي ، ولا ينافيه حصول الشكّ ؛ فإنّ العقل عند الشكّ بملاحظة وجوده في السابق يحكم حكما ظنّيا بوجوده في اللاحق على نحو حكم العقل في سائر الأدلّة العقلية الظنّية كالاستقراء مثلا.

ثمّ إنّه ينبغي أن يعلم أنّ المرجع عند الشكّ للمكلّف ينحصر في الأصول الأربعة حصرا عقليا ؛ لأنّ الإنسان البالغ العاقل إمّا أن يكون ملتفتا ، أو لا.

وعلى الثاني ، فلا كلام لنا فيه في أمثال المقام.

وعلى الأوّل إمّا أن يكون عالما بالحكم ولو علما شرعيا ، أو لا يكون بل يكون شاكّا ولو شكّا شرعيا.

وعلى الأوّل ، فلا كلام فيه أيضا.

وعلى الثاني إمّا أن يكون الحالة السابقة معلومة له ، أو لا.

فعلى الأوّل فهو مجرى الاستصحاب.

وعلى الثاني إمّا أن يكون شاكّا في التكليف خصوصا أو عموما مع عدم دوران الأمر بين المتنافيين ، أو لا.

__________________

(١) « س » : الدليل!

٣٣٧

فعلى الأوّل فهو مجرى البراءة ، ومع دوران الأمر بين المحذورين فهو مجرى التخيير.

وعلى الثاني ، فمع عدم دوران الأمر بين المحذورين وإمكان الجمع فهو مجرى الاشتغال ومع عدم إمكانه ودوران الأمر بين المتنافيين والمحذورين فهو أيضا مجرى التخيير.

والقوم إنّما جرت عادتهم في مدّ (١) الأصول الثلاثة الأخيرة في هذا المقام وانفراد الاستصحاب بالبحث نظرا إلى أنّ الحكم فيه ليس منوطا بنفس الشكّ بل لا بدّ فيه من ملاحظة ثبوت المشكوك في الحالة السابقة بخلاف غيره ، فإنّ الحكم فيها يناط بمجرّد الشكّ ، ولذلك قد اكتفوا بإيرادها في بحث واحد بحسب مواردها ، فلا بدّ من تشخيص مواردها وتميز مجاريها ؛ فإنّ عليها يدور رحى الفقه كلّه ، وبيان الاختلاف الواقع في تلك الموارد والتحقيق فيها فنقول :

الشكّ إمّا أن يكون في خصوص التكليف كما لو شكّ في وجوب شيء و (٢) حرمته مع قطع النظر عن الترديد بينه وبين غيره ، أو مع ملاحظة الترديد كما لو شكّ في وجوب شيء أو حرمته ؛ فإنّ مجرّد الترديد بين الحرمة والوجوب لا يجدي في عدم كون الشكّ هذا من أقسام الشكّ في التكليف بعد تقييده بالخصوصية.

وإمّا أن يكون في المكلّف به.

وعلى التقديرين إمّا أن يكون منشأ الشكّ هو الاشتباه في الحكم الشرعي كأن لا يعلم أنّ شرب التتن في القسم (٣) الأوّل حرام في أصل الشريعة ، أو قراءة الدعاء عند رؤية الهلال واجبة أو لا ، أو لا يعلم أنّ الصلاة في يوم الجمعة بحسب أصل الشرع الواجب منها هو الظهر أو الجمعة ، أو الحرام في الشرع هو الشيء الفلاني أو غيره (٤) في القسم الثاني ، وإمّا أن يكون منشأ الاشتباه والشكّ هو الاشتباه في الأمور الخارجية

__________________

(١) المدّ هو البسط.

(٢) « م » : أو.

(٣) « ج » : تقسيم.

(٤) « ج » : « لا » بدل : « غيره ».

٣٣٨

كأن لا يعلم أنّ الواجب هو الإتيان بالصلاة عند اشتباه القبلة بأيّ جهة من الجهات ، أو لا يعلم أنّ المانع الفلاني هو الخمر حتّى يكون مكلّفا بالاجتناب عنه أو الماء حتّى لا يجب الاجتناب.

وعلى التقادير الأربع إمّا أن تكون الشبهة تحريمية كأن يكون الأمر دائرا (١) بين الحرام وغير الواجب على سبيل منع الخلوّ ، أو وجوبية كأن يكون دائرا بين الواجب وغير الحرام على المنفصلة المانعة الخلوّ يشتمل (٢) ما إذا كان الأمر دائرا بين الواجب والحرام أيضا.

وهذان القسمان إنّما يتصوّر أقسام كثيرة فإنّ غير الحرام في الشبهة الوجوبية قد يكون هو الاستحباب أو الكراهة أو الإباحة أو الاثنان منهما أو الثلاثة ، وغير الواجب في الشبهة الوجوبية أيضا كذلك ، وعند دوران الأمر بين الواجب والحرام يتصوّر أقسام كثيرة ؛ لاحتمال غيرهما ثلاثية أو رباعية أو خماسية على اختلاف الصور في الأوليين أيضا كما لا يخفى.

فهذه أقسام ثمانية ، أربعة منها من الأقسام التي منشأ الشبهة فيها الشكّ في الحكم الشرعي ، وأربعة منها من صور الشكّ في الموضوع الخارجي ، والأربعة الأولى لا تخلو عن أقسام ثلاث :

الأوّل : أن يكون الشبهة باعتبار فقد النصّ.

الثاني : أن يكون باعتبار إجمال النصّ كاشتماله على لفظ مشترك مجرّد عن القرينة المعيّنة.

الثالث : أن يكون باعتبار تعارض النصّين وتوارد الدليلين. وهذه الأقسام الثلاثة وإن كان ممّا يختلف الحكم فيها باعتبار اشتمال بعض أخبار الباب على بعض الصور إلاّ

__________________

(١) « س » : مردّدا.

(٢) « س » : يشمل.

٣٣٩

أنّ (١) التحقيق أنّه لا فرق بينها فيما نحن فيه ، فكما أنّ تعارض النصّين يقضي (٢) بالتخيير فكذا معارضة كلّ دليل مع الآخر يقضي بذلك (٣).

وبالجملة ، فهذه اثنا عشر قسما : ستّة منها من أقسام الشكّ في التكليف ، والستّة الأخرى من صور الشكّ في المكلّف به ، وعلى الستّة الأخيرة إمّا أن يكون الأمر دائرا بين المتباينين كأن لا يعلم أنّ (٤) المكلّف به هو الفعل الفلاني ، أو غيره من دون أن يكون هناك علم إجمالي بينهما أيضا ، أو دائرا بين الأقلّ والأكثر مع وجود العلم الإجمالي أيضا بينهما (٥) كما إذا شكّ في جزئية شيء (٦) للواجب النفسي كالسورة في الصلاة.

وأمّا إذا كان الأمر دائرا بين الأقلّ والأكثر من دون العلم الإجمالي كما فيما إذا شكّ في أنّ الدين أربعة دراهم أو خمسة ، وكما في منزوحات البئر ، فليس من أقسام الشكّ في المكلّف به بل الناقص الأقلّ معلوم تفصيلا ، والزائد مشكوك صرف ، فيرجع بالنسبة إلى الزائد إلى صور الشكّ في المكلّف به ، فهذه مع الستّة الأولى والأربعة التي منشأ الشكّ فيها الشبهة في الأمر (٧) الخارجي اثنا [ ن ] وعشرون قسما ، ولنذكر أحكام هذه الصور والأقسام في طيّ أصول عديدة.

__________________

(١) « ج ، م » : ـ أنّ.

(٢) المثبت من « م » في سائر النسخ : يقتضي وكذا في المورد الآتي.

(٣) « س » : ذلك. « ج » : كذلك.

(٤) « م » : ـ أنّ.

(٥) سقط قوله : « أيضا أو دائرا » إلى هنا من نسخة « س ».

(٦) « ج ، م » : الشيء.

(٧) « م » : أمر.

٣٤٠