مطارح الأنظار

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني

مطارح الأنظار

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني


المحقق: علي الفاضلي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: معهد الإمام الخميني والثورة الإسلامية
المطبعة: مؤسسة العروج
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7986-36-6
الصفحات: ٦١٥

أحدهما : أن لا يكون الرواية مخالفة لما ذهب إليه المشهور.

وثانيهما : أن تكون الرواية مأخوذة من الأصول المعتمدة.

وذهب جملة من أرباب الأصول إلى أنّها حجّة من جهة الظنون الخاصّة وهم جماعة كثيرة بين من يعتبر أوصاف الراوي ، ومن يعتمد على أوصاف الرواية كالمحقّق (١) على ما حكي عنه من اعتباره كون الرواية معمولا بها بين الأصحاب.

فالفرقة الأولى افترقوا على فرق ، فمنهم من يقتصر على الصحاح الأعلائية ، ومنهم من يتجاوز إلى المشهورية منها ، ومنهم من أضاف إليها الموثّقات ، ومنهم من زاد عليها الحسان ، وذهب جماعة من المتأخّرين إلى أنّها حجّة من حيث اندراجها تحت مطلق الظنّ ، وهم أيضا بين فرق كثيرة تعرف وجوه التفصيل فيما سيأتي ، ولا بدّ لنا من التكلّم في مقامين :

أحدهما : في بيان أصل الحجّية قبالا لمن أنكرها رأسا كالسيّد ونحوه.

وثانيهما : في بيان اكتفاء الحجّة في الاستنباط وعدم الحاجة إلى التعدّي إلى الظنون المطلقة.

فنقول في المقام الأوّل : إنّه ذهب جماعة من القدماء كالسيّد المرتضى وابن زهرة وابن برّاج وابن إدريس (٢) إلى عدم الحجّية بل ادّعى السيّد الضرورة من مذهب الإمامية على عدم جواز الاتّكال عليه ، وعزى إلى ظاهر الشيخ في أوائل التهذيب وإلى ابن بابويه ، وإلى المحقّق أيضا بل في محكيّ الوافية (٣) للفاضل التوني عدم تصريح الطائفة بحجّيته قبل زمان العلاّمة ، والمشهور بين المتأخّرين هو الحجّية.

__________________

(١) انظر معارج الأصول : ٢١٢ ـ ٢١٣ ؛ المعتبر ١ : ٢٩.

(٢) الذريعة ٢ : ٥٢٨ ؛ رسائل السيّد المرتضى ١ : ٢٤ وما بعدها ٢١٠ ، و ٣ : ١٢٥ و ٢٦٩ و ٣٠٩ ؛ غنية النزوع : ٣٢٩ ؛ جواهر الفقه : ٢٦٧ ؛ السرائر ١ : ٥١ و ٢٦٧ و ٢٧١ و ٣٠٩ و ٣٣٠ و ٣٣٤ و ٣٨٢ و ٣٩٤ و ٤٣١ و ٤٤٧ ، و ٢ : ٥٣ و ٥٨ و ٩٦ و ٢٢٣ و ٥٢٠ ، وعنهم في معالم الدين : ١٨٩ وزبدة الأصول : ٩١ والوافية : ١٥٨.

(٣) الوافية : ١٥٨.

١٢١

حجّة المانعين وجوه :

الأوّل : الأخبار والآيات الناهيتان (١) عن العمل بالظنّ بل بمطلق ما وراء العلم.

وجوابه أنّه على تقدير عمومهما وعدم اختصاصهما بأصول الدين ، أو ما يتّهم المسلمين مخصّصة بما سيجيء من الأدلّة الساطعة والبراهين القاطعة.

الثاني : الإجماع المحكي ، في لسان السيّد وابن إدريس (٢).

وجوابه : أنّه (٣) بعد ما ستعرف من الوجوه لا يفيد الظنّ فضلا عن العلم ، فلو لم ندّع الإجماع على خلافه ، فلا أقلّ من دعوى عدم قيام الإجماع عليه ، كيف؟ والشيخ مع حذاقته في الأخبار وخبرته بالفقه قد ادّعى الإجماع على خلافه (٤) وإن أمكن التوفيق بين الإجماعين ، فإنّ السيّد (٥) قد فسّر القطع بما يفيد سكون النفس والاطمئنان الذي هو علم عرفي ، فلعلّه قد خصّ حجّية الأخبار بصورة حصول الظنّ الاطمئناني المسمّى عنده بالعلم كما يعلم من مطاوي كلماته (٦) ، فإنّ العلم قد يتسامح فيه عند أهل العرف فيستعمل في الاطمئنان وإن احتمل الخلاف عقلا أو عادة ، والعلم الحقيقي هو ما لا يحتمل الخلاف ، فتارة بالعقل كأن يستلزم فرض وقوعه محالا عقليا كالعلم بأنّ الواحد نصف الاثنين ، والعلم بأنّ الممكن في وجوده يفتقر إلى موجب موجد له ، ففرض وقوع الخلاف يوجب اجتماع النقيضين فيهما. وأخرى بالعادة بمعنى أنّ فرض الخلاف لا يستلزم محالا عقليا إلاّ أنّه ينافي ما هو المعهود في العادة منه كانقلاب الجبل العظيم ذهبا ، فإنّ فرض وقوعه لا يوجب محالا لكنّه غير محتمل عادة ، فالعلم العادي كالعلم العقلي في عدم احتمال الخلاف عقلا في الثاني وعادة في الأوّل بل قد يمكن أن

__________________

(١) « ل » : الناهيات.

(٢) رسائل السيّد المرتضى ١ : ٢٤ و ٢٠٣ و ٢١١ ، و ٣ : ٣٠٩ ؛ السرائر ١ : ٣٣٠ ، و ٢ : ٩٦.

(٣) « ل » : أنّ.

(٤) عدّة الأصول ١ : ١٢٦.

(٥) الذريعة ١ : ٢٠.

(٦) « ل » : كلامه.

١٢٢

يقال إنّ العلم العادي أقوى من العلم العقلي ، لوضوح المعلوم فيها من حيث وصوله مرتبة البداهة كما لا يخفى.

وأمّا العلم العرفي المسمّى بالاطمئنان ، فلا ينافي احتمال الخلاف لا عقلا ولا عادة.

وقد يتمسّك في الجمع بين الإجماعين بوجوه ضعيفة سيجيء ذكرها في محلّه.

الثالث : أصناف من الروايات ، فمنها : ما دلّ على اشتراط العلم في العلم بخبر الواحد مثل ما رواه [ محمّد بن ] الحسن الصفّار في بصائر الدرجات وابن إدريس في مستطرفات السرائر وأوّله والعلاّمة المجلسي في البحار على ما هو المحكيّ عنهم عن أبي الحسن الثالث عليه‌السلام قال الراوي : وسألته عن العلم المنقول إلينا عن آبائك وأجدادك ، ثمّ (١) قد اختلف علينا فهمه (٢) ، كيف العمل به على اختلاله فيما اختلف منه؟ قال عليه‌السلام (٣) : « ما علمتم أنّه قولنا ، فالزموه ، وما لم تعلموه فردّوه إلينا » (٤).

وجوابه أنّه خبر الواحد غاية ما يستفاد منه الظنّ ولم يعلم أنّه من قولهم عليهم‌السلام ، مضافا إلى أنّه مرسلة مع أنّها مكاتبة ، فلا ينهض بإثبات المدّعى (٥).

ومنها : ما دلّ على اشتراط وجود شاهد أو شاهدين من كتاب الله أو سنّة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله على صدق الرواية في جواز العمل به كما في رواية جابر [ عن الباقر عليه‌السلام ] قال : « انظروا إلى (٦) أمرنا وما جاءكم منّا ، فإن وجدتموه للقرآن موافقا ، فالزموه ، وإن اشتبه الأمر عليكم ، فقفوا عنده وردّوه إلينا حتّى نشرح لكم [ من ذلك ] ما شرح لنا » (٧).

__________________

(١) في المصادر : ـ ثمّ.

(٢) في المصادر : فيه.

(٣) في البصائر ونقل البحار عنه : على اختلافه إذا نردّ إليك فقد اختلف فيه فكتب وقرأته. وفي السرائر ونقل البحار عنه : على اختلافه أو ( البحار : و ) الردّ إليك فيما اختلف فيه فكتب.

(٤) بصائر الدرجات : ٥٢٤ ، باب ٢٠ ، ح ٢٦ ؛ السرائر ٣ : ٥٨٤ ؛ بحار الأنوار ٢ : ٢٤١ و ٢٤٥ ، باب ٢٩ ، ح ٣٣ و ٥٥. وسيأتي في ج ٤ ، ص ٦٤٩ ـ ٦٥٠.

(٥) « ش » : الدعوى.

(٦) في المصادر : ـ إلى.

(٧) الوسائل ٢٧ : ١٢٠ ، باب ٩ من أبواب صفات القاضي ، ح ٣٧.

١٢٣

والتقريب أنّ المانعين من العمل بخبر الواحد إنّما يعمل (١) بالأخبار المحفوفة بقرائن تدلّ على صدقها ، فهم إنّما يمنعون منها (٢) ما لم تكن محفوفة بالقرينة ، ولا شكّ أنّ المراد بالقرينة إنّما هو أحد الأدلّة الأربعة كتابا وسنّة وإجماعا وعقلا ، والرواية المذكورة تنفي الحجّية عمّا لم يكن شاهدا (٣) عليها من الكتاب والسنّة.

وأمّا الإجماع والعقل ، فالإهمال فيهما إنّما لوضوح الحال فيهما حيث إنّ المسألة بعد ما كانت من المستقلاّت العقلية أو معقدا للإجماع ، فلا حاجة إلى التمسّك بالرواية فضلا عن قطعيتها والعلم بمطابقة مفادها للواقع.

ومن هذا الصنف موثّقة ابن بكير عن أبي جعفر (٤) عليه‌السلام قال : « إذا جاءكم عنّا حديث فوجدتم عليه شاهدا أو شاهدين من كتاب الله ، فخذوا به ، وإلاّ فقفوا عنده ، ثمّ ردّوا إلينا حتّى يستبين لكم » (٥).

ومقبولة عمر بن حنظلة (٦) وروى الشيخ السعيد قطب الدين الراوندي عن ابن بابويه قال : أخبرنا سعد بن عبد الله ، عن يعقوب بن [ ي ] زيد ، عن محمّد ابن أبي عمير ، عن جميل بن درّاج ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة ، إنّ لكلّ (٧) حقّ حقيقة ، وعلى كلّ صواب نورا ، فما وافق كتاب الله فخذوه ، وما خالف فدعوه » (٨) إلى غير ذلك من الروايات الكثيرة المدّعى تواترها.

__________________

(١) كذا. والصحيح : يعملون.

(٢) « ش » : عنها.

(٣) « ش » : شاهد.

(٤) في المصادر : ابن بكير عن رجل عن أبي جعفر.

(٥) الوسائل ٢٧ : ١١٢ ، باب ٩ من أبواب صفات القاضي ، ح ١٨. وسيأتي في ج ٤ ، ص ٦٥٠.

(٦) الوسائل ٢٧ : ١٠٦ ، باب ٩ من أبواب صفات القاضي ، ح ١. وسيأتي في ج ٤ ، ص ٥٧٦ ـ ٥٧٨.

(٧) في المصادر : على كلّ.

(٨) الفوائد المدنية : ٣٨٢ وفي ط الحجري : ١٨٧ ؛ الوسائل ٢٧ : ١١٩ ، باب ٩ من أبواب صفات القاضي ، ح ٣٥ نقلا من رسالة الراوندي التي ألّفها في أحوال أحاديث أصحابنا وإثبات صحّتها. وسيأتي في ج ٤ ، ص ٥٨٩.

١٢٤

ومنها : الأخبار الآمرة بطرح ما خالف الكتاب ، وأنّها زخرف واضربوه على الجدار ممّا قد سبق بعضها (١).

والتقريب في هذه الأخبار بالنسبة إلى الأخبار المخالفة للكتاب ظاهر ، وأمّا بالنسبة إلى غيرها ، فلا يتمّ إلاّ بدعوى أنّ الكتاب الكريم ولو على نحو العموم إنّما اشتمل على جميع الأحكام كقوله : ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ )(٢) وقوله : ( خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً )(٣) و ( لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها )(٤) إلى غير ذلك من العمومات المشتملة على جلّ الأحكام أو كلّها ؛ إذ ليس المراد من المخالفة خصوص التباين ، وإلاّ لم يبق للأخبار المزبورة مورد ، فلا يناسب كثرة ورودها والتأكيدات الأكيدة الواقعة فيها والتشديدات (٥) الشديدة الموجودة فيها.

والجواب عنه هو أنّ بعد العلم الإجمالي بأنّ هذه العمومات الكتابية والمطلقات القرآنية مخصّصة بمخصّصات كثيرة في أخبار الآحاد ، ومقيّدة بمقيّدات عديدة فيها لا يعلم مخالفة الكتاب لها ، على أنّ التحقيق عدم منافاة المقيّد للمطلق ؛ لعدم كونه مجازا ، فالأخبار المزبورة لا تنهض على إبطال العمل بالأخبار من حيث إنّها أخبار.

مضافا إلى استلزامها لزوم ردّ ما يخالف كتاب الله ولو علمنا بصدوره عن أهل العصمة الطاهرة عليهم‌السلام ولو بالسماع منهم ، فكيف بما إذا تواتر.

والقول بتخصيص هذه الأخبار بغيره يخالفه ما هو المستفاد من سياقها فكأنّها كالقواعد العقلية الآبية عن التخصيص ، فهي إذا أخبار متشابهة لا ملزم لنا في تأويلها ، وأقرب المحامل على تقدير التأويل هو حملها على الروايات الواردة في أصول الدين المخالفة للكتاب والسنّة كالأخبار الدالّة على الجبر والتفويض والقضاء والقدر

__________________

(١) سبق في ص ٨٢ ـ ٨٣.

(٢) المائدة : ١.

(٣) البقرة : ٢٩.

(٤) الطلاق : ٧.

(٥) « ش » : التسديدات.

١٢٥

ونحوها.

وأمّا الأخبار الدالّة على اعتبار الشاهد ، فقد يلتزم بمفادها في غير خبر العادل لما دلّ على حجّيته كما سيجيء ، وقد يحمل على أصول الدين لموافقة مضمونها في الغالب لهذه الأخبار واتّحاد سياقهما.

وقد يستدلّ على المنع بقوله تعالى : ( إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ )(١) وجه الدلالة أنّ الجهالة باقية عرفا ولغة في موارد أخبار الآحاد ولو كانت من عدل ، وقد حقّق في محلّه أنّ عموم التعليل لا يخصّص بخصوص المورد.

لا يقال : إنّ بعد ثبوت الحجّية بالنسبة إلى أخبار العدل لا جهالة.

لأنّا نقول : ثبوتها في المقام أوّل الكلام.

لا يقال : عموم التعليل عليل بعد خصوص المفهوم من صدر الآية.

لأنّا نقول : المدار عرفا على عموم التعليل ولا يعارضه خصوص المفهوم ألا ترى أنّه لو قال المولى : اجتنب عن خبر الفاسق ؛ لاحتمال الكذب ، يفهم عرفا لزوم الاجتناب عن كلّ ما يحتمل الكذب ولو كان من العادل ، وسيظهر لك الحال في فساد هذه الحجّة أيضا في عداد أدلّة المجوّزين ، هذا خلاصة ما احتجّ به المانعون في المقام وأجوبتها.

واحتجّ المجوّزون أيضا بوجوه عديدة كتابا وسنّة وإجماعا وعقلا.

أمّا الأوّل : فبآيات (٢) منها : قوله تعالى : ( إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ) الآية وقد احتجّ بها الشيخ في العدّة (٣) واقتفى المتأخّرون أثره فيه ، واستند إليها شيخنا الطبرسي في مجمع البيان (٤) للمنع. وكيف كان فتقريب الاستدلال بوجهين :

__________________

(١) الحجرات : ٦.

(٢) « ش » : فآي منه.

(٣) ناقش في دلالتها انظر العدّة ١ : ١١٠ ـ ١١٣.

(٤) مجمع البيان ٩ ـ ١٠ : ١٩٩ حيث قال : وفي هذا دلالة على أنّ خبر الواحد لا يوجب العلم ولا

١٢٦

أحدهما : ما في المعالم (١) ومحصّله أنّ وجوب التبيّن معلّق على شرط ، فينتفي على تقدير انتفائه ، فيكون مفاد الآية إن جاءكم عادل بنبإ ، فلا يجب التبيّن. ثمّ إنّه إمّا يجب الردّ ، أو يجب القبول ، والأوّل باطل ؛ لما يلزم من كونه أسوأ حالا من الفاسق ، فتعيّن الثاني وهو المطلوب.

وثانيهما : أنّ تعلّق الحكم على الفاسق يقضي بانتفائه عند انتفاء وصف الفسق كما هو الشأن في أمثال المقام ممّا تعلّق الحكم فيه على ذات موصوفة ، وإلاّ لوجب أن يقترن الحكم بالذات العارية عن الوصف ، هذا مضافا إلى فهم العرف في خصوص المقام ؛ إذ لا كلام في اعتبار المفاهيم بقول مطلق (٢) في مقامات خاصّة وموارد مخصوصة من جهة الاحتفاف بالقرائن المعيّنة الدالّة على اعتبارها ، فمقتضى الوصف في الآية عدم وجوب التبيّن عند مجيء العادل ، فيجب القبول دون الردّ لما (٣) سبق.

ويرد على الأوّل أنّ المعتبر في أخذ المفهوم ـ كما قرّر في محلّه ـ هو اتّحاد موضوعي المنطوق والمفهوم ، وكذا سائر الوحدات المعتبرة في التناقض ، فالمفهوم من الآية إن لم يجئ الفاسق بنبإ لا يجب التبيّن لا أنّه إن جاءكم عادل بنبإ لا يجب كما هو المقصود.

لا يقال : إنّ الاستدلال بالمفهوم إنّما هو من حيث عموم المفهوم فإنّ عدم مجيء الفاسق بالنبإ يعمّ ما إذا لم يكن هناك نبأ (٤) أصلا لا من العادل ولا من الفاسق ، وما إذا

__________________

العمل ؛ لأنّ المعنى : إن جاءكم من لا تؤمنون أن يكون خبره كذبا فتوقّفوا فيه ، وهذا التعليل موجود في خبر من يجوز كونه كاذبا في خبره ، قد استدلّ بعضهم بالآية على وجوب العمل بخبر الواحد إذا كان عدلا من حيث إنّ الله سبحانه أوجب التوقّف في خبر الفاسق فدلّ على أنّ خبر العدل لا يجب التوقّف فيه وهذا لا يصحّ لأنّ دليل الخطاب لا يعوّل عليه عندنا وعند أكثر المحقّقين.

(١) المعالم : ١٩١.

(٢) « ش ل » : + فيها ثمّ شطب عليها في « ل ».

(٣) « ش » : القبول لردّ الردّ فيما؟

(٤) « ش » : بنبإ؟

١٢٧

كان الجائي بالخبر هو العادل ، فإنّ السالبة قد ينتفي (١) بانتفاء موضوعه (٢) ، وأخرى بانتفاء محموله (٣) ، والظاهر هو الثاني ؛ لأنّ السالبة مجاز في انتفاء الموضوع ، فموضوع الحكم في المقامين متّحد باعتبار العموم.

لأنّا نقول : إنّ قضية الاشتراط في القضية الشرطية لا تزيد على انتفاء التالي عند فقد المقدّم ، فوجوب التبيّن مرفوع عند عدم إخبار الفاسق ، ولا عموم فيه بالنسبة إلى إخبار العادل ، فإنّه ليس من أفراده بل إنّما هو حال من الأحوال التي قد يقارن عدم إخبار الفاسق كموت زيد وحياته ، وأكله ولبسه مثلا هل ترى أحدا يقول بأنّ الحالات المقارنة اتّفاقا لفقدان الشرط في الجملة الشرطية من أفراد فقدان الشرط؟ نعم ، لو كان الكلام في قولنا : إن كان المخبر فاسقا يجب التبيّن ، صحّ الاستناد إليه في حجّية خبر العادل بمفهوم الشرط ، لأنّ كون المخبر عادلا من أفراد عدم كون المخبر فاسقا كما لا يخفى. وظاهر عدم جري الآية مجرى هذا القول كان (٤) هذا هو (٥) منشأ الخلط في الاستدلال بهذه الآية.

ومن هنا يظهر أنّ المناط في القضية الشرطية إنّما هو على انتفاء نفس الشرط ، ولا مدخل للوصف (٦) الواقع تلوه ، ولا للّقب فيه كما لا يخفى.

ويرد عليه أيضا أنّ الترديد بين الردّ والقبول بعد عدم وجوب التبيّن ممّا لا حاجة إليه في وجه ، ولا وجه له في آخر ؛ فإنّ التبيّن إمّا أن يكون واجبا غيريّا مقدّميا ـ كما هو صريح التعليل ، وهو الظاهر من الأمر في خصوص المقام كما يشهد به العرف ، ويعاضده ظهور الإجماع كما حكي عن البعض ـ أو واجبا نفسيا ـ كما هو قضية الجمود على ظاهر الأمر بناء على أنّ الأصل هو ذلك ـ فعلى الأوّل لا حاجة إليه في

__________________

(١) كذا.

(٢) كذا.

(٣) كذا.

(٤) « ل » : وكان.

(٥) « ل » : ـ هو.

(٦) « ش » : للواصف.

١٢٨

وجه ؛ لأنّ عدم وجوب التبيّن هو حينئذ عين القبول كما أنّ الأمر بالتبيّن ليس إلاّ ردّ الخبر والوقوف عنده إلى ظهور الحال ، فالحكم بعدم وجوب التبيّن يلازم جواز العمل قبله ، فهو كناية عن القبول ، فالترديد ليس في محلّه.

وعلى الثاني لا وجه له ؛ لأنّ الردّ (١) ـ على تقدير أن يكون وجوب التبيّن وجوبا نفسيا ـ لا يلازم كون العادل أسوأ حالا من الفاسق ، فإنّ الوجه فيه ـ على ما هو مصرّح به في كلامهم ـ هو لزوم ردّ خبر العادل قبل التبيّن وخبر الفاسق بعده ، وهذا هو عين مراعاة حقّ العادل وملاحظة احترامه ، لاحتمال أن يكون وجوب التبيّن في خبره بواسطة إفشاء أمره وتشييع فاحشته وظهور كذبه ، وأمّا في العادل ، فلا يجب التبيّن من جهة لزوم إخفاء أمره وحفظ سرّه وستر عيبه.

وبالجملة ، فبعد قيام مثل هذا الاحتمال لا دلالة في ردّ خبر العادل قبل التبيّن وخبر الفاسق بعده على كونه أسوأ حالا منه كما هو ظاهر لا سترة عليه.

ويرد على الثاني ـ بعد تسليم حجّية مفهوم الوصف مطلقا ولو فيما لم يتقدّمه موصوف لفظا أو تقديرا ـ تعارضه بما يقتضيه التعليل في ذيل الآية ، فإنّ قضيته تعمّ خبر العادل أيضا ، لوجود الاحتمال فيه بعده ، واللازم حينئذ التساقط كما هو الشأن في غيره ممّا يكون النسبة بين المتعارضين عموما من وجه لو لم نقل بتقديم التعليل ؛ لكونه أقوى من المفهوم دلالة ، ولأنّ المستفاد من مثله عرفا هو القضية الكلّية كما في قولهم : « لأنّه حامض » بعد النهي عن أكل الرمّان (٢).

__________________

(١) « ل » : المراد.

(٢) في « ل » زيادة ما يلي. وفي نسخة « ش » قدر نصف صفحة بياض : واحتجّ القائلون بحجّية أخبار الآحاد بوجوه : الأوّل الآيات ، منها قوله تعالى : ( إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ ) وهذه الآية قد تمسّك بها جمع كثير في حجّية أخبار الآحاد التي رواها العدول ومن علمائنا من تمسّك بها لعدم حجّية

١٢٩

__________________

خبر الواحد وإن كان عدلا كأمين الإسلام الطبرسي والشيخ رحمه‌الله ، أمّا الطبرسي رحمه‌الله فبنى وجه الاستدلال على أنّ الآية لا مفهوم لها ، وعموم التعليل بخوف الندم جار في خبر الواحد العدل أيضا ، فتدلّ على عدم جواز العمل به.

وأمّا الشيخ رحمه‌الله ، فإنّه وإن سلّم كون الآية ممّا له مفهوم إلاّ أنّه قال : إنّ دليل الخطاب يعني المفهوم لا يقاوم عموم التعليل ؛ لأنّه أظهر من المفهوم والظاهر يترك بالأظهر قطعا.

وأمّا المتمسّكون بها بحجّية خبر العدل الواحد ، فلهم في ذلك طرق :

أحدها : الاستدلال من باب مفهوم الشرط كما عليه جماعة.

ثانيها : الاستدلال من باب مفهوم الوصف.

ثالثها : الاستدلال بالعلّية التي يشعر بها تعليق الحكم على الوصف المناسب للعلّية وكثيرا ما يعبّر عنه في كلماتهم بالمناسبة والاقتران كما احتمل التمسّك به جمال المحقّقين رحمه‌الله في حواشي العضدي فإنّه ذكر ما نصّه :

لا يخفى أنّ في الآية الكريمة مفهومين : أحدهما : مفهوم الشرط. وثانيهما : مفهوم الفاسق ومفهوم الشرط المختار اعتباره لكن اعتباره لا يفيد هاهنا ؛ إذ لا يفيد إلاّ عدم وجوب التبيّن عند عدم المجيء وهو كذلك ومفهوم الفاسق الظاهر أنّه من قبيل مفهوم اللقب كقوله « في الغنم زكاة » واعتباره ضعيف ؛ لأنّ بناءه على أنّ تخصيصه بالذكر يوهم أنّ غيره على خلافه وهو ضعيف كما سيجيء تحقيقه.

ويمكن أن يقال : إنّه من قبيل ترتيب الحكم على الوصف المناسب للعلّية فيشعر بعلّيته أي بأنّ علّة وجوب التبيّن هو كون الجائي فاسقا ، فلو كان كون الخبر خبر واحد موجبا له ، لما صحّ ذلك.

وفيه : أنّ علل الشرع معرّفات لا يمتنع اجتماعها ، ويجوز أن يكون التخصيص به لكون الحكم فيه آكد ، وكون الوجه فيه أظهر ، فتدبّر. انتهى.

رابعها : أنّ نفس المنطوق يكفي في الاستدلال به على حجّية الخبر ولا حاجة إلى التمسّك بمفهومها.

خامسها : التمسّك بالتعليل المذكور في الآية وهو قوله تعالى : ) أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ ( نظرا إلى أنّ علّة وجوب التبيّن عن خبر الفاسق هو أنّ الإقدام

١٣٠

__________________

على مقتضى قوله عمل بجهالة حتّى كان العامل به في ظلمة ، ولهذا قال الله تعالى ) فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ ( إشارة إلى انكشاف الحال بعد ذلك كالإصباح عن ظلمة الليل ، ولا ريب في انتفاء الجهالة عن مقتضى خبر العادل ؛ لكونه موثوقا به صادرا عن روية وبصيرة في الدين ناشئا عن الجريان على مقتضى الشرع ، فينتفي وجوب التبيّن عن خبره بانتفاء علّته التي هي الجهالة المؤدّية إلى الندم.

أمّا الأوّل ، فقد سلكه الأكثر ، ومنهم صاحب المعالم رحمه‌الله حيث قرّر وجه الدلالة بأنّه سبحانه علّق وجوب التبيّن على مجيء الفاسق فينتفي عند انتفائه عملا بمفهوم الشرط.

وعدم مجيء الفاسق بالنبإ له فردان :

أحدهما : أن لا يتحقّق هناك إخبار أصلا ، وهذا لا ينبغي التكلّم فيه ؛ لظهور عدم وجوب التبيّن حينئذ.

والآخر : أن يتحقّق الإخبار لكن من العادل لا الفاسق وحينئذ نقول : إذا لم يجب التبيّن عند مجيئه بالخبر بحكم الآية ، فإمّا أن يتحقّق عدم وجوب التبيّن عن خبره حينئذ في ضمن القبول فيكون ذلك لكونه واجب القبول وهو المطلوب ، أو في ضمن الردّ وهو باطل ؛ لأنّه يلزم أن يكون أسوأ حالا من الفاسق ، وفساده بيّن ، فقد تحصل حجّية من مفهوم الشرط بضميمة مقدّمة أخرى وهي أنّه لو ردّ خبر العدل بغير تبيّن ، لزم كونه أسوأ حالا من الفاسق.

هذا ، ولكن قد منع من الافتقار إلى ضميمة المقدّمة الأخرى صاحب الفصول رحمه‌الله فإنّه بيّن وجه الاستدلال بها من دون ضميمتها ، ثمّ أشار إلى فساد ما ذكروه.

قال رحمه‌الله : وجه الدلالة أنّه تعالى علّق وجوب تبيّن النبأ على مجيء الفاسق به ، فيدلّ بمفهومه على عدم وجوب التبيّن عند مجيء العادل به ، ومقتضاه جواز القبول ؛ لأنّ الأمر بطلب البيان إمّا كناية عن عدم جواز القبول أو مجاز عنه أو مخصوص بما لو أريد العمل بمقتضى نبئه ، فيكون وجوبه شرطيا ، ويرجع إلى الوجه السابق أو بمواضع خاصّة لا بدّ من التبيّن فيها : منها الواقعة التي نزلت الآية فيها حيث يجب فيها طلب البيان بمطالبتهم بالصدقات ، فإن انقادوا إلى الحقّ وأدّوها ، تبيّن كذب النبأ قضاء بظاهر الحال ، وإن استنكفوا عنها وأظهروا التمانع والمعاداة ، تبيّن صدقه ووجب التهجّم على جهادهم ، لكن هذا في الحقيقة راجع إلى طلب أمر مخصوص يحصل به البيان ، وليس بطلب نفس البيان حقيقة.

١٣١

__________________

وبالجملة ، فلا بدّ من حمل الأمر بالتبيّن على أحد هذه الوجوه للإجماع على عدم وجوب التبيّن عند خبر الفاسق مطلقا وعلى هذا ، فما تداول في كتب القوم في بيان وجه الاستدلال في أنّه تعالى علّق وجوب تبيّن النبأ على مجيء الفاسق به ، فعلى تقدير مجيء العادل به إمّا أن يجب القبول وهو المدّعى ، أو يجب الردّ ، فيلزم أن يكون العادل أسوأ حالا عن الفاسق غير مستقيم ؛ إذ مرجع الأمر بالتبيّن فيما عدا الوجه الأخير إلى ردّ نبئه وفي الوجه الأخير يجب التبيّن في نبأ العادل أيضا وإنّما يتمّ ما ذكروه إذا حمل الأمر بالتبيّن على وجوبه مطلقا وهذا ممّا لا ذاهب إليه. هذا كلامه رحمه‌الله ومحصّله أنّه قام الإجماع على أنّه ليس الواجب هو التبيّن عن حال خبر الفاسق مطلقا حتّى في صورة عدم إرادة العمل به بل الوجوب مختصّ بحال إرادة العمل ، فلا بدّ من التصرّف في إطلاق الآية لئلاّ يكون مخالفا للإجماع ، فلا بدّ من حملها إمّا على إرادة عدم القبول من التبيّن ، فيصير منطوق الآية إن جاءكم فاسق بنبإ ، فلا تقبلوا قوله ، فيكون مفهومه إن جاءكم عادل بنبإ جاز لكم قبول قوله ، أو كون وجوب التبيّن شرطيا ، فيصير المعنى أنّ قبول قول الفاسق مشروط بالتبيّن ، فيصير مفهومه أنّ قبول قول العادل ليس مشروطا بالتبيّن ، أو حمل وجوب التبيّن على مواضع خاصّة يجب فيها التبيّن لكنّه اعترف بأنّ هذا الوجه لا يفيد في الاستدلال ؛ لأنّه يلزمه التبيّن عن خبر العادل أيضا على هذا التقدير ، فلا بدّ من حمل الآية على ما عداه ، وحينئذ لا يبقى حاجة إلى ضميمة المقدّمة الأخرى هذا.

وأمّا الثاني ، فهو مسلك جماعة ، وليعلم أنّه ربّما يتّجه على القول بثبوت الواسطة بين العادل والفاسق وليس هو المجهول الحال كما زعمه بعض من لم يمعن النظر ؛ لأنّه إمّا عادل في الواقع ، أو فاسق وليس واسطة بينهما بحسب الواقع ، وإنّما هو من أسلم ولم يصدر منه ذنب بعد إسلامه بالنسبة إلى مقدار زمان لا يتحقّق فيه الملكة ، وكذلك من بلغ ولم يصدر منه ذنب بالنسبة إلى ذلك المقدار ، فيتحقّق الواسطة بين العادل والفاسق على القول بكون العدالة عبارة عن الملكة. وأمّا على القول بغيرها ، فيدخل ما عدّ واسطة على القول المذكور تحت العادل ، فعلى القول بثبوت الواسطة لا يفيد مفهوم الآية عند من يقول بثبوته تعيّن قبول قول العادل بل يفيد قبول غير الفاسق مطلقا الشامل للواسطة ؛ لأنّ مقتضى قاعدة المفهوم إنّما هو دفع الموجود في المنطوق ، ورفع الفاسق يعطي ثبوت القسمين من العادل والواسطة إلاّ أن يقال : إنّ مبنى المفهوم على إقامته ما هو ضدّ للمذكور في المنطوق بحسب التعارف مقامه لا على إقامة نقيضه ، وحينئذ

١٣٢

__________________

يتمّ المطلوب لكون العادل بالنسبة إلى الفاسق ضدّا متعارفا لكن بناء المفهوم على ذلك لا يخلو عن تأمّل.

وأمّا الثالث ، فقد عرفت أنّه احتمله المحقّق جمال الدين الخوانساري رحمه‌الله وعزاه السيّد المحقّق الكاظمي رحمه‌الله في شرح الوافية إلى العلاّمة رحمه‌الله بعد أن ذكر أنّ للعلماء في الاستدلال بالآية المذكورة مسالك وجعل أوّلها الاستدلال بمفهوم الشرط ، وثانيها الاستدلال بمفهوم الوصف ، وثالثها الاستدلال بالتعليل المستفاد من تعليق الحكم على الوصف ، لكن أورد عليه الأستاد سلّمه الله تعالى بأنّ ذلك ممّا لا يعقل له معنى محصّل سوى اعتبار مفهوم الوصف.

وأقول : إنّ ما ذكره السيّد رحمه‌الله في جعل المسلك الثالث قسيما للثاني في محلّه ، ولا بأس بأن نأتي بكلامه بعينه ، ثمّ نبيّن الوجه في إتقانه.

قال رحمه‌الله بعد الإشارة إلى اختلاف مسالك العلماء رضوان الله تعالى عليهم وذكره ما لا يهمّنا نقله : وكيف كان فمفهوم الشرط هاهنا غير مراد ؛ إذ الشرط إنّما هو مجيء الفاسق لا الفسق ، ولم يبق بعد هذا إلاّ تخصيص الفاسق بالذكر ، ومن ثمّ ذهب جماعة منهم المصنّف إلى أنّ دلالتها على قبول خبر غير الفاسق من باب الوصف كما في قوله : « في الغنم السائمة زكاة » وهو المسلك الثاني.

والتحقيق أنّه مفهوم لقب إذ أقصى ما فيه تخصيص الفاسق بالذكر كما في قولك : إن جاءك زيد بنبإ فتبيّن لا وصف مذكور بالفسق كما في إن جاءكم نبأ فاسق.

المسلك الثالث ما سلكه العلاّمة ـ وهو التحقيق ـ أنّ دلالتها على الطلب إنّما جاء من تعليق الحكم وترتيبه على الوصف المناسب للعلّية ، فيشعر بأنّ علّة وجوب التبيّن هو كون الجائي فاسقا ، وذلك يقتضي عدم وجوب التبيّن عند انتفاء الفسق ؛ لأنّ انتفاء العلّة قاض بانتفاء معلولها ، وإلاّ فلا علّية.

فإن قلت : أقصى ما يقتضي تعليق الحكم على الوصف المناسب الإشعار بكون هذا الوصف علّة لذلك الحكم ، أمّا أنّه لا علّة له سوى هذا الوصف فلا ، وإن شئت فانظر إلى قولك : وأكرم العلماء ، فإنّه يشعر بكون العلم علّة للإكرام ، ولا يمنع من ثبوت علّة أخرى كالأدب والإحسان وغير ذلك.

قلت : يختلف ذلك بحسب المقام فربّ مقام يقتضي انحصار العلّة في الوصف المذكور وما نحن

١٣٣

__________________

فيه من هذا القبيل ، وذلك لأنّ عادة الناس لمّا كانت جارية في قبول الأخبار في معاملاتهم وسياساتهم ومعاشراتهم ، ولم ينكر الله عليهم من ذلك إلاّ قبول خبر الفاسق ، علم اختصاص الإنكار به ، فإنّه لو كان هناك قسم آخر من الأخبار ، لا يجوز قبوله والتسارع إلى الأخذ به ، لأنكره.

هذا كلامه رحمه‌الله وحينئذ نقول : لا بدّ من تصحيح جعل السيّد رحمه‌الله المسلك الثالث قسيما للثاني على مذهبه وعلى مذهب العلاّمة رحمه‌الله.

أمّا الأوّل ، فبيانه أنّه رحمه‌الله يرى أنّ مفهوم الوصف عبارة عن المفهوم المستفاد من الوصف الذي ذكر معه الموصوف ، وأنّ محلّ النزاع في مبحث حجّية مفهوم الوصف ذلك كما أشار إليه في طيّ كلامه المذكور ، وصرّح به في ذلك المبحث ، فقال : اعلم أنّهم إنّما يريدون من مفهوم الصفة ما يفهم من التقييد بها ، ولا يتمّ ذلك إلاّ إذا جيء بالموصوف والصفة معا ، فإن اقتصر على الصفة كادع لي صالحا كان من مفهوم اللقب كما نصّ عليه غير واحد ، والذي يدلّ على ذلك أنّهم لا يشترطون في مفهوم اللقب الجمود وكثيرا ما يشتبه هذا.

ثمّ قال رحمه‌الله : ثمّ اعلم أنّ الوصف إذا كان لتمييز المسمّى عمّا شاركه في الاسم دون تقييد الحكم كان الموصوف مع صفته بمنزلة الاسم الخاصّ ، فلا يكون له مفهوم وصف بل من أثبت اللقب مفهوما ، قال به ، وبهذا يندفع ما أورده السيّد رحمه‌الله على مفهوم الوصف وكثيرا ما يشتبه هذا ، ولله درّ العميدي حيث قال في عنوانه :

اختلفوا في الخطاب الدالّ على حكم متعلّق باسم عامّ مقيّد بصفة خاصّة ، فكان فيه إشارة إلى كلا الأمرين ، ثمّ استشهد رحمه‌الله على ما ذكره بغير ذلك ، وعلى هذا فلا يكون دلالة آية النبأ عنده من باب مفهوم الوصف لعدم ذكر الموصوف مع لفظة فاسق ، ويكون من باب التعليل المستفاد من تعليق الحكم بالوصف المناسب.

وأمّا ما نسبه إلى الفاضل التوني من كونه يرى أنّ دلالة الآية من باب مفهوم الوصف ، فذلك لتصريح الفاضل المذكور في ردّ الاستدلال بالآية المذكورة بأنّه استدلال بمفهوم الصفة على أصل علمي ، فهذا الردّ من ذلك الفاضل مبنيّ على إنكاره حجّية مفهوم الوصف.

وأمّا الثاني ، فبيانه أنّه وإن لم يقع التصريح من العلاّمة رحمه‌الله بما ذكره السيّد رحمه‌الله من معنى مفهوم الوصف بل ذكر في باب المنطوق والمفهوم في النهاية أقسام مفهوم المخالفة ، وجعل أوّلها تقييد

١٣٤

__________________

المطلق بالوصف كقوله عليه‌السلام : « في الغنم السائمة زكاة » وجعل خامسها التخصيص بالأوصاف التي تفرّد بالذكر كقوله : « في السائمة زكاة » فجعل كلاّ منهما قسيما للآخر ، وأفردهما في العنوان إلاّ أنّه يظهر منه في التهذيب أنّ البحث عن مفهوم الوصف من حيث هو وصف لا لأمر خارج ، ولهذا قال فيه : عدم الوصف لا يقتضي عدم الأمر المعلّق به مثل زكّوا عن الغنم السائمة لانتفاء الدلالات الثلاث.

أمّا المطابقة والتضمّن ، فظاهر ، وأمّا الالتزام ، فلأنّ ثبوت المعلّق على الوصف يصدق مع ثبوته عند عدم الوصف ومع عدمه ، ولا يستلزم العامّ الخاصّ وقال رحمه‌الله في آخر البحث : تذنيب : إن كان الوصف علّة ، لزم من نفيه نفي الحكم تحقيقا للعلّية ، انتهى. فقد اختار عدم حجّية مفهوم الوصف في حدّ ذاته لكنّه التزم بأنّه لو أفاد الوصف العلّية في مورد ، لزم من انتفائه انتفاء الحكم ، فهذا ليس من الوصف بل من العلّية المستفادة كما أشار إليه قوله : « تحقيقا للعلّية ».

إذا عرفت ذلك ولاحظت كلام العلاّمة في الاستدلال بآية النبأ ، علمت أنّه ليس من مفهوم الوصف على مذاقه لأنّه قال في التهذيب بعد ذكر الآية : أوجب التبيّن عند خبر الفاسق لكونه فاسقا للمناسبة والاقتران ، ولانتفاء الفائدة في التقييد لولاه ، إذ تعليق الحكم على الذاتي وهو كونه خبر واحد أولى من تعليقه على العرفي ، فمع الانتفاء إن وجب الترك كان العدل أسوأ حالا من الفاسق هذا خلف. انتهى.

وقال في النهاية : أمر بالتبيّن عند إخبار الفاسق وقد اجتمع فيه وصفان : ذاتيّ هو كونه خبر واحد ، وعرضي وهو كونه فاسقا ، والمقتضي للتبيين هو الثاني للمناسبة والاقتران ، لأنّ الفسق يناسب عدم القبول ، فلا يصلح الأوّل للعلّية ، وإلاّ لوجب الاستناد إليه ؛ إذ التعليل بالذاتي الصالح للعلّية أولى من التعليل بالعرضي ؛ لحصوله قبل حصول العرضي ، فيكون الحكم قد حصل به قبل حصول العرضي ، وإذا لم يجب التبيّن عند إخبار العدل ، فإمّا أن يجب القبول وهو المطلوب ، أو الردّ فيكون حاله أسوأ من حال الفاسق وهو محال. انتهى.

فقد تمسّك بالمناسبة والاقتران وذلك غير مفهوم الوصف من حيث هو الذي قد أنكره ، ومن هنا يظهر أنّ عدّ السيّد عميد الدين ممّن استند إلى مفهوم الوصف ـ كما وقع من الأستاد سلّمه الله تعالى لا وجه له ؛ لأنّه ذكر ما ذكره العلاّمة في النهاية ، ولم يذكر ما يدلّ على أنّ الاستدلال من جهة مفهوم الوصف ، فقد تحصّل أنّ إفادة تعليق الحكم على الوصف المناسب العلّية مغاير لحجّية

١٣٥

__________________

مفهوم الوصف ، ويشهد بذلك أنّه تمسّك به في الاستدلال بالآية بعض من لا يرى حجّية مفهوم الوصف.

وأما الرابع : فيظهر من كلام الفاضل القمّي رحمه‌الله في طيّ كلماته المتعلّقة بأخبار الآحاد وحجّية الظنّ ، وصوّره بصورة الوضوح بعض من تأخّر عنه.

وبيان ذلك أنّ التبيّن أعمّ من التبيّن الإجمالي والتفصيلي ، ودعوى اختصاصه بالتفصيلي مكابرة ، وحينئذ نقول : إنّ من المعروف المشهور أنّ الخبر على أربعة أقسام : الصحيح والحسن والموثّق والضعيف ، وأنّ الأخير ينقسم إلى قسمين : منجبر بالشهرة وعمل الأصحاب ، وغير منجبر ، فهذه خمسة ، وأنّ الآية الكريمة تعطي عدم قبول الضعيف الغير المنجبر قطعا ، لعدم تحقّق التبيّن فيه ، وجواز قبول الضعيف المنجبر لتحقّق التبيّن التفصيلي ، وكذلك جواز قبول الموثّق من حيث كون رواته ثقاة في مذهبهم ، وكون العلم أو الظنّ بأنّ الراوي ثقة في مذهبه تبيّن إجمالي لخبره ، وكذلك جواز قبول الحسن من حيث كون رواته إماميّين ممدوحين وإن لم يبلغ مدح بعضهم أو جميعهم درجة العدالة ؛ لأنّ في تحقّق المدح ـ مثل كون الراوي شيخ الإجازة مثلا وإن لم ينصّ عليه بالعدالة ـ تبيّنا إجماليا بالنسبة إلى غيره كما قيل في إبراهيم بن هاشم : إنّه وإن لم ينصّ عليه في كتب الرجال بالتوثيق إلاّ أنّ كونه قد نشر أحاديث الكوفيّين بقمّ مع كون أهلها ممّن يقدح في اعتبار قول الراوي بأدنى صفة مرجوحة فيه دليل على جلالة شأنه ، فقد اندرج اعتبار الأقسام الثلاثة في منطوق الآية من جهة تعميم التبيّن إلى التبيّن الإجمالي ، وبقي حال الصحيح ، وحينئذ نقول : إمّا أن يحكم بحجّيته من جهة [ أنّه ] إذا تحقّقنا أنّ مناط حجّية ما أفادت الآية حجّيته من الأقسام الثلاثة إنّما هو الظنّ والوثوق بصدوره وهو موجود في الصحيح أيضا أو تحكم بحجّيته بالأولوية القطعية نظرا إلى أنّ الأقسام الثلاثة إذا اعتبرت من جهة الظنّ والوثوق مع كون رواتها ليس بأسرهم إماميّين عدولا ، فالصحيح الذي رواته بأسرهم إماميّون عدول يكون أولى بالقبول قطعا بل ربّما يزاد على هذه الجملة ، فيقال :

إنّ الآية الكريمة أفادت أنّ المناط في القبول هو التبيّن ، فكلّ تبيّن يكون حجّة ، ومن هنا يعتبر الشهرة والإجماع المنقول وغيرهما ممّا أفاد الظنّ فيكون مفاد الآية حجّية مطلق الظنّ.

وأمّا الخامس ـ وهو الاستدلال بالتعليل بقوله تعالى : ( أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ ) ـ فلا بدّ من إيضاح المقصود به ، فنقول : إنّ المقصود بالتبيّن هو تحصيل الوثوق

١٣٦

__________________

والاطمئنان بقول الفاسق حيث جاء بالخبر ، والمراد بالجهالة خلاف الوثوق.

وإن شئت قلت : المراد بالتبيّن هو تحصيل العلم العرفي أطلق عليه لفظه ، لجريان عادة العقلاء على الاعتماد في أمورهم على ما يحصل به الوثوق والاطمئنان حتّى عبّروا عنه بالعلم في محاوراتهم ، فوقع الخطاب على طريقة أهل العرف ، وعلى هذا يكون اعتبار الوثوق والاطمئنان بقول العادل مستفادا من منطوق الآية الكريمة من جهة أمر الله تعالى بتحصيل الاطمئنان بقول الفاسق وتعليله بأنّ في ترك الاطمئنان إصابة قوم بجهالة مستعقبة للندم حتّى كان تلك الجهالة ظلمة يتبعها الندم بعد الإصباح منها.

ولا ريب أنّ معنى العلّية ليس إلاّ الانتفاء عند الانتفاء فينتفي وجوب التبيّن عن خبر العادل من جهة انتفاء علّته التي هي الإصابة بالجهالة والوقوع فيما يستعقب الندم عند انكشاف حقيقة الحال.

فالحاصل ، أنّ الآية ناطقة بعلّية الإصابة من دون وثوق ، وتعرّض ما يستعقب الندم من غير اطمئنان للتبيّن ، ومعنى العلّية هو وجود المعلول عند وجود العلّة وانتفاؤه بانتفائها ، فتدلّ على عدم وجوب التبيّن عمّا يوثق به.

ولا ريب أنّ استعمال التبيّن في الوثوق ، واستعمال الجهالة في خلافه أمر شائع لا يأبى من الحمل عليه لفظ الكتاب ، وممّا يؤيّد هذا المعنى وقوع الإجماع على اعتبار الخبر الضعيف للوثوق بصدوره المفيد للاطمئنان.

وتوضيحه : أنّ استعمال التبيّن في الاطمئنان يلزمه اندراج الخبر الضعيف المذكور تحته ، واستعماله في العلم الوجداني يستلزم التخصيص في الآية ؛ إذ لا بدّ من أن يقال : إنّ خبر الفاسق يجب تحصيل العلم فيه إلاّ إذا كان مفيدا للاطمئنان ، فلا يلزم تحصيل العلم حينئذ وهو تخصيص في لزوم تحصيل العلم بقول الفاسق إذا جاء بنبإ.

فالأولى أن تحمل الآية على ما لا يستلزم التخصيص لكن لا يخفى ما في هذا التأييد ؛ لدوران الأمر فيه بين المجاز والتخصيص ؛ ضرورة كون استعمال التبيّن في الاطمئنان مجازا وقد تقرّر في محلّه أنّ التخصيص أولى من المجاز إلاّ أن يقال : إنّ ما ذكروه إنّما هو بحسب النوع ، وإلاّ فقد يتّفق كون شيء من المجاز أظهر من التخصيص بحسب المتعارف ، فيقدّم على التخصيص ؛ لأنّ ما ذكروه من تقدّمه على المجاز إنّما هو بحكم العرف ، وإذا وجدنا حكم العرف في شيء من

١٣٧

__________________

الموادّ على خلاف ما بنوا عليه في الغالب ، لزم اتّباعهم ، وما نحن فيه من هذا القبيل ؛ لكون استعمال التبيّن في الاطمئنان تجوّزا شائعا ، فيقدّم على التخصيص هذا ، ولازم هذه الطريقة ترك الجمود على قبول نوع الصحيح والحسن والموثّق بل لا بدّ من تنويعها والعمل بما أفاد الوثوق منها دون غيره ، فيعتبر بالصحيح الأعلى مثلا ، أو ما أفاد الوثوق من غير من [ كذا ] قسم الصحيح ، وكذلك الحسن ، فيعتبر منه ما بلغ مدح رواته أعلى المراتب ككونه شيخ الإجازة ، وكالمدح الواقع في إبراهيم بن هاشم من كونه قد نشر أحاديث الكوفيّين بقمّ مع كونهم ينفون من بلادهم من كان يروي عن الضعفاء.

وبالجملة ، فيعتبر منه ما أفاد الاطمئنان دون غيره ، وكذلك الموثّق فيعتبر منه ما كان راويه مع كونه ثقة في مذهبه ممدوحا بما يفيد الوثوق به مثل ما حكي عن عليّ بن الحسن بن فضّال مع كونه فطحيا أنّه لم يرو عن أبيه شيئا قال : وكنت أقابله بكتبه وسنّي ثماني عشرة ( في النسخة :

ثمانية عشر ) سنة ، ولا أفهم إذ ذاك ، ولا أستحلّ أن أرويها عنه.

وعن النجاشي : أنّه لم يعثر له على زلّة في الحديث ولا ما يشينه ، وقلّ ما روى عن ضعيف وقد شهد له بالثقة الشيخ والنجاشي.

وأمّا ما لا يفيد الوثوق ، فلا يعتبر. فالحاصل أنّ المراد بالآية هو الأمر بتحصيل الوثوق بالخبر.

فإن قلت : ما ذكرت من استقرار طريقة العقلاء على العمل بالخبر المفيد للاطمئنان يمنع من حمل التبيّن في الآية عليه ؛ لأنّ لازم الأمر بالتبيّن بمعنى تحصيل الاطمئنان أن يكون المخاطبون بالآية قد عملوا بقول وليد من دون اطمئنان حتّى أمرهم الله تعالى بتحصيل الاطمئنان ، وذلك ينافي كونهم عقلاء وهو معلوم البطلان ، فظهر أنّ لازم كونهم عقلاء ـ على ما قرّرت من القاعدة ـ أنّهم قد أخذوا بقول وليد ؛ لاطمئنانهم به إلاّ أنّه لمّا كان لا يكفي في العمل بقول الفاسق أمرهم الله تعالى بتحصيل العلم الوجداني.

قلت : إنّ وليدا ربّما كان بحسب الظاهر عادلا عندهم كما هو مقتضى كونه عامل الصدقات بأمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وإن كان سرّه محجوبا عنهم ، فلذلك وثّقوا واكتفوا بعدالته إلاّ أنّ الله نبّه على فسقه ولزوم التبيّن عن قوله.

فذلك الوثوق كان مبنيّا على زعمهم من عدالته ، فيزول بالتنبيه على انتفائها ، فيلزم التبيّن ، أو يقال : إنّ وثوقهم بقوله وإن لم يكن عندهم عادلا ربّما كان ابتدائيا يزول بالالتفات وقد اشتبه

١٣٨

__________________

عليهم بالوثوق التامّ ، فجروا على مقتضاه ، ثمّ إنّ الله تعالى نبّههم وأمرهم بالوثوق التامّ المستقرّ.

إذا عرفت ذلك كلّه ، نقول : أمّا التمسّك بالمفهوم الذي قد تقدّم أنّ فيه مسلكين :

أحدهما : مسلك حجّية مفهوم الشرط ؛

وثانيهما : مسلك مفهوم الوصف ؛

فيرد على الأوّل منهما المنع من جهة الصغرى. وعلى الثاني منهما المنع من جهة الكبرى.

أمّا الأوّل ـ وهو المنع على المتمسّكين بحجّية مفهوم الشرط ـ فيقرّر تارة من جهة حزازة كيفية الاستدلال ، وأخرى من جهة المنع على نفس الاستدلال.

أمّا الأوّل : فبيانه أنّه لا ريب في أنّ وجوب التبيّن ليس نفسيا بل شرطي لوجوه :

أحدها : أنّ نفس مادّة التبيّن كالفحص والبحث والتجسّس ممّا أخذ فيه كون معناه للوصول إلى غيره ، فلا يعقل أن يكون التبيّن مطلوبا لنفسه كالصلاة والصيام وأخواتهما.

ثانيهما : أنّ التعليل المذكور في الآية ـ وهو قوله تعالى : ( أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ ) ـ يفيد ذلك للدلالة على أنّ وجوب التبيّن إنّما هو لأجل التحرّز عن الندم من قبول قول الفاسق.

ثالثها : الإجماع على أنّ التبيّن ليس واجبا نفسيا.

وحينئذ نقول بعد تسليم إفادة الآية الكريمة للمفهوم ـ وهو قول : إن جاءكم عادل بنبإ ، فلا يجب تبيّن خبره ـ : لا حاجة إلى ضمّ المقدّمة الأخرى ، وهي أنّه إمّا أن يجب القبول ، فيثبت المطلوب. وإمّا أن يلزم الردّ ، فيلزم كونه أسوأ حالا من الفاسق ، وذلك لأنّ التبيّن قد كان شرطا لقبول قول الفاسق ، فيسقط بانتفاء المشروط به ، ومقتضاه جواز قبول قول العادل ، فلا حاجة إلى المقدّمة المذكورة ، فيكون الإتيان بها لغوا.

وإن أبيت إلاّ عن كون وجوب تبيّن خبر الفاسق نفسيا ، قلنا : إنّ ذلك يضرّهم ولا ينفعهم ، وضمّ المقدّمة المذكورة لا يفيد ؛ لأنّ مقتضى المفهوم حينئذ نفي ذلك الوجوب النفسي عن تبيّن خبر العادل ، ولا يلزم منه قبول خبره.

وقولهم : إن ردّ خبر العادل بدون تبيّن ، لزم كونه أسوأ حالا من الفاسق ممّا يقابل بالمنع ، لأنّ التبيّن عن خبر المخبر ربّما أدّى إلى ظهور خلاف ما أخبر به ، وحينئذ يهتك ستره ، وينحطّ عن القلوب محلّه ، وحيث كان الفاسق ليس له خطر عند الله ـ جلّ شأنه ـ أمر بالتبيّن عن حال خبره

١٣٩

__________________

المؤدّي أحيانا إلى ظهور خلاف ما أخبر به الموجب لانحطاط قدره.

وأمّا الثاني ، فتوضيح المقال فيه هو أنّ أهل هذه الصناعة قد قرّروا في باب المفاهيم أنّ طريقة أخذ المفهوم هو أن يترك القيود المعتبرة في المنطوق على حالها ، وتبدّل الكيفية ، فمن ذلك يحصل المفهوم المعتبر من الكلام الذي في شأنه إفادة المفهوم ، وحينئذ نقول : إنّ الجملة الشرطية في الآية الكريمة بعد إبراز ما اعتبر فيها من القيود ليست إلاّ إن جاءكم فاسق بنبإ فتبيّنوا نبأ ذلك الفاسق ( في النسخة : والفاسق؟ ) وليس مفهومه حينئذ إلاّ ما يعبّر عنه بأنّه إن لم يجئكم فاسق بنبإ ، فلا يجب عليكم تبيين نبأ ذلك الفاسق ، وهذا المعنى ممّا لا مساس له بخبر العادل أصلا ، فيكون مسكوتا عنه نفيا وإثباتا.

فإن قلت : إنّ مثل هذا المفهوم ممّا لا فائدة فيه أصلا ، وقصده بالكلام لغو لا مساغ للالتزام به في كلام الحكيم على الإطلاق جلّ شأنه.

قلت : ليس الغرض إثبات أنّ مقصوده تعالى ذلك ، بل المراد أنّ مثل هذه الجملة الشرطية لا يليق به مفهوم سوى ما ذكر ، وإلاّ فليس الكلام هنا مفيدا للمفهوم ، لعدم قابليته لإفادته ، وليس الكلام إلاّ مسوقا لإفادة الربط بين الشرط والجزاء في الوجود ، بمعنى وجود الثاني عند وجود الأوّل ، وليس مسوقا لإفادة الانتفاء عند الانتفاء.

وإن شئت قلت : إنّ الكلام مسوق لبيان حال الموضوع بحسب الوجود فقط ، وهذا القسم في الجملة الشرطية ليس ممّا يعزّ وجوده ، ألا ترى إلى قوله تعالى : ( وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها) فإنّه ليس مسوقا إلاّ لبيان تحقّق الموضوع ، وليس المقصود منه أنّه إذا لم يتوجّه إليكم تحيّة ، فلا يجب مقابلتها بأحسن منها أو ردّوها ، وكذلك قوله تعالى : ( وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا) وكذلك قول القائل : فإن رزقت ولدا ، فاختنه ؛ وإن ركب زيد ، فالزم ركابه ؛ وإن قدم من السفر ، فاستقبله ؛ وإن تزوّجت ، فلا تضيّع حقّ زوجتك ؛ وإن آخيت أحدا ، فراع حقّه ، وأمثال ذلك ممّا لا يحصى ، وهذا النوع من الجملة الشرطية ليس مجازا إلاّ على القول باعتبار التقييد بالمفهوم في أصل الوضع ، على أن يكون التقييد داخلا والقيد خارجا ، وقد تقدّم تفصيل القول في وجه دلالة اللفظ على المفهوم في محلّه ، فراجع هكذا ينبغي أن يجاب عن الاستدلال.

وقد وقع للفاضل القمّي رحمه‌الله في مقام الجواب عنه ما ينبغي التعرّض لما فيه ، وتمييز كدره من

١٤٠