مطارح الأنظار

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني

مطارح الأنظار

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني


المحقق: علي الفاضلي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: معهد الإمام الخميني والثورة الإسلامية
المطبعة: مؤسسة العروج
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7986-36-6
الصفحات: ٦١٥

أصل

[ في البراءة في الشبهة الحكمية الوجوبية ]

في الشكّ في التكليف من أقسام الشبهة الحكمية الوجوبية فيما لو كانت الشبهة مستندة إلى فقد النصّ بجميع أقسامه المذكورة عدا ما إذا كان الشكّ بين الوجوب والحرمة ؛ فإنّ لهذه الصورة في هذا المقام وفي المقام الآتي مقام (١) آخر ، فلا بدّ من ذكرها على حدّها (٢) ، فنقول : لا شكّ في جريان البراءة في هذه الصورة بأقسامها ؛ للأدلّة الأربعة كتابا وسنّة وإجماعا وعقلا.

أمّا الأوّل ، فآي منه أقواها في النظر قوله تعالى : ( وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً )(٣).

والتقريب أنّ البعث في المقام هو تبليغ الأحكام (٤) وبيانها ، وعند انتفائه لا بدّ وأن لا يكون هناك عقاب ، فالآية إنّما دلّت على نفي العقاب والعذاب عند عدم البيان والبعث وهو المطلوب.

لا يقال : قد مرّ فيما سبق ادّعاء ظهور الآية في نفي فعلية العقاب ووقوع العذاب ، وقد مرّ أيضا عدم تنافيه للاستحقاق ، فالوجوب المشكوك فيه يحتمل ثبوته.

لأنّا نقول : المقصود بالبراءة هو تفريغ الذمّة عن الأحكام الشرعية والخروج عن

__________________

(١) كذا. والصواب : مقاما.

(٢) « ج » : حدة.

(٣) الإسراء : ١٥.

(٤) « ج » : في الأحكام.

٣٤١

عهدة التكليف ورفع العقاب فاحتمال الوجوب في الواقع مع القطع برفع العقاب عند الشكّ فيه وعدم البيان لا ينافي الحكم بالبراءة بل وهذا عين المطلوب كما لا يخفى.

وأمّا الوجوب الواقعي ، فأصالة العدم التي مرجعها إمّا إلى الاستصحاب ، أو إلى غيره ، فقد يقضى بعدمه بمعنى أنّ الأحكام المترتّبة على عدم الوجوب الواقعي بواسطة إعمال الأصل المذكور يحكم بترتّبها على العدم المستصحب مثلا.

فإن قلت : فعلى ما ذكر يصحّ التعويل بأصالة البراءة في الموارد التي ثبت العفو فيها كالظهار (١) مثلا ، وكما في المستقلاّت العقلية بناء على عدم ثبوت الأحكام الشرعية فيها مع أنّ فساد ذلك ممّا لا يدانيه ريبة.

قلت : فرق ظاهر بين ما نحن فيه من الموارد المشكوكة وبين ما ثبت الاستحقاق شرعا أو عقلا ، فإنّ الاستحقاق فيها مشكوك عن أصله كما لا يخفى ، وسيرد عليك في المقامات الآتية ما يوضح ذلك.

وأمّا الثاني ، فستطّلع عليها فيما سيجيء.

وأمّا الثالث ، فالإجماع (٢) حاصل لمن لاحظ كلمات الفقهاء في مقامات مختلفة وأبواب متفرّقة وموارد متشتّتة بحيث لا ينكره إلاّ المكابر العسوف ، وما قد يتوهّم من ذهاب بعض الأخبارية إلى الاحتياط في الشبهة الوجوبية ، فليس فيما إذا كانت مستندة (٣) إلى فقد النصّ بل إنّما هو مخالف فيما إذا كانت الشبهة باعتبار تعارض النصّين فالأخباريون والأصوليون ـ على ما نقله غير واحد منهم ـ مطبقون على البراءة في هذه الصورة بل ربّما يظهر من عدّها (٤) الصدوق (٥) في اعتقاداته (٦) كونه ضروريا كما لا

__________________

(١) « س » : كالطهارة!

(٢) « م » : فلإجماع!

(٣) « ج » : مشتهرة!

(٤) « ج » : عدّ.

(٥) « س » : + رحمه‌الله.

(٦) الاعتقادات ( المطبوع في مصنّفات الشيخ المفيد ) ٥ : ١١٤ قال في باب الاعتقاد في الحظر

٣٤٢

يخفى.

وأمّا الرابع ، يقرّر بوجهين :

الأوّل : استقلال العقل بقبح التكليف بلا بيان ؛ ألا ترى أنّ المولى يذمّ عند العقلاء لو أخذ على عقاب العبد بتركه ما لم يعلم وجوبه منه وإن كان واجبا في الواقع ، واستناد المولى إلى احتمال الوجوب عندهم أقبح من أصل العقاب كما لا يخفى.

الثاني : ما قد يوجد في كلمات جملة منهم من أنّ التكليف في الصورة المفروضة يوجب التكليف بما لا يطاق ، وقد يتمسّك في نفي التكليف بالمجمل الذاتي أيضا بمثله كما يظهر من استناد المحقّق القمّي (١)(٢) إليه هناك.

واعترض عليه بعض الأجلّة (٣) بأنّ اللزوم غير ظاهر فيما يكون للمكلّف مندوحة في الامتثال بإتيان جميع المحتملات ، فإنّ الفعل في أمثال المقام ممّا يطيقه المكلّف.

وليس بسديد إذ المقصود في المقام هو القول بأنّ إتيان الفعل مع عدم العلم بالأمر بقصد الامتثال على وجه يكون الداعي فيه هو الأمر محال ، والتكليف به تكليف بما لا يطيقه المكلّف إذ مع عدم العلم بالأمر كيف يعقل الإتيان على أنّه مأمور به؟

فإن قلت : إتيان الفعل في الخارج لا يخلو من وجوه :

أحدها : أن يأتي المكلّف بالفعل لا بداعي الأمر والامتثال بل لدواعي النفسانية على اختلافها.

وثانيها : الإتيان به على أنّه مأمور به قاصدا فيه الامتثال.

وثالثها : الإتيان به لاحتمال الأمر.

__________________

(١) « س » : + رحمه‌الله.

(٢) القوانين ٢ : ١٦.

(٣) الفصول : ٣٥٧.

٣٤٣

لا شكّ في خروج الأوّل من (١) المقام.

وأمّا الثاني ، فهو تكليف بالمحال ، فالقائل بالوجوب لا يمكنه القول به.

وأمّا الثالث ، فلا مانع من القول به بل وهو محلّ الكلام في المقام ؛ لأنّ القائل بعدم الوجوب لا يمكنه إنكار الاستحباب ، فلو كان الكلام في المقام في إتيان الفعل على أنّه مأمور به ، لما صحّ القول باستحبابه إذ لا فارق بين الوجوب والاستحباب في امتناع تعلّقهما بما لا يطيقه المكلّف.

وبالجملة ، فالذي يمكن أن يكون محلّ تشاجر القائل بالوجوب مثلا والقائل بعدمه هو الإتيان بالفعل لاحتمال أن يكون ممّا تعلّق به الأمر ، وهذا ممّا يطيقه (٢) المكلّف قطعا.

قلت : الكلام إنّما هو عند فقدان الدليل كما هو موضوع البحث عموما وخصوصا ، والإتيان بالفعل على الوجه المذكور أيضا ممّا لا دليل يدلّ عليه وجوبا كما ستعرف ، فالإتيان بنفس الفعل على أنّه مأمور به ولاحتمال الأمر به ـ بعد ما فرضنا فقدان الدليل خصوصا وعموما ولو من جهة الاحتياط ـ سواء فكما أنّ الامتثال به عند عدم الأمر به محال ، فكذا الامتثال بالاحتياط عند عدم الأمر بالاحتياط وعدم ما يدلّ عليه محال ، والتكليف به تكليف بما لا يطاق وهكذا.

فإن قلت : لا فرق في البيان بين أن يكون المبيّن هو العقل أو الشرع ، وبعد ما تقرّر في محلّه من استقرار طريقة العقلاء على لزوم دفع الضرر المحتمل وحكم العقل القاطع به لا وجه للقول بأنّ الاحتياط ممّا لم يعلم وجوبه ، فلا يساوي الإتيان به على أنّه مأمور لوجود (٣) الأمر العقلي بالاحتياط وعدمه هناك.

قلت : لا خفاء في (٤) أنّ مجرّد الاحتياط من غير أوله إلى عنوان آخر لا حكم للعقل بوجوبه كما لا يخفى بل العقل من حيث حكمه بلزوم دفع الضرر يحكم به ، ولا بدّ في

__________________

(١) « م » : عن.

(٢) « س » : لا يطيقه!

(٣) « س » : بوجود.

(٤) « م » : ـ في.

٣٤٤

حكم العقل هذا من وجود موضوعه وثبوت محلّه كما هو ظاهر أيضا ، فلا بدّ من إثبات أنّ المقام ممّا يحتمل الضرر لو لا الإتيان به مثلا وهو منتف ؛ لأنّ المراد بالضرر إمّا أن يكون هو الضرر الدنيوي ، أو الأخروي ممّا لا يرجع إلى العقاب بعد القول به ، أو العقاب الأخروي ، أو ما يؤول إليه.

أمّا الأوّل ، فستعرف الكلام فيه (١).

وأمّا الأخير ، فبعد قطع العقل واستقلاله بقبح التكليف بلا بيان لا احتمال له فإنّ العقل يقطع بعدم العقاب ولا ينافيه احتمال الوجوب إذ العقاب والثواب ليسا من آثار الوجوب ولوازمه ، ولا ملازمة بينهما ، وإنّما الملازمة بين العقاب والمخالفة والعصيان فاحتمال المخالفة يلازم احتمال العقاب لا الوجوب (٢) ، والعصيان فرع الأمر والعلم به وعند عدمه يستقلّ العقل بعدمه فاحتمال الضرر منتف بعد الحكم العقلي بعدمه.

فإن قلت : كيف يصحّ التمسّك بالأصل في رفع احتمال العقاب مع أنّ جريانه فرع رفعه ، فإنّ الدعوى هي كون العقل بيانا ، فلا وجه للتمسّك به في دفع احتمال العقاب ، وبعد ما كان العقل بيانا فالأمر قطعي والمخالفة يقينية فالعقاب قطعي فإنّه على ما اعترفت من لوازم المخالفة وهي معلومة بعد الأمر ولو عقلا.

قلت : لا خفاء في أنّ في المقام أمرين :

أحدهما : احتمال العقاب على التكاليف التي لا بيان عليها كوجوب قراءة الدعاء مثلا عند الشكّ فيه.

وثانيهما : العقاب على ترك الاحتياط في الإتيان بما يحتمل الوجوب لاحتمال العقاب ، ولا شكّ أنّ الثاني فرع الأوّل ، فالمحتمل للعقاب إمّا أن يحتمل العقاب على تلك التكاليف ، فلا خفاء في بطلانه عند الكلّ ، فإنّه تكليف بلا بيان ، وعقاب بلا برهان ، ولا يكاد يلتزم به العاقل فضلا عن الفاضل ، فالعقل يستقلّ بعدم العقاب فلا

__________________

(١) ستعرف في ص ٤١٥ ـ ٤١٦.

(٢) « م » : لا لوجوب.

٣٤٥

احتمال وإمّا أن يحتمل العقاب على ترك الاحتياط الذي هو المبيّن بالعقل ، وهو أيضا فاسد إذ القول بقطع العقل بعدم العقاب على تلك التكاليف التي لا بيان عليها هو عين الالتزام بعدم (١) هذا الاحتمال أيضا فإنّه على ما عرفت هو فرع الأوّل ، وبعد القطع بعدم الأصل لا وجه لاحتمال الفرع.

فإن قلت : إنّ مجرى الأصل على ما مرّ في موضوع الشكّ وهو ينافي دعوى القطع بعدم العقاب.

قلت : إنّ القطع بعدم العقاب إنّما هو بعد ملاحظة قبح العقاب بلا بيان وحكمته تعالى ، وذلك ظاهر في الغاية.

هذا إذا كان المراد بالضرر الأخرويّ منه ، وأمّا إذا كان المراد منه الدنيويّ أو ما لا يرجع إلى العقاب على تقديره في الآخرة كأن احتمل عند الشكّ في وجوب قراءة الدعاء رمد العين (٢) مثلا و (٣) نحوه ، فلو كان مظنونا ، فلا بدّ من الاجتناب عنه لما مرّ في محلّه من حجّية الظنّ في الضرر لانسداد باب العلم فيه ، وإلاّ فهو إنّما يرجع إلى الشبهة في الموضوع الخارجي ؛ إذ العقل يحكم بحرمة الارتكاب فيما فيه ضرر قطعا ولا ترديد له في هذا الحكم بوجه ، وإنّما يشكّ (٤) في أنّ الفعل الفلاني هل يوجب (٥) ذلك ، أو لا كما إذا شكّ في أنّ هذا المائع الفلانيّ خمر ، أو خلّ فإنّ المدار في تميّز ذلك ظاهر كما لا يخفى على المتدرّب (٦) في كلماتهم.

وممّا يؤيّد ذلك أنّ الشبهة الحكمية لا بدّ في رفع الشبهة فيها من الرجوع إلى الأدلّة الشرعية بخلاف الشبهة الموضوعية فإنّ منشأ الشكّ فيها هو الاشتباه في الأمور الخارجة ، فلا بدّ في رفعها من الرجوع إليها ولا ينافيه بيان الشارع في بعض الموارد على ما هو ظاهر.

__________________

(١) « س » : لعدم.

(٢) « ج » : + على العقلاء.

(٣) « م » : أو.

(٤) « م » : الشكّ.

(٥) « م » : يوجبه.

(٦) « ج » : المتدبّر.

٣٤٦

وبالجملة ، فالضرر لو كان أخرويا عقابيا ، فقد مرّ أنّه يقبح عند عدم البيان بل الثواب أيضا كذلك (١) اللهمّ لتفضيل (٢) خارج عن الاستحقاق ولو كان دنيويا ، فمرجعه إلى الشبهة الموضوعية وسيجيء الكلام فيه في الأصول الآتية (٣).

ثمّ إنّه هل يحكم بالاستحباب فيما إذا دار الأمر بين الوجوب وغير التحريم بصورها ، أو لا بعد القول بعدم الوجوب؟ لا بدّ لتحقيق الكلام فيه من تفصيل في المقام ليتّضح (٤) به المرام فنقول :

أمّا إذا دار الأمر بين الوجوب والإباحة ، فيمكن القول بالاستحباب لأدلّة الاحتياط ، ولأخبار التسامح ولو في بعض موارده ، فإنّ بعض (٥) الآخر منه ممّا لا يحتمل فيه تلك الأخبار كما إذا ورد نصّ مجمل (٦) يحتمل الوجوب والاستحباب فإنّه يحكم بالاستحباب للاحتياط لا للتسامح ؛ لعدم صدق البلوغ المعتبر في أخباره ولا سيّما فيما إذا لم يكن المسألة معنونة في كلامهم.

وأمّا ما يتوهّم من اتّحادهما ؛ لأول الثاني إلى الأوّل ، فليس بسديد ؛ لأنّ الاحتياط إنّما يفيد الاستحباب الغيري تحصيلا لمطلوب المولى ومحبوبه ، ولا ينافيه عدم الدليل على وجوبه ، فإنّ المحبوبية تغاير الوجوب الفعلي المنفيّ بالأصل ، والتسامح إنّما يفيد الاستحباب النفسي ؛ فإنّ الثواب المترتّب عليه ـ كما هو صريح أخباره ـ هو الثواب المترتّب على ذلك الشيء بخلاف الاحتياط ، فإنّه من قبيل الانقياد ، ولا ينافي ما قلنا عدم احتمال الاستحباب ـ كما هو المفروض من دوران الأمر بين الوجوب والإباحة ـ إذ الاستحباب الواقعي ـ الذي هو من آثار (٧) المصالح الكامنة في ذات الشيء مع قطع النظر عن هذا اللحاظ ـ قطعي العدم.

__________________

(١) « س » : ذلك.

(٢) « ج » : لتفضّل.

(٣) « س » : ـ الآتية.

(٤) « س » : فيتّضح.

(٥) كذا. والصواب : البعض.

(٦) « ج ، م » : محتمل.

(٧) « س » : ـ آثار.

٣٤٧

وأمّا الاستحباب ولو بملاحظة هذا الاعتبار ، فهو قطعي كما لا يخفى.

وأمّا إذا دار الأمر بين الوجوب والاستحباب ، فيمكن القول بالاستحباب أيضا من وجهين :

الأوّل : أخبار الاحتياط (١) الآتية على ما سيجيء تفاصيلها.

الثاني : أنّ رجحان الفعل حينئذ قطعي وهو يكفي في أولوية الفعل ، وهذا وإن لم يكن من الاستحباب المصطلح فإنّه أحد الأحكام الخمسة ولا بدّ في تحقّقه (٢) من تحقّق (٣) جنسه وفصله كليهما ، ومجرّد ثبوت الرجحان الذي هو الجنس القدر المشترك بينه وبين الوجوب لا يقضي (٤) بوجود فصله وإن كان فصل الوجوب منفيّا (٥) بالأصل إلاّ أنّه يكفي في أولوية الفعل كما لا يخفى.

وأمّا ما قد يتوهّم من أنّ الاستحباب في المقام استحباب ظاهري ، فهو كلام ظاهري لا محصّل له بعد ما عرفت من لزوم تحقّق الفصل في تحقّق النوع ، وعدم كفاية الجنس فقط ، على أنّ الحكم الظاهري إنّما هو في موضوع الشكّ ، ولا شكّ في انتفائه في المقام ، فعلى ما ذكرنا لا نحكم بترتّب آثار الاستحباب عليه ، كما لا نحكم بترتّب آثار الوجوب عليه ، فبالحقيقة (٦) نحكم (٧) بعدم الاستحباب والوجوب معا ، وإنّما الفعل في مقام الظاهر بالنسبة إلى المكلّف كأفعال الصبيّ من جهة الفعل (٨) لا يحسن (٩) ، فإنّ الرجحان قطعي ، وذلك ظاهر لا سترة عليه.

ومن هنا يظهر عدم اتّجاه الاستناد إلى الأخبار الواردة في مقام التسامح ؛ إذ لا محلّ لها بعد القطع بالثواب.

__________________

(١) « س » : قطع أخبار الآحاد!

(٢) المثبت من هامش « س » وفي النسخ : تحقيقه.

(٣) « م » : تحقيق.

(٤) « ج » : لا تقضى.

(٥) « ج » : منتفيا.

(٦) « ج » : فبتحقيقه.

(٧) « ج ، م » : يحكم.

(٨) « س » : ـ الفعل.

(٩) « ج » : ـ من جهة الفعل يحسن.

٣٤٨

وأمّا إذا دار الأمر بين الوجوب والكراهة فقد يحتمل (١) عدم القول بالاستحباب إلاّ أنّ الأقوى ذلك للأخبار الآمرة بالاحتياط لا لأخبار التسامح على ما هو ظاهر لا سترة فيه.

هذا تمام الكلام في الشبهة الوجوبية فيما إذا كانت الشبهة ناشئة عن فقد النصّ ، ومثله الكلام فيما إذا كانت لإجمال في الدليل من غير فرق بين نفي الوجوب وإثبات الاستحباب في الصورة المذكورة والغير المذكورة ممّا إذا دار الأمر بين الوجوب والاثنين من الأحكام غير الحرمة كما لا يخفى.

وأمّا إذا كانت من تعارض النصّين ، فمجمل الكلام فيه أنّه لا بدّ من التخيير فيما يجري فيه الأخبار الدالّة على التخيير ، وعلى تقدير عدم جريانها ، فلا بدّ من الأخذ بالأصل لا على وجه يكون مرجّحا للخبر (٢) حتّى يصير مقرّرا بل على وجه يكون مرجّعا (٣) على ما سيجيء تفصيل الكلام فيه في محلّه إن شاء الله.

__________________

(١) « ج » : يتخيّل.

(٢) « س » : للتخيير!

(٣) « م » : مرجعها.

٣٤٩
٣٥٠

أصل

[ في البراءة في الشبهة الحكمية التحريمية ]

في الشبهة التكليفية التحريمية فيما إذا كانت الشبهة ناشئة عن فقد النصّ أو إجماله ، وأمّا إذا تعارض النصّان ، فتفصيل الكلام فيه في مباحث التعادل والتراجيح ، وملخّص الكلام فيه أنّ المرجع إلى التخيير فيما إذا دلّ عليه دليل شرعا ، وإلى الأصول فيما إذا خالف أحدهما لها ولم يكن ما يدلّ على التخيير الشرعي ، وإلاّ فالتخيير العقلي.

وبالجملة ، فالمجتهدون في المقام على البراءة وكثيرا ما يعبّر عنها (١) في لسانهم بالإباحة نظرا إلى ظهور البراءة في نفي الوجوب فقط في قبال الاشتغال ، وإنّما نظرهم في ذلك ليس إلى مجرّد حكم العقل فإنّه على ما عرفت لا يزيد حكمه على رفع العقاب والمؤاخذة ، ولذا يعبّر عنه بأصالة النفي بل الحكم بالإباحة في الشبهة التحريمية إنّما يستند إلى الأدلّة الشرعية كما نبّهنا عليه فيما تقدّم.

والأخباريون على الاحتياط جميعا وربّما ينسب إليهم (٢) أقوال (٣) كالقول بالحرمة الواقعية أو الظاهرية أو التوقّف أو الاحتياط ، وقد يستشكل في الفرق بينها بعد وفاقهم على التحريم وعدم جواز الإتيان بالفعل إلاّ أنّه يمكن أن يقال :

__________________

(١) « س » : عنه.

(٢) نسبه إليهم الوحيد البهبهاني في الفوائد الحائرية : ٢٤٠ والرسائل الأصولية ( رسالة البراءة ) : ٣٤٩ ـ ٣٥٠ ، ونقله المحقّق القمّي في القوانين ٢ : ٢٧ والنراقي في مناهج الأحكام : ٢٢٣.

(٣) المثبت من « ج » ، وفي سائر النسخ : أقوالا!

٣٥١

أمّا الحرمة (١) الواقعية ، فالظاهر (٢) أنّها غير مصرّح بها في كلامهم ، فلعلّها مأخوذة من ظاهر لفظ الحرمة بعد تقييدها في كلام بعضهم بالحرمة (٣) الظاهرية ، ويحتمل أن يكون المراد بها أصالة الحظر المقرّرة في الأصل السابق.

وأمّا الحرمة الظاهرية فيفترق (٤) من التوقّف والاحتياط بأنّ الحرمة فيها تشريعية ظاهرية بخلاف الحرمة فيهما فإنّها إرشادية محضة كما يشعر به قوله في الخبر الآتي « هلك من حيث لا يعلم ».

وأمّا التوقّف والاحتياط ، فلا يكاد تحقّق (٥) الفرق بينهما إلاّ في عنوان الأخبار الواردة فيهما ؛ فإنّ جملة منها تشتمل (٦) على لفظ التوقّف والوقوف ، وجملة أخرى على لفظ الاحتياط وإلاّ فبحسب المعنى لا فرق بينهما (٧) ؛ فإنّ التوقّف (٨) معناه عدم ارتكاب المكلّف الشيء المأمور بالتوقّف (٩) فيه وهو بعينه الأخذ بالأوثق كما هو المراد بالاحتياط لكنّ الإنصاف أنّ المعنى في الكلّ واحد ، وليس في كلامهم ما يدلّ على خلاف ذلك بل إنّما هو مجرّد اختلاف في العبارة والمقصود ظاهر.

وكيف كان ، فالحقّ ما ذهب إليه الأصوليون المجتهدون لوجوه من الأدلّة :

الأوّل : الكتاب العزيز وهي آيات بيّنات :

منها : ما مرّ في الأصل السابق وهي آية التعذيب وقد مرّ وجه الدلالة فيها وصحّة التقريب على وجه يليق بالمقام.

__________________

(١) « س » : أن يقال بالحرمة.

(٢) « ج » : أن يقال إمّا بحرمة الواقعية والظاهر.

(٣) « م » : ـ بالحرمة.

(٤) « س » : فتفرق.

(٥) « س » : يحقّق.

(٦) « ج » : يشمل.

(٧) لم يرد قوله : « إلاّ في عنوان الأخبار ... » إلى هنا في نسخة « س » وسيأتي بعد سطرين والظاهر وقع فيها سقط وتقديم وتأخير وتكرار بعض الكلمات فلاحظ ما سيأتي في التعليقة الآتية.

(٨) « ج » : التوقيف.

(٩) هنا في « س » زيادة ما يلي : وجملة أخرى على لفظ الاحتياط وإلاّ فبحسب المعنى لا فرق بينهما فإنّ التوقّف معناه عدم ارتكاب المكلّف الشيء المأمور بالتوقّف.

٣٥٢

ومنها : قوله تعالى : ( لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها )(١) وجه الدلالة أنّ التكليف التحريمي فيما اشتبه حكمه بواسطة فقد النصّ أو إجماله كشرب التتن مثلا ممّا لم يأت النصّ به ، ولا يكلّف الله نفسا إلاّ ما آتاها ، فلا تكليف فيه ، اللهمّ إلاّ أن يقال بأنّ صدر الآية إنّما هو في الإنفاق بالأموال ، فلا يرتبط بالمقام.

ومنها : قوله تعالى : ( لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ )(٢) والتقريب ظاهر إلاّ أنّ الاعتراض عليه أيضا ممكن ، فالأوضح من الكلّ هو آية التعذيب كما نبّهنا عليه.

الثاني : الإجماع نقلا في كلام جملة من الأعاظم ، وتحصيلا من غير الأخباري كما يظهر ذلك من استنادهم ذلك إلى المجتهد من غير استثناء كما لا يخفى.

الثالث : الأخبار وهي كثيرة جدّا ، فمنها قوله : « ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم » (٣) وجه الدلالة أنّ الحرمة في واقعة شرب التتن مثلا ممّا حجب الله علمه عنّا وكلّ ما حجب الله علمه عنّا ، فهو موضوع عنّا ، فالحرمة في الواقعة المفروضة موضوعة عنّا وهو المطلوب.

فإن قلت : إنّ الرواية ظاهرة في ما إذا حجب الله علم شيء مخزون عنده أو عند أوليائه كأسرار القضاء والقدر ونحوهما كما يشتمل (٤) عليه ذيل الخبر النبوي الآتي من أنّ رفع عن أمّتي إلخ فعلى هذا يصير مفادها بعينها مفاد قوله : « اسكتوا عمّا سكت الله

__________________

(١) الطلاق : ٧.

(٢) الأنفال : ٤٢.

(٣) الوسائل ٢٧ : ١٦٣ ، باب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، ح ٣٣ ؛ البحار ٢ : ٢٨٠ ، باب ٣٣ ، ح ٤٨ و ٥ : ١٩٦ ، باب ٧ ، ح ٧ ؛ التوحيد للصدوق : ٤١٣ ، باب ٦٤ ، ح ٩ ، وورد من دون قوله : « علمه » في الكافى ١ : ١٦٤ ، باب حجج الله على خلقه ، ح ٣ ، وفي تحف العقول : ٣٦٥ في حكم ومواعظ الصادق عليه‌السلام : وقال عليه‌السلام : كلّ ما حجب الله عن العباد فموضوع عنهم حتّى يعرّفهموه. ومثله في ارشاد القلوب ٢ : ٢٤٠.

(٤) « س » : كالمشتمل.

٣٥٣

عنه » (١) فلا يصحّ الاستناد إليها في أمثال المقام للفرق الظاهر بين ما إذا كان الأسباب المفيدة للعلم (٢) فيه موجودا (٣) وبين ما إذا كان مفقودا (٤) ، فالوضع ـ كما هو المستفاد من الرواية ـ إنّما في المقام الثاني ، والمطلوب إنّما يتمّ فيما إذا كان من الأوّل كما لا يخفى.

قلت : إسناد الحجب إليه تعالى لا يخلو من وجوه ثلاثة :

أحدها : أن يكون هو العلّة للحجب من غير مدخلية للعبد فيه تسبيبا وغيره كما في الأسرار المخزونة في علمه والمكنونة عند أهلها ، فيكون المراد من الرواية على هذا ما حجب الله علمه عن العباد لعدم جعله طريقا يوصلهم إليه ، فهو موضوع عنهم.

وثانيها : أن يكون هو الحاجب تسبيبا منّا كأن يكون على وجه المباشرة منه تعالى ، ولكنّ السبب في الحجب منّا كما هو مفاد قوله : ( إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ )(٥) وذلك أيضا ظاهر كما في غيبة الإمام عليه‌السلام فإنّ الفاعل غيرنا ونحن السبب فيها.

وثالثها : أن يكون الحاجب غيره إلاّ أنّه أسند (٦) إليه من جهة عدم رفعه للموانع بعد وضعه أسباب العلم كإرسال الرسل وإنزال الكتب والأمر بالبيان والتبليغ ونحوه على وجه لا يستند (٧) الحجب إليه إلاّ مجازا بعيدا لا يصار إليه إلاّ لقرينة مقتضية له ؛ لا شكّ في بطلان دعوى الانصراف إلى الأوّل فقط كما يظهر بالتأمّل في ذيل الحديث من قوله : « فهو موضوع عنهم » إذ لا امتنان فيه بعد ظهوره فيه كما لا يخفى فساد توهّم (٨) التعميم بالنسبة إلى الثالث أيضا لما عرفت من بعده (٩) من إسناد الحجب إليه تعالى ، فالأوسط أوسط الوجوه ، وبه يتمّ المطلوب فإنّه يصير حينئذ مثل قوله : « كلّ ما غلب

__________________

(١) عوالى اللآلى ٣ : ١٦٦ ، باب الحج ، ح ٦١.

(٢) « ج » : للعلّة!

(٣) كذا.

(٤) كذا.

(٥) الرعد : ١١.

(٦) « ج » : مسند.

(٧) « س » : يسند.

(٨) « ج » : توهمهم.

(٩) « ج » : العلّة!

٣٥٤

الله فيه فهو أولى بالعذر » (١) كما في الأمراض فإنّ السبب غالبا منّا إلاّ أنّ المباشر غيرنا ولا يجري ذلك فيما إذا كان المكلّف سببا على وجه لا يصحّ إسناد المرض إلى غيره إلاّ من جهة عدم رفعه للموانع كما إذا شرب المرقد أو المسكر.

وبالجملة ، ففيما إذا كان المكلّف سببا للحجب من الله تعالى دلّ الرواية على البراءة ولا قائل بالفصل فيتمّ المطلوب ، فتأمّل.

ومنها : قوله : « الناس في سعة ما لم يعلموا » (٢) وجه الدلالة ظاهر سواء كانت « ما » زمانية أو موصولة مضافا إليها (٣) للمجرور.

لا يقال : العلم بالتكليف أعمّ من أن يكون إجماليا أو تفصيليا ، وسعة الجهل وعدم العلم لا يجدي في العلم الإجمالي لوجوده فإنّا نعلم وجدانا بوجود محرّمات كثيرة وواجبات كثيرة ، فلا يصحّ التمسّك بالرواية بعد العلم ولو إجمالا.

لأنّا نقول : إنّ الأصل المذكور إنّما يجري بعد حجّية الأخبار الآحاد عند المجتهد أو ما يكفي (٤) عن رفع العلم الإجمالي بالتكاليف المحرّمة ، أو الواجبة من غيرها من الأمارات وبعدها لا يبقى (٥) العلم الإجمالي ، فعالم الجهل أوسع من الكلّ فيتمّ التقريب.

ومنها : ما رواه الصدوق في التوحيد في الصحيح عن حريز عن الصادق عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « رفع عن أمّتي تسعة : الخطأ ، والنسيان ، وما استكرهوا (٦) عليه ، وما لا يطيقون ، وما لا يعلمون ، وما اضطرّوا إليه ، والحسد ، والطيرة ، والتفكّر في الوسوسة في

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٢٥٩ ـ ٢٦٣ ، باب ٣ من أبواب قضاء الصلوات ، ح ٣ و ٧ و ٨ و ١٣ و ١٦ و ٢٤ و ١٠ : ٢٢٦ ـ ٢٢٧ ، باب ٢٤ من أبواب من يصحّ منه الصوم ، ح ٣ و ٦ مع تفاوت في بعضها.

(٢) مستدرك الوسائل ١٨ : ٢٠ ، باب ١٢ من أبواب مقدّمات الحدود ، ح ٤ عن عوالى اللآلى ١ : ٤٢٤ / ١٠٩. وتقدّم في ص ١٥٨ وسيأتي في ص ٥٢٨ و ٥٨٦.

(٣) « م » : إليه.

(٤) « م » : تكفي.

(٥) « ج » : لا ينفى!

(٦) في المصدر : ما أكرهوا.

٣٥٥

الخلق ما لم ينطقوا (١) بشفة » (٢).

والتقريب : أنّ الحرمة المشتبهة ممّا لا نعلمها وقد رفع عن تلك الأمّة المرحومة المؤاخذة عمّا لا يعلمون والعقاب عليه وهو المطلوب.

وربّما يشكل الاستناد إلى الرواية من حيث إنّ (٣) ظاهر السياق إرادة الموضوع والفعل من الموصول كما في « ما استكرهوا عليه » و « ما لا يطيقون » و « ما اضطرّوا إليه » فإنّ المراد منه الفعل المستكره عليه والفعل الذي لا يطيقونه ، فالمعنى رفع عن أمّتي الفعل والموضوع الذي لا يعلمونه على حذو (٤) سائر الفقرات إلاّ أنّه يمكن أن يقال : أن ليس المراد ممّا لا يعلمون نفس الفعل وحقيقته فإنّه لا يترتّب على ذات الفعل والعلم بها حكم شرعي ، فلا بدّ من تقدير كأن يقال : إنّه رفع عن أمّتي المؤاخذة على فعل ما (٥) لم يعلم حكمه ، ولا ينافي السياق أيضا إذ السياق لا يزيد حكمه على اعتبار الموصول كناية عن الفعل ، ولا بدّ من تقدير الحكم ليصحّ الرفع ، فإنّ ما للشارع أن يضعه له أن يرفعه في مقام التشريع ، وليس إلاّ الحكم المتعلّق بالأفعال ، فعدم العلم بحكمها ممّا قد منّ الله تبارك وتعالى برفع العقاب عنه وهو أعمّ من أن يكون بحسب أصل الشريعة كما في الشبهة الحكمية أو بواسطة أمر خارجي كما في الشبهة الموضوعية. اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ الظاهر اختصاص الرواية بالشبهة في الموضوع وهو في محلّ من المنع ، فتأمّل.

فإن قلت : المراد بما لا يعلمون إن كان مطلق العلم تفصيليا كان أو إجماليا ، فلا امتنان لاشتراط التكليف عقلا بالعلم على وجه يستحيل خلافه وهذا حكم يعمّ سائر الأمم ، فلا يختصّ تلك الأمّة المرحومة بالعفو عنه ـ كما هو ظاهر الرواية ـ والامتنان

__________________

(١) في المصدر : لم ينطق وفي الوسائل كما في المتن.

(٢) التوحيد : ٣٥٣ ، باب ٥٦ ، ح ٢٤ ورواه أيضا في الخصال : ٤١٧ ، باب التسعة ، ح ٩ ، وعنهما في الوسائل ١٥ : ٣٦٩ ، باب ٥٦ من أبواب جهاد النفس ، ح ١ ، وسيجيء في ص ٥٢٨ و ٥٥٣.

(٣) « س » : ـ إنّ.

(٤) « س » : حدّ.

(٥) « ج ، س » : ـ ما.

٣٥٦

وإن كان خصوص العلم التفصيلي وإن كان ممّا لا يعلمونه (١) ولو إجمالا ، فالرفع غير ثابت لا في تلك الأمّة ولا في غيرها.

قلت : لا خفاء في قبح العقاب على التكاليف الواقعية مع عدم العلم بها وهذا الحكم سواء في جميع الأمم ولكنّه لا قبح في إيجاب الشارع الاحتياط فيه كأن يقول : كلّما احتملت وجوب شيء أو حرمته يجب عليك الإتيان بالواجب المحتمل والاجتناب عن المحرّم المحتمل ، فلو حكم الشارع في تلك المحتملات بالإطلاق ورفع المؤاخذة عنها كما هو مدلول الرواية ، فقد منّ منّة عظيمة لا تسعها السماوات والأرض على تلك الأمّة المرحومة ، ويحتمل إيجاب الاحتياط في سائر الأمم فعلى هذا الرواية هذه معارضة لأخبار الاحتياط بخلاف مثل قوله : « الناس في سعة » ونحوه إذ يمكن القول بأنّ أخبار الاحتياط بيان وعلم.

وبالجملة ، فلا بدّ من القول بعدم وجوب الاحتياط امتنانا منه تعالى على عباده كما هو المستفاد من الرواية.

ثمّ اعلم أنّه قد يورد على الرواية بمثل ما أوردناه فيما لا يعلمون بالنسبة إلى الأحكام العقلية الأخر كرفع السهو والنسيان وما لا يطيقون ونحوها.

وقد يجاب بأنّ الامتنان حاصل بالمجموع من الأحكام العقلية وغيرها كالطيرة مثلا.

وركاكته ظاهرة إذ لا وجه لاختصاصه صلى‌الله‌عليه‌وآله بالتسعة إذ الأحكام العقلية كثيرة جدّا فقد يزيد على مائة ، فلا بدّ من توجيه آخر كأن يقال في النقض بالسهو (٢) مثلا : إنّ حكم السهو مرفوع سواء كان من جهة القصور ، أو التقصير ، وفيما (٣) لا يطيقون يعني ما

__________________

(١) المثبت من « م » ، وفي « س » : « ممّا يعلمون » ولم يرد قوله : « وإن كان ممّا لا يعلمونه » في نسخة « ج ».

(٢) « ج ، م » : في البعض كالسهو.

(٣) « م » : ممّا!

٣٥٧

لا يتحمّل عادة كما يفصح عن ذلك الآية في آخر البقرة (١) ، لكنّه يشكل الالتزام بما ذكر في السهو كما لا يخفى إلاّ أنّه غير ضائر (٢) فيما نحن بصدده.

ومنها : قوله عليه‌السلام : « كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه أمر أو نهي » (٣) وجه الدلالة أنّ الرواية قد دلّت على إباحة كلّ شيء وإطلاقه ما لم نعلم بورود أمر فيه أو نهي (٤) ، فشرب التتن ممّا لم نعلم بورود النهي فيه ، فهو مطلق في حقّنا ومباح لنا في مرحلة الظاهر حتّى نعلم فيه بالنهي.

فإن قلت : لا وجه للاستناد إلى الرواية في وجه ولا حاجة إليها في وجه آخر فإنّ المراد بورود النهي هو الورود الواقعي ، فعند الشكّ في ورود النهي لو لم يستند بأصالة عدم ورود النهي لا وجه للاستناد إليها ، فلعلّه وارد في الواقع ومعه (٥) لا حاجة إلى الاستناد إليها فإنّه يترتّب آثار الإطلاق والإباحة بمجرّد جريان الأصل المذكور.

قلت : المراد بالورود هو العلم بالنهي ، ولا يلزم تحصيل الحاصل ، أو العبث وإظهار ما لا فائدة فيه ؛ لأنّ المراد بالإطلاق هو ما لا منع فيه فالمقصود بهذه القضيّة لو كان إفادة الإطلاق والإباحة قبل ملاحظة جعل الأحكام منه ، يلزم الأمر الأوّل لأنّ قبل هذه الملاحظة لا منع في شيء ، فيصير المعنى كلّ شيء لا منع فيه لا منع فيه وهو تحصيل للحاصل ؛ لأنّ المقصود بالخبر والقضيّة إثبات المحمول للموضوع والمفروض أنّ المحمول جزء من الموضوع أو معتبر فيه ، فلو حاولنا مع ذلك إثبات المحمول له ،

__________________

(١) في الآية ٢٨٦ : ( رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ.)

(٢) « ج » : ضارّ.

(٣) الوسائل ٦ : ٢٨٩ ، باب ١٩ من أبواب القنوت ، ح ٣ ، و ٢٧ : ١٧٣ ـ ١٧٤ ، باب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، ح ٦٧ وورد في مصادر الحديث : « يرد فيه نهي » من دون قوله : « أمر أو ».

(٤) سقط قوله : « وجه الدلالة ... » إلى هنا من نسخة « س ».

(٥) « م » : مع!

٣٥٨

يلزم تحصيل الحاصل بغير حصوله ، ولو كان المقصود بها إفادة الإطلاق بعد جعل الأحكام ، يلزم الأمر الثاني لأنّ بعد الجعل وحصر الأحكام المجعولة في الخمسة يلزم من نفي الأربعة إثبات الأخير لمكان الحصر والتضادّ ، فيصير المعنى كلّ ما لا وجوب فيه واقعا ولا تحريم فيه كذلك ، أو لا استحباب ولا كراهة فيه ـ لو عمّمنا الأمر والنهي إليهما ـ فهو مباح ومطلق ، وهل هذا إلاّ بمنزلة أن يقال : كلّ ما لا حركة فيه ، فهو ساكن ، وليس (١) هذا إلاّ إظهارا لأمر بديهي يحترز عنه العقلاء ، ولا يصلح لحمل كلمات أرباب العصمة والحكمة عليه كما لا يخفى ، فتعيّن أن يكون المراد بالورود ـ [ و ] هو العلم بالأمر والنهي ـ ورودهما على المكلّف ، ولعمري إنّه دليل ساطع ، وبرهان قاطع لإثبات الإباحة الظاهرية لا يدانيه ريب كما لا يخفى بل لا يبعد القول بجواز الاستناد إليه في الشكّ في المكلّف به أيضا (٢) كما استند إليه الصدوق (٣) في الفقيه (٤) في باب جواز القنوت بالفارسية ، فإنّ المحصّل في تلك الواقعة رجوعها إلى الشكّ في المكلّف به إذ الكلام في مانعية الفارسية للصلاة ، ومرجعها إلى اشتراط عدمها كما في جميع الموانع ، فيؤول الكلام إلى أنّ إتيان الصلاة على الوجه المخصوص يكفي عن الاشتغال اليقيني ، أو لا؟ وذلك ظاهر وسيزيد (٥) ظهورا فيما سيجيء إن شاء الله تعالى.

ومنها : صحيحة عبد الله بن سنان رواها في الكافى في نوادر المعيشة عن الصادق عليه‌السلام : « كلّ شيء يكون فيه حرام وحلال فهو لك حلال [ أبدا ] حتّى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه » (٦).

__________________

(١) « س » : « إن » بدل : « ليس ».

(٢) « ج » : فيها. « س » : منعا!

(٣) « س » : + رحمه‌الله.

(٤) الفقيه ١ : ٣١٧ / ٩٣٧.

(٥) « ج » : سنزيد.

(٦) الكافى ٥ : ٣١٣ / ٣٩ ؛ الوسائل ١٧ : ٨٧ ـ ٨٨ ، باب ٤ من أبواب ما يكتسب به ، ح ١ ، و ٢٤ : ٢٣٦ ، باب ٦٤ من أبواب الأطعمة والأشربة ، ح ٢ وسيأتي في ص ٤١٢ و ٤٤٨ و ٤٥٦ و ٥٨٩ وج ٤ ، ص ٣٧ و ١٠٧.

٣٥٩

واستند إليه الفاضل التوني في الوافية (١) ووجّهها السيّد الشارح صدر الدين (٢) بتوجيه ، واعترض عليه المحقّق القمّي (٣) ، ولا بدّ لنا من توضيح الحال ، وتحقيق المقال ، فنقول : الظرفية المستفادة من قوله : « فيه » تحتمل وجوها :

الأوّل : أن تكون (٤) ظرفية اشتمال على حذو اشتمال الكلّ للأجزاء ، فينطبق على الشبهة الموضوعية المحصورة وغير المحصورة ، وعلى الشبهة الحكمية فيما لو انضمّ العنوان المشتبه إلى عنوان معلوم الحلّ والحرمة ، فإنّ الإناءات المشتبهات شيء فيه حلال وحرام وهو لك حلال حتّى تعرف الحرام منه بعينه ، والعناوين المنضمّ بعضها إلى الآخر شيء فيه حلال وحرام وهو لك حلال حتّى تعرف الحرام منه بعينه.

الثاني : أن تكون الظرفية ظرفية إحاطة وسريان على نحو ظرفية الكلّي للجزئيات فينطبق على الشبهة الحكمية فإنّ الغناء والغيبة له (٥) أفراد محلّلة وأفراد محرّمة وهو شيء فلك حلال حتّى تعرف الحرام منه بعينه ، وعلى الشبهة الموضوعية كاللحم فإنّ المذكّى منه حلال والميتة حرام ، فهو لك حلال عند الجهل والاشتباه حتّى تعرف الحرام منه بعينه.

الثالث : أن تكون الظرفية توسّعية معنوية على وجه يتطرّق المظروف في الظرف يعني له أن يقال في حقّه : حلال وحرام ، ويمكن اتّصافه بالحلّ والحرمة فيعمّ القسمين.

أمّا الشبهة الحكمية ، فلأنّ شرب التتن ممّا يمكن اتّصافه بالحلّ والحرمة.

وأمّا الشبهة الموضوعية كاللحم المشترى من السوق فإنّه يمكن أن يقال في حقّه : حلال كما في اللحم المذكّى ، ويمكن أن يقال فيه : حرام كما في اللحم الغير المذكّى والميتة ، فشرب التتن كاللحم المشترى من السوق شيء فيه حلال وحرام وهو لك حلال حتّى تعرف الحرام منه بعينه.

__________________

(١) الوافية : ١٨١.

(٢) سيوافيك نصّ عبارته في التعليقة الآتية.

(٣) القوانين ٢ : ١٩.

(٤) في النسخ : يكون وكذا في الموردين الآتيين.

(٥) كذا. والصواب : لهما.

٣٦٠