مطارح الأنظار

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني

مطارح الأنظار

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني


المحقق: علي الفاضلي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: معهد الإمام الخميني والثورة الإسلامية
المطبعة: مؤسسة العروج
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7986-36-6
الصفحات: ٦١٥

اجتهادية من أنّ البيّنة على المدّعي ، واليمين على من أنكر ، والصلح جائز وغيرها ممّا اشتمل عليه كتاب القضاء ، وكذا لا يجوز للمقلّد إعمال الظنّ في نفس الأحكام الواقعية بل كما يكشف عن ذلك عدم جواز رجوعه إلى تقليد الميّت الأعلم بواسطة غلبة ظنّه بتطابق رأيه إلى الواقع عن تقليد الحيّ المظنون اجتهاده وعدالته بل الواجب عليه تشخيص المجتهد الذي هو طريق بالنسبة إليه بظنونه المتداولة بين أمثاله في تعيين الموضوعات من الرجوع إلى أرباب الخبرة في الاجتهاد والمصاحبة التامّة في العدالة مثلا ، وذلك للفرق الواضح بين المقامين.

أمّا إجمالا ، فلانعقاد الإجماع من المسلمين على عدم حجّية (١) ظنون المقلّد في الأحكام الواقعية والمجتهد في الموضوعات الخارجية في مقام القضاء بل الضرورة الدينية قاضية بذلك ، فالتقليد والقضاء إنّما شرّعا في أصل الشرع على وجه لا يجوز الرجوع فيهما إلى الظنّ في الأحكام في الأوّل والموضوعات في الثاني ، فإنّهما متعاكسان كما لا يخفى ، فعدم جواز الرجوع فيهما إلى غير ما هو المقرّر فيهما ليس من جهة الأصل والعمومات الناهية عن العمل بما وراء العلم بل بواسطة ثبوت حرمته بالخصوص كالقياس وأضرابه ، وذلك لا يقضي بعدم جواز إعمال الظنّ في غير الطريق والاتّكال عليه في الأحكام فيما ليس كذلك على ما هو ظاهر.

وأمّا تفصيلا ، فلأنّ الظنون المعمولة في تمييز (٢) الموضوعات للمقلّد والأحكام للقضاء ظنون مضبوطة معلومة مندرجة تحت قاعدة مقرّرة في تعيين الموضوعات عندهم من قول أهل الخبرة ونحوه ، وفي تمييز (٣) موازين القضاء من الشهرات والإجماعات المنقولة وأخبار الآحاد ونحوها من الأمارات التي تصادف الواقع غالبا بخلاف الظنّ المعمول في الموضوعات للقضاء ، فإنّه غالبا من الأمور التي لا عبرة بها ،

__________________

(١) « ل » : حجّة.

(٢) « ش » : تميّز ، « ل » : غير؟

(٣) « ش » : تميّز.

٢٢١

وقلّما يتّفق مطابقتها للواقع كحسن الظنّ بالمدّعي مثلا ولا سيّما بالنسبة إلى خصوص آحاد المكلّفين المختلفين بحسب قوّة تخيّلاتهم ، وضعفها المنتهية إلى اختلاف مراتب أغراضهم ، وبخلاف الظنون المستعملة في الأحكام للمقلّدين من الحدسيات والتخمينيّات المختلفة بحسب اختلاف آرائهم ، ولعمري لو أنّه يجوز للمقلّد إعمال ظنّه في تشخيص الأحكام ، لكان كلّ واحد منهم متديّنا بغير ما تديّن به الآخر ، وينجرّ ذلك إلى اضمحلال الدين وفساد شريعة خاتم النبيّين وكساد طريقة سيّد المرسلين ، وهل هذا إلاّ هرج ومرج.

نعم ، لو فرض تمكّن المقلّد من تشخيص الأحكام بمثل ما يشخّص به الموضوعات من الظنون المنضبطة ، لقلنا بجواز إعماله فيها ولا ضير فيه إلاّ أنّه خارج عن مفروض الكلام في المقام.

وأمّا ما ذكره (١) من عدم جواز رجوع المقلّد إلى الميّت الأعلم من جهة ، فمع أنّه ليس بذلك المعلوم ، فإنّه طالما تشاجروا فيه ، فهذا هو المحقّق القمّي (٢) وضرب (٣) من الأخبارية (٤) مجوّزون لذلك ، فالوجه فيه ما عرفت من قيام الإجماع عليه ، ولولاه لما كان القول بتلك المكانة من البعد.

وبالجملة ، فكما أنّ أسباب تمييز (٥) الواقع والطريق إليه فيما نحن فيه متّحدة فإنّها في المقامين هي الإجماعات والأخبار والشهرات مثلا ، فكذا (٦) لو كان في المثالين المقيس

__________________

(١) « ش » : ذكر.

(٢) القوانين ٢ : ٢٦٥ وما بعدها.

(٣) « ل » : حزب.

(٤) الفوائد المدنية : ٢٩٩ وفي ط الحجري : ١٤٩ ؛ سفينة النجاة المطبوع مع الأصول الأصيلة للفيض : ١٣٩ ؛ مفاتيح الشرائع ٢ : ١٥٢ ؛ المفتاح : ٤٩١ ؛ كشف الأسرار للسيّد نعمة الله الجزائري ٢ : ٧٧ ـ ٩٢. انظر هداية الأبرار : ٣٠٣ ؛ مطارح الأنظار ( بحث اشتراط الحياة في المفتي ) ٢ : ٤٣١ وألّف السيّد نعمة الله الجزائري كتابه منبع الحياة فى حجّية قول المجتهد من الأموات في ذلك.

(٥) « ش » : تميّز.

(٦) سقط قوله : « بالجملة فكما » إلى هنا من « ل ».

٢٢٢

عليهما أمارات التشخّص متّحدة نوعا في مورديهما ، لقلنا بجواز عمل القاضي بتلك الأمارات في تشخيص الموضوعات ، والمقلّد في تشخيص الأحكام ، فظهر أنّ قياسها على المقام قياس مع الفارق هذا تمام الكلام في الوجه الذي أورده بعض الأجلّة في فصوله.

وأورد بعض الأعاظم في التعليقة وجوها متقاربة حاصلها يرجع إلى دليل الانسداد بتغيير ما في إحدى مقدّماته ، فإنّ المطلوب في المقدّمة القائلة بعدم الرجوع في تعيين الحكم الثابت في الجملة في المقدّمة الثالثة إلى البراءة الأصلية كما احتملها محقّق الجمال (١) عدم جواز الرجوع إليها في نفس الأحكام الواقعية الثابتة في اللوح المحفوظ التي نزل بها جبريل إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في دليل الانسداد ، و (٢) وعلى ما قرّره عدم جواز الاستناد إليها في مؤدّيات الطريق ، والفرق بينه وبين ما تقدّم نقله من (٣) الفصول (٤) أنّه زاد في الدليل مقدّمة وهي العلم الإجمالي بنصب من الشارع بخلافه ، فإنّه قد اعتبر عدم جواز إعمال البراءة في مؤدّيات الطريق وإن أمكن إرجاع كلّ منهما إلى الآخر ، وكيف كان فمناط هذا الوجه أنّ ما يتنجّز في حقّنا وفي حقّ غيرنا ممّن تقدّم علينا أو يتأخّر عنّا ولو في أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة عليهم‌السلام ليس إلاّ التكليف بمؤدّيات الطرق المقرّرة ، والتكليف بالواقع إنّما هو شأنيّ محض ، واستكشف عن ذلك بالرجوع إلى أحوال المقلّدين في أخذ الفتاوى عن المجتهدين ، وأصحاب الأئمّة عنهم ، وبعضهم عن بعض ، فإنّ المرأة تراجع زوجها في أخذ أحكامها ، والصبيان بمعلّميهم (٥) من غير احتمال الخطأ في الدلالة أو في السند أو في جهة الصدور ، فيعملون فيها بأصالة الحقيقة وأصالة عدم السهو والنسيان ، وأصالة عدم التقيّة ونحوها من الأصول المعمولة عند

__________________

(١) تقدّم كلامه في ص ١٨٨.

(٢) « ل » : ـ و.

(٣) « ل » : عن.

(٤) تقدّم كلامه في ص ٢٠٦.

(٥) « ش » : بتعليمهم.

٢٢٣

العقلاء في استنباط مداليل الكلمات ، ومؤدّيات الأخبار والطلبات ، فالخطاب المتوجّه إلينا فعلا ليس إلاّ مثل هذه الأحكام ، ثمّ استظهره أيضا بجريان أصالة البراءة ، فإنّ وجود الحكم في الواقع لا ينافيها بل فيما لو كان الدليل مفقودا عندنا على الحكم ، فمن حيث عدم تنجّز التكليف بمفاد الدليل تجري أصالة البراءة في محلّ جريانها ، وتقضي عمّا لو حصل العلم بالواقع بأنّ بعد حصول العلم بالواقع ، فلا تكليف إلاّ به حيث إنّه لا يتصوّر طريقية طريق (١) بعد العلم ، فلا تكليف بمفاده لا فعلا ولا شأنا فإنّ السالبة قد تنفى بانتفاء موضوعها ، وأطال في بيان مرامه كما هو دأبه في غير المقام أيضا ، وفرّع عليه النتيجة المطلوبة من إعمال الظنّ في تشخيص الطريق لتحصيل الأحكام التي تتنجّز (٢) في حقّنا ، ويتوجّه علينا فعلا بعد انسداد باب العلم إليها (٣).

والجواب عن ذلك بعد تمهيد مقدّمة وهي أنّه لا ريب في أنّ لله أحكاما واقعية في كلّ واقعة والدليل على ذلك بعد الإجماع من المخطّئة هو تسلّم (٤) الخصم هنا وأنّها لا تنجّز في حقّنا إلاّ بعد العلم بها تفصيلا أو إجمالا مع التمكّن من الامتثال ، ولو لا أنّ العلم الإجمالي كاف في تنجّز التكليف مع تمكّن المكلّف مثلا ، لما صحّ تكليف الكفّار بالفروع مع أنّ الإجماع منعقد منّا (٥) على التكليف فيها بالنسبة إليهم ، ويدلّك على هذا ظواهر بعض الآثار المرويّة عن الهداة الأبرار عليهم‌السلام. (٦)

فمنها : ما قد رواه بعضهم فيما سألهم عن سماع غناء الجواري ، فأجابه عليه‌السلام بأنّه « ما أسوأ حالك فيما لو تموت على مثل هذه الحالة » فإنّ من الظاهر أنّ العلم التفصيلي لم يكن له حاصلا ، ولو لا العلم الإجمالي أيضا ، فلا وجه لبقائه كما يظهر من قوله عليه‌السلام : « ما أسوأ ».

__________________

(١) « ل » : طريقة.

(٢) « ش » : تنجّز.

(٣) انظر هداية المسترشدين : ٣٨٤ ـ ٣٨٥.

(٤) « ل » : تسليم.

(٥) « ل » : ـ منّا.

(٦) الوسائل ٣ : ٣٣١ ، باب ١٨ من أبواب الأغسال المسنونة ، ح ١. وتقدّم في ص ٨٤ وسيأتي في ص ٤٩٩ و ٥٨٤.

٢٢٤

ثمّ إنّ جعل الطريق ونصبه من الشارع تارة في حال الانفتاح ، وأخرى في حال الانسداد.

وعلى الأوّل ، فقد يجعل الطريق لا من حيث اشتماله على مصلحة متداركة لمصلحة الواقع عند التخلّف عنها (١) بل الوجه في الجعل إنّما هو بواسطة غلبة مطابقته للواقع تسهيلا للعباد عند التخلّف ، وقد يجعل من حيث اشتماله على المصلحة المتداركة.

والفرق بينهما أنّه على الأوّل رخصة ، فيحسن تحصيل الواقع بالاحتياط بعد الإتيان على وجه يوافق الطريق ، وعلى الثاني عزيمة يجب الاعتماد عليه ، فلا يحسن الاحتياط ، وتحصيل الواقع ؛ إذ هو في عرض الواقع حينئذ.

وعلى الثاني ، فقد يجعل الطريق من حيث هو مرآة للواقع ، وآلة للوصول إليه من غير اشتماله على مصلحة عدا كونه مرآة وآلة ، وقد يجعل من حيث اشتماله على المصلحة التسهيلية ، ولا وجه لجعل الطريق حال الانسداد من جهة اشتماله على المصلحة المتداركة كما لا يخفى.

وعلى التقادير الأربعة ، فتارة على وجه الجعل حقيقة ، وأخرى على وجه الإمضاء في طرقهم المعمولة عندهم في استكشاف مطالبهم ، وإذ قد عرفت هذا فنقول :

إن أراد أنّ هناك طرقا جعلية تعبّدية مشتملة على المصلحة المتداركة لمصلحة الواقع في صورة التخلّف ، و [ أنّ ] المتداول في الإفادة والاستفادة للشارع وأصحابه إنّما هو في هذه الطرق ، فغير سديد ؛ للعلم القطعي بأنّ المجعول من الشارع على تقديره ليس من هذا القبيل ، ويكذّبه ملاحظة أحوال ما استكشف منه مطلوبه ، فإنّ من المعلوم أنّ مراجعة الزوجة والصبيان لزوجها ومعلّمهم ليس إلاّ من جهة استكشاف الواقع ، وكذا اعتماد العقلاء على الأصول التعبّدية كأصالة الحقيقة ونحوها ليس إلاّ بواسطة أنّه لو لم يعتمد على تلك الأصول ، لكان التخلّف اللازم على تقديره أكثر من

__________________

(١) « ش » : منها.

٢٢٥

التخلّف على تقدير الاعتماد عليها ، فنحن ـ كما نراجع وجداننا مرّة بعد أخرى ، وكرّة بعد أولى ـ لا نرى في نفوسنا عند الاعتماد على الطرق المقرّرة إلاّ من حيث إنّها كاشفة عن الواقع مبيّنة له ، ولا يكاد ينكره إلاّ مكابر ، أو من لا حظّ له من الفهم في شيء.

وإن أراد أنّ المتداول في الإفادة والاستفادة إنّما هو الطرق المقرّرة الكاشفة عن الواقع لا من حيث إنّها طرق تعبّدية مشتملة على المصلحة المتداركة ، فغير مفيد فيما هو بصدده.

أمّا أوّلا ، فلأنّ الطرق المقرّرة عند العقلاء إنّما هي الطرق التي فطرهم على الاعتماد عليه ، وخلقهم معتمدين به ، فكلّ ما راجعوا إليه ، فهو طريقهم ، إن علما فعلم ، وإن ظنّا فظنّ ، فلا وجه للقول بانسداد باب العلم فيها.

وأمّا ثانيا ، فلأنّ الطرق المعوّلة (١) عليها عند العقلاء ليس (٢) إلاّ من جهة المرآتية والطريقية ، فلو فرضنا انسداد باب العلم فيها ، فلا بدّ من تحصيل مقدّمة أخرى غير المقدّمة المنسدّ فيها باب العلم ، ولا يقضي انسداد باب العلم فيها بإعمال الظنّ فيها كما لا يخفى.

ثمّ إنّ الإمضاء من الشارع لا يزيد على حكم العقل بالامتثال من جهة الإرشاد ، ومنشأ الاشتباه هو الخلط بين الإرشاد والإمضاء ، فكما أنّ العقل بعد ملاحظة الأمر من الشارع يحكم على جهة الإرشاد بالامتثال ، فكذا الشارع إمضاؤه للطريق معناه إرشاده بالامتثال من الطريق ، فقد يتخيّل أنّ مجرّد هذا الإرشاد يقيّد (٣) للأحكام الواقعية فكأنّها (٤) لم تكن مجعولة أصلا ، غير منجّزة في حقّنا ؛ لما تقدّم في الردّ على الوجه الأوّل المنقول من الفصول.

وبالجملة ، إنّ القول بشأنية الأحكام الواقعية بأسرها إنّما يتمّ بعد انتفاء العلم رأسا

__________________

(١) كذا. والصحيح : المعوّل.

(٢) كذا. والصحيح : ليست.

(٣) في النسختين : تقيّد.

(٤) « ش » : فكأنّه.

٢٢٦

لا إجمالا ولا تفصيلا ، والقول بالتقييد إنّما يتمّ لو قلنا بأنّ التعبّد شرعي لا عقلي ، وقد ظهر ممّا مرّ فساده بما لا مزيد عليه ، مضافا إلى أنّ التقييد على تقدير ثبوته أيضا ممّا لا يخيّل كما مرّ.

ثمّ إنّ ممّا مرّ في بيان هذا الوجه يظهر وجه آخر في عدم جواز اعتماد القاضي على الظنون المستعملة في استكشاف حكم الواقعة التي ترافع المتخاصمين إليه ، فإنّ القاضي لا بدّ وأن يعتمد على مداليل الطرق الخاصّة المقرّرة عنده ، ولا يجوز له التوصّل إلى الواقع ؛ لقوله : « نحن نحكم بينكم (١) بالظاهر ، والله أعلم بالسرائر » (٢) ولما روي أنّ عالما من علماء بني إسرائيل قد ناجى إلى الله : يا ربّ ، كيف أقضي بين الناس بما لم تره عيني ، وسمعه أذني؟ فألهمه الله : اقض بين الناس بالبيّنات ، وأضفهم إليها باسمي (٣).

وقد أورد في التعليقة أيضا وجهين آخرين لا بأس بنقلهما وبيان ما يرد عليهما.

الأوّل منهما تحريره موقوف على تمهيد مقدّمات بعد توضيح منّا (٤) :

الأولى : أنّ مجرّد العلم الإجمالي كاف في تنجّز التكليف على المكلّف كما تقدّم ، ويدلّك عليه ـ مضافا إلى ما عرفت ـ إجماع الفرقة مع قضاء ضرورة العقل به ، ولم نعرف في ذلك مخالفا إلاّ ما قد يظهر من المقدّس الأردبيلي (٥) ومن اقتفى أثره (٦) في أنّ الواجب بعد العلم هو الفحص وتحصيل المعرفة بالواجب وتشخيص الحرام لا

__________________

(١) « ل » : ـ بينكم.

(٢) لم يرد في الجوامع الروائية من الخاصّة والعامّة ، وحكم جماعة من العامّة بأنّه لا أصل له كما في كشف الخفاء ١ : ١٩٢ / ٥٨٥. وورد مرسلا في غيرها ، ومن كتب الخاصّة ورد في مختلف الشيعة ٦ : ٩٩ ، و ٩ : ٣٠٧ ؛ ايضاح الفوائد ٣ : ٤٨٦ ، و ٤ : ٣٢١ ؛ جواهر الكلام ٤٠ : ٤٩٨ وغيرها.

(٣) الوسائل ٢٧ : ٢٢٩ ، باب ١ من أبواب كيفية الحكم ، ح ١ ، وفيه : أنّ نبيّا من الأنبياء شكا إلى ربّه القضاء ... وأضفهم إلى اسمي يحلفون به.

(٤) « ل » : ما.

(٥) مجمع الفائدة والبرهان ٢ : ١١٠.

(٦) مدارك الأحكام ٢ : ٣٤٤ ـ ٣٤٥ ؛ ذخيرة الأحكام : ١٦٧ ، ونقله عنهم في بحث مقدّمة الواجب من المطارح ١ : ٤١٧ ، وسيأتي عنهم في بحث البراءة : ٥٠٠ و ٥٨٠.

٢٢٧

الأحكام الواقعية المعلومة بالإجمال.

ومن هنا قد أورد عليه المحقّق الجمال (١) بأنّ اللازم على تقديره وجوب المقدّمة دون ذيها إلاّ أن يلتزم بوجوبها نفسا وأصلا كما احتمله المستدلّ هذا في بحث المقدّمة (٢) ، وبالجملة ، فلا (٣) فرق في تنجّز التكليف بين أن يكون المكلّف عالما بالإجمال أو بالتفصيل إلاّ أنّ جعل البدل في الظاهر على الثاني غير معقول بخلاف الأوّل ، فيجوز للشارع أن يجعل في مرحلة الظاهر عند العلم الإجمالي بدلا من الأحكام الواقعية كالبراءة ونحوها من الاكتفاء بواحد من المعلومات الإجمالية في الشبهة المحصورة والاحتياط ، وهذا هو منشأ النزاع في البراءة والاحتياط.

الثانية : أنّ العقل بعد ما علم بالتكليف وقطع به ، وتنجّزه في حقّه يحكم حكما أوّليا بوجوب تفريغ الذمّة وتحصيل فراغها ، والتخلّص عن العقاب اللازم على تقدير المخالفة ولو بإسقاط الأمر كإدخال نفسه في موضوع غير موضوع المكلّفين كاختيار السفر عند وجوب الصوم وإحراق الثوب عند وجوب الغسل مثلا (٤) ، ولا يتفاوت في ذلك مراتب العقول ، فإنّ هذا هو الذي فطرهم الله عليه حتّى أنّ ضعفاء العقول أيضا لايرتابون في ذلك بل الحيوانات العجم أيضا تقضي به.

نعم ، قد يزيد على ذلك في العقول الكاملة بواسطة علوّها في مدركاتها ، فإنّها تحكم بلزوم الإطاعة والامتثال والإتيان بالمأمور به من حيث كونه محبوبا للآمر ، وكون الآمر حقيقا لأن تمتثل أوامره ، أو كون المأمور جديرا لأن يتعبّد (٥) بأوامر مولاه إلى غير ذلك من اختلاف مراتب الإطاعة والامتثال.

__________________

(١) الحاشية على شرح اللمعة : ٣٤٥.

(٢) هداية المسترشدين : ٢١٨ ، في بحث هل يتصوّر وجوب المقدّمة قبل وجوب ذيها؟ وسيأتي نصّ عبارته في بحث البراءة تعليقة ص ٥٠١.

(٣) « ل » : لا.

(٤) « ل » : ـ مثلا.

(٥) « ش » : + بأوامره.

٢٢٨

الثالثة : أنّ العقل يستقلّ بقيام الظنّ مقام العلم بعد تعذّره وحيث إنّ الواجب في المقام هو العلم بالفراغ على ما عرفت آنفا ، فلو تعذّر العلم به ، قام الظنّ مقامه ، والظنّ بالفراغ لا يحصل إلاّ بالظنّ المتعلّق بالطريق دون الظنّ بالواقع ؛ لعدم الملازمة بين الظنّ بالواقع والظنّ بالفراغ ، ألا ترى أنّ القياس يحصل منه الظنّ بالواقع مع أنّا نعلم بانتفاء الاشتغال فضلا عن الظنّ بالفراغ ، وإذا تمهّد هذا ، تعيّن حجّية الظنّ في الطريق دون الواقع لتلازمه للظنّ بالفراغ وهو المطلوب.

والجواب عنه : أمّا أوّلا ، فبالنقض بما إذا كان الطريق مظنونا بظنّ غير معتبر ، فكما أنّ الواقع لو كان مظنونا بواسطة القياس مثلا ، لا يلازم الظنّ به الظنّ بالفراغ ، فكذا لو ظنّنا طريقية طريق من جهة القياس ، فلا يلازم الظنّ به الظنّ بالفراغ كما لا يخفى.

وأمّا ثانيا ، فبالحلّ ، وبيانه أنّ المقدّمات المذكورة كلّها مسلّمة إلاّ أنّها لا تترتّب عليها النتيجة المطلوبة ، فإنّ التكليف بالواقع وبالطريق تارة يكون تكليفا فعليا كأن علمنا الواقع بخصوصه ، أو الطريق كذلك ، ولا ريب في الاجتزاء بكلّ واحد منهما حينئذ تعيينا عند حصول أحدهما خاصّة ، وتخييرا عند التمكّن منهما جميعا ، وأخرى يكون تكليفا شأنيا كأن لم نعملها كذلك ، فحينئذ لو كان الجهل سببا لسقوط التكليف ، فلا فرق بين الواقع والطريق ، وإلاّ فالظنّ يقوم مقام العلم فيهما من غير فرق بينهما حينئذ مع حصول الظنّ بالفراغ فيهما.

وتحقيق ذلك : أنّ الظنّ المتعلّق بالواقع والطريق لو كان من الظنون المعتبرة ، فالظنّ بالفراغ يحصل فيهما جزما ، ولا ينبغي الارتياب فيه ، ولو كان من الظنون الغير المعتبرة كالقياس مثلا ، ففي مورد القياس مثلا لنا حكمان :

أحدهما : الحكم الواقعي المطابق للمصالح والمفاسد ، الذي (١) تعلّق به القياس ، ولا ريب في عدم تنجّزه في حقّنا فعلا ، وكونه شأنيا بالنسبة إلينا.

__________________

(١) « ل » : التي.

٢٢٩

وثانيهما : الحكم الظاهري المتنجّز في حقّنا فعلا وهو الرجوع إلى الأصول في مورد القياس مثلا لو ظننّا بوجوب الصلاة الفلانية من جهة القياس ، فالتكليف المتوجّه علينا في تلك الواقعة هو الأخذ بأصالة عدم الوجوب ، أو غير ذلك من الأصول التعبّدية ، ولو ظننّا بحجّية أمارة بواسطة القياس ، فاللازم في حقّنا هو الرجوع إلى عدم الحجّية مع أنّ المظنون بالنسبة إلى الواقع في الأوّل هو وجوب الصلاة ، وفي الثاني هو الحجّية (١).

فإن أراد أنّ الظنّ بالحكم الواقعي من جهة القياس لا يستلزم الظنّ بالفراغ من التكليف الواقعي الشأني ، فمن المعلوم حصول الظنّ بالفراغ منه ، ولا ينبغي الارتياب فيه من غير فرق بين الواقع وطريقه.

وإن أراد أنّ الظنّ بالحكم الواقعي لا يلازم الظنّ بالفراغ في الحكم الظاهري ، فهو كذلك إلاّ أنّه لا مزية اختصاص له بالواقع ، فالظنّ الحاصل بطريقية طريق قياس له على غيره لا يلازم الظنّ بالفراغ من حيث حكمه الظاهري في (٢) لزوم العمل بأصالة عدم الحجّية في مورد القياس ، فتدبّر في الغاية ، فإنّه حقيق به في النهاية.

الثاني : أنّه كما قرّر الشارع أحكاما واقعية ، كذا قرّر طريقا للوصول إليه : إمّا العلم بالواقع ، أو مطلق الظنّ ، أو غيرهما قبل انسداد باب العلم وبعده ، وحينئذ فإن كان سبيل العلم بذلك الطريق مفتوحا ، فالواجب الأخذ به ، والجري على مقتضاه ، ولا يجوز الأخذ بغيره ممّا لا نقطع معه بالوصول إلى الواقع من غير خلاف بين الفريقين ، وإن انسدّ سبيل العلم به ، تعيّن الرجوع إلى الظنّ به ، فيكون ما ظنّ أنّه طريق مقرّر من الشارع طريقا قطعيا إلى الواقع نظرا إلى القطع (٣) ببقاء التكليف بالرجوع إلى الطريق ، وقطع العقل بقيام الظنّ حينئذ مقام العلم حسبما عرفت.

__________________

(١) « ل » : الحجّة.

(٢) « ش » : من.

(٣) « ش » : الواقع.

٢٣٠

وفيه : ما عرفت أوّلا فيما تقدّم من أنّ حال مطلق الظنّ بالنسبة إلى سائر الأمارات إنّما هو حال الأصل بالنسبة إلى دليل اجتهادي ، فكما لا يجوز الترديد بين الأصل والدليل بأن يقال : المرجع في المسألة الفلانية إمّا الأصل ، وإمّا الدليل ، فكذا لا يجوز الترديد بين مطلق الظنّ وسائر الأمارات ، فإنّ كون الظنّ طريقا إنّما هو بجعل العقل ، ولا حكم له إلاّ بعد فرض انتفاء سائر الطرق الجعلية أو المنجعلة.

وثانيا سلّمنا ذلك ، لاحتمال كون مطلق الظنّ أيضا طريقا توقيفيا ، لكنّه يرد عليه ما أوردنا على الوجه الأوّل المنقول من الفصول ، فراجعه ، ولا نطيل بإعادته.

وقد يتمسّك في دفع هذا القول بالإجماع المركّب ، فإنّ كلّ من قال بحجّية الظنّ في الأصول ، فقد قال بحجّيته في الفروع أيضا وهو كلام قشري لا لبّ فيه أصلا ؛ لما قد عرفت مرارا أنّ التمسّك بالإجماع المركّب مثلا إنّما يصحّ فيما لم تكن المسألة ممحّضة في العقليات بأن كانت لها جهة توقيفية ، وأمّا إذا لم يكن كذلك بل كان الحكم ثابتا في أحد شطري الإجماع بواسطة علّة عقلية غير موجودة في الشطر الآخر ـ كما يدّعيه الخصم في المقام ـ فلا وجه للاستناد إليه قطعا ، وأمّا سائر الوجوه التي أوردها في التعليقة ، فمرجعها إلى لزوم الأخذ بالقدر المتيقّن من اعتبار الظنون المظنون حجّيتها ، وستعرف فسادها فيما سيأتي بعيد (١) ذلك ، هذا تمام الكلام في إبطال قول من يرى حجّية الظنّ في الأصول فقط.

وأمّا ما ذهب إليه المشهور من القائلين بالانسداد من حجّية الظنّ في الفروع فقط ، فنظرهم على جريان دليل الانسداد في نفس الأحكام الواقعية ، وقضيّة ذلك لا تزيد على حجّية الظنّ فيها.

وأمّا الظنّ في الأصول ، فيبقى مندرجا تحت الأصل.

وفيه أوّلا : جريان دليل الانسداد في مطلق الأحكام الشرعية ، والعمل بخبر

__________________

(١) « ل » : بعد.

٢٣١

الواحد أيضا حكم شرعي بل هو أعظم الأحكام الشرعية ، فلو جوّزنا إعمال الظنّ فيها بواسطة جريان دليل الانسداد فيها ، فلا مناص من القول بحجّية الظنّ فيه أيضا.

وثانيا قد عرفت أنّ الواجب أوّلا وبالذات ـ الذي يحكم العقل بعد علمه بالتكليف ولو إجمالا ـ هو تفريغ الذمّة وهو كما يحصل بإعمال الظنّ في الواقع ، فكذا يحصل بإعمال الظنّ في نفس الطريق ، فلا وجه للاختصاص ، بل العمل بالطريق في الحقيقة لا يزيد على العمل بالواقع ، فإنّ العمل بخبر الواحد إنّما هو من جهة بدليّته عن الواقع يلازم الظنّ بتفريغ الذمّة عن الواقع كما لا يخفى.

فظهر من جميع ما ذكر في الردّ على الوجهين وجه القول (١) المختار أيضا ، وإنّما أطنبنا الكلام في المقام ؛ لأنّه من مزالّ الأقدام ، ومطرح الأوهام.

الثاني من الأمور التي ينبغي التنبيه عليه أنّه هل النتيجة الحاصلة من المقدّمات المذكورة عامّة كلّية ، أو مطلقة مهملة؟ وبعبارة : أخرى هل الحجّة بعد الانسداد كلّ ظنّ ، أو الظنّ في الجملة؟ ذهب إلى كلّ فريق ، والعموم والإهمال يؤخذان تارة بالنسبة إلى الأسباب كالظنّ الحاصل من الشهرات والإجماعات المنقولة ونحوهما ، وأخرى بالنسبة إلى الموارد أيضا كالظنّ في المسائل الفرعية والأصولية والاعتقادية والعملية والموضوعات الصرفة ونحوها (٢) وسيأتي الكلام في الثانية مستوفى إن شاء الله.

وأمّا الكلام في الأولى (٣) فتحقيق القول فيه أنّ دليل الانسداد تارة يقرّر في كلّ جزئيات المسائل المنسدّ فيها باب العلم كما عليه المحقّق القمي وصاحب المعالم ، فيتوقّف على إبطال البراءة والاحتياط في جميع الموارد الجزئية على نحو ما مرّ في إبطالهما من عدم الدليل على أصالة البراءة فيما لو خالفه خبر الواحد ، أو أمارة ظنّية

__________________

(١) في النسختين : قول.

(٢) في هامش « ل » : من الموضوعات المستنبطة لمفهوم الصعيد ونحوه والمسائل المشتبهة.

(٣) « ل » : الأوّل.

٢٣٢

أخرى ؛ لابتناء اعتبارها على الظنّ عندهم وعدم الدليل على الاحتياط ؛ للاكتفاء بعدم المخالفة القطعية فيما لو علمنا بالتكليف إجمالا عندهم أيضا ، وعلى هذا التقدير لا بدّ من القول بحجّية الظنّ مطلقا من أيّ سبب حصل ؛ إذ مناط الاعتبار حينئذ هو هذا الوصف الراجح ، ولا فرق في نظر العقل بين خصوص الأسباب ، ففي كلّ ما انسدّ فيه باب العلم من المسائل الخاصّة يجب التعويل على الظنون الجزئية الناشئة عن خصوصيات الأسباب ، فعلى هذا لا وجه لكثير ممّا أورد عليه بعض من تأخّر عنه من الاكتفاء ببعض الظنون حيث إنّ في البعض الآخر أيضا (١) تجري (٢) ما عرفت من الدليل إلاّ أنّ الكلام في أصل المبنى كما عرفت في مقدّمة إبطال البراءة والاحتياط.

وأخرى يقرّر على وجه الكلّية كما مرّ تقريره منّا ، فلا حاجة في تتميمه حينئذ إلى إبطال البراءة والاحتياط بالكلّية بل إبطال كلّيتها كاف في جريان الدليل كأن يقال : إنّ الرجوع إلى البراءة الأصلية يلازم الخروج من الدين والاحتياط يوجب الحرج كما عرفت ، وحينئذ فإمّا أن يكون العقل حاكما في النتيجة ، أو كاشفا فيها عن حكم شرعي.

فعلى الأوّل ـ كما هو الحقّ ـ فالنتيجة كلّية ؛ لأنّ حكم العقل لا بدّ وأن يكون دائما في موضوع متصوّر تفصيلا ، فإنّ العقل ما لم يحط بجميع جهات موضوع حكمه ومدركه لا حكم له ، ولا فرق في نظر العقل في الأسباب الظنّية إلاّ فيما قام القاطع على عدم اعتباره كالقياس في وجه ، فإنّه يحتمل أن يكون مثل القياس ؛ حيث إنّ الشارع قد كشف عن خطائه ، وأفصح عن عدم تطابقه للواقع غالبا ؛ إذ (٣) العالم بالعواقب قد نهى عن سلوكه بواسطة أنّ في سبيله مفسدة عظيمة تساوق مصلحة الواقع لو لم يرد عليها خارجا عن موضوع حكم العقل ، فحكمه إنّما يخصّ ابتدائيا غير (٤) هذا الموضوع

__________________

(١) « ل » : ـ أيضا.

(٢) كذا. والظاهر : يجري.

(٣) « ل » : وإذ ( ظ ).

(٤) « ل » : بغير.

٢٣٣

المنهيّ عنه مثلا وإن كان قد يحتمل عدم الفرق في نظر العقل من هذه الجهة أيضا ، وسيجيء في إخراج الظنّ القياسي وأضرابه زيادة توضيح لذلك فانتظر.

نعم ، لا ينبغي الارتياب في أنّ العقل يفرّق مراتب الظنون في الشدّة والضعف ، فالظنّ القويّ والشديد من أيّ سبب حصل هو موضوع حكم العقل ، ولا غائلة فيه.

وعلى الثاني فالنتيجة مهملة ، فإنّ (١) العقل حينئذ كاشف عن جعل طريق ظنّي من الشارع في الجملة من غير بيان للسبب فيه ، فيحتمل أن يكون الطريق بعد الانسداد مطلق الظنّ ، أو بعض أقسامه باعتبار السبب أو المرتبة ، فيحتاج القائل بمطلق الظنّ على هذا التقدير إلى مقدّمة أخرى تعمّ جميع الظنون إلاّ أنّ التحقيق هو حكومة العقل بعد الانسداد ، فإنّ مرجعها إلى تحصيل طرق الإطاعة والامتثال ، والعقل في أمثاله مستقلّ ، فكما أنّ طريق الامتثال في صورة الانفتاح هو العلم ، ولا فرق في نظر العقل في أسباب حصول العلم ، فكذلك طريق الامتثال بعد المقدّمات المذكورة في صورة الانسداد في نظر العقل هو الظنّ ، ولا يمكن افتراق أفراده بواسطة اختلاف أسبابه إلاّ على ما عرفت من الوجهين.

على أنّه لا ملازمة بين المقدّمات والنتيجة على تقدير الكشف ؛ إذ من المحتمل عدم جعل الشارع طريق الامتثال بعد الانسداد ، فلعلّه قد وكلنا على ما يستقلّ عقولنا بطريقيته كما هو كذلك في الواقع ، فيحمل ما قد يدلّ بظاهره على الجعل على مجرّد الإرشاد كالأمر بالإطاعة ، فإنّ وجوب الإطاعة ممّا لا يحتاج في إظهارها إلى أمر وإيجاب من الشارع ؛ لاستقلال حكم العقل فيها ، وإلاّ فيدور أو يتسلسل.

ويكشف عن ذلك إيراد إشكال القياس في المقام ، فإنّه على تقدير إهمال النتيجة ممّا لا يرتاب عدم اتّجاهه.

وبالجملة ، الإهمال والإجمال إنّما هما من صفات الألفاظ ، وأمّا العقل ، فليس فيه

__________________

(١) « ل » : لأنّ.

٢٣٤

شائبة منهما ، وعلى تقديره يصحّ الإيراد ؛ لعدم قبول حكم العقل التخصيص ، فيشكل إخراج القياس ، بخلاف ما لو كان الحكم شرعيّا ولو كان الحكم بترتّب النتيجة على المقدّمات عقليّا ؛ إذ لا كلام فيه بواسطة عمومه في جميع الاستدلالات ، فإنّه قابل للتخصيص ، فلا إشكال ، ولا حاجة في إخراج القياس إلى ارتكاب مثل هذه المحتملات والتكلّفات الباردة التي تضحك منها العجائز.

ثمّ لو قلنا بالكشف أيضا ، فهناك أمور تدلّ على التعميم سماّها (١) بعضهم بالمقدّمات المعمّمة :

فمنها : قاعدة بطلان الترجيح بلا مرجّح كأن يقال : إنّه بعد ما استكشفنا بطريق العقل اعتبار بعض الظنون شرعا إجمالا فإمّا أن يكون ذلك البعض هو الظنّ المعيّن في الواقع غير المعيّن عندنا ، أو العكس ، أو المعيّن عندنا والواقع ، أو العكس والكلّ باطل ، والأخذ بالبعض دون البعض ترجيح بلا مرجّح ، فوجب أن يكون الكلّ هو المطلوب ، ويتمّ هذا الوجه لو أبطلنا ما يحتمل كونه مرجّحا لبعض الظنون بالنسبة إلى الآخر وهو أحد أمور ثلاثة :

الأوّل : كون بعض أفراده يقيني الاعتبار إمّا حقيقة (٢) ـ كالصحيح الأعلائي المفيد للوثوق المعمول به عند جماعة كثيرة من الأصحاب ـ وإمّا بالنسبة إلى الآخر كالصحيح المشهوري المفيد للوثوق بالنسبة إلى الحسان ، أو الموثّقات مثلا.

الثاني : كون بعض أفراده أقوى من الآخر ، وأشدّ من غيره.

الثالث : كون بعض الأفراد مظنون الاعتبار ، ووجه الترجيح في هذا الوجه يحتمل أن يكون من حيث إنّ بعد ما تعلّق الظنّ لبعض أفراده ، فهو مجمع الظنّين ، وحائز المصلحتين ، فعلى تقدير احتمال التخلّف في الواقع قد يبقى احتمال بدليّة له في الواقع ،

__________________

(١) « ل » : مما عبّر.

(٢) في « ل » زيادة : « إمّا حكما » وسقط منها قوله : « كالصحيح الأعلائي » إلى قوله : « إلى الآخر ».

٢٣٥

وعلى تقدير احتمال التخلّف في بدليته قد يبقى احتمال اشتماله على مصلحة الواقع بخلاف ما إذا لم يكن الظنّ مظنون الاعتبار ، ويحتمل أن يكون من حيث جريان دليل الانسداد فيه كأن يقال : إنّ العمل بالظنّ حكم من الأحكام الشرعية التي (١) قد انسدّ فيها باب العلم ، فلا بدّ من تعيين المعتبر شرعا بالظنّ لانسداد باب العلم بالتعيين (٢) فيه ، والكلّ لا يصلح مرجّحا : أمّا إجمالا ، فلأنّه بين غير مجد في الترجيح وبين غير كاف في العمل ، وأمّا تفصيلا ، فلأنّ القدر المتيقّن الحقيقي كالخبر الجامع لصفات الراوي كأن يكون عدلا إماميّا ضابطا ، والجامع لصفات المظنون كأن يكون موثوقا به ، ولصفات الاعتبار كأن يكون معمولا به عند الأصحاب في غاية الندور ، ولو فرض وجوده بين الأخبار ، فهو من الظنون الخاصّة المعتبرة بإجماع الفرقة المحقّة كما تقدّم ؛ إذ على تقدير انتفاء أحد القيود ينتفي اليقين قطعا ، فإنّه على تقدير انتفاء الخبر يحتمل حجّية غيره ؛ إذ لعلّ مناط الاعتبار هو الظنّ ، وعلى تقدير انتفاء العدالة يحتمل حجّية غيره ؛ لاحتمال إناطة الحجّية بالوثوق ، ولو انتفى الوثوق يحتمل اعتبار مطلق الخبر العدل ؛ لاحتمال ارتباط الاعتماد بالعدالة.

وأمّا القدر المتيقّن الإضافي ، فهو وإن كان كثيرا كما نبّهنا عليه في الردّ على بعض الأجلّة فيما تقدّم لكنّ الإنصاف ، أحسن الأوصاف ، ومقتضاه عدم وجود القدر المتيقّن بين الأمارات سوى ما عرفت سيّما فيما لو فرضنا أمارة ظنّية أخرى معارضة لها كما يظهر بالتأمّل.

وأمّا قوّة الظنّ ، فلأنّ المرتبة المنضبطة منها (٣) ـ وهو الوثوق والاطمئنان وسكون النفس عندها وركونها إليها ـ فهو في غاية الشذوذ بحيث لو فرضنا الاعتماد عليه ، يلزم أحد المحذورين المزبورين : من الخروج عن الدين على تقدير إعمال البراءة ، والعسر

__________________

(١) « ل » : ـ التي.

(٢) في النسختين : بالتعيّن.

(٣) « ل » : ـ منها.

٢٣٦

والحرج على تقدير الرجوع إلى الاحتياط ، وأمّا غيره ، فهي غير منضبطة بين مراتب لا تتناهى ، فإنّ مجرّد رجحان أحد الطرفين في مرتبة الإدراك يسمّى ظنّا إلى أعلى مدارج كماله إلى أن ينتهي إلى العلم ، ولذا لا فرق بين أفراد العلم في الحجّية وعدمها من العلوم القوية الشديدة ، والعلوم الضعيفة ، فأيّ مرتبة منها تكون حجّة مع أنّه قد يتراءى في النظر أنّ القول بتقيّد الحجّية بأقوى الظنون وإطلاق الأسباب قد يكون خلاف ما استقرّ عليه طريقتهم ؛ حيث لا قائل بالفصل ظاهرا بين أقسام الشهرة ، وأنواع الإجماع ، وأفراد الاستقراء مثلا ، فتأمّل.

مضافا إلى أنّ الترجيح بالأقوائية ينافي ما قد بيّنّا عليه من الكشف ؛ لأنّه ـ كما هو ظاهر ـ لا يكاد ينكره إلاّ مكابر إنّ منشأ الترجيح بالأقوائية إنّما هو قرب الأقوى إلى الواقع وهو إنّما يتمّ لو كان الحاكم بالرجوع إلى الظنّ هو العقل ، وأمّا لو لم يكن ، فليس للعقل ترجيح أحد الظنّين على الآخر ممّا يتخيّله (١) مرجّحا ، كيف؟ ويحتمل في الأمور التوقيفية جعل الحجّة أدون مراتبه.

نعم ، هو كذلك في الواقع ؛ لما عرفت من أنّ التحقيق حكومة العقل ، فإنّا بعد ما فرضنا حكومة الشرع فيه وكشف العقل عنه ، فلا وجه للترجيح بالأقوائية ؛ لاستلزامه خلاف الفرض.

وأمّا كون الظنّ مظنون الاعتبار ، فعلى الأوّل من وجهي تقرير ترجيحه نقول :

أمّا أوّلا ، فلأنّا نفرض أمارة ظنّية أخرى تساوق ظنّه من جهة زيادة قوّة الظنّين : المتعلّق بالواقع ، والأمارة فيه بواسطة ضعفها مثلا حيث إنّ المناط في الترجيح على تقديره هو الأقربية وهو حاصل في الظنّ القويّ أيضا لو لم نقل بكونه أزيد.

وتوضيحه : أنّ كون الظنّ مظنون الاعتبار إنّما هو جهة ترجيحه على ما قرّرنا أنّه مجمع الظنّين وحائز المرتبتين ، وعلى تقديره يكون أقرب الوصول إلى الواقع ؛ لأنّ

__________________

(١) « ل » : بما يحتمله.

٢٣٧

احتمال الخلاف فيه موهوم في موهوم ، بخلاف احتمال الخلاف في الظنّ بالواقع فقط ؛ فإنّه موهوم في مرتبة لأحدها (١) ، وعلى هذا لو فرضنا الظنّ بالواقع ظنّا قويّا دون مرتبة العلم ، أو الاطمئنان حصل (٢) ، والظنّ في الواقع والطريق كليهما ظنّا ضعيفا في أوّل مراتبه ، فحينئذ لو لم يقل برجحان الأخذ بالظنّ القويّ فلا أقلّ من التساوي.

وأمّا ثانيا ، فلأنّ الترجيح به ممّا لا يكاد ينضبط في مقام ، ويستقرّ في مرتبة ؛ لأنّ قضيّة ذلك اعتبار الظنّ المظنون اعتباره بظنّ آخر هو أيضا مظنون الاعتبار ، مثلا لو قام أمارة ظنّية مظنونة الاعتبار كالخبر مثلا على حجّية أمارة ظنّية أخرى كالإجماع المنقول مثلا وهكذا وإن استند (٣) إلى انتهائه إلى ظنّ لم يكن اعتباره ظنّيا ، فيستند إليه أوّلا (٤) من غير حاجة إلى مثل هذا التجشّم ، وإلاّ فيدور لو أعيد ، أو يتسلسل لو لم يعد ، وهذا ظاهر لا سترة عليه.

و [ أمّا ] ثالثا ، فلأنّ الترجيح بالظنّ ـ على ما عرفت في الوجه الأوّل ـ كاشف عن حكومته ، فلا حاجة إليه ، وإلاّ فلا وجه للترجيح ؛ إذ لعلّ في نظر الحاكم هو غير ما ذكر.

وأمّا على الثاني من وجهي ترجيحه ـ كما زعمه بعض الأعاظم في التعليقة ـ كأن يقال : إنّ انسداد باب العلم وبقاء التكليف يكشف عن حجّية طريق من الطرق الظنّية ، وباب العلم بتعيّن (٥) ذلك الطريق منسدّ ، والتكليف به باق ، فلا بدّ من إعمال الظنّ في الطريق بحكم دليل الانسداد ، فلا مناص من الأخذ بالطرق المظنونة كالأخبار ، فإنّها بعد ما أفتى عليها الأدلّة القطعية كما عرفت لو لم تكن قطعية ، فلا أقلّ من كونها ظنّية بخلاف غيرها كالشهرة ، فإنّ عدم اعتباره مظنون بواسطة إعراض

__________________

(١) « ل » : لأحدهما.

(٢) « ش » : يقبل ( ظ ).

(٣) « ل » : وهكذا إن استدلّ.

(٤) ما جاء قسيمه وهو قوله : وثانيا.

(٥) « ل » : بيقين.

٢٣٨

المشهور عنه وهو المطلوب ، فبعد أنّه مبنيّ على مقدّمة فاسدة وهي كون العقل كاشفا عن حجّية ظنّ في الجملة ، ولا ملازمة عقلا ولا عرفا ولا شرعا بين المقدّمات المذكورة التي منها انسداد باب العلم وعدم جواز الرجوع إلى الأصول الكلّية والجزئية على ما تقدّم تفاصيلها ، وبين النتيجة على هذا التقدير وهي حجّية ظنّ معيّن واقعا غير معيّن عندنا ؛ لجواز الرجوع إلى الطرق المقرّرة عند العقلاء ؛ لأنّه من فروع الإطاعة والامتثال ، والعقل مستقلّ في طريقه ، فلو كان نتيجة الانسداد هي هذه ، فلا ريب في بطلانها.

ويرد عليه وجوه :

أمّا الأوّل ، فلأنّ المعهود المسلّم والقدر المحقّق من الأدلّة السابقة هو بين إفادة القطع باعتبار الأخبار كالصحاح المعمول بها عند الأصحاب الموثوق ، وبين عدم إفادته في وجه ، فلا وجه للتمسّك بها في ظنّية عنوان الخبر مطلقا ليتمّ ما رامه.

وأمّا الثاني ، فلأنّ الدليل المعمول في النتيجة المهملة الحاصلة من الدليل الأوّل إمّا أن يكون مستلزما لنتيجة كلّية فليكن الأوّل أيضا مستلزما لها ، وإمّا أن يكون مستلزما لنتيجة مهملة مثل ما انتجه الأوّل ، وحينئذ فإن استند في تعميمها إلى دليل آخر ، فنقل (١) الكلام إليه ، وهكذا إلى أن يتسلسل أو يدور ، وإن لم يستند إلى دليل آخر ، فلا يجدي شيئا ، فإنّه إهمال في إهمال ، فظهر من جميع ما مرّ أنّ العقل في النتيجة حاكم ، والمنكر إنّما يلجأ إليه عند ضيق خناقه ، ويلتزم بالحكومة من حيث لا يشعر ، ومن يتوكّل على الله فهو حسبه ؛ لأنّه هو نعم الوكيل.

ثمّ إنّ المحقّق النراقي قد احتمل وجها ثالثا لتقديم مظنون الاعتبار بين سلسلة الظنون غير الوجهين المذكورين ، وحاصله يرجع إلى أنّه لا معنى لمطالبة الدليل على ترجيح المظنون على غيره ، فإنّه بعد ما أورد على الدليل بوجوه عليلة قال في المقام :

__________________

(١) « ل » : فننقل.

٢٣٩

وللخصم أن يختار شقّا ثالثا وهو العمل بالظنّ المظنون الحجّية (١) ، فيختار خصوصية ظنّ (٢) من جهة الظنّ بالحجّية ، ولا شكّ أنّه لا يلزم حينئذ الترجيح بلا مرجّح.

ثمّ أورد على نفسه بما (٣) حاصله : أنّ ترجيح الظنّ بالظنّ لا يتمّ إلاّ بعد القول بأصالة حجّية كلّ ظنّ ، فإنّ الظنّ المتعلّق بمثله لا بدّ وأن يكون حجّة حتّى يصحّ به الترجيح.

وأجاب عنه بأنّه خلط بين ترجيح الشيء وتعيينه ، وناش عن عدم الفرق بينهما ، فمهّد لبيان مطلبه في الفرق بينهما مقدّمة ، ثمّ فرّع عليها ما نحن بصدده ، ومحصّله : أنّ الترجيح بلا مرجّح الذي يحكم العقل ببطلانه وامتناعه هو الكون مع أحد الطرفين والميل إليه والأخذ به من غير مرجّح وإن لم يحكم بتعيينه وجوبا ، وأمّا الحكم بذلك ، فهو أمر آخر وراء أصل الترجيح ، والحكم بلا دليل غير الترجيح بلا مرجّح ، وشتّان ما بينهما ، فالمرجّح غير الدليل ، والأوّل يكون في مقام الميل والعمل ، والثاني في مقام التصديق والحكم ، وليس المراد من الأخذ بالظنّ المظنون الحجّية أنّه يجب العمل به ، والحكم بأنّه واجب العمل والتصديق به حتّى يلزم ما ذكره ، بل غرض المورد أنّه بعد ما يلزم على المكلّف ببقاء التكاليف (٤) وانسداد باب العلم العمل بظنّ في الجملة ، لو عمل بالظنّ المظنون حجّية ما تقرّر فيه ، وأيّ نقض يلزم عليه؟ واستوضح ذلك بأمثلة عرفية :

منها : أنّه لو حضر طعامان عند أحد أحدهما ألذّ من الآخر ، فلو أكل هذا الشخص الألذّ ، لم يرتكب ترجيحا بلا مرجّح وإن لم يلزم أكل الألذّ ، ولكن لو حكم بلزوم أكله ، لا بدّ من تحقّق دليل عليه ، ولا يكفي مجرّد الأولويّة (٥). نعم ، لو كان أحدهما

__________________

(١) بعده في المصدر : أي يختار أنّ خصوصية هذا الظنّ من جهة الظنّ بالحجّية.

(٢) في المصدر : الظنّ.

(٣) « ل » : ما.

(٤) « ل » : التكليف.

(٥) في المصدر : الألذّية.

٢٤٠