مطارح الأنظار

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني

مطارح الأنظار

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني


المحقق: علي الفاضلي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: معهد الإمام الخميني والثورة الإسلامية
المطبعة: مؤسسة العروج
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7986-36-6
الصفحات: ٦١٥

[ في الظنّ ]

وإذ قد عرفت تحقيق القول في العلم بقسميه : الإجمالي والتفصيلي تفصيلا ، فلنعطف الكلام إلى ما هو عقد الباب له وهو حجّية الظنّ ، ويقع الكلام فيه في مقامين : الأوّل :

في إمكان التعبّد به ، والثاني : في وقوع التعبّد به فنقول :

أمّا المقام (١) الأوّل

في جواز التعبّد بالظنّ (٢) ، فالمشهور بين أصحابنا ومخالفينا على ما نقل عنهم جواز التعبّد ، والمنقول عن بعض أصحابنا عدمه ، ومال إليه جملة من مخالفينا ، ثمّ المشهور حكاية هذا القول في أصحابنا عن ابن قبة (٣) ومقالتهم في العنوان وإن اختصّت بخبر الواحد إلاّ أنّ الاحتجاج المنقول منهم في دعواهم صريح في عدم جواز التعبّد بالظنّ مطلقا ، فلا بدّ من تنزيل المذكور في العنوان على المثال ، وهل النزاع في الإمكان والامتناع الذاتيين ، أو فيهما ولو بملاحظة ما يلزم على تقديره من القبيح؟

والظاهر هو الثاني ، والحقّ ما ذهب إليه المشهور.

لنا على الجواز وقوع التعبّد كثيرا كما يظهر من طريقة الموالي بالنسبة إلى عبيدهم.

وقد يستند في المقام وأمثاله إلى أصالة الإمكان كما في مسألة جواز التجزّي

__________________

(١) « ل » : ـ المقام.

(٢) « ل » : في الظنّ.

(٣) نقل عنه في معارج الأصول : ٢٠٣.

٦١

واجتماع الأمر والنهي ، والأصل فيها ـ على ما هو المصرّح به في كلام بعض الأعيان ـ هو الغلبة ، وليس على ما ينبغي ، لوضوح أنّ المناط فيها ليس على الموجودات فقط ، وأمّا المعدومات ، فمع ملاحظتها غلبة الممكن على الممتنع ممنوعة ، كيف ولم نعلم وجه العدم فيها ، ولعلّه لا امتناع فيها.

فالتحقيق فيها أنّ قضيّة جبلّة كلّ عاقل فيما لم يدلّ على ضرورة وجود شيء ، أو ضرورة عدمه دليل يحكم (١) بالإمكان فيه ، فيعامل معه (٢) معاملة الممكن كما لو شكّ في وجود شيء يعامل معاملة المعدوم ، فكما أنّ بناء العقلاء على الحكم بالعدم عند الشكّ فيه ، فكذلك عند الشكّ في ضرورة العدم ، فيحكمون بعدمها أيضا ، ففي الحقيقة هذه شعبة من أصالة العدم ، وكأنّه إلى هذا ينظر ما هو المنقول عن عبارة الشيخ الرئيس (٣) من أنّه كلّ ما قرع سمعك ولم يدلّ دليل على وجوبه وامتناعه ، فذره في بقعة الإمكان إلاّ أنّه مع ذلك غير مفيد ؛ فإنّ الإمكان إن قيس إلى الواقع ، فالأصل لا يقضي (٤) به ، وإن قيس إلى الظاهر ، فلا جدوى فيه إلاّ إثبات آثار الواقع له ، وليس الإمكان والامتناع موضوعين لحكم شرعي حتّى يترتّب عليهما مثلا (٥).

لا يقال : قد يثمر أصالة الإمكان فيما إذا دلّ الدليل على الإمكان فيقبل على الإمكان ، ولا يقبل على الامتناع.

لأنّا نقول : إن كان الدليل علميا ، فلا مجال لعدم القبول على التقديرين ، وإلاّ فلا مجال للقبول كذلك. نعم ، يثمر في مقام الاحتجاج ، فلمدّعي الامتناع إقامة الدليل عليه.

واحتجّ القائل بالامتناع بوجوه : أقواها لزوم تحليل الحرام وتحريم الحلال ، وبطلان

__________________

(١) « ل » : الحكم.

(٢) « ل » : فيه.

(٣) انظر الإشارات والتنبيهات ٣ : ٤١٨ ، نمط ١٠ في أسرار الآيات.

(٤) « ل » : لا يقتضي.

(٥) « ل » : « الآثار » بدل : « مثلا ».

٦٢

اللازم كالملازمة ظاهر.

وأجيب عنه تارة بالنقض بسائر الأمارات الغير العلمية في الأحكام كالفتوى والموضوعات كيد المسلم والبيّنة وأصالة الطهارة ، وبالقطع أيضا لجواز تخلّفه عن الواقع واقعا وإن لم يكن كذلك في نظر القاطع كما هو الوجه في النقض في الكلّ ؛ إذ من المعلوم جواز التخلّف في الجميع عن الواقع فيلزم تحليل الحرام ، وتحريم الحلال.

وأخرى بالحلّ وحاصله : أنّ الحلّ والحرمة في المضاف والمضاف إليه إن قيسا إلى الواقع كأن يقال : على تقدير تجويز العمل بالظنّ يلزم تحليل الحرام الواقعي واقعا ، وتحريم الحلال كذلك ، أو إلى الظاهر ، كأن يقال في المفروض : تحريم الحلال الظاهري في مرحلة الظاهر ، وتحليل الحرام كذلك ، فبطلان التالي في الشرطية مسلّم لكنّ الملازمة ممنوعة ؛ لجواز التخلّف في مرحلة الظاهر (١).

وإن قيس أحدهما إلى الواقع ، والآخر إلى الظاهر ، فالملازمة ظاهرة مسلّمة إلاّ أنّ بطلان التالي ممنوع جدّا.

والتحقيق في المقام على وجه يكشف اللثام ، عن وجه المرام يتوقّف على أنّ القائل بالامتناع إنّما يتمّ مقالته حالتي الانسداد والانفتاح أو لا ، بل يختصّ بالانفتاح وهو الظاهر.

أمّا أوّلا ، فلأنّ السيّد مع تأخّر زمانه من ابن قبة ادّعى الانفتاح ، وجماعة من متقدّمي أصحابنا كالشيخ في أوائل أمره إنّما كانوا يرون وجوب اللطف على الإمام حتّى أنّ كلّ ما [ لا ] يصل عليه دليل علمي كانوا يحكمون فيه بالتخيير الواقعي ، فكيف عمّن تقدّم عليه سيّما بمدّة طويلة ، فإنّ تلك الأزمنة لم تكن أزمنة الانسداد.

وأمّا ثانيا ، فلأنّ جلالة شأن القائل على ما يستظهر في ترجمته المذكورة في كتب

__________________

(١) سقط من قوله : « وتحليل الحرام كذلك » إلى هنا من نسخة « ل ».

٦٣

أصحابنا الرجاليين ، فإنّه كان شيخ الإمامية في زمانه يمنع صدور مثل (١) هذه المقالة منه ، مع وضوح فسادها وظهور كسادها ، فإنّه على تقدير الانسداد ـ كما ادّعاه البعض ـ يجب على الله تعالى نصب أمارة ظنّية ، فكيف لا يجوز العمل بها؟ فإنّه بعد الانسداد ، فإمّا يحكم ببقاء التكليف كما عليه المشهور ، أو لا يحكم كما عليه البعض على ما حكي ، فعلى الأوّل يجب نصب أمارة ظنّية كما عرفت حيث إنّه لطف. وعلى الثاني لا وجه للقول باللازم بعد انتفاء جنس التكليف ، فتعيّن حمل كلامه على صورة الانفتاح ، وعلى تقدير الانفتاح وإمكان الوصول إلى الواقع مع أنّ المطلوب هو الوصول إليه ، فلا شكّ في قبح نصب طريق يتخلّف عنه ولو في وقت ؛ لاستلزامه خلاف الغرض في وجه ، ونقض الغرض في آخر إلاّ أن يكون العمل به من جهة ملاحظة وصف به يصير موضوعا مستقلاّ آخر ذا مصلحة متداركة لما يلزم في بعض صوره من المفسدة المترتّبة على عدم مصادفته للواقع كما إذا لاحظ الشارع احترام العادل ، فقال باعتبار خبره نظرا إلى أنّ التعبّد بخبره فيه مصلحة زائدة على مفسدة تخلّفه عن الواقع ، فعلى هذا التقدير فالواقع أحد الأمرين ، لكنّه لمانع أن يمنع غلبة مصلحة احترام العادل على مصلحة مصادفة (٢) الواقع.

مضافا إلى لزوم التصويب على تقديره ، فظهر ممّا مرّ عدم ورود النقوض المذكورة على المستدلّ.

أمّا الفتوى ، فلأنّ مشروعيتها في حالة الانسداد ، فلا وجه للانتقاض ، وعلى قياسه (٣) القطع فيما إذا تخلّف عن الواقع فإنّ باب العلم بالواقع للقاطع حينئذ منسدّ (٤) ؛ إذ المحتمل قد يحتمل الواقع ولو احتمالا مساويا بل ولو احتمالا مرجوحا بخلاف القاطع حينئذ.

__________________

(١) « ل » : ـ مثل.

(٢) « ش » : مصادفته.

(٣) « ل » : حالة؟

(٤) « ش » : انسدّ.

٦٤

وأمّا اليد والاستصحاب وسائر الأمارات الشرعية ممّا لا يتوقّف اعتبارها على الانسداد بل يعمّ الحالتين ، فلعلّه يلتزم بأنّ نصب الطريق لا من حيث هو طريق بل بواسطة حصول مصلحة متداركة فيه بها يصير موضوعا مستقلاّ ممّا لا ضير فيه إلاّ أنّ الإشكال في لزوم التصويب على تقديره ، فإنّ الخمر مثلا من حيث إنّ العادل أخبر بحلّيته مشتملة على مصلحة تزيد على المفسدة الكامنة على تقدير عدم إخبار العدل بكونه حلالا ، فالخمر من حيث نفسه لا حكم له في الواقع ؛ فإنّ حكمه يناط بالإخبار وعدمه ، ولا نعني بالتصويب إلاّ هذا.

ويمكن الجواب عن ذلك بأنّ التصويب الباطل المجمع على فساده هو أن يكون أحد الحكمين في الواقعة في عرض الآخر ، ولا يكون مرتّبا عليه ، وأمّا لو جعل الشارع المقدّس لأصل الواقعة من حيث هي حكما من دون ملاحظة الظنّ وجودا وعدما فيها ولها من حيث تعلّق الظنّ بها حكما آخر على أن يكون حكما ثانويا ، فلا يلزم التصويب.

وتفصيل الكلام أنّ التصويب في ألسنة أهله يستعمل في معنيين :

الأوّل : أن يكون حكم الواقعة موكولا إلى ظنّ المجتهد ، فما ظنّه المجتهد حراما (١) بظنّه يصير حراما ، ولا يكون هناك حكم مجعول في الواقع ، ولذلك قد أورد عليهم العلاّمة في النهاية بأنّ الظنّ كالعلم لا بدّ وأن يتعلّق بموضوع مقدّم عليه طبعا ، فما لم يكن هناك حكم مجعول في الواقع لا يصحّ الحوالة إلى الظنّ.

وأمّا ما أجاب عنه العضدي (٢) بأنّ متعلّق الظنّ هو الحكم الشأني بمعنى أنّه هناك شيء لو حكم الشارع به ، لحكم به ، فالمظنون (٣) هو الأليق بالقواعد ، والأشبه بالأصول ، فعلى إطلاقه غير مستقيم ؛ لاختصاصه بمقالة من يقول بالحكم الشأني من

__________________

(١) « ل » : حرام.

(٢) شرح مختصر منتهى الأصول : ٤٧٠.

(٣) « ل » : في المظنون.

٦٥

المصوّبة ، وأمّا من لا يعتمد عليه ـ كما هو المحكي عن جملة منهم ـ فلا وجه له.

الثاني : أن لا يكون حكم الواقعة موكولا إلى الظنّ بل الشارع إنّما جعل على تقدير تعلّق الظنّ بالحرمة مثلا حكما ، وعلى تقدير عدم تعلّقه حكما آخر ، فالحكم يدور مدار الظنّ وخلافه في الواقع ، فكان موضوع الجهل يغاير موضوع العلم (١) ، فهو في عرضه.

والفرق بينه وبين الأوّل على زعمهم أنّ الحكم في القسم الأوّل يتّبع ظنّ المجتهد ، ولا يكون متقدّما عليه ، وفي القسم الثاني الحكم الواقعي يختلف باختلاف حالتي العلم أو تعلّق الظنّ به وعدمهما ، هذا ما بنوا عليه في الفرق بينهما ، وإلاّ فالتدبّر يقضي بعدم الفرق ؛ لخلوّ الواقعة في الحقيقة مع قطع النظر عن الحالتين عن الحكم ، فالالتزام بما ألزمهم العلاّمة في القسم الأوّل جار في القسم الثاني أيضا ، وهو بشيء من المعنيين لا يجري في المقام.

أمّا الأوّل ، فواضح.

وأمّا الثاني ، فلأنّ الحكم فيما إذا دخل الشيء تحت عنوان قول العدل ليس في عرض الحكم في الواقع ، فللواقعة من حيث نفسها مع قطع النظر عن دخولها (٢) تحت عنوان حكم ، وعلى تقدير دخولها تحت العنوان حكم ثانوي مترتّب على الحكم الواقعي.

وبالجملة ، فللواقعة في حدّ ذاتها وفي مرتبة يرتفع فيها النقيضان ـ التي ليست فيها إلاّ هي ـ حكم واقعي باعتبار ما يقتضيه من المصلحة الكامنة ، ولها من حيث دخولها تحت عنوان باعتبار مصلحة كامنة فيها من تلك الحيثية حكم ثانوي مترتّب على

__________________

(١) في هامش « ش » : فلكلّ من العالم والجاهل حكم خاصّ به ، وليس هناك حكم يشتركان فيه على ما ورد به الأخبار والآثار كما هو عند المخطّئة كذلك لذلك. « لمحرّره ».

(٢) في النسختين : دخوله ، وكذا في المورد الآتي.

٦٦

الحكم الأوّلي ، ولذلك لا يجزي عند انكشاف الخلاف ، والتصويب بكلا معنييه يغاير ما ذكرنا ، فتأمّل ؛ فإنّ المقام من مزالّ الأقدام.

وقد يجاب عنه أيضا بتعارض المصلحة الحاصلة في قول العادل للمفسدة الكامنة المقتضية للحرمة في الخمر إذا أخبر العادل بحلّيته ؛ وهو بظاهره غير سديد ؛ لاستلزامه اجتماع المصلحة والمفسدة الفعليتين في واقعة خاصّة شخصية ، وقد تقدّم منّا في بعض المباحث السابقة ما يقضي بخلافه إلاّ أن يوجّه بإرجاعه إلى ما مرّ.

ثمّ إنّه قد يعزى في المقام إلى بعضهم القول بوجوب التعبّد بالخبر الواحد أو الظنّ على ما مرّ من أوله إليه ، والظاهر أنّه أراد (١) من الوجوب لزوم جعله طريقا عليه تعالى من حيث إنّ الإخلال به إخلال باللطف قبالا لما صار إليه المانع منه.

ويؤيّده تحريرهم ذلك في المقام ، وإلاّ فلا وجه لعدّه قولا آخر في قبال مقالة المشهور ، ومنشأ الاشتباه فيه تعليل القائل ذلك بوجوب دفع الضرر ، فقد يتخيّل منه وجوبه على العباد وليس كذلك ، وعلى هذا التقدير.

فالتحقيق في دفعه أن يقال : إنّه لو أراد أنّ الإلزام بالعمل بالظنّ ، و (٢) إمضاءه بعد الانسداد وعدم الرجوع إلى الأصول العملية لازم عليه تعالى نظرا إلى كونه لطفا (٣) ، فهو في محلّه.

وإن أراد أنّه يجب عليه تعالى جعله حجّة وطريقا ، أو امضاؤه للعمل به في حالة الانفتاح نظرا إلى العلّة المذكورة ، فلا يخلو إمّا أن يكون الظنّ موافقا للاحتياط ، أو لا ـ سواء كان مخالفا أو لا مخالفا ولا موافقا إذ النسبة بين الاحتياط والظنّ هو العموم من وجه ـ فالاجتماع ظاهر كالافتراق في الاحتياط.

وأمّا وجه الافتراق في الظنّ ، ففيما لو ظنّ بوجوب شيء مع احتمال الحرمة ولو

__________________

(١) « ل » : أنّه إن أراد؟

(٢) « ل » : أو.

(٣) « ل » : قطعا.

٦٧

وهما ، فإنّ الاحتياط ليس في العمل بالظنّ (١) بل الاحتياط يقضي بتحصيل العلم التفصيلي كما لا يخفى ، ففي صورة افتراق الظنّ عن الاحتياط لا وجه للقول بوجوب العمل به ؛ إذ لا قبح فيه عند العقول ، وفي صورة الاجتماع لا يبعد دعوى الوجوب التخييري بينه وبين العمل (٢) بالعلم التفصيلي ، لما عرفت فيما تقدّم فيما إذا دار الأمر بين الامتثال التفصيلي والإجمالي في بعض الوجوه على ما مرّ تفصيله.

__________________

(١) « ش » : بظنّ.

(٢) « خ ل » بهامش « ل » : العلم.

٦٨

وأمّا (١) المقام الثاني

في وقوع التعبّد به شرعا ، فاختلف القائلون بالإمكان على قولين : فالسيّد وأتباعه (٢) على العدم والمشهور على الوقوع ، وقبل الخوض في الاحتجاج ينبغي تأسيس أساس ، وتأصيل أصل يرجع إليه عند الشكّ ، فنقول : الأصل الأصيل حرمة العمل بالظنّ بل بمطلق (٣) ما وراء العلم ؛ فإنّ للعمل بالظنّ معنيين :

أحدهما : التديّن به وجعله مستندا في العمل من حيث هو ظنّ.

وثانيهما : جعل أفعاله مطابقا (٤) للظنّ وإن لم يستند إليه ، وفي الحقيقة ليس هذا عملا بالظنّ بل إنّما هو مجرّد مطابقة خارجية.

وعلى الأوّل ، فلا شكّ في أنّه بدعة محرّمة وتشريع غير مجوّز ، وقد اتّفقت الأدلّة كتابا وسنّة وإجماعا وعقلا على حرمتها بل عدّه جملة من الأعلام من الضروريات.

أمّا الكتاب ، فمنها : قوله تعالى : ( آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ )(٥) وجه الدلالة

__________________

(١) « ش » : ـ وأمّا.

(٢) قال في الوافية : ١٥٨ : فالأكثر من علمائنا الباحثين في الأصول على أنّه ليس بحجّة كالسيّد المرتضى وابن زهرة وابن البرّاج وابن إدريس وهو الظاهر من ابن بابويه في كتاب الغيبة والظاهر من المحقّق بل الشيخ الطوسي أيضا بل نحن لم نجد قائلا صريحا بحجّية خبر الواحد ممّن تقدّم على العلاّمة.

(٣) « ش » : وبمطلق.

(٤) كذا.

(٥) يونس : ٥٩.

٦٩

حصر الأمر في الإذن (١) والافتراء ، فغير الأوّل هو الثاني ، وبقرينة المقابلة والتشريع هو الافتراء.

ومنها : قوله تعالى : ( قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ )(٢) فإنّه تعالى في مقام التوبيخ من القول بالتحريم من دون جعل.

ومنها : قوله تعالى : ( نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ )(٣).

ومنها : قوله تعالى : ( قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ )(٤) وجه الدلالة ظاهر فيهما.

وأمّا الأخبار ، فكثيرة :

منها : ما دلّ على أنّ العبد إنّما يكفر ربّه إذا سمّى النواة حصاة والحصاة نواة (٥).

ومنها : عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « القضاة أربعة : ثلاثة في النار ، وواحد في الجنة ـ إلى أن قال ـ رجل قضى بجور وهو لا يعلم ، فهو في النار ، ورجل قضى بحقّ وهو لا يعلم ، فهو في النار » (٦).

ومنها : رواية تحف العقول : « من أفتى الناس بغير علم فليتبوّأ مقعده في النار » (٧).

ومنها : ما عن أبي جعفر عليه‌السلام لأخيه زيد : « إنّ الله حلّل حلالا ، وحرّم حراما ، وفرض فرائض ، وضرب أمثالا ، وسنّ سننا ـ إلى أن قال عليه‌السلام ـ فإن كنت على بيّنة من ربّك ، ويقين

__________________

(١) « ل » : بالإذن.

(٢) الأنعام : ١٤٣ و ١٤٤.

(٣) الأنعام : ١٤٣.

(٤) الأنعام : ١٤٥.

(٥) الكافى ٢ : ٣٩٧ ، باب الشرك ، ح ١ ؛ بحار الأنوار ٢ : ٣٠١ ، باب ٣٤ ، ح ٣٣ ، و ٦٩ : ٢٢٠ ، باب ١١٠ ، ح ٦.

(٦) الوسائل ٢٧ : ٢٢ ، باب ٤ من أبواب صفات القاضي ، ح ٦ ، و ٢٧ : ١٧٣ ، باب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، ح ٦٦.

(٧) تحف العقول : ٤١ وعنه في الوسائل ٢٧ : ٣٠ ، باب ٤ من أبواب صفات القاضي ، ح ٣٣ وفيهما : بغير علم لعنته ملائكة السماء والأرض.

٧٠

من أمرك ، وتبيان من شأنك ، فشأنك ، وإلاّ فلا ترو من أمرا أنت في شكّ منه وشبهة » (١). إلى غير ذلك من الأخبار التي لا تحصى كثرة.

وأمّا الإجماع نقلا وتحصيلا فموجود لا مخالف في البين (٢).

قال المحقّق البهبهاني في جملة فائدة من فوائده : أصالة حرمة العمل بالظنّ من البديهيات عند الصبيان والنسوان (٣).

وأمّا العقل : فكلّ من أنصف من نفسه وراجع وجدانه ، يحكم حكما ضروريا ـ لا يدانيه ريبة ولا يعتريه شبهة ـ بحرمة التشريع والبدعة فإنّها فرية بلا مرية. ومن هنا يظهر فساد القول (٤) بأنّ الأصل هو الإباحة ؛ فإنّ أصالة الإباحة فيما لو لم يكن العقل مستقلاّ بإدراك حكمه وقد عرفت استقلاله في الحكم بالحرمة.

فإن قلت : قضيّة ما قرّرنا سابقا اعتبار العلم والإرادة والاختيار فيما يتلوه الأمر والنهي ، فلا يصدق على العمل المزبور أنّه تشريع ما لم يقصد الإدخال في الدين لما ليس منه ، فإنّه عبارة عن إدخال ما ليس من الدين فيه ، فالإدخال في الدين لا يصدق إلاّ عند القصد وهو فرع العلم ولو كان كذلك واقعا ، والمقام ليس منه ، لعدم العلم بأنّ العمل بالظنّ ليس من الدين ، فلا يحرم.

قلت : وممّا لا ينبغي أن لا يرتاب فيه صدق التشريع على العمل المذكور ، وتفصيل الكلام في أقسام التشريع أن يقال : إنّه تارة يعلم بخروج ما أدخل في الدين ، فالمبدع

__________________

(١) الوسائل ٢٧ : ١٥٧ ، باب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، ح ١٠.

(٢) « ل » : فيه في البين.

(٣) قال في الرسائل الأصولية ( رسالة الاجتهاد والأخبار ) : ١٢ : إنّ الأصل عدم حجيّة الظنّ وهو محلّ اتّفاق جميع ارباب المعقول والمنقول ؛ إذ كلّ من قال بحجّية ظنّ في موضع ، قال بدليل أتى به له ، كما لا يخفى على المطّلع. وعنه في مفاتيح الأصول : ٤٥٧.

(٤) القائل به السيّد المحقّق الكاظمي كما عنه في الرسائل ١ : ١٢٨ انظر أيضا مفاتيح الأصول : ٤٥٢. وسيذكره أيضا في ص ٧٣ مع إشكالات أخر عليه.

٧١

يدخله فيه بقصد أنّه من الدين تشريعا ، وهذا ممّا لا شكّ في كونه تشريعا وبدعة محرّمة ، والأدلّة المذكورة ناهضة بحرمتها.

وأخرى يدخله فيه مع جهله بالحكم ، فهذا تشريع اسما لا حكما ؛ إذ لا معنى لعقاب الجاهل قبل تقصيره ، لكنّ الكلام في الصغرى كما عرفت من استقلال العقل بقبحه وكونه ظلما ؛ فإنّ حرمة الظلم ممّا لا يجهله عامّة المكلّفين.

ومرّة يدخله مع جهله بالموضوع كأن يدخله في الدين جاهلا بكونه من الدين ، فهناك تحقّق التشريع حقيقة ؛ لأنّ المناط على الواقع في صدق موضوعه وإن لم يتحقّق حكمه وهو الحرمة.

ورابعا يدخل في الدين ما هو منه بقصد أنّه ليس من الدين ، ولا شكّ في كونه تشريعا وافتراء على الله تعالى أيضا عند العقل والعرف بالنسبة إلى التكليف الواقعي بل الظاهري ، فإنّ عند الشكّ لا بدّ من العمل بالأصول المقرّرة في الشريعة في موضوع الشكّ (١).

ويدلّ عليه قوله عليه‌السلام في عدّ القضاة الأربعة التي ثلاثة منها في النار : « من قضى بالحقّ وهو لا يدري » وجعله فيه أيضا « من قضى بالجور وهو لا يدري » يدلّ على حرمة القسم الأوّل كما هو ممّا نحن بصدده. هذه تمام الكلام فيما لو كان العمل بالظنّ من جهة التديّن به.

وعلى الثاني كأن لا يكون العمل بالظنّ من حيث التديّن به ، فهو حرام أيضا ؛ فإنّ الشاكّ لا بدّ وأن يعمل بالأصول المقرّرة في الشريعة من الاستصحاب فيما له حالة سابقة ، والبراءة فيما شكّ في التكليف ، والاشتغال فيما شكّ في المكلّف به مع إمكان الجمع ، والتخيير مع عدم إمكانه ، فطرح تلك الأصول محرّم وإن كان لا يسمّى هذا القسم عملا بالظنّ لكن يختصّ حرمته فيما إذا يلزم من العمل بالظنّ (٢) طرح أصل منها ،

__________________

(١) « ل » : ـ الشكّ.

(٢) « ل » : ـ بالظنّ.

٧٢

وأمّا فيما لا يلزم فلا ، كأن يكون الظنّ موافقا للأصل المعمول في الواقعة ؛ لانتفاء ما يقضي (١) بالحرمة لا تشريعا ولا طرحا.

نعم ، لو كانت الواقعة من الوقائع التي يجب تحصيل العلم فيها ، فيكون حراما من جهة ترك الواجب ، والنسبة بين الوجهين هو العموم من وجه ؛ إذ التديّن قد يجتمع في مورد مع طرح الأصول وقد يفترقان ، فظهر أنّ العمل بالظنّ قد يحرم من جهتين في المعنى الأوّل ، وقد لا يحرم أصلا في المعنى الثاني.

ثمّ إنّه قد يقرّر الأصل بوجوه أخر لا يخلو كلّها عن حزازة ، فمنها : ما قد أشرنا إليه سابقا من أنّ الأصل فيه الإباحة ؛ إذ الأصل في الأشياء الخالية عن أمارة المفسدة المشتملة على أمارة المنفعة هو الإباحة ، وقد عرفت ما فيه سابقا (٢) ، ونزيدك توضيحا في إبطاله أوّلا بأنّ مجرى أصالة الإباحة هو الأشياء الخالية عن أمارة المفسدة كما اعترف به ، والعقل حاكم بوجود المفسدة فيه ، فجريانها يختصّ بما لا يستقلّ (٣) العقل بحكمه ، فلا شكّ حتّى يجري الأصل فيه ، فظهر أنّ الأصل هو الحرمة ؛ لأنّ الأصل قد انقلب حرمة بعد أن كان هو الإباحة ؛ إذ العقل يحكم بالحرمة قبل كلّ شيء.

وثانيا : أنّه إذا كان مؤدّى الظنّ هو وجوب شيء ، أو حرمته ، فلا معنى لإباحة العمل بالظنّ ، أو استحبابه ، أو كراهته ؛ لأوله في الحقيقة إلى إباحة العمل بالواجب ، فيخرج الواجب عن كونه واجبا ، والحرام عن كونه حراما.

وغاية ما يمكن أن يوجّه أن يقال : إنّه إذا أدّى الظنّ إلى وجوب شيء ، أو حرمته يجوز العمل بمقتضى ظنّه ، أو الرجوع إلى أصالة البراءة ، أو أصل آخر غيرها على أن يكون العمل بالظنّ من جهة أنّه أحد فردي الواجب التخييري ، فإباحته من هذه الجهة ، ونظيره استحبابه ، أو كراهته ومع ذلك فلا يخلو عن إشكال ؛ لخروجه عمّا هو

__________________

(١) « ل » : يقتضي.

(٢) عرفت في ص ٧١.

(٣) « ش » : لم يستقلّ.

٧٣

الظاهر من مقالة القائل بالإباحة كما هو ظاهر ، وعدم مساعدة أصل من الأصول المقرّرة عليه على تقديره ؛ فإنّ الأصل عدم الوجوب مطلقا سواء كان عينيا أو تخييريا.

ومن هنا يظهر وجاهة ما أفاده المحقّق القمّي في ردّ من زعم باستحباب الحذر في آية النفر حيث قال : وحاصل الكلام أنّ القول باستحباب العمل بخبر الواحد المفيد للوجوب مع بقاء الوجوب على معناه الحقيقي ممّا لا يتصوّر له معنى محصّل ؛ فإنّ استحباب الواجب لا يتصوّر إلاّ في أفضل فردي الواجب التخييري (١). انتهى.

وهو جيّد جدّا وإن أورد عليه بعض الأجلّة (٢) بوجوه لا طائل تحتها.

ومنها : ما ذكره بعض الأواخر من أنّه لا أصل في البين ؛ لدوران الأمر بين الحرمة والوجوب ، إمّا لأنّ معنى الجواز في المقام هو الوجوب تجوّزا ، أو لأنّ الجواز يستلزم الوجوب للإجماع المركّب على ما هو المدّعى في كلام بعض الأعيان.

وفساده ممّا لا يخفى على أحد ؛ إذ دوران الأمر بين الحرمة والوجوب إنّما يقضي (٣) بانتفاء الأصل وثبوت التخيير فيما لو كانت الحرمة في عرض الوجوب من غير حصول علقة بينهما ؛ إذ العقل لا يمكن له الالتزام بأحدهما دون الآخر ؛ لامتناع الترجيح بلا داع كما في الجهر بالبسملة في الصلاة الإخفاتية.

وأمّا إذا لم يكن في عرض الوجوب بل كان مسبّبا عن عدم العلم به ، فمن الضروريّ أنّ العقل يلتزم (٤) بالمسبّب عند وجود السبب كما فيما نحن فيه حيث إنّ الحرمة في المقام على ما مرّ حرمة تشريعية ، ويكفي في العلم بها عدم العلم بالوجوب ، والمفروض عدم ثبوته ؛ لأنّ الكلام في الظنون المشكوكة الاعتبار ، فيحكم العقل بالتحريم كما هو واضح.

__________________

(١) القوانين ١ : ٤٣٥.

(٢) الفصول : ٢٧٣.

(٣) « ل » : يقتضي.

(٤) « ل » : مستلزم؟

٧٤

فالتحقيق أنّ الأمر دائر بين الوجوب وعدمه ، والأصل عدمه ، فيحرم كما عرفت ، وهو الشأن في أمثاله من التوقيفيات.

ومنها : ما استدلّ به (١) بعض الأفاضل (٢) من أنّ أصالة الاشتغال تقضي بعدم كفاية الظنّ.

وبيانه أنّه لا ريب في توقّف تكاليفنا الواقعية في حصول الامتثال بها بإدراكها ، فتارة بالعلم بها ، وأخرى بالظنّ ، والأوّل مسقط قطعا ، والثاني مشكوك ، فمقتضى الاشتغال تحصيل القطع ، فيحرم العمل بالظنّ.

وفيه أوّلا : أنّ وجوب تحصيل الاعتقاد مقدّمي إمّا عقلا أو شرعا ، فليس من

__________________

(١) « ش » : استند إليه.

(٢) لعلّ المراد به شريف العلماء كما في تقريراته للفاضل الأردكاني ( مخطوط ) ٣٤ حيث قال : إنّ مقتضى الأصل الأوّلي عدم كفاية الظنّ ، أي عدم كونه مبرئا للذمّة لأنّه لا شكّ فيه ولا شبهة تعتريه أنّا مكلّفون بعد ورود الشرع بشيء لا محالة ولكن لم ندر أنّ المكلّف به ما ذا؟ يحتمل أن يكون المكلّف به هو تحصيل الاعتقاد المطلق والعمل بمقتضاه ، ويحتمل أن يكون المكلّف به هو تحصيل الأحكام الواقعية ويكون تحصيل الاعتقاد العلمي أو تحصيل الاعتقاد في الجملة ولو ظنّا واجبا من باب المقدّمة ، وإن قلنا بالأوّل أو الثالث فكفاية الظنّ لا يخفى ، وإن قلنا بالثاني فلا بدّ من تحصيل العلم وأنت خبير بأنّ القطع بالبراءة مع كون المكلّف به مجملا ومحتملا بين هذه الاحتمالات لا يحصل إلاّ بعد تحصيل العلم بالحكم الواقعي لأنّ تحصيل العلم يقتضي البراءة على جميع الاحتمالات بخلاف ما لو اكتفى بتحصيل الاعتقاد بالحكم الواقعي ولو ظنّا ؛ لاحتمال أن يكون المكلّف به هو نفس تحصيل العلم بالحكم الواقعي.

ثمّ قال : فإن قلت : سلّمنا أنّ المكلّف به ليس إلاّ تحصيل الحكم الواقعي لكن نمنع أنّ الخروج عن عهدة هذا التكليف مستلزم للقطع بعدم المخالفة بالنسبة إلى الواقع حتّى يجب تحصيل العلم بالأحكام الواقعية بل القدر الواجب على المجتهد أن يحصل أمرا يحصل به عدم القطع بالمخالفة ولا ريب أنّ هذا ممّا يحصل له بعد تحصيل الاعتقاد ولو ظنّا.

قلت : هذا الكلام في غاية الركاكة ؛ لأنّ كلّ أحد أذعن بأنّ القطع بالاشتغال مستلزم للقطع بالامتثال ولا يكفيه الظنّ بالامتثال لا يرضى بذلك الكلام كما لا يخفى.

وكذا قال في ضوابط الأصول : ٢٧٤ ـ ٢٧٥.

٧٥

الأمور التوقيفية بل هو موكول إلى العقل وهو يستقلّ في وجوب تحصيل العلم وعدم كفاية الظنّ وحرمته (١) ، فلا ترديد بين الأقلّ والأكثر على ما توهّم ، فلا مجرى للقاعدة المزبورة.

وثانيا : أنّ جعل الظنّ أحد طرفي الاحتمال في تحصيل المقدّمة ممّا لا وجه له ؛ فإنّ الواقعة لا تخلو عن أصل ، والعمل بالظنّ فيما يخالفه يكفي في حرمة مخالفته لذلك الأصل ، فلا وجه للاحتمال بعد قطع العقل من هذه الجهة بعدم الامتثال.

ومنها : ما أفاده بعض المعاصرين (٢) من أنّ الأصل في الظنّ عدم الحجّية فإنّها أمر حادث يحتاج وجودها إلى سبق علّتها وهو جعله حجّة ، والأصل عدمه.

وفيه : أنّ الاحتياج في إحراز العدم بالأصل في ترتّب آثار عدم العلم عليه ممنوع ؛ لترتّبه على نفس الشكّ وعدم العلم بالحجّية من غير حاجة إلى إحراز العدم.

وتوضيحه : أنّه يترتّب على عدم حجّية الظنّ آثار شرعية من الحرمة التشريعية وطرح الأصول العملية من غير علم يرتفع به موضوعها ، ويترتّب هذه الآثار على نفس الشكّ في الحجّية كما عرفت ، فلا حاجة (٣) إلى الأصل.

وبوجه أوضح إذا شكّ في حجّية الظنّ ـ كما هو المفروض ـ يصحّ القول بحرمة العمل به للتشريع ، ولقوله (٤) عليه‌السلام : « من دان الله بغير سماع من صادق ألزمه الله [ التيه ] يوم القيامة » (٥) وغير ذلك ، ولا يحتاج إلى توسيط أنّ الأصل عدم الحجّية ، فيحرم العمل به للتشريع ، فالتعويل على ما شيّدنا (٦) أركانه إلاّ أنّه أيضا إنّما يستقيم بناء على ما هو التحقيق في الأصول العملية من اعتبارها تعبّدا.

__________________

(١) « ل » : ـ وحرمته.

(٢) « ش » : المتأخّرين.

(٣) إلى الاستناد ( ظ ).

(٤) « ش » : وقوله.

(٥) الوسائل ٢٧ : ٧٥ ، و ١٢٨ ـ ١٢٩ ، باب ٧ و ١٠ من أبواب صفات القاضي ، ح ٣٧ و ١٢ و ١٤ ، وتقدّم في ص ٢٢.

(٦) من أصالة الحرمة ( هامش « ش » ).

٧٦

وأمّا على ما يراه بعضهم من حجّيتها من جهة إفادتها الوصف (١) ، أو السّببية المقيّدة (٢) ـ كما عليه المحقّق القمّي رحمه‌الله على ما يظهر منه في بعض مواضع كتابه ـ فلا مناص من القول بأنّ الأصل هو وجوب العمل بالظنّ إمّا عينا أو تخييرا في حالة الانسداد ، فإنّه على ذلك التقدير إذا تعارض الأصل بالظنّ ، فلا يفيد الأصل ظنّا ، فلا يجب العمل به ، وثبوت التكليف إجمالا يوجب العمل بأحدهما ، فإن رجّحنا الظنّ لقربه إلى الواقع ، فيجب العمل به عينا ، وإن لم نقل بالترجيح لكون الظنّ في مرتبة الأصل في الشكّ في الحجّية ، فلا بدّ من التخيير ، ولا فرق فيما ذكر بين الأصول اللفظية والعملية.

فظهر ممّا قرّرنا صحّة ما أفاده المحقّق القمّي رحمه‌الله في تعريف الاجتهاد من عدم الحاجة إلى إدراج قيد الظنّ فيه حيث قال : وإذ قد عرفت أنّه لا حاجة إلى إدراج قيد الظنّ في تعريف الاجتهاد ، فيظهر أنّ ما يحصل من الاجتهاد قد يكون قطعيا ، وقد يكون ظنّيا ، وكلاهما حجّة على المجتهد ومقلّده.

أمّا الأوّل ، فظاهر.

وأمّا الثاني ، فلأنّ المفروض انسداد باب العلم (٣) ، ولا دليل على حرمة العمل به حينئذ مع بقاء التكليف جزما لو لم ندّع ثبوت الدليل على الجواز (٤).

ويندفع ما أورده عليه بعض الأجلّة (٥) من أنّه لا وجه له أصلا ، فإنّ الوجه فيه ظاهر بعد القول بحجّية الأصول من باب الظنّ ، وأمّا إذا انفتح باب العلم ، وقلنا بعدم كفاية الظنّ في الامتثال ، فيحرم العمل بالظنّ بالمعنيين ، وأمّا على القول بالكفاية ـ كما هو المنقول عن المحقّق الخوانساري والقمّي ـ فلا حرمة في العمل بالظنّ بل هو أحد

__________________

(١) أي الظنّ الفعلي ( هامش « ش » ).

(٢) أي بعدم الظنّ على خلافها ( هامش « ش » ).

(٣) المصدر : + غالبا بالفرض.

(٤) القوانين ٢ : ١٠٠ ، وفيه : على جواز العمل به.

(٥) الفصول : ٣٨٧ ـ ٣٨٨.

٧٧

فردي الواجب التخييري : من تحصيل العلم ، والكفاية بالظنّ (١).

وبالجملة ، على ما هو التحقيق في الأصول من اعتبارها تعبّدا وعدم كفاية الظنّ بالامتثال ، بعد القطع بالاشتغال ، فلا شكّ في حرمة العمل بالظنّ على المعنيين المزبورين ؛ لإطباق أهل العقل عليه.

مضافا إلى ما ذكره بعض الأواخر (٢) من أنّه يدلّ على الأصل المزبور مائة آية قرآنية وخمسمائة رواية إمامية ، فلا إشكال فيه ، وإنّما الشأن في أنّه هل خرج من الأصل المذكور شيء ، أو لا؟ والحقّ هو (٣) الأوّل وهو أمور نذكرها مع ما يقتضي تخصيص الأصل بها :

[ في حجّية الظواهر ]

الأوّل : الظنّ المستند إلى ظواهر الألفاظ ، المنتهى إلى إحدى الدلالات الثلاث ولو بمعونة القرائن الحالية أو المقالية المتعارفة في المحاورات لدى الإفادة والاستفادة ولو كانت بسبب سبق عهد بين المتكلّم والمخاطب ، أو اشتهار المشترك في أحد معانيه ، بخلاف غيرها ممّا لا تعويل عليها في العرف والعادة في استكشاف مقاصدهم من الألفاظ كالرمل ونحوه ، وبخلاف الظنون التي قد تستفاد من اللفظ ، ومن ينتسب إليه بواسطة أمر (٤) خارج عنه بالمرّة مثل فهم الأصحاب أو اشتهار مضمون اللفظ ، فإنّها في الحقيقة ليست من الظنون المنتهية إلى إحدى (٥) الدلالات بل هو ظنّ بمضمون اللفظ ، ويبنى اعتباره على اعتبار مطلق الظنّ ، وبخلاف الظنّ بواسطة الظنّ بالوضع (٦) كالظنّ بالوجوب المستند إلى الظنّ بكون الأمر موضوعا له ، وكالظنّ بوجوب التيمّم على

__________________

(١) سقط من قوله : « بل هو أحد » إلى هنا من نسخة « ل ».

(٢) في هامش « ش ، ل » : آقا السيّد عبد الله شبّر.

(٣) « ل » : ـ هو.

(٤) « ل » : إليه بأمر.

(٥) « ل » : أحد؟

(٦) « ل » : بالموضع؟

٧٨

التراب الخالص المستند إلى الظنّ بوضع الصعيد له ، فإنّ الكلام في الظهور وعدمه إنّما هو بعد أن كان الوضع مفروغا عنه ثابتا بالأدلّة المعتبرة علما أو ظنّا قام القاطع ـ ولو بملاحظة الانسداد ـ على اعتباره ، والوجه في ذلك هو الإجماع تحصيلا ونقلا على لسان غير واحد من الفحول ، وإطباق العقلاء كافّة بل ولولاه لانسدّ سبيل المحاورة ، وانفتح طريق المكابرة ، وعليه جرت العادة ، من لدن آدم إلى يوم القيامة ، بل ربما ينسب القائل بخلافه إلى أصحاب السوداء والجنون.

مضافا إلى أنّه تعالى أجلّ من أن يخاطب قوما ويريد منهم خلاف ما يفهمونه ، وأنّه تعالى ما أرسل من رسول إلاّ بلسان قومه ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله لابن الزبعرى : « ما أجهلك بلسان قومك » (١) مع تقريرهم عليهم‌السلام أصحابهم فيما يفهمونه من الألفاظ المتداولة في محاوراتهم ، ومع ذلك كلّه فقد ينسب الخلاف في ذلك إلى بعضهم وهو شاذّ لا يلتفت إليه كما أنّه قد خالفت الأخبارية (٢) في خصوص ظواهر القرآن ما لم يرد عن أحدهم عليهم‌السلام نصّ في بيانهم ، وسواء في ذلك المشافهون وغيرهم.

وقد يظهر من المحقّق القمّي رحمه‌الله (٣) التفصيل بين المشافهين وغيرهم ، فقال بالاعتبار في حقّهم وعدمه في حقّ غيرهم ، ولقد وافق في ذلك صاحب المعالم (٤) حيث يظهر منه اختيار ما أفاده المحقّق القمّي في مقام بيان الدليل الرابع على حجّية أخبار الآحاد وإن كان قد يحتمل كلامه إرادة عدم الحجّية مطلقا ؛ حيث إنّه قد أورد في دفع الاعتراض على مظنونية الأحكام المستنبطة من الكتاب الكريم باختصاص الخطاب (٥)

__________________

(١) انظر : المناقب لابن شهرآشوب ١ : ٤٩ ؛ الصراط المستقيم ١ : ٤٧ ؛ بحار الأنوار ١٨ : ٢٠٠ ؛ القوانين ١ : ١٩٣ ؛ الإحكام للآمدي ٢ : ٢٠٩ ، و ٣ : ٣٩.

(٢) الفوائد المدنية : ٢٦٩ ـ ٢٧١ وفي ط الحجري : ١٣٥ ؛ هداية الأبرار : ١٥٥ ؛ الفوائد الطوسية : ١٨٦ ؛ الأنوار النعمانية ١ : ٣٠٨ ؛ الدرر النجفية : ١٦٩ ـ ١٧٤ ؛ الحدائق ١ : ٢٧ ـ ٣٥.

(٣) القوانين ١ : ٢٢٩ و ٣٩٣ و ٤٠٣ و ٤٥٠ و ٤٥٣ ، و ٢ : ١٠١.

(٤) المعالم : ١٩٣ و ١٠٨.

(٥) « ش » : خطاب.

٧٩

المشافهة بالحاضرين بعد أنّ الكتاب منه (١) ، وثبوت الحكم للمتأخّر إنّما هو بواسطة أدلّة الاشتراك في التكليف ، وحينئذ فمن الجائز اقتران الخطاب بما يفيد خلاف ما هو الظاهر عندنا ، وقد وقع ذلك في مواضع علمناها بالإجماع ، فإنّ تجويز هذا الاحتمال لا يختصّ بالمشافهة وغيرهم أيضا ، ومن هنا قد يورد عليه بعدم اتّجاه تفريعه على الخطاب ، فتدبّر.

وكيف كان ، فلنا في المقام دعويان : إحداهما : الحجّية مطلقا قبالا للأخباريين ، وثانيتهما : كذلك قبالا لصاحب المعالم والمحقّق القمّي ، فلنا على الأولى منهما وجوه من الأدلّة :

الأوّل : اتفاق الأمّة قديما وحديثا وإجماعهم خلفا عن سلف عامّة وخاصّة ، حكيما وفقيها على حجّية ظواهره ويكشف عن ذلك استدلال الكلّ في الكلّ بها من غير نكير منهم ، ويرشدك إليه النظر في مصنّفاتهم ، والرجوع إلى مؤلّفاتهم بل كادت أن تكون من ضروريات الدين وأن ينسب الخلاف فيه إلى القاصرين بل ربما يعدّ المنكر من الكافرين.

لا يقال : لا جدوى في التمسّك بالإجماع في المسائل الأصولية.

لأنّا نقول : لا ضير فيه لو كانت لها جهة فرعية كما فيما نحن فيه حيث إنّ جواز الاتّكال على الظنّ الخاصّ توقيفي منوط بالرخصة من أهل الذكر.

نعم ، لو كانت متمحّضة في جهة العقل كاجتماع الأمر والنهي مثلا ، فلا وجه للاستناد إليه فيها.

الثاني : السيرة القطعية الكاشفة المستمرّة على ما يشهد بها ملاحظة (٢) أحوال المسلمين من زمن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى زماننا هذا.

__________________

(١) سقط « منه » من « ل » واستدرك في هامشها : « من قبيل الخطاب المشافهة ».

(٢) « ل » : ـ ملاحظة.

٨٠