مطارح الأنظار

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني

مطارح الأنظار

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني


المحقق: علي الفاضلي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: معهد الإمام الخميني والثورة الإسلامية
المطبعة: مؤسسة العروج
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7986-36-6
الصفحات: ٦١٥

مشارفة الآخذ بالشبهة إلى الوقوع في المحرّم.

ورابعها : أن يكون المراد بالملازمة على حدّ قولهم من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه.

والفرق بين الأخيرين أنّ في الأوّل منهما مخالفة الوقوع في المحرّمات المجهولة ، وفي الثاني مخافة الوقوع في المحرّمات المعلومة من حيث إنّ ارتكاب الشبهة يورث خبثا في الباطن ورذالة في النفس على وجه لا يبالي (١) ارتكاب المحرّم (٢) المعلوم.

لا خفاء في أنّ في حمل الرواية على المعنيين الأخيرين ليس دلالة على مطلوب الخصم بوجه إذ أقصى ما يتوهّم هناك هو رجحان الترك في الشبهات كما في الموضوعات مثل أكل أطعمة الظلاّم وأخذ أموال العشّار فإنّه لإيراثه قساوة في القلب على وجه يقع صاحبها في المحرّم الآخر أو في الحرام المجهول فيها لا حرمة فيها كما لا يخفى.

وأمّا المعنى الأوّل ، فلا يصحّ حمل الحديث عليه لاستلزامه الكذب لاحتمال اختلاف الشبهات بالنسبة إلى الأشخاص ، فربّ شبهة لواحد يكون بيّنة لآخر ، فيحتمل أن يكون هناك شخص له وقائع مشتبهة كلّها حلال في الواقع ، فلا ملازمة في الواقع بين الأخذ بها وارتكابها.

نعم ، لو كانت الموارد المشتبهة متّحدة بالنسبة إلى الكلّ في كلّ موضع ، صحّ دعوى ذلك كما لا يخفى ، فتعيّن (٣) أن يكون المراد بالملازمة هي الملازمة العاديّة من حيث ارتكاب الشبهة ، والأخذ بها يوجب العلم العادي بارتكاب المحرّمات المجهولة فيها من جهة (٤) كثرة الموارد المشتبهة ، وحينئذ فلا بدّ إمّا من القول بارتكاب الشبهة في الأحكام والموضوعات يوجب العلم أو بانضمام موارد الظنون أو باعتبار الموارد التي لا فحص

__________________

(١) « س » : لا تأبى.

(٢) « ج » : المحرّمات.

(٣) « س » : فيتعيّن.

(٤) « م » : ـ جهة.

٣٨١

فيها عن الدليل.

والأوّلان فاسدان ، أمّا الأوّل ، فباتّفاق من الخصم ، وأمّا الثاني ، فلما دلّ على حجّيتها ، فتعيّن الثالث ونحن لا ننكر ذلك فإنّ من شروط العمل بالأصل في موارده الفحص عن الدليل كما سيجيء إن شاء الله ، فظهر من جميع ما مرّ أنّ الاستشهاد بقول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ليس إلاّ تقريبا وبيانا للمناسبة لا تحقيقا كما هو مبنى الاستدلال به.

وأمّا الكلام في التثليث ، فنقول : لا خفاء في أنّ الرواية الشاذّة التي عارضتها رواية مشهورة ليست من الأمور المشكلة التي يجب ردّ علمها إلى الله ورسوله ، فإنّ الظاهر من الأمر المشكل ما كان كذلك في حدّ ذاته مع قطع النظر عن معارضته بشيء آخر كما يشاهد ذلك في سائر وجوه التراجيح أيضا فإنّ موافقة الكتاب ومخالفة العامّة ممّا (١) هي (٢) ثابتة للرواية (٣) في حدّ نفسها وإن لم يكن هناك معارض لها ، والرواية الشاذّة ليست في نفسها كذلك لوجوب الأخذ بها فيما لم يكن معارضا بالمشهور وفيما لو كان الراوي فيها أعدل من الراوي في الرواية المشهورة كما هو ظاهر الترتيب المستفاد من ظاهر الخبر كما لا يخفى ، ولهذا قد نبّهنا عليه في بعض المباحث من أنّ الأخذ بظاهر الخبر ربّما يخالف الإجماع.

وتوضيح الحال : أنّ الرواية هذه لها حالات ثلاثة :

أحدها : قبل وجود المعارض.

وثانيها : بعد وجود المعارض ، فتارة بعد العلم بوجوب طرحه بواسطة هذا الخبر ، وأخرى قبل العلم بذلك ، لا شكّ في عدم إشكالها قبل التعارض (٤) للزوم الأخذ بها والعمل بموجبها ، كما لا شكّ في عدم إشكالها في الحالة الأخيرة بعد العلم بلزوم طرحها فإنّها من هذه الحيثية بيّن غيّها ، فلا إشكال ، وكذلك لا إشكال في الحالة الثانية

__________________

(١) « م » : ـ ممّا. « ج » : كما.

(٢) « ج » : ـ هي.

(٣) « س » : ـ للرواية.

(٤) « م » : المعارض.

٣٨٢

قبل العلم بلزوم الطرح ، وإلاّ لكان المشهور أيضا من الأمر المشكل مع أنّه لا يتوهّمه أحد ، فظهر (١) أنّ الرواية الشاذّة ليست من الأمر المشكل في شيء.

فإن قلت : إنّ وجود الريب في الرواية لا يبتني على المعارضة كسائر وجوه التراجيح بل وفيها الريب ولو قطع النظر عنها ، وهذا موهن وعدمه مرجّح للخبر المشهور ، ولو سلّم فجملة من المرجّحات كالأقوائية والأظهرية ونحوهما (٢) ممّا لا يتعقّل لا (٣) مضافا إلى الغير ، فلا نسلّم كون المرجّح للرواية ثابتا في نفس الرواية مع قطع النظر عن التعارض.

قلت : ليس وجود الريب مطلقا موهنا ، وإلاّ لم يصحّ التعويل على المشهور أيضا كما عرفت.

وأمّا الأقوائية والأظهرية ، فالمرجّح في الحقيقة هي المرتبة الخاصّة من الظهور والقوّة الثابتة في نفس الأمر إلاّ أنّ إطلاق اللفظ عليه على صيغة اسم التفضيل لا يصحّ إلاّ بعد ملاحظة (٤) تلك المرتبة مضافا إلى غيرها أيضا كما لا يخفى.

وبالجملة ، فكون الرواية من الأمر المشكل أمر مشكل بل (٥) بيّن البطلان والغيّ ، فلا مناص من حمل التثليث كالاستشهاد على مجرّد التقريب وبيان المناسبة ، وإلاّ فكيف يتصوّر انطباق الأمور الثلاثة على الروايات تحقيقا ، فظهر أنّه لا فرق بين الروايات الآمرة بالتوقّف في غير خبر التثليث ، وبين هذه الفقرة من هذه الرواية ، فنقول في الجواب :

أمّا أوّلا : إنّ بعد إعمال البراءة في الأمر المشتبه لا إشكال كما أنّه لا إشكال في الموضوعات بعد جريان البراءة فيها على ما هو المتّفق عليه بين الأصولية والأخبارية ، فبالجملة فكما أنّ أدلّة الأصول استصحابا وبراءة واردة على أدلّة القرعة

__________________

(١) « س » : + أنّه.

(٢) « م » : نحوها.

(٣) « س » : ـ لا.

(٤) « م » : ملاحظته.

(٥) « م » : ـ بل.

٣٨٣

مع أنّها لكلّ أمر مشكل ، والموضوعات قبل إعمال الأصول فيها من الأمر المشكل ، ولا يلتزم أحد بإعمال القرعة فيها فكذلك لا ضير في القول بورود أدلّة البراءة على مثل هذه الأخبار وارتفاع الإشكال بها كما لا يخفى.

وأمّا ثانيا : فبأنّا لو سلّمنا عدم الورود ، فأخبار البراءة أخصّ مطلقا من وجوه :

أحدها : شمول أدلّة الاحتياط للشكّ في التكليف والمكلّف به واختصاصها بالأوّل.

وثانيها : شمولها لجميع الأحكام واختصاصها بالوجوب والحرمة.

وثالثها : ورود البراءة في مقام العذر والاحتياط أعمّ.

وأمّا الجواب عن الثالث ، فأمّا عن تقريره الأوّل ، فبأنّ المراد بالضرر إن كان الأخروي منه فبالبراءة ينتفي صغراه ، وإن كان المراد به الضرر الدنيوي ممّا يرجع إلى قساوة القلب والشقاوة النفسانية ، فقد مرّ أنّ المرجع فيها إلى الشبهة الموضوعية إذ المفروض معلومية حرمة الشيء المشتمل على الضرر ، والكلام إنّما هو في أنّ الشيء الفلاني هل يندرج فيه أو لا؟ وسيجيء الكلام في محلّه من أنّ الشبهة الموضوعية ممّا لا يجب الاجتناب عنه بالاتّفاق ، غاية الأمر أنّ الدليل العقلي لا ينهض فيها ونحن لا نضايق من ذلك كما قرّرنا في أصالة الإباحة من أنّ الأصل العقلي الأوّلي الحظر ، ولا منافاة لحكم الشارع بخلافه لاحتمال أن يتداركه بترياق ونحوه كما لا يخفى.

وأمّا عن تقريره الثاني ، فبوجوه : أمّا أوّلا : فبالنقض بالشبهة الوجوبية فإنّ قضية ما قرّره ـ من لزوم الاحتياط بعد إعمال الظنون المعمولة في مواردها لا من حيث إنّها طريق إلى الواقع بل من حيث رفع العسر وتسهيل الأمر على العباد ـ عدم الفرق بين الموارد فإنّها جهة واحدة إن صحّت ، صحّت في الكلّ مع ما عرفت من أنّ الأخباري أيضا لا يقول بالاحتياط فيها.

وأمّا ثانيا ، فبالحلّ ، وبيان ذلك أنّ محصّل ما ذكر في تقريب الاستدلال هو أنّ الظنّ قد يكون طريقا إلى الواقع وقد يكون العمل بها تسهيلا للأمر ، وهما في طرفي

٣٨٤

التعاكس فإنّه على الأوّل إنّما يحتاج إليها لإثبات التكاليف ، وأمّا في طرف نفي التكليف ، فلا يحتاج إليها فإنّ الأصل يكفي في رفع التكليف ، وعلى الثاني فحيث إنّ الحكم من جهة وجوب الاحتياط ففي مقام إثبات التكليف لا حاجة إليها ، وإنّما الحاجة إليها من جهة نفي التكليف تسهيلا للأمر ، ولا نسلّم جواز العمل بالظنّ حتّى في الألفاظ في تشخيص مداليلها إلاّ على الوجه (١) الثاني.

وعلى هذا فنقول : إنّ الأدلّة التي تدلّ على حجّية الظنون إنّما تدلّ على كونها طريقا للواقع على وجه يسقط عنه ، أمّا الظنون الدلالية ، فلأنّ المدرك فيها بناء العقلاء وهم يكتفون عن الواقع بالظنون الدلالية فيما لو أحرزوا الواقع بها ، مثلا لو أمر المولى بإتيان شيء فيتوقّف استخراج مراد المولى على إعمال الظنون الدلالية ، فلا شكّ في اكتفائهم بهذه (٢) الظنون عن الواقع ولا ينافي ذلك اعتبار الظنّ في الدلالات من جهة التسهيل ورفع العسر فإنّ ذلك حكمة في الحجّية ، وعلّة لجعله طريقا كما مرّ في محلّه.

وأمّا الأخبار الآحاد فالأدلّة (٣) الناهضة على حجّيتها إنّما تفيد كونها طريقا إلى الواقع على ما مرّ في محلّه.

نعم ، يشكل الأمر على القائل بحجّية الظنون المطلقة فإنّ مبنى حجّية الظنّ المطلق على ما عرفت هو الاحتياط الكلّي ولزوم العسر على تقديره وذلك كلّه ظاهر كما لا يخفى.

وأمّا ثالثا ، فلأنّ الإتيان بالموارد المظنونة ـ ولو لم يكن من جهة الطريقية ـ فيكفي أيضا في رفع العلم الإجمالي.

وتوضيح ذلك : أنّا لو علمنا إجمالا بوجود محرّمات في جملة مشتبهات كثيرة تقرب تلك المحرّمات من مائة مثلا فحصل لنا الظنّ بحرمة جملة من تلك المشتبهات على وجه

__________________

(١) « ج » : وجه.

(٢) « س » : بهذا.

(٣) في النسخ : فأدلّة.

٣٨٥

يحصل العلم بإحراز المحرّمات المجهولة في ضمن تلك الموارد المظنونة ، فلا شكّ في كفاية ذلك عن الواقع ولو لم يكن على وجه الطريقية ، وهذا نظير ما أوردناه في بعض مباحث العامّ والخاصّ ـ من أنّ لزوم الفحص عن المخصّص إنّما يكون مستندا إلى العلم الإجمالي بوجود مخصّصات كثيرة في العمومات الواردة في الشريعة ، ومع العلم لو قلنا بإجمال العمومات ، فلا يثمر الفحص إذ بالفحص لا يرتفع الإجمال ، ولو لم نقل بإجمالها (١) ، فلا يجب الفحص عن أصله ـ ثمّ أجبنا عن ذلك بأنّ العلم الإجمالي حاصل بوجود المخصّص في تلك الأمارات (٢) المحتملة للتخصيص فقط ، وبعد الفحص يرتفع ذلك العلم فيبقى العامّ بحاله ظاهر الدلالة من غير إجمال.

وبالجملة ، فنحن نمنع العلم الإجمالي في أكثر ممّا أحرزناه في الموارد المظنونة ولو لم يكن طريقا بل جوّز العمل بها تسهيلا ، فيقلب الشكّ فيما يزيد عليها شكّا بدويا وهو محلّ البراءة فإنّ ملاك الأمر ومناطه في رفع العلم الإجمالي ولهذا لو كان الظنّ طريقا ولم يصل حدّا يرتفع فيه العلم الإجمالي ، فلا مناص من الاحتياط فيما بقي أيضا.

فإن قلت : لو تلف بعض أطراف العلم الإجمالي في الشبهة المحصورة ، فلا يكفي في رفع الاحتياط فيما بقي منها بل لا بدّ من الاحتياط وكذا في المقام.

قلت : فرق ظاهر بين المقامين ، فإنّ الظنّ إنّما يتعلّق بالواقع دون التلف ، فهو يكفي في رفع العلم الإجمالي دونه.

وأمّا رابعا فيما سيجيء تفصيله في بعض المباحث الآتية من أنّ الموارد المشتبهة كما في الشبهة المحصورة لو طرأت فيها شبهة أخرى (٣) ، وهذا هو تمام الكلام في الجواب عن احتجاج الأخباريين في المقام.

نعم ، بقي في المقام شيئان لا بأس بالتنبيه عليهما :

__________________

(١) « م » : بإجماعها؟

(٢) « ج ، م » : الآيات.

(٣) هنا في نسخة « م » قدر ثلاثة أسطر بياض.

٣٨٦

الأوّل : ما نسب (١) إلى المحقّق من التفصيل في موارد البراءة بين ما يعمّ البلوى به ، فقال بالبراءة وبين غيره فلم يعتبرها.

وتحقيق ذلك يتوقّف على إيراد عبارته في المقام ليندفع الأوهام ، فنقول : قد صرّح في كتابه في (٢) الأصول بالبراءة كما هو مذهب المجتهدين من غير تفصيل فيها ، وقال في مقدّمات المعتبر بعد تثليثه لأقسام الاستصحاب ، وجعل الأوّل منها استصحاب حال العقل وفسّرها بالبراءة الأصلية :

« الثاني أن يقال : عدم الدليل على كذا فيجب انتفاؤه وهذا يصحّ فيما يعلم أنّه لو كان هناك دليل لظفر به ـ ثمّ قال ـ : أمّا لا مع ذلك فإنّه يجب التوقّف ولا يكون ذلك الاستدلال حجّة ومنه القول بالإباحة لعدم دليل الحظر والوجوب » (٣) انتهى كلامه رفع مقامه.

ولا يخفى على من أمعن النظر في كلامه أنّه ليس في صدد التفصيل في أصالة البراءة ولا في أصل آخر بل صريح كلامه إنّما هو حجّيتها مطلقا ، وكان من نسب إليه ذلك إنّما توهّم من قوله : « ومنه القول بالإباحة لعدم دليل الحظر والوجوب » زاعما أنّ مفاد البراءة والإباحة واحد ، وليس كذلك بل البراءة ـ على ما تقدّم ـ لا تزيد على حكم عدمي يعبّر عنه بخلوّ الذمّة وعدم الاشتغال من غير أن يكون مفادها الإباحة (٤) ، ولذلك قد يعبّر عنها في لسانهم بأصالة النفي.

وبالجملة ، فالمحقّق إنّما هو في بيان مورد القاعدة المعمولة عندهم من أنّ عدم الدليل دليل العدم ولا يفصّل (٥) فيها أيضا بيان ذلك أنّ من المعلوم ضرورة عدم الملازمة بين وجود الشيء والعلم به فربّما يكون موجودا ولا نعلمه ، فقولهم : عدم الدليل دليل على العدم. لو كان بواسطة ما قد يتخيّل من أنّ النافي لا يحتاج في دعواه إلى الدليل ، فذلك

__________________

(١) الناسب المحقّق القمي في القوانين ٢ : ١٥.

(٢) « س ، م » : ـ في.

(٣) المعتبر في شرح المختصر ١ : ٣٢.

(٤) « ج » : للإباحة.

(٥) « ج » : لا تفصيل.

٣٨٧

ظاهر البطلان حيث قلنا : إنّ المحقّقين على عدم الفرق بين دعوى وجود شيء (١) وبين عدمه ، فكما أنّ القضية الموجبة لا بدّ في إثباتها إلى الدليل ، فكذلك القضية السالبة ضرورة عدم تعقّل الفرق بينهما ولو كان بواسطة أنّ مرجع الاستدلال إلى الحكم بوجود المعلول أو العلّة بعد العلم بوجود الآخر ، فلو لم يكن الشيء له آثار لازمة (٢) لذاته أو علّة هو (٣) من لوازمها ، فلا وجود لذلك الشيء لأنّ الموجود الخارجي لا ينفكّ عن الآثار المترتّبة عليه في الواقع وعن وجود العلّة كما لا يخفى ، فهذا حقّ لا محيص عنه إلاّ أنّ القضية المذكورة كما يظهر في موارد إطلاقاتهم لا دخل لها في ذلك فإنّ ملخّص ذلك أنّ عدم الدليل على وجود شيء واقعا دليل على عدمه في الواقع ، والمقصود من القضية هذه (٤) هو القول بالعدم عند عدم وجدان الدليل لا عند عدم الدليل واقعا ، وعلى هذا فلو كان بين وجود الشيء والعلم به ملازمة عقلية أو شرعية أو عادية ، يصحّ الاستناد إليها ولو لم يكن بين وجود الشيء والعلم به ملازمة لا وجه للاستناد إليها مثلا التكليف الفعلي المنجّز وجوده يلازم وجوده وجود الدليل عليه لئلاّ يلزم التكليف بما لا يطاق ، فعدم الدليل على التكليف الفعلي دليل على عدم التكليف للملازمة الواقعية بينهما ، وعدم الدليل على نبوّة مدّعي النبوّة ربّما يعدّ دليلا على عدم نبوّته عادة للملازمة (٥) العادية وعدم الدليل على وجوب الصلاة وجوبا واقعيا مع عموم البلوى مثلا بها دليل على عدم وجوبها في الواقع ، غاية الأمر أنّ الحكم بالعدم الواقعي مظنون.

وبالجملة ، فكلّما كان وجود شيء ملازما للعلم بوجوده لزوما عقليا كتنجّز التكليف أو عاديا قطعيا كالنبوّة أو ظنّيا فعدم ما يفيد العلم دليل على عدم ذلك

__________________

(١) « س » : + هو.

(٢) « س » : + له.

(٣) « ج » : هي.

(٤) « ج » : هذا.

(٥) « س » : ملازمة. « ج » : فالملازمة!

٣٨٨

الشيء على حسب الملازمة الثابتة بينهما كما لا يخفى.

فظهر أنّ عدم الدليل في موارده دليل واقعي لا ينبغي أن يعدّ من الأدلّة الظاهرية كما ظهر أنّ المحقّق ليس بصدد التفصيل في هذه القاعدة ولا قاعدة البراءة.

وأمّا تفريع الحكم بالإباحة والحظر على ما ذكره (١) على ما هو المنشأ في هذا الاستناد (٢) إليه ممّا لا دليل فيه عليه بعد ما عرفت من عدم التفصيل فيها أيضا ، على أنّ الإباحة لا دخل لها بالبراءة فإنّ الأولى حكم جعلي إنشائي بخلاف الثانية فإنّ مفادها لا يزيد على عدم الحرج ورفع التكليف وخلوّ الذمّة وذلك كلّه ظاهر لا سترة عليه.

الثاني : أنّ بعد ما عرفت من حجّية البراءة وجريانها في الشبهات الحكمية التحريمية فلا بدّ أن تعلم أنّ حجّية البراءة إنّما هو في مقام لا دليل على تلك الواقعة إلاّ البراءة ولو كان ذلك الدليل هو الاستصحاب ، أو أصل آخر أخصّ منها كما وقع ذلك في موارد كالدماء والفروج ، ومنها ما نبّه عليه الشهيد في محكيّ الذكرى (٣) من أنّ الأصل في اللحوم الحرمة نظرا إلى أصالة عدم التذكية سواء كان الشكّ في قابلية المحلّ لها ، أو شكّ في اشتراط شيء كالتسمية ونحوها فيها بخلاف ما إذا علمنا بقابلية المحلّ ، وأحرزنا الشرائط والأجزاء ، وشككنا في اندراج اللحم الخاصّ في عنوانها فإنّ الأصل فيها الحرمة قطعا لأصالة عدم التذكية في الموضوع وسيجيء ، والأصل في ذلك أنّ التذكية أمر توقيفي جعلي منوط بحصول الترخيص من الشارع ، وكلّما شكّ في مثل ذلك فالأصل العدم فإنّ الحلّ في الأدلّة الشرعية كقوله تعالى بعد عدّ المحرّمات : ( إِلاَّ ما ذَكَّيْتُمْ )(٤) وفي الخبر « حتّى علمت أنّه مذكّى » (٥) من آثار التذكية على وجه هو الشرط

__________________

(١) « م » : ذكر.

(٢) « ج ، م » : الإسناد.

(٣) ذكرى الشيعة ٣ : ٢٨ وفي ط الحجري : ١٤٣ ، وعنه في مصباح الأصول ٢ : ٣١١ و ٣١٤.

(٤) المائدة : ٣.

(٥) الوسائل ٣ : ٤٠٨ ، باب ٩ من أبواب النجاسات ، ح ٦ ، و ٤ : ٣٤٥ ، باب ٢ من أبواب لباس المصلّي ، ح ١.

٣٨٩

فيه لا أنّ الميتة مانعة (١) عنه.

فإن قلت : إنّ أصالة عدم التذكية لا تثبت (٢) كون اللحم ميتة ومع ذلك لا يفيد وعلى تقديره لا تعويل عليه لأنّه من الأصول المثبتة.

قلت : قد قلنا إنّ الحلّ والحرمة على ما هو المستفاد من عنوان الأدلّة ممّا يترتّبان على التذكية وعدمها ، فلا يكون الأصل مثبتا ، ولو سلّم فالمذكّى والميتة ليسا من الأمور الوجودية التي بينها تضادّ كالفسق والعدالة بل أحدهما الملكة ، وثانيهما العدم ، فأصالة عدم الملكة عين إحراز العدم ، فمجرى الأصل وما أضيف إليه في المقام هو العدم فلا يكون من الأصول المثبتة وذلك مثل ما ورد في قوله تعالى : ( وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ )(٣) بعد تحريم النكاح في عناوين خاصّة كالأمّ ونحوها فإنّ أصالة عدم تلك العناوين عين ما وراء تلك العناوين فالأجنبية وما يضادّها ليسا من المتضادّين (٤) كما لا يخفى.

ثمّ إنّ مبنى القول هذا على أن لا يكون هناك إطلاق وارد ورود الاجتهادي على الأصل هذا كما في قوله : ( أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ )(٥) و ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ )(٦) فإنّ النقل أمر توقيفي مبنيّ على ترخيص الشارع ولكن لمّا كان ما دلّ على سببية البيع للنقل مطلقا ، جاز التمسّك بإطلاقه في كلّ مورد يشكّ في سببيته وإن كان المسبّب توقيفيا.

فإن قلت : التذكية أمر عرفي ولا يدّعي أحد ثبوت الحقيقة الشرعية فيها فكلّ ما صدق التذكية فيه لا بدّ من الأخذ بالإطلاق والحكم بالحلّية.

قلت : لا منافاة بين كون التذكية أمرا عرفيا وبين أن يكون السبب في تحقّقها توقيفيا كما في النقل والانتقال فإنّه أمر عرفي إلاّ أنّ الشارع لم يعتبره إلاّ في ضمن البيع ونحوه وإن كان البيع مطلقا ، وليس في الأدلّة ما يدلّ بإطلاقه على سببية التذكية على

__________________

(١) « ج ، س » : مانع.

(٢) « ج ، س » : لا يثبت.

(٣) النساء : ٢٤.

(٤) « س » : العناوين.

(٥) البقرة : ٢٧٥.

(٦) المائدة : ١.

٣٩٠

وجه يأخذ بالإطلاق عند الشكّ في القابلية ، أو في الشرطية فإنّ الإطلاق في قوله : ( إِلاَّ ما ذَكَّيْتُمْ )(١) على تقديره ليس ممّا يستفاد منه الحكم مطلقا لوروده في غير المقام كما في قوله : ( فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ )(٢) وذلك ظاهر كما لا يخفى.

ثمّ إنّ الشهيد الثاني (٣) حكم بطهارة الحيوان المتولّد من الحيوانين في الروضة (٤) وحرمته معلّلا فيهما بقوله عملا بالأصلين فيهما ، أمّا أصالة الطهارة ، فظاهرة ، وأمّا أصالة الحرمة ، فالمراد بها غير ظاهر فإنّه على ما يظهر منه في عدّة موارد في كتبه ممّا يعوّل على الإطلاق في الدليل الدالّ على سببية التذكية كما يفصح عنه تمسّكه في الحيوانات المختلف فيها في كتاب الأطعمة والأشربة بأصالة الحلّ ، فلا يصحّ حمل قوله : « بالأصل فيهما » على الأصل على (٥) ما أصّلناه ، فلا بدّ له من توجيه فنقول : حكي عن المحقّق الثاني والفاضل الهندي وبعض المعلّقين على الروضة والشهيد الثاني (٦) أيضا في بعض تعليقات الأوّل على الشرائع (٧) وشرح الثاني على

__________________

(١) المائدة : ٣.

(٢) المائدة : ٤.

(٣) « س » : + رحمه‌الله.

(٤) الروضة البهية ١ : ٢٨٥ ـ ٢٨٦. حيث قال : أمّا المتولّد من أحدهما [ أي الكلب والخنزير ] وطاهر فإنّه يتبع في الحكم الاسم ولو لغيرهما ، فإن انتفى المماثل فالأقوى طهارته وإن حرم لحمه للأصل فيهما.

(٥) « ج » : ـ على.

(٦) « س » : + رحمه‌الله.

(٧) ذهب المحقّق الثاني بمثل ما ذهب الشهيد الثاني قال في حاشية الشرائع المطبوعة في حياة المحقّق الكركى وآثاره : ج ١٠ ، ص ١٠٢ عند قول المحقّق : « ولو نزا كلب على حيوان فأولده روعي في إلحاقه بأحكامه إطلاق الاسم » : هذا إنّما يكون إذا نزا الكلب على نحو الشاة ، فإنّه يراعى في نجاسته أغلبية أوصاف الكلب على الولد بحيث يقع عليه اسم الكلب ، فإن غلبت أوصاف الشاة عليه فهو طاهر حلال ، ولو انتفى عنه أمران فهو طاهر حرام.

وقال أيضا في جامع المقاصد ١ : ١٦٦ ـ في ذيل العلاّمة : والمتولّد من الكلب والشاة يتبع الاسم ـ : تنقيحه أنّه إذا كان بصورة أحد النوعين بحيث استحقّ إطلاق اسم ذلك النوع عليه

٣٩١

الروضة (١) وبعض تعليقات الثالث عليها (٢) وتمهيد القواعد (٣) أنّ الأصل فيه هو انحصار المحلّل في عناوين مخصوصة وعدم انحصار المحرّم في عنوان.

فإن أرادوا من ذلك أنّ الشارع قد حصر المحلّل من الأشياء في أشياء مخصوصة وحكم بحرمة ما سواها في دليل دالّ على الحكمين ، ففيه :

أوّلا : أنّه (٤) لم يثبت ذلك.

وثانيا : لو سلّمنا ذلك ، فليس من الأصل في شيء فإنّه دليل اجتهادي على حرمة ما وراء المحلّلات فلا يصحّ التعبير بالأصل الظاهر منه عند أرباب الصناعة (٥) ما يعوّل عليه عند الشكّ في مقام العمل ، اللهمّ إلاّ أن يراد به القاعدة في المقامين كما لا يخفى.

وإن أرادوا منه الغلبة بمعنى أنّ (٦) الأغلب في اللحوم الحرمة والشكّ يلحق الشيء بالأعمّ الأغلب ، ففيه :

أوّلا : منع الغلبة إن أريد بها الغلبة الشخصية فإنّ الأفراد المحلّلة تزيد على المحرّمة بكثير كما لا يخفى ، وإن أريد بها الغلبة النوعية فعلى تقدير تسليمها على وجه يكفي في حمل المشكوك عليها ، فلا جدوى فيها إذ الكلام في الحيوان المتولّد من الحيوانين ، وبعد لم يعلم مخالفته لنوعي والديه ، فربّما يكون من أفراد أحد النوعين واقعا وإن كان

__________________

عرفا لحقته أحكامه ؛ لأنّه إذا سمّي بأحدهما اقتراحا تلحقه الأحكام ، ولو لم تغلب عليه صورة أحد النوعين فهو طاهر غير حلال ، تمسّكا بالأصل في الأمرين.

انظر فرائد الأصول ٢ : ١٠٩.

(١) المناهج السوية مخطوط ، نقل الشيخ في فرائد الأصول ٢ : ١١٠ نصّ عبارته ، فلاحظ.

(٢) هو الشيخ علي حفيد الشهيد الثاني في حاشيته على الروضة كما في هامش الطبعة الحجرية من الروضة ج ١ : ص ٢١ عند قول الشهيد : « للأصل فيهما » قال : أمّا أصالة الطهارة فلأنّ الأصل براءة الذمّة ، أمّا أصالة التحريم فلأنّ المحلّل محصور بشرط فما لم يتحقّق الشروط لم يحكم بحلّ لحمه.

(٣) تمهيد القواعد : ٢٧٠.

(٤) « ج » : ـ أنّه.

(٥) « م » : + هو.

(٦) « م » : ـ أنّ.

٣٩٢

يخالفهما (١) في الظاهر فمرجع الشكّ إلى الشخص ، وقد عرفت أنّ الغلبة بخلافها.

وثانيا : بعد الغضّ عن جميع ذلك لا دليل على اعتبار الغلبة مطلقا ولا سيّما بعد تلك الإطلاقات على ما هو مذاقهم كما لا يخفى.

وإن أرادوا أنّ الشارع إنّما حكم بانحصار المحلّل في عناوين خاصّة في أدلّة مخصوصة وسكت عن حال المحرّمات ومثل ذلك يعدّ في العرف من حصر المحرّمات فيما عدا المحرّم وإن لم يصرّح بالحصر كما أنّه حصر الحلال من الحيوانات البحرية في السمك ، ومنه فيما له فلس ، ومن الطيور فيما له حوصلة أو صيصة (٢) ونحو ذلك ، فلو سلّم استفادة الحصر من ذلك ، فلا يجدي فيما نحن بصدده من الحيوانات البرّية لفقدان مثله فيه.

وقد يستند في ذلك إلى السيرة فإنّا نراهم لا يعوّلون على أصالة الحلّ والبراءة في اللحوم والحيوانات ، ولذلك يبادرون بالسؤال عنها ، ولا يجوّزون من أنفسهم ارتكاب (٣) أكلها إلاّ بعد العلم بالحلّ.

وفيه : أنّ ذلك لعلّه إنّما بواسطة لزوم الفحص في مورد الأصل ولا ينكره أحد فإنّه لا مناص منه.

وأمّا ما يقال : من أنّ الفحص كما يجب في اللحوم فكذلك يجب في غيرها كما في البقول مثلا ، ومع ذلك يظهر منهم فيها من الجدّ والجهد ما لا يظهر فيها كما يظهر بالرجوع إلى ديدنهم فلعلّه يستند إلى كثرة المحرّمات فيها دون غيرها ، فلو فرضنا مثل ذلك في البقول ، لقلنا بمثله فيها أيضا على ما لا يخفى إلاّ أنّ الإنصاف أنّ اللحوم بعد لا يخلو من شيء ، فتدبّر.

__________________

(١) « م » : مخالفهما.

(٢) هذا هو الصواب وفي النسخ : سيسة. والصيصة والصيصية : مخلب الديك الذي في ساقه. ( المعجم الوسيط : ٥٣١ ).

(٣) « س » : ـ ارتكاب.

٣٩٣

وقد يوجّه الأصل في كلام الشهيد (١) بأنّ ارتضاع الحلال من الحرام يؤثّر في حرمة المرتضع وما يتولّد منه كما يستفاد ذلك من جملة من الأخبار الواردة فيه ، وعلى هذا فقد يمكن دعوى دلالة تلك الأخبار على حرمة الحيوان المتولّد من الحيوانين أيضا ولو بالفحوى إلاّ أنّ كلّ ذلك ممّا لا تعويل عليه وإن كان قد يستشمّ منها كما لا يخفى.

__________________

(١) « س » : + رحمه‌الله.

٣٩٤

أصل

[ في دوران الأمر بين المحذورين ]

فيما إذا دار الأمر بين المتباينين من الشكّ في التكليف في الشبهة الحكمية المستندة إلى فقد النصّ أو إجماله ، وأمّا تعارض النصّين ، فستطّلع على تفاصيله في التعادل والتراجيح ، ويتمّ الكلام فيه (١) في مقامات أربع يستعلم (٢) منها التزام المكلّف بشيء عند دوران الأمر بينهما ، أو عدمه ، وعلى الأوّل فهل هو التعيين أو التخيير ، وعلى الثاني فهل هو بدوي أو استمراري؟ وعلى التقديرين فهل المفتي يفتي بالمختار للمقلّد أو بالتخيير؟

المقام الأوّل :

[ في اللاحرجية العقلية ]

المقام الأوّل [ اللاحرجية العقلية ] في أنّ المكلّف إذا دار أمره بين المحذورين ، فهل هو ملتزم بشيء أم لا سواء كان ذلك هو التعيين أو التخيير؟

وبعبارة أخرى فكما أنّه لو شكّ في الوجوب فقط ، أو في الحرمة كذلك لا يلتزم بهما ويحكم بخلوّ الذمّة عن الشواغل الشرعية ويبنى على البراءة ، فهل له ذلك بالحكم بخلوّ ذمّته عن كلّ منهما تخييرا ، أو تعيينا فيبنى على عدم الحكم والبراءة أو لا بل عليه

__________________

(١) « س » : فيتمّ بدل : « فيه »!

(٢) « ج » : ستعلم.

٣٩٥

أن يلتزم بشيء (١) ولو بالتخيير؟

قد يقال : إنّ القاعدة تقضي بالأوّل لأنّ الالتزام إمّا بأحدهما معيّنا أو بهما مخيّرا ، وعلى التقديرين لا دليل عليهما :

أمّا على الأوّل ، فلأنّ التكليف الواقعي بعد الجهل به لا يؤثّر في الظاهر بوجه لقبح (٢) التكليف بلا بيان ، فلا وجه للقول بالتكليف بأحدهما في الواقع كما أنّه لا وجه للعقاب عليه.

وأمّا على الثاني ، فلأنّ التخيير ليس من آثار الوجوب أو الحرمة الواقعية إذ لا يقتضي شيء منهما به ، ولا دليل على انقلاب التكليف التعييني في الواقع إلى التخيير فإنّ الواجب العيني أو الحرام العيني لا بدّ في انقلابهما إلى التخييري إلى دليل.

فإن قلت : الأدلّة الآمرة بانقياد العبد لأوامر المولى ونواهيه وأدلّة وجوب الإطاعة ناهضة في المقام ، وقضيّتها الالتزام في الجملة لا الحكم بالبراءة وخلوّ الذمّة والقول بعدم الحرج كما في أفعال البهائم والصبيان والحكم بخلوّ الواقعة عن الأحكام الظاهرية كما هو مفاد البراءة.

قلت : إن أريد من لزوم الانقياد والإطاعة التديّن بأوامره تعالى ونواهيه فإن أراد ذلك بالنسبة إلى ما هو الواجب أو (٣) الحرام بخصوصه ، فلا إمكان فيه ، وإن أراد التديّن به ولو إجمالا ، فنحن لا ننكره بل نحن مؤمنون بكلّ ما جاء به الرسول ، وإن أراد التديّن بالتخيير بينهما والانقياد به ، فلا إمكان فيه إذ لم يثبت وجوبه حتّى ينقاد به ، وإن أريد العمل على طبق ما جاء به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإن أراد العمل بالواجب والحرام الواقعيين مع قصد الوجوب والحرمة فلا إمكان فيه ، وإن أراد تطبيق العمل بهما فهو كذلك لأنّ التكليف لا يخلو من الفعل والترك دائما ، فالعمل إمّا على الوجوب ، أو على الحرمة إذ

__________________

(١) « ج » : الشيء.

(٢) ظاهر نسختي « س ، م » : يصحّ!

(٣) « ج » : و.

٣٩٦

لا واسطة بين الفعل والترك ، فالمكلّف دائما إمّا أن يفعل الفعل أو يتركه (١).

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ العلم الإجمالي بالتكليف منجّز له ولهذا تراهم يقولون بتكليف الكفّار بالفروع فأدلّة الإطاعة والانقياد بالنسبة إلى أوامره تعالى ناهضة محكّمة ، ومن هنا قلنا (٢) فيما سبق بأنّ الموافقة القطعية لو لم تكن (٣) ممكنة ، فلا بدّ من الموافقة الظنّية وهكذا متدرّجا إلى أن يصل إلى الموافقة الاحتمالية بعد ثبوت العلم الإجمالي بالتكليف.

وممّا يؤيّد ذلك أنّ الأصحاب ـ على ما يظهر من كلام صاحب المعالم (٤) ـ مطبقون على عدم جواز طرح القولين بين الطائفة والرجوع إلى ثالث خارج منهما للقطع ببطلان الثالث فإنّه لا فرق في المقام وهناك إلاّ فيما لا يؤثّر فيما نحن بصدده.

على أنّه يمكن أن يقال بأنّ أخبار التخيير الواردة في تعارض الخبرين ربّما تدلّ على التخيير في المقام أيضا ولو بفحوى الخطاب بدعوى أنّ الحكم بالتخيير فيما إذا ورد خبران ليس إلاّ باعتبار اشتمالهما على الحكمين وهو موجود في المقام بل ربّما يستفاد من طريقة العقلاء التزامهم في أمثال المقام بشيء من الحكمين فإنّه يعدّ من المخالفة في نظرهم ، على أنّ المبالاة بالأوامر الشرعية والاعتناء بها واجبة قطعا ، وفي ترك الحكمين تخييرا أو تعيينا وعدم الالتزام بشيء منهما والحكم بأنّه لا حرج في الفعل والترك مع العلم بوجوبه أو حرمته من عدم المبالاة وترك الاعتناء ما لا يخفى على المتدبّر.

ولكنّ الكلّ بعد قاصر عن إفادة المطلوب ، أمّا حديث العلم الإجمالي وتنجّز التكليف به ولزوم الانقياد بأوامره تعالى ، فهو على إطلاقه لا ينهض بإثبات المطلوب

__________________

(١) « ج » : + هذا.

(٢) « ج » : ـ قلنا.

(٣) في النسخ : لم يكن.

(٤) انظر معالم الدين : ١٧٧ ـ ١٧٨ في بحث الإجماع المركّب.

٣٩٧

بل فيما يلزم (١) المخالفة العملية على تقدير عدم الالتزام.

وتوضيح ذلك أن ليس المقصود بالأوامر الآمرة بالانقياد والالتزام بأوامره والانزجار عن نواهيه التعبّد بها بل المراد بها وقوع الفعل المأمور به وترك الفعل المنهيّ [ عنه ] ، فالأمر بالالتزام إنّما هو للتوصّل إلى الفعل والترك ، فلو فرضنا حصول الفعل المأمور به وترك الفعل المنهيّ عنه دائما ، فلا فائدة في الإلزام (٢) بالالتزام بمثل ذلك إذ المفروض حصول المقصود ، فالداعي للأمر شرعا مفقود كما أنّ العقل أيضا في هذه الحالة ممّا لا يحكم بالالتزام ، وذلك لا ينافي وجوبه أو حرمته بدون الفعل والترك كما هو الشأن في الواجبات التوصّلية فإنّها قبل الحصول واجبات ، وبعده لا أمر حتّى يكون هناك واجب أو غير ذلك ، غاية الأمر عدم ترتّب الثواب على الفعل والترك عند حصولهما في الخارج من غير قصد الإطاعة فإنّها لا تصدق فيما لم يقصد الفاعل أو التارك امتثال الأمر أو النهي ، ولا ضير في ذلك بعد ما فرضنا من أنّ المقصود من تلك الأوامر ليس إلاّ التوصّل إلى الأفعال المأمور بها والتروك.

وإذ قد تقرّر هذه فنقول : إنّ الواجب والحرام المحتمل كلاّ منهما فيما دار الأمر بينهما ، إمّا أن يكونا تعبّديين ، أو توصّليين ، أو أحدهما تعبّديا ، والآخر توصّليا ، فإمّا مع تعيين التعبّدي ، وإمّا مع الجهل به كأن يعلم أنّ أحدهما تعبّدي إجمالا ، والآخر توصّلي ، وحيث إنّ الغرض من التوصّلي على ما عرفت هو وقوع الفعل في الخارج على وجه لا يناط في تحقّقه صدق الامتثال وإن كان الفعل معلوما بالتفصيل ، ففيما لو كان الفعل موجودا وإن لم يكن امتثالا فيجزي عن الأمر بنفس الفعل فضلا عن الأمر بالالتزام ؛ إذ ليس المقصود به الاعتقاد تعبّدا كما في العقائد ، فعلى هذا فيما لو كان الواجب والحرام توصّليين ، لا يلزم مخالفة في العمل لحصول الفعل أو الترك دائما وبعد

__________________

(١) سقط قوله : « الإجمالي وتنجّز التكليف ... » إلى هنا من « س ».

(٢) « س » : الالتزام.

٣٩٨

حصوله يسقط الأمران ، وإن لم يكن الفاعل والتارك مثابا وممتثلا ، ويمتنع (١) الأمر به حينئذ لامتناع تحصيل الحاصل.

ولو كانا تعبّديين فلا شكّ في لزوم المخالفة العملية لوجود الواسطة بين الفعل والترك المطلقين وهو الفعل على وجه التعبّد والترك كذلك ، والمكلّف يصحّ خلوّه منهما.

ولو كان أحدهما تعبّديا والآخر توصّليا فإن كان التعبّدي معيّنا كالواجب بمعنى أنّ الواجب المحتمل على تقديره تعبّدي كما في دوران الأمر للحائض بين الصلاة وتركها والصوم وتركه فإنّهما على تقدير الوجوب تعبّديان ، فلا خفاء أيضا في أنّ العمل لا يلزم أن يكون دائما مطابقا لأحدهما لإمكان الإتيان بصورة الصلاة من دون التعبّد وهي ليس بالفعل لانضمام القيد إليه ولا بالترك (٢).

وإن كان التعبّدي منهما غير معلوم ، فالموافقة العملية حاصلة لإمكان أن يكون المأتيّ به دائما هو غير التعبّدي.

وبالجملة ، فبعد عدم إمكان الموافقة القطعية والظنّية ، فلا مناص من الموافقة الاحتمالية ونحن لا ننكر ذلك إلاّ أنّ قضيّته لا يزيد على لزوم الإتيان والالتزام فيما لا يحصل إلاّ بعنوان خاصّ كالقربة والتعبّد مثلا ، وفي التعبّديات نحن نلتزم بوجوب الالتزام حذرا من المخالفة العملية القطعية ، وفي غيرها ـ كأن يكونا توصّليين أو أحدهما توصّليا مع عدم العلم بالتعبّدي على وجه التعيين ـ لا دليل على الالتزام بحصول الفعل المأمور به والترك دائما لعدم الواسطة في الأوّل وحصول الموافقة الاحتمالية في الثاني إذ كلّ من الفعل والترك يحتمل أن يكون توصّليا ولا يخلو المكلّف منهما ، فيحتمل دائما حصول المطلوب إذ المفروض أنّ الأمر بالالتزام توصّلي ، والأمر بنفس الفعل والمنهيّ عنه أيضا توصّليان ، وسقوط الواجب التوصّلي بحصول الفعل في الخارج ـ ولو على غير وجه الإطاعة ـ ممّا لا مجال لإنكاره حذرا من لزوم تحصيل

__________________

(١) « ج ، م » : يمنع.

(٢) « م » : وما لا يترك.

٣٩٩

الحاصل في وجه وخلاف الفرض في وجه آخر.

فتلخّص (١) من جميع ما مرّ من أنّ المخالفة القطعية لو صادفتها (٢) الموافقة (٣) العملية ، فلا دليل على فسادها كما في التوصّليات ، وإلاّ فلا بدّ من الالتزام أخذا بالأدلّة الدالّة على لزوم اتّباع حكم الله ورسوله.

وأمّا ما ادّعاه صاحب المعالم من إطباق الفرقة على لزوم الأخذ بأحد الحكمين المجمع عليهما إجمالا ، فمحمول على ما ذكرناه فيما لو لم يوافق العمل أحد القولين دائما ، على أنّ الشيخ (٤) حكم بالتخيير الواقعي بين الحكمين ومن المعلوم توافقهما في نفي الثالث وإن كان هو التخيير ، وأمّا دعوى دلالة أخبار التخيير على لزوم الأخذ بمطلق الحكمين المتباينين تخييرا فعهدتها على مدّعيها.

ولو سلّم ، فلا نسلّم فيما وافق أحدهما العمل دائما ، وأمّا بناء العقلاء على لزوم الأخذ ، فمسلّم فيما لا يوافق العمل ، وأمّا الالتزام والاعتناء لا يقضي بذلك فإنّ المحرّم هو عدم المبالاة بالشرع وترك الاعتناء إليه واللزوم على تقدير الموافقة ممنوع.

ثمّ إنّ الإنصاف أنّ الأدلّة المذكورة وإن لم تكن على وجه يعوّل عليها في الحكم كما عرفت من وجوه الضعف فيها إلاّ أنّ المسألة بعد محلّ إشكال ، فلم يرتفع نقاب الشكّ عن وجه المطلوب على ما ينبغي كما لا يخفى ، فتدبّر.

المقام الثاني

[ في التخيير أو الترجيح ]

في أنّ بعد ما قلنا بأنّ الحكم فيما دار الأمر بين المحذورين ليس عدم الحكم والحرج بل لا بدّ من الالتزام ، فهل الحكم هو التخيير بين الوجوب والحرمة ، أو لا بدّ من

__________________

(١) « ج ، م » : فيلخّص.

(٢) « ج ، م » : صادفها.

(٣) « س » : المخالفة.

(٤) عدّة الأصول ٢ : ٦٣٦ ـ ٦٣٧ وعنه في فرائد الأصول ٢ : ١٨٣ ـ ١٨٤.

٤٠٠