مطارح الأنظار

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني

مطارح الأنظار

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني


المحقق: علي الفاضلي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: معهد الإمام الخميني والثورة الإسلامية
المطبعة: مؤسسة العروج
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7986-36-6
الصفحات: ٦١٥

بسم الله الرحمن الرحيم (١)

القول في المظنّة واعتبارها ، وتفصيل الكلام على وجه يكشف اللثام ، عن وجه المرام ، يستدعي تمهيد (٢) مقدّمة ، فنقول :

المكلّف إمّا أن يكون ملتفتا ومستشعرا بالتكليف ، أو لا يكون بل هو ذاهل ، ولا شكّ في أنّه في هذه الحالة معذور على ما تقتضيه قواعد (٣) العدلية لكنّه بالنسبة إلى الأحكام التكليفية.

وأمّا الأحكام الوضعية ، فتفصيل الكلام فيها له محلّ آخر ، والأوّل إمّا أن يكون شاكّا ، أو ظانّا ، أو قاطعا ؛ لأنّ المدرك تارة يدرك بحيث لا يحتمل الخلاف في نفسه من حيث هو مدرك ، وأخرى على وجه يحتمله ، فمرّة يحتمل احتمالا مرجوحا ، وأخرى احتمالا مساويا.

والأوّل : هو الإدراك العلمي ، وينقسم بأقسامه المعهودة من التقليد واليقين والجهل المركّب.

والثاني : هو الإدراك الظنّي ، ويختلف باختلاف مراتبه شدّة وضعفا.

والثالث : هو الشكّ ، وقد يسمّى غير الأوّل به إلاّ أنّه خلاف المعهود.

__________________

(١) « ل » : + وبه نستعين وبه نثق.

(٢) « ل » : رسم.

(٣) « ل » : القواعد.

١

ثمّ إنّه لا شكّ في عدم اعتبار الشكّ ، وكفاك شاهدا نفي الشكّ فيه ، وإن أبيت عن ذلك ، فنقول : إنّه لو كان حجّة ومعتبرا ، لزم الترجيح من غير مرجّح ؛ إذ لا نعني باعتباره إلاّ أنّ الشيء بمجرّد كونه مشكوكا يحكم فيه بأحد طرفي الشكّ وهو المراد من اللازم كما لا يخفى إلاّ أنّ المكلّف في حالة الشكّ لا يخلو عن أحد الأصول الأربعة من البراءة والاشتغال والاستصحاب والتخيير بحسب اختلاف أحواله من الشكّ في التكليف ، أو في المكلّف به ، أو وجود الحالة السابقة وليس ذلك من جهة اعتبار الشكّ بل هو موضوع لتلك الأحكام ، والمتكفّل لبيان هذه الأصول ومواردها مباحث الأدلّة العقلية.

وأمّا الظنّ ، فعقد الباب فيه ، وسيجيء تحقيق القول فيه بما لا مزيد عليه.

٢

[ في القطع ]

وأمّا العلم ، فلا ريب أنّه على تقديره لا مجال للشكّ في وجوب العمل به واعتباره ، كما يدلّ عليه نفي الريب عنه بل هو معتبر بنفسه ، ودليل اعتباره ليس خارجا عن نفسه بل لا يحتاج إلى دليل ؛ إذ هو مع إفادة الظنّ لا يغني من جوع ؛ لاستلزامه إثبات الأخصّ بالأخسّ ، ومع إفادة العلم يدور أو يتسلسل ، فلا بدّ من الانتهاء إلى دليل هو حجّة بنفسه وهو المطلوب ، ومعنى حجّيته أنّه لا حجّة على عامله معه لا أنّه حجّة وواسطة في إثبات آثار متعلّقه عليه كما هو الشأن في غيره من الحجج الاصطلاحية ، ففي إطلاق الحجّة عليه تسامح.

وتوضيح ذلك : أنّ الحجّة في مصطلح أهل العلم ـ على ما هو المبيّن في علم (١) الميزان ـ ما يقع وسطا لإثبات أحكام الموضوعات من المحمولات لها ، ويستكشف منها آثارها المترتّب عليها في القضايا المطلوبة والنتائج كما يظهر ذلك بالرجوع إلى البرهان السائر على ألسنتهم في إثبات حدوث العالم ، فإنّ المتغيّر هو الحجّة والواسطة في إثبات الحدوث الأكبر للعالم الأصغر ، ففي الحقيقة تسمية البرهان حجّة إنّما هي لأجل اشتماله عليها ، ويكشف عن ذلك إتيانها بعد لام التعليل مفردا ، فالعلم بحدوث

__________________

(١) « ش » : ـ علم.

٣

العالم إنّما يستند إلى العلم بالتغيّر ، فهو من حيث إنّه متغيّر حادث ؛ لأنّ التغيّر طريق ومرآة لحدوثه على ما لا يخفى.

إذ قد عرفت المراد من الحجّة ، ظهر أنّ العلم ليس بهذه المثابة ؛ فإنّ العلم مرآة وطريق إلى الواقع ، وليس واسطة في ترتّب أحكام متعلّقه عليه بل هو آلة للوصول إليه واقعا عند العالم ، فكما أنّ السراج ـ مثلا ـ ليس واسطة لثبوت الأحكام الواقعية الثابتة بواسطة عللها الواقعية للأشياء المختفية لعارض الظلمة ، ولا لإثباتها لها بل به يمكن الوصول إلى تلك الآثار الثابتة لها ، فكذا العلم ليس واسطة في ثبوت آثار المعلوم له ، ولا في إثباتها له ، ففي ترتّب حكم من الأحكام على المعلوم ـ لو طالبنا أحد بدليل ـ لا يصحّ تعليله بالعلم ، فلا بدّ من بيان ما هو المستند في ترتّب ذلك الحكم على المعلوم من جعل جاعل كما في الأحكام الجعلية وغيره في غيرها كما يظهر ذلك عند ملاحظة قولك : « البول نجس » فإنّ النجاسة لا تترتّب على العلم بها ؛ لاستنادها إلى جعل الشارع مثلا ، فهو من حيث علّتها الواقعية نجس ، لا من حيث إنّه معلوم كما هو الشأن في الواسطة العلمية ، وليس سائر الأمارات الظنّية مثل فتوى المجتهد والاستصحاب والخبر كذلك ، فإنّها أوساط في الأدلّة التي يستدلّ بها على إثبات الآثار على متعلّقاتها كما ترى في قولك : صلاة الجمعة واجبة ، لأنّها ممّا أخبر العادل بوجوبه ، فهي ـ من حيث إنّها قد أخبر العادل بوجوبها ـ واجبة.

وقس عليه سائر الأمارات من ظنّ المجتهد وغيره ، فإنّه يقال : هذا ما أدّى إليه ظنّي ، وكلّ ما أدّى إليه ظنّي ، فهو حكم الله في حقّي ، فالموضوع في النتيجة من حيث كونه مظنونا صار موضوعا لمحمولها ؛ وكذا يقال في الاستصحاب : هذا ممّا علمنا طهارته قبل ، وكلّ ما علمنا طهارته قبل ، فلا بدّ من إجراء أحكام الطهارة عليه ، فهذا ممّا لا بدّ من إجراء أحكام الطهارة عليه ، فالاستصحاب واسطة في إثبات أحكام المستصحب له وترتّب آثاره عليه ، ولهذا ما لم يدلّ دليل على اعتبار الاستصحاب أو

٤

خبر الواحد أو غيرهما لا يصحّ الاستدلال بها ، فظهر الفرق بين العلم وسائر الأمارات ؛ فإنّها أوساط وحجج دونه.

والسرّ في ذلك : أنّ دلالة شيء على شيء لا بدّ أن تكون بواسطة ملازمة بينهما من العلّية لأحد الطرفين للآخر ، أو لاشتراكهما في علّة ثالثة ـ وإن كانت العلّية تعبّدية شرعية لا عقلية كما في الأمارات التي ثبت حجّيتها بالشرع ـ ولا ملازمة بين العلم ومعلومه ، كيف وهو متأخّر عنه زمانا ، والآثار المترتّبة على المعلوم وإن كانت متأخّرة عنه ذاتا وفي نفس المرتبة (١) إلاّ أنّها مقارنة للمعلوم زمانا ؛ لعدم الانفكاك بينهما ؛ فإنّها مجعولات بجعل ماهيّة الملزوم والمعلوم ، ولا يتعقّل تأثير العلم المتأخّر بحسب الزمان في المتقدّم بحسبه (٢) ؛ ضرورة استلزامه وجود الشيء قبل وجوده وهو محال.

لا يقال : فعلى ما ذكرت لا يجوز أن يكون الظنّ واسطة أيضا ؛ فإنّه متأخّر عن المظنون وتابع له ، فتأثير المتأخّر في المتقدّم ـ كما قرّرت ـ يوجب تقديم المتأخّر وهذا خلف.

لأنّا نقول : إنّ الظنّ تابع للحكم في (٣) نفس الأمر (٤) وهو ليس (٥) واسطة في إثباته (٦) بل هو واسطة في إثبات الحكم الظاهري (٧) وهو متأخّر عنه ، فلا محذور.

وتوضيحه : أنّ هناك قضيّتين : إحداهما أنّ الخمر نجس ، والظنّ في هذه القضية كالعلم تابع ، وثانيهما : القضية الكلّية القائلة بأنّ كلّ ظنّ حجّة ، المتكفّلة لبيان النجاسة الظنّية ، فلا شكّ في تأخّر الحكم المستفاد منها عن الظنّ ، فلا يلزم المحذورات.

فإن قلت : مثل ذلك نقول (٨) بعينه في العلم ؛ فإنّ ما يتوقّف (٩) عليه العلم هو نفس

__________________

(١) « ل » : النفس المترتّبة.

(٢) « ل » : بحسب الذات.

(٣) شطب في « ل » على « في ».

(٤) « ل » : النفس الأمري.

(٥) شطب في « ل » على « ليس ».

(٦) شطب عليها في « ل » وكتب فوقها : « إثبات ».

(٧) لم ترد « بل هو واسطة في إثبات الحكم الظاهري » في ل.

(٨) « ل » : فنقول.

(٩) « ل » : ما لا يتوقّف.

٥

الحكم الواقعي المدلول عليه بقولنا : « الخمر نجس » وما يتوقّف حصوله على حصول العلم هو القضية الكلّية القائلة بأنّ العلم حجّة ، المستتبعة لبيان النجاسة المعلومة ، فالقضيّتان متغايرتان ؛ لتغاير طرفيهما ؛ فإنّ الموضوع والمحمول في الأولى غيرهما في الثانية.

قلت : نعم ، إلاّ أنّ القضية الثانية لا تغاير الأولى ؛ فإنّ العلم بالحكم الواقعي هو العلم بنجاسة (١) الخمر بل المعلوم الواقعي عين الواقع.

وإن شئت زيادة توضيح ، فاعلم أنّ العلم في القضية تارة يؤخذ قيدا (٢) للحكم والإدراك التصديقي كما في قولنا : « زيد قائم علما » فإنّا قيّدنا الحكم بالقيام على زيد بكونه علميا ؛ دفعا لاحتمال أن يكون التصديق بقيام زيد ظنّيا مثلا ، وقد يؤخذ جزءا لموضوع أو محمول ، فهو حينئذ (٣) كنفس الموضوع أو المحمول ، ولا يكون مرآة وآلة لملاحظة حال المحمول ، ثابتا للموضوع ، والقضية القائلة بأنّ كلّ ما هو معلوم الخمرية ـ مثلا ـ نجس إنّما يراد بها ثبوت المحمول للموضوع ثبوتا علميا ، ولا مدخل للعلم في الموضوع ؛ فإنّه قيد للحكم ، فالموضوع والمحمول في القضيتين ليسا بمتغايرين كما هو مبنى الاعتراض ، وذلك نظير ما لو علمنا الإنسان حيوانا (٤) دائما ، فالدوام في القضية مثلا جهة للنسبة ، فلو جعلناه جزءا للمحمول ، لم يصحّ ، وهذا هو منشأ الخلط في المقام من أخذ ما هو قيد للحكم أو جهة للنسبة جزءا للموضوع والمحمول ، ولا يجري مثل هذا الكلام في الظنّ حيث إنّ جريان تلك الأحكام في العلم إنّما هو من جهة عدم حاجة (٥) جعل العلم طريقا للواقع بخلاف الظنّ ؛ فإنّه محتاج إلى جعله طريقا ، ويستتبعه أحكام ظاهرية بها يصير الظنّ واسطة في إثباتها كما عرفت في الأقيسة المذكورة.

__________________

(١) « ل » : بنجاسته.

(٢) « ل ». حدّا.

(٣) « ل » : ـ حينئذ.

(٤) « ش » : حيوان؟

(٥) « ل » : الحاجة.

٦

لا يقال : هذا يناقض ما تقدّم في بعض المباحث السالفة من عدم الإجزاء بالأمر الظاهري إذا انكشف الخلاف حيث إنّ الظنّ ـ على هذا التقدير ـ حكم ثانوي جعل (١) في مرحلة الظاهر بدلا (٢) عن الواقع ، وظاهر أنّ البدل يكفي وجوده في محلّه عن المبدل منه.

لأنّا نقول : البدل يكفي وجوده عن المبدل منه فيما لو كان في عرض المبدل منه كما في خصال الكفّارة ؛ فإنّ العتق فيه مصلحة تكافئ مصلحة الصوم مثلا ، وأمّا فيما لو كان مرتّبا على المبدل منه ، وكان جعله من جهة عدم الوصول إلى المبدل منه ، فمن المعلوم عدم كفاية البدل عن المبدل منه فيما لو انكشف الخلاف ، فلا تنافي بين المقامين ؛ للفرق الظاهر بين أن يكون الجعل في مرحلة بدلا عنه (٣) في مرحلة أخرى ، وبين أن يكون المجعول بدلا عنه في مورد كما هو كذلك في الخصال.

ثمّ إنّه قد ظهر ممّا تقدّم أنّ العلم له حالات ثلاثة :

أحدها : أن يكون طريقا للوصول إلى متعلّقه كما في العلم بالنجاسة (٤).

الثاني والثالث : أن يكون موضوعا أو جزء موضوع للآثار الشرعية أو العقلية الخارجة عن متعلّقه ، فهو بالنسبة إلى متعلّقه أيضا طريق ، وموضوعيته بملاحظة الآثار المترتّبة عليه شرعا أو عقلا.

فمن أمثلة الأوّل (٥) الثواب والعقاب المترتّبان على نفس العلم في صورتي التجرّي والانقياد ؛ فإنّ من اعتقد وعلم بوجوب شيء ، فيجب عليه الإتيان بالواجب المعتقد انقيادا ، وكذا فيما علم حرمته ، فالإتيان به محرّم للتجرّي ، فالشارع قد جعل العلم موضوعا لترتّب الثواب والعقاب في صورة الإتيان بما يعتقد وجوبه والاحتراز عمّا

__________________

(١) « ش » : جعلي.

(٢) « ش » : بدل.

(٣) « ل » : منه.

(٤) « ل » : بنجاسة.

(٥) أي نفس الموضوع. « منه ».

٧

يعلم حرمته ، أو ترك الواجب وفعل المحرّم المعلومين ، وإن لم يكن هو في الواقع كذلك.

و (١) ممّا يترتّب على نفس العلم شرعا جواز الإفتاء بالمعلوم ولو بالمعنى الشامل للظنّ المعلوم حجّيته بالخصوص كأخبار الآحاد على القول به ؛ فإنّه لا يجوز شرعا فيما إذا لم يعلم.

ومن أمثلة الثاني (٢) العلم بالحكم الواقعي عند الإطاعة والامتثال أو المخالفة ، فالعقل يستقلّ بإدراك الثواب والعقاب المترتّبين على العلم في الصورة المفروضة ، فالعلم في المقام جزء موضوع عقلي للآثار المترتّبة عليه.

ثمّ إنّ الظنّ أيضا قد يعتبر موضوعا لترتيب آثار شرعية.

ومن أمثلته جواز التيمّم عند حصول الظنّ الغالب على عدم وجود الماء لا مجرّد عدم الماء (٣) ، ولذا لا يصحّ التعويل على أصالة عدم الماء ؛ إذ المدار شرعا في الجواز وعدمه على الظنّ وعدمه ، والأصل المذكور لا ينهض بإثباته.

نعم ، لو كان مرتّبا على عدم الماء ، فله وجه في وجه ، فهو كالعلم ـ على ما عرفت ـ طريق لمتعلّقه ، ولا يتعقّل الموضوعية بالنسبة إليه ، وموضوع بالنسبة إلى الأحكام المترتّبة عليه ، فلا معنى للطريقية (٤) بالنسبة إليها (٥) كما لا يخفى.

ثمّ إنّه لا فرق في اعتبار العلم إذا كان طريقا بين أفراد العلم ، ولا بين أفراد العالم (٦) والمعلوم ، فكلّ علم ـ عقلي أو شرعي عن كلّ عالم فقيه أو عامي على أيّ شيء من أصلي وفرعي ـ حجّة بنفسه لا يحتاج إلى جعل ، فهو منجعل بذاته ، والذاتي لا يتخلّف ولا يختلف كما يشهد به الوجدان ، فضلا عمّا (٧) هو المقرّر في محلّه من البرهان ، وذلك بخلاف ما إذا كان موضوعا لحكم ؛ إذ المناط في عمومه وخصوصه هو جعل الجاعل ،

__________________

(١) « ل » : وكذلك؟

(٢) أي جزء الموضوع. « منه ».

(٣) « ل » : ـ لا مجرّد عدم الماء.

(٤) « ل » : لطريقته.

(٥) « ش » : إليهما؟

(٦) « ل » : طريقا بين أفراد العلم والعالم.

(٧) « ل » : على ما.

٨

فربّما يجعله عامّا كما إذا كان الجاعل هو العقل أو الشرع ، وربّما يجعله خاصّا كالعلم الحاصل من الإحساس مثلا من عالم خاصّ كالمجتهد مثلا في مورد خاصّ كالفقه مثلا ، وربّما يجعل موضوع الحكم ما يكشف عن الواقع سواء كان ظنّيا أو علميا.

وبالجملة ، فالجاعل على حسب اختلاف الأغراض يختلف جعله ، والمدار في تميزه عموما وخصوصا على الدليل الدالّ على موضوعيته إن عامّا فعامّ ، وإن خاصّا فخاصّ.

ثمّ العلم لو كان طريقا ، يقوم مقامه سائر الأمارات الشرعية التي جعلها الشارع بمنزلة الواقع ، فكما أنّ العلم طريق وجداني فالاستصحاب أيضا في محلّه ومجراه طريق شرعيّ.

وإن اعتبر العلم موضوعا ، فتارة يعتبر على وجه يكون لوصف العلم مدخل فيه ، وأخرى على وجه عامّ لا مدخل لخصوص وصف العلم القائم بالنفس فيه ، فعلى الأوّل لا يصحّ قيام دليل غير علمي مقامه ؛ لانتفاء موضوع الحكم على تقديره ، وعلى الثاني يصحّ.

ويظهر الثمرة فيما لو نذر شخص على تقدير علمه بحياة زيد إعطاء درهم ، فعلى الأوّل لا يجب عليه التصدّق لو علمه بالاستصحاب ، أو قامت له البيّنة مع انتفاء العلم حقيقة في الصورتين كما أنّه لا يجب عليه التصدّق فيما لو اعتبر العلم خاصّا كالحاصل من الإبصار على تقدير عدمه.

وعلى الثاني يجب عليه التصدّق في الصورة المذكورة ؛ لحصول موضوع الحكم على تقديره ، فالمعيار في التميز (١) بين الموضوعات المترتّبة عليها الآثار الشرعية هو الدليل ، فلا بدّ من الرجوع إليه في تميزها.

وقد يشكّ في كون العلم طريقا أو موضوعا بواسطة اشتباه جهة القضية بموضوعها

__________________

(١) « ل » : التمييز.

٩

على ما أشرنا إليه ، وعلى تقدير كونه موضوعا ، في (١) أنّه موضوع على الوجه الأوّل ، أو على الوجه الثاني فكثيرا ما يقع لفظ العلم واليقين في الدليل الذي يدلّ على الحكم الشرعي ، فيتردّد الأمر بين أنّ ذكر الشارع له هل هو من جهة تأكيده لحكم العقل من كونه طريقا إلى الواقع ، أو من جهة اعتباره موضوعا؟ وعلى تقديره لا يعلم الوجه في موضوعيته على الاحتمالين المذكورين.

مثلا قد ورد في بعض أخبار الاستصحاب لفظ اليقين من قوله : « لا تنقض اليقين بالشكّ ». وكذا ورد في بعض الروايات (٢) تعليق جواز الصلاة على استيقان دخول الوقت. وكذا ورد في بعض أخبار الشهادة « على مثل هذا فاشهد أودع » (٣) مشيرا عليه‌السلام به إلى الشمس ، فربّما يشتبه الأمر بين اعتبار العلم فيها على وجه الطريقية أو على الوجه الموضوعية ، وعلى تقديرها بين وجهيها ، والترجيح فيها موكول على نظر المجتهد فلا ينضبط.

والثمرة بين الوجوه تظهر فيما عرفت من جواز التعدّي إلى سائر الأمارات ، ففي الشهادة لو قلنا بأنّ اعتبار العلم إنّما هو من جهة خصوصية في نفس العلم طريقا وموضوعا ، فلا يجوز التعدّي إلى غيره ، فلا يجوز الشهادة بالاستصحاب ، ولا يجوز بالحدس ؛ إذ لعلّها تختصّ بالحسيّات ، ولو قلنا بعدمه ، فهو مؤكّد لحكم العقل ، فيجوز على تقديره الشهادة بالاستصحاب والحدس إلى غير ذلك من الثمرات على ما لا يخفى.

__________________

(١) أي يشكّ في أنّه.

(٢) انظر الوسائل ٤ : ١٦٦ ، باب ١٣ ، باب بطلان الصلاة قبل تيقّن دخول الوقت وإن ظنّ دخوله من أبواب المواقيت.

(٣) انظر الوسائل ٢٧ : ٣٤٢ ، ح ٣ ، باب ٢٠ ، باب أنّه لا تجوز الشهادة إلاّ بعلم من كتاب الشهادات.

١٠

وينبغي التنبيه على أمور :

[ الأمر ] الأوّل :

قد تقدّم (١) تبعا لجماعة أنّ العلم بوجوب شيء أو حرمته بمجرّده يوجب الثواب والعقاب في صورتي الانقياد والتجرّي وإن لم يكن ما علمه موافقا لما في نفس الأمر وحاقّ الواقع ، وقد يظهر من بعضهم (٢) خلاف ذلك مطلقا ، وعن بعض آخر (٣) التفصيل بين ما إذا قطع بوجوب شيء محرّم ، أو حرمة شيء واجب ، فقال بعدم ترتّب الثواب والعقاب ، وبين ما إذا قطع بوجوب شيء مباح أو حرمته ، فحكم بترتّبه مستندا في ذلك إلى تعارض مصلحة ترك التجرّي مع المفسدة المترتّبة على فعل الحرام فيما إذا علم بوجوب شيء محرّم مثلا ، وأمّا إذا لم يكن في الفعل مفسدة كأن يكون مباحا أو مكروها ، فلا معارض لمصلحة ترك التجرّي ، فيترتّب الثواب.

ولعلّه سهو ؛ إذ لا ينبغي الفرق المذكور بعد ما فرض من أنّ الاعتقاد يوجب (٤)

__________________

(١) تقدّم ص ٧.

(٢) صرّح به العلاّمة في التذكرة ٢ : ٣٩١ وفي موضع من النهاية وعنه في مفاتيح الأصول : ٣٠٨ واستقربه.

(٣) في هامش « ش » : صاحب الفصول [ في الفصول : ٤٣١ ـ ٤٣٢ ].

(٤) « ش » : + مصلحة لوجود ، وفي « ل » : « مصلحة الوجود » ثمّ شطب عليهما.

١١

المصلحة الفعلية الناشئة عن (١) اعتقاد الوجوب في الفعل ، وحيث إنّ التكليف بالواقع بعد اعتقاد الخلاف ساقط ، فلا مفسدة في فعله فعلا ، فلا يصلح معارضا ، وذلك ظاهر لا سترة عليه.

والتحقيق في المقام أن يقال : إنّه لا ريب في عدم ترتّب الثواب والعقاب المترتّبين على نفس فعل الواجب والحرام الواقعيين في صورتي الانقياد والتجرّي ؛ إذ المفروض ترتّبهما على الواجب والحرام الواقعيين ، وانتفاؤهما معلوم بالفرض أيضا ، كما أنّه لا ريب في استحسان فعل المنقاد عند العقلاء ، وعدّهم في عداد المحسنين ، ومدحهم إيّاه ؛ لكشفه عندهم عن حسن سريرته وصفاء طينته ، واستقباح فعل المتجرّي عندهم ، وذمّهم له مستكشفين بذلك عن سوء السريرة وخبث الباطن ، كيف وقد استقرّ طريقتهم في التحسين والتقبيح فيما لو عزم على الفعل والترك إذا اعتقد وجوبه أو حرمته ، ولا إشكال فيه.

وإنّما الشأن في أنّ الإتيان بفعل علمنا وجوبه علما غير مطابق للواقع من حيث كونه معلوما هل يوجب فعله ثوابا ، و (٢) تركه عقابا أم لا؟ وحينئذ يمكن منعه ؛ لعدم الدليل على ترتّبه ، وإنّما المسلّم منه هو ما عرفت من المدح والذمّ والتحسين والتقبيح.

وقد يستند (٣) للقول بحرمة التجرّي إلى تساوي فاعل الحرام واقعا ، وفاعل الحرام اعتقادا من كلّ جهة إلاّ فيما ليس مقدورا للمكلّف وهو مصادفة الواقع في الأوّل وعدمها في الثاني ، وحينئذ فإمّا أن يتعلّق العقاب بهما جميعا ، أو بالأوّل دون الثاني ، والأوّل هو المطلوب ، والثاني باطل ؛ لمنافاته لما تقرّر عند العدلية من عدم جواز الظلم.

ويمكن الجواب عنه باختيار الشقّ الثاني (٤) ، ولا ينافي ما هو المقرّر عندنا ؛ فإنّ الإتيان بالمحرّم الواقعي يستند إلى اختياره ، فيصحّ العقاب عليه دون الآخر ؛ لعدم

__________________

(١) « ل » : من.

(٢) « ل » : أو.

(٣) المستند هو السبزواري في الذخيرة : ٢٠٩ ـ ٢١٠.

(٤) « ش » : التالي.

١٢

صدور المحرّم الواقعي منه وإن كان مستندا إلى أمر خارج عن إرادته ، ولنعم ما قيل بالفارسية :

چگونه شكر اين نعمت گذارم

كه دست مردم آزارى ندارم (١)

فإنّ عدم القدرة أيضا نوع من العصمة ، وعلى مثل هذا الوجه يبنى في الجواب عن الإشكال المشهور بينهم في أنّ للمصيب أجرين ، وللمخطئ أجرا واحدا.

وقد يجاب عن الاستدلال بوجه آخر بأنّ اللازم على ذلك التقدير مساواتهما في كيفية العقاب وكمّيته ، بل اللازم على هذا التقدير مساواة الفاعل مع العازم كما لا يخفى ، مع أنّ فساد اللازم ممّا لا يكاد يخفى على أوائل العقول ، وقد أشعر بذلك مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام في بعض خطبه المنقول في نهج البلاغة أنّ : « الراضي بفعل قوم كالداخل فيه معهم ، وعلى الداخل إثمان : إثم العزم ، وإثم الدخول » (٢) اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ الاحتياط طريق النجاة ، فيحسن الإتيان (٣) بالفعل عند اعتقاد وجوبه ، وتركه في العكس ، إلاّ أنّه لا يغني من جوع ؛ إذ غاية ما في الباب إثبات الاستحباب وليس الكلام فيه.

وقد يستدلّ أيضا على حرمة التجرّي بأنّه على تقديره فاستحقاق الذمّ والعقاب ممّا لا ريب فيه كما يشهد به الوجدان ، واستقرّ بناء العقلاء عليه أيضا وفيه الكفاية.

مضافا إلى ما ورد في جملة من الأخبار الدالّة على حرمة العزم على المعصية ، وفي النبوي منها : « ملعون من همّ بها » (٤) والروايات (٥) الدالّة على العفو عن العزم المحرّم ؛ إذ العفو فرع الاستحقاق ، ففي المقام يثبت الاستحقاق بطريق أولى ، وبعد الثبوت لا دليل

__________________

(١) كلّيات سعدى ، مثنويات : ٨٦٦.

(٢) نهج البلاغة ، قصار الحكم ، رقم ١٥٤ وفيه : وعلى كلّ داخل في باطل إثمان : إثم العمل به وإثم الرضى به.

(٣) « ل » : الاحتياط.

(٤) الوسائل ١٥ : ٣٥١ ، باب ٥٠ ، باب تحريم طلب الرئاسة مع عدم الوثوق بالعدل ، ح ٦ عن الصادق عليه‌السلام.

(٥) انظر الوسائل ١ : ٥١ ، باب ٦ باب استحباب نيّة الخير والعزم عليه ، ح ٦ و ٧ و ٨ و ١٠ و ٢٠.

١٣

على العفو فيه وهو المطلوب.

لا يقال : إنّ المتجرّي لم يصدر منه ما يزيد على العزم ؛ إذ المفروض عدم تحقّق الحرام في فعله ، فأخبار العفو ناهضة في المقام.

لأنّا نقول : إنّ (١) مجرّد عدم تحقّق الحرام لا يكفي في عدم تحقّق فعل منه غير العزم ؛ فإنّه يحتمل ترتّب العقاب على تشبيهه بالعاصي كما هو الوجه أيضا ، ولذلك ترى الشهيد رحمه‌الله في القواعد مع حكمه بالعفو في العزم تنظّر في المقام حيث قال :

فائدة : لا تؤثّر نيّة المعصية ذمّا ولا عقابا ما لم يتلبّس بها ، وهو ممّا ثبت في الأخبار العفو عنه ، ولو نوى المعصية وتلبّس بما يراه معصية ، فظهر بخلافها ، ففي تأثير هذه النيّة نظر من أنّها [ لمّا ] لم تصادف المعصي فيه ، صارت كنيّة مجرّدة وهي غير مؤاخذ بها ، ومن دلالتها على انتهاكه الحرمة والجرأة على المعاصي.

قال : وقد ذكر بعض الأصحاب أنّه لو شرب المباح متشبّها بشارب المسكر ، فعل حراما ، ولعلّه ليس بمجرّد النيّة بل بانضمام فعل الجوارح.

قال : ويتصوّر محلّ النظر في صور :

منها : لو وجد امرأة في منزل غيره فظنّها (٢) أجنبية فأصابها ، فتبيّن أنّها زوجته ، أو أمته.

ومنها : لو وطئ زوجته مظنّة (٣) أنّها حائض ، فبانت طاهرا.

ومنها : لو هجم على طعام بيد غيره ، فأكل منها ، ثمّ تبيّن أنّه ملك الآكل.

ومنها : لو ذبح شاة بظنّها ملك الغير ، فظنّ العدوان ، فظهرت ملكيّته (٤).

ومنها : ما إذا قتل نفسا بظنّها معصومة ، فبانت مهدورة.

ثمّ بعد ذلك أفاد قدس‌سره بأنّه قد قال بعض العامّة : يحكم بفسق متعاطي ذلك ؛ لدلالته

__________________

(١) « ل » : إنّ.

(٢) « ل » : فظنّ أنّها.

(٣) « ش » : فظنّه ، وفي المصدر : لظنّها.

(٤) المصدر : بقصد العدوان ... ملكه.

١٤

على عدم المبالاة بالمعاصي ، ويعاقب في الآخرة ما لم يتب عقابا متوسّطا بين عقاب الكبيرة والصغيرة. وكلاهما تحكّم وتخرّص (١) على الغيب (٢). انتهى كلامه رفع مقامه.

فظهر من جميع ما ذكرنا أنّ القول بالعقاب على المتجرّي لا يخلو من (٣) قوّة ، وكذا القول بترتّب الثواب على المنقاد ، مضافا إلى الأخبار الواردة (٤) في التسامح ؛ فإنّ العمل بما بلغه لو كان ممّا يوجب الثواب وإن لم يكن كما بلغه ، فالمعتقد على وجه لا يحتمل الخلاف لو أتى بما اعتقده ، فهو أولى بأن يثاب ، أو يعاقب.

بقي الكلام في العزم على المعصية والطاعة ، والرضا بالمعصية والطاعة إذا وقعتا (٥) من الغير فنقول :

أمّا الروايات ، فهي ظاهرة في أنّ العزم أيضا معصية ، فمنها ما مرّ آنفا.

ومنها : ما رواه الكليني عن أبي هاشم قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : « إنّما خلّد أهل النار في النار ؛ لأنّ نيّاتهم كانت في الدنيا أن لو خلّدوا فيها أن يعصوا الله أبدا ، وإنّما خلّد أهل

__________________

(١) هذا هو الصواب ، وفي النسخ : تعرّض. قال المامقاني في بشرى الوصول ١٧ / ب : فسّر شيخنا الإمام المرتضى رضي‌الله‌عنه في مجلس البحث قوله : « وكلاهما تحكّم وتخرّص على الغيب » بأنّ الحكم بفسق المتعاطي في الدنيا وكونه معاقبا على الكيفية التي ذكرها تحكّم على ما عرفته من تفسيره بذلك في شرحه. ثمّ أورد عليه بأنّ كون الثاني تحكّما مسلّم لكن لا نسلّم كون الأوّل تحكّما ؛ لأنّه على القول بكون العدالة عبارة عن الملكة ـ كما هو المشهور ، بل ربما يدّعى الاتّفاق عليه وأنّ الخلاف إنّما هو في كشفه عن الظاهر وظهور الإسلام وعدم ظهور الفسق ـ لا يخلو إمّا أن يتجرّى بما لا يوجب الفسق كالصغيرة ، أو يتجرّى بما يوجبه ، فعلى الأوّل وإن كان لا يلزم الفسق ؛ لعدم كون التجرّي أعظم من الأصل ، لكن على الثاني يلزم الفسق قطعا ؛ لكشفه عن انتفاء الملكة الرادعة.

أقول : لا بدّ من تقييده بأن لا يكون في مورد تكون الكبيرة مع الندم غير موجبة للفسق ؛ لندرة وقوعها من الفاعل.

(٢) القواعد والفوائد ١ : ١٠٧ ـ ١٠٨ فائدة ٢١.

(٣) « ل » : عن.

(٤) انظر الوسائل ١ : ٨١ ، باب ١٨ ، باب استحباب الإتيان بكلّ عمل مشروع روي له ثواب عنهم عليهم‌السلام.

(٥) « ل » : وقعا.

١٥

الجنّة في الجنّة ؛ لأنّ نيّاتهم كانت في الدنيا أن لو بقوا أن يطيعوا الله [ أبدا ] ، فبالنيّات خلّد هؤلاء وهؤلاء » (١).

ومنها : ما دلّ على أنّ المرء مجزيّ بعمله إن خيرا فخير ، وإن شرّا فشرّ (٢) ، إلى غير ذلك إلاّ أنّها تنافي ظواهر جملة من الأخبار الدالّة على العفو.

فمنها : ما ورد عن الفضيل (٣) بن عثمان المرادي سمع أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : « [ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أربع من كنّ ] فيه ، لم يهلك على الله عزّ وجلّ (٤) بعدهنّ إلاّ هالك : يهمّ العبد [ بـ ] ـالحسنة فيعملها فإن هو لم يعملها ، كتب الله عزّ وجل له حسنة [ بحسن نيّته ] فإن هو عملها ، كتب الله له عشرا ، ويهمّ [ بـ ] ـالسيّئة [ أن يعملها فـ ] ـإن لم يعملها ، لم يكتب عليه شيء ، وإن هو عملها ، أمهل (٥) سبع ساعات » (٦) الحديث.

ويمكن الجمع بأنّ ما يتعلّق بأصول الدين لا يغتفر فيه نيّة المعصية ، وما يتعلّق بغيرها من الفرعيّات يغتفر. وبوجه آخر هو أنّ القاصد للمعصية لو نواها وكان تركها لأجل أمر خارج عن مقدرته (٧) كالموت ونحوه ، فلا يغتفر ، وإن تركها باختياره ، فيغتفر. ومنه يعلم الحال في قاصد الطاعة.

وأمّا الرضا على فعل المعصية والطاعة ، فهو كما عرفت فيما نقلناه عن نهج البلاغة (٨) ، فحاله حال العاصي والمطيع ؛ ويؤيّده بعض فقرات الزيارات المأثورة عنهم عليهم‌السلام.

__________________

(١) الكافى ٢ : ٨٥ ، باب النيّة ، ح ٥ ؛ عنه في الوسائل ١ : ٥٠ ، باب ٦ ، باب استحباب نيّة الخير والعزم عليه ، ح ٤.

(٢) الوسائل ١ : ٥٧ ، باب ٧ ، باب كراهة نيّة الشرّ ، ح ١.

(٣) « ل » والكافى : الفضل ، وفي رجال الطوسى : الفضل بن عثمان المرادي ويقال : الفضيل.

(٤) « ل » : تعالى.

(٥) في المصدر : أجلّ.

(٦) الوسائل ١٦ : ٦٤ ، باب ٨٥ ، باب وجوب الاستغفار من الذنب والمبادرة به قبل سبع ساعات ، ح ١.

(٧) « ل » : قدرته.

(٨) نقله في ص ١٣.

١٦

الامر الثاني :

قد تقرّر فيما تقدّم أنّ العلم فيما لو كان طريقا إلى الواقع ، فهو حجّة بنفسه لا يحتاج إلى جعل بل هو منجعل بنفسه ، فلا فرق بين أفراد العلم ، ولا المعلوم إلاّ أنّه قد يظهر من جماعة من أصحابنا المنتسبين إلى الأخبار ما يخالف ذلك ، فقد قال أمين الأخبارية في الفوائد المدنية في عداد ما استدلّ به على انحصار الدليل فيما ليس من ضروريات الدين في السماع عن الصادقين عليهم‌السلام :

الدليل التاسع مبني على دقيقة (١) شريفة تفطّنت بها بتوفيق الله وهي أنّ العلوم النظرية قسمان :

قسم ينتهي إلى مادّة هي قريبة من الإحساس ، ومن هذا (٢) علم الهندسة والحساب وأكثر أبواب المنطق ، وهذا القسم لا يقع فيه الاختلاف بين العلماء والخطأ في نتائج الأفكار ، والسبب فيه أنّ الخطأ في الفكر إمّا من جهة الصورة ، أو من جهة المادّة (٣) ،

__________________

(١) « ش » : مقدّمة دقيقة.

(٢) المصدر : هذا القسم.

(٣) في هامش « ش » : قوله : « من جهة المادّة ». أقول : ولعلّ مراده من مادّة البرهان هو الوسط ؛ فإنّه هو المناط في إثبات الأكبر للأصغر على ما قدّمنا ، فإن كان محسوسا أو قريبا منه ، فلا يحتمل الخطأ بخلاف ما إذا لم يكن كذلك ، ولعلّ الوجه في عدم تكفّل المنطق لقاعدة بها تستعلم حال المادّة صحّة وفسادا هو أنّه قد تقدّم منّا أنّ دلالة شيء على شيء لا بدّ وأن تكون بواسطة ملازمة بينهما من علّية فيهما ، أو لاشتراكهما في علّة ثالثة ، فلو حاولنا إثبات محمول لموضوع في واقعة ، فلا بدّ أوّلا من ملاحظة ما يلازم أحد طرفي الحكم من الأكبر والأصغر ، فإن تنبّهنا لما هو لازم للأصغر ويستلزم الأكبر ـ كما هو الغالب في الاستنتاج ـ فهو الشكل الأوّل ، أو العكس فهو الرابع ، أو لما هو لازم لهما ، فهو الثاني ، أو بعكس ذلك ، فهو الثالث ، وعلى تقدير عدمه فيشكل الاستدلال وإن كان القياس استثنائيا أيضا كما لا يخفى ، والعلم بلوازم الأشياء أو ملزوماتها بحسب المصاديق ممّا هو خارج عن مقدرة البشر لاستحالة إيفاد قاعدة بها تستعلم حال المادّة صحّة وفسادا ، وذلك ظاهر لا سترة عليه ، فتدبّر وتبصّر « منه ».

١٧

والخطأ في الصورة (١) لا يقع من العلماء ؛ لأنّ معرفة الصورة من الأمور الواضحة عند الأذهان المستقيمة (٢) ، والخطأ من جهة المادّة لا يتصوّر في هذه العلوم ؛ لقرب مادّة الموادّ فيها إلى الإحساس.

وقسم ينتهي إلى مادّة هي بعيدة عن (٣) الإحساس ، ومن هذا القسم : الحكمة الإلهية ، والطبيعية ، وعلم الكلام ، وعلم أصول الفقه ، والمسائل النظرية الفقهية ، وبعض القواعد المذكورة في كتب المنطق (٤) ، ومن ثمّ وقع الاختلافات والمشاجرات بين الفلاسفة في الحكمة الإلهية والطبيعية ، وبين علماء الإسلام في أصول الفقه والمسائل الفقهية وعلم الكلام وغير ذلك (٥).

والسبب في ذلك أنّ القواعد هي (٦) عاصمة في (٧) الخطأ من جهة الصورة لا من جهة المادّة (٨) ، وليس في المنطق قاعدة بها يعلم أنّ كلّ مادّة (٩) داخلة في [ أيّ ] قسم من الأقسام ، ومن المعلوم امتناع وضع قاعدة تكفل بذلك.

ثمّ إنّه قدّس الله روحه بعد ما استظهر وجوها من التأييد أورد على نفسه بأنّه لا فرق في ذلك بين العقليات والشرعيات ، واستشهد على ذلك بكثرة الاختلافات المشاهدة بين أهل الشرع في الأصوليين وفي الفروع الفقهية.

فأجاب عن ذلك بقوله : إنّما نشأ ذلك من ضمّ مقدّمة باطلة بالمقدّمة النقلية الظنّية

__________________

(١) المصدر : من جهة الصورة.

(٢) بعده في المصدر : ولأنّهم عارفون بالقواعد المنطقية وهي عاصمة عن الخطأ من جهة الصورة.

(٣) « ش » : من.

(٤) بعده في المصدر : كقولهم : « الماهية لا تتركّب من أمرين متساويين » وقولهم : « نقيض المتساويين متساويان ».

(٥) بعده في المصدر : من غير فيصل.

(٦) المصدر : القواعد المنطقية إنّما هي.

(٧) المصدر : عن.

(٨) بعده في المصدر : إذ أقصى ما يستفاد من المنطق في باب موادّ الأقيسة تقسيم الموادّ على وجه كلّي إلى أقسام وليست ...

(٩) المصدر : مادّة مخصوصة.

١٨

أو القطعية ، ومن الموضحات لما ذكرناه ـ من أنّه ليس في المنطق قانون يعصم عن الخطأ في مادّة الفكر ـ أنّ المشّائين ادّعوا البداهة في أنّ تفريق ماء كوز إلى كوزين إعدام لشخص (١) ، وإحداث لشخصين آخرين ، وعلى هذه المقدّمة بنوا إثبات الهيولى ، والإشراقيين ادّعوا البداهة في أنّه ليس إعداما للشخص الأوّل ، وإنّما انعدمت صفة من صفاته وهو الاتّصال.

ثمّ قال : إذا عرفت ما مهّدناه من الدقيقة الشريفة ، فنقول : إن تمسّكنا بكلامهم عليهم‌السلام ، فقد عصمنا من الخطأ ، وإن تمسّكنا بغيره ، لم نعصم منه (٢) إلى غير ذلك ممّا ذكرناه في المقام ، والمستفاد من كلامه رحمه‌الله عدم حجّية إدراكات العقل في غير المحسوسات وما يكون مباديه قريبة من المحسوسات بل وفيما يقطع به على سبيل البداهة إذا لم يكن محسوسا أو قريبا منه (٣) إذا لم يكن ممّا توافقت عليه العقول ، وتسالمت فيه الأنظار ، وقد استحسنه في ذلك جماعة ممّن تأخّر عنه.

فمنهم السيّد الجزائري في أوائل شرح التهذيب بعد نقله (٤) كلام الأمين بطوله قال : تحقيق المقام يقتضي ما ذهب إليه ، ثمّ أورد على نفسه سؤالا بأنّه بعد ما عزلت العقل عن الحكم في الأصول والفروع ، فهل يبقى له حكم في مسألة من المسائل؟

فأجاب عنه بقوله : أمّا البديهيات ، فهي له وحده [ وهو الحاكم فيها ] ، وأمّا النظريات ، فإن وافقه النقل وحكم بحكمه (٥) ، قدّم حكمه على النقل وحده ، وأمّا لو تعارض هو والنقلي ، فلا شكّ عندنا في ترجيح النقل وعدم الالتفات إلى حكم العقل.

ثمّ فرّع على هذا الدليل فروعا كثيرة وقضية كلامه حجّية العقل في البديهيات ،

__________________

(١) المصدر : لشخصه.

(٢) الفوائد المدنية : ٢٥٦ ـ ٢٥٩ ، وفي ط الحجري : ١٢٩ ـ ١٣١.

(٣) « ل » : من الحسّ.

(٤) « ل » : نقل.

(٥) في المصدر : بحكم.

١٩

وعدمها في النظريات إلاّ أن يعاضده حكم النقل ، فيرجّح به على الآخر (١).

ثمّ إنّ مراده من البديهي في المقام غير معلوم فإن أراد به ما يكون كذلك بحسب معتقده ـ وإن لم يكن كذلك عند غيره أو لا يعلم حال الغير فيه ـ فقد صرّح فيما اختاره من التحقيق في كلام الأمين بعدم حجّيته ، وإن أراد به البديهي عند جميع العقلاء ، فهو ـ مع أنّ العلم بتحقّقه متعذّر غالبا إلاّ بطريق الحدس الذي هو أيضا من العلوم الضرورية التي حجّيتها موقوفة على الاتّفاق عليها فيما زعمه ـ مدفوع بأنّه ليس في اتّفاق الكلّ على بداهة شيء مزية اختصاص في الحجّية إلاّ من جهة توافق الأفهام ، والحدس بموافقته للواقع على ما هو طريق الكشف في الإجماع وحصوله في العلوم العقلية ممنوع ، ولو سلّم ، فليس أقوى من سائر العلوم الضرورية ، فهو في عرض غيرها ، فلا يصحّ جعلها معيارا في حجّية غيرها كما لا يخفى.

وقد تبعه في ذلك المحقّق البحراني في الحدائق حيث حكى عنه كلاما أورده في الأنوار النعمانية يشبه كلامه المتقدّم ، فاستحسنه إلاّ أنّه يظهر منه تفصيل آخر فيما صرّح بحجّية العقل الفطري الصحيح ، وقال بالقضية المشهورة في المقامين.

ثمّ نصّ على أنّه لا مدخل للعقل في شيء من الأحكام الفقهية من عبادات وغيرها وقال : لا سبيل إليها إلاّ السماع عنهم لقصور العقل المذكور عن الاطّلاع عليها.

ثمّ قال : نعم ، يبقى الكلام بالنسبة إلى ما يتوقّف على التوقيف ، فأفاد في ذلك بأنّه إن كان الدليل العقلي المتعلّق بذلك بديهيا ظاهر البداهة كقولهم : الواحد نصف الاثنين ، فلا ريب في صحّة العمل به ، [ وإلاّ فإن لم يعارضه دليل عقلي ولا نقلي فكذلك ] ، وإن عارضه دليل عقلي آخر ، فإن تأيّد أحدهما بنقلي ، كان الترجيح للمؤيّد بالدليل العقلي ، وإلاّ فلا إشكال ، وإن عارضه دليل نقلي فإن تأيّد ذلك العقلي ، أيضا بنقلي ، كان

__________________

(١) غاية المرام في شرح تهذيب الأحكام ( مخطوط بخطّ المؤلّف ) ٦١ وما بين المعقوفين منه ، وعنه في هداية المسترشدين ٤٤٣.

٢٠