مطارح الأنظار

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني

مطارح الأنظار

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني


المحقق: علي الفاضلي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: معهد الإمام الخميني والثورة الإسلامية
المطبعة: مؤسسة العروج
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7986-36-6
الصفحات: ٦١٥

ترجيح جانب الحرمة؟ قد يقال بالثاني لوجوه :

أحدها : الاستقراء وبيان ذلك أنّا تتبّعنا الموارد التي اجتمع فيها الوجوب والحرمة كالعبادة للحائض في أيّام استظهاره وعبادة المبتدأة والإناء المشتبه فوجدنا الشارع قد حكم فيها بغلبة جانب الحرمة على الوجوب ، وهذا يوجب العلم ولا أقلّ من الظنّ بأنّ مبنى الشرعيات على غلبة (١) جهة الحرمة على جهة الوجوب واعلم أنّه يمكن الفرق بين الغلبة المدّعى بها في كلامهم والاستقراء بأنّ الغلبة لا بدّ في تحقّقها من أن يكون هناك فرد نادر بخلاف الأفراد الغالبة ، ولا يجب ذلك في الاستقراء إذ قد لا يكون هناك (٢) فرد نادر ؛ بل قد يقال بوجوب عدمه كما لا يخفى.

وثانيها : قاعدة الاشتغال ، وبيانها أنّ الأمر في المقام دائر بين التعيين والتخيير بين الحرام والواجب ، فلو أخذنا بالتعيين ـ وهو الحكم بالحرمة فقط ـ قطعنا بالامتثال بخلاف ما لو أخذنا (٣) بالتخيير إذ يحتمل أن يكون المطلوب هو التعيين فهو القدر المتيقّن ، ولا بدّ من الأخذ به ليرتفع العلم بالاشتغال.

وثالثها : أنّ مبنى الأمر والوجوب على إحراز المصلحة وجلب المنفعة ووجه النهي والحرمة على نفي المفسدة ودفع المضرّة ، والعقل بصرافته لو دار الأمر بين جلب المنفعة ودفع المضرّة ربّما يحكم بأولويّة الثاني من الأوّل.

لا يقال : قد يكون المنفعة كثيرة والمضرّة قليلة ، فكيف ينافي الحكم بالأولوية (٤) على إطلاقها.

لأنّا نقول : لو علمنا بذلك صحّ ما ذكر ، وإلاّ فاحتمال الكثرة في كلّ منهما سواء ، والكلام في أولوية دفع المضرّة من جلب المنفعة لو جرّدا عن جميع ما يمكن احتفافهما به.

__________________

(١) « س » : ظنّية!

(٢) « س » : ـ هناك.

(٣) « م » : أخذ.

(٤) سقط قوله : « من الأوّل لا يقال ... » إلى هنا من « ج ».

٤٠١

فإن قلت : في كلّ من الأمر والنهي كلّ من الأمرين متحقّق وجودا وعدما.

قلنا : نعم ، ولكن مبنى الأمر على ما قلنا عند العقلاء على إحراز المصلحة والنهي بخلافه ، فلا يضرّ في ذلك وجود الوجوب التبعي في النهي ، والحرمة التبعية في الأمر إذ الحكم التبعي فيهما مبنيّ على عدم المصلحة والمفسدة كما لا يخفى.

ورابعها : قوله : « كلّما اجتمع الحلال والحرام غلب الحرام الحلال » (١).

ولكن في الكلّ نظر :

أمّا في (٢) الأوّل ، فبمنع الاستقراء ، كيف ونحن لم نجد مثالا لما نحن بصدده ولو واحدا ، والعجب أنّه لم يكتف بدعوى الاستقراء عن الغلبة مع (٣) أنّ الأمر في الاستقراء على ما نبّهنا عليه أصعب كما لا يخفى.

وأمّا الأمثلة المذكورة فممّا لا مساس لها بالمقام أصلا.

أمّا الأوّل منها ، فلأنّ الحكم فيها في أيّام الاستظهار إنّما هو بواسطة أمر اجتهادي وهو حكم المعصوم بحرمة الصلاة مثلا ، ويكفي في المقام عدم العلم بالوجه في حكم المعصوم ، فلعلّه لم يكن من حيث إنّه مجهول الحكم ، ومنه يعلم الحال في الثاني أيضا لأنّ الحكم بالحرمة من جهة القاعدة المقرّرة عندهم من أنّه « كلّ ما يمكن أن يكون حيضا فهو حيض » وهذا في الحقيقة راجع إلى بيان الموضوع ، وإلاّ فكيف يعقل طرح الاستصحابات الكثيرة فيه من استصحاب وجوب الصلاة وجواز قراءة العزائم ونحوها كما لا يخفى.

والثالث أيضا فإنّ الحكم بإهراق الإناءين من جهة النصّ فلعلّه لا يناط بالجهل.

وأمّا في (٤) الثاني ، فلأنّ قاعدة الاشتغال لا تجري (٥) في المسائل العقلية إذ الحاكم

__________________

(١) بحار الأنوار ٢ : ٢٧٢ ، باب ٣٣ ، ح ٦ ؛ مستدرك الوسائل ١٣ : ٦٨ ، باب ٤ من أبواب ما يكتسب به ، ح ٥. وسيأتي قريبه في ص ٤٦٣ وقد بسطنا الكلام في مصادره.

(٢) « ج ، س » : ـ في.

(٣) « س » : « من » بدل : « مع ».

(٤) « س » : ـ في.

(٥) « ج ، س » : لا يجري.

٤٠٢

فيها العقل وهو موجود في زمان الشكّ أيضا ، فلا بدّ من التحلية في تحصيل حكم العقل لو اشتبهت حكمه بواسطة ممازجته بالحجب الوهمانية ، واختلاطه بالأوهام النفسانية فإن حكم بالتعيين ، فهو المتّبع أو بالتخيير فكذلك ، وأمّا الشكّ فلا يتصوّر في أمثال المقام إذ كيف يعقل كون العقل حاكما مع الجهل بموضوع حكمه.

نعم ، يصحّ ذلك فيما لو قلنا بأنّ العقل كاشف عن الحكم الشرعي ، وحيث إنّ الحاكم هو الشرع فيمكن حصول الجهل بموضوع حكمه ، فيحكم العقل بالتعيين فيما لو دار الأمر بينه وبين التخيير وذلك ظاهر ، وسيجيء تفصيله في غير المقام على وجه يندفع به الشكوك والأوهام.

وأمّا في الثالث ، فلأنّ الحكم بالأولوية ممّا لا يجدي في التعيين إذ غاية الأمر هو الحكم بالاستحباب وهو لا ينافي التخيير ، اللهمّ إلاّ أن يدّعى بأنّ العقل لو جرّد النظر عن جميع الخصوصيات المختصّة بالمقام ، يحكم بالوجوب ، وليس ببعيد.

وأمّا في الرابع ، فلأنّ الظاهر منه هو اجتماع الحلال والحرام في شيء واحد على نحو الممازجة ، وكيف ما كان ، فلا يبعد دعوى التعيين في المقام نظرا إلى حكم العقل في الدليل الثالث كما لا يخفى.

المقام الثالث

[ في كون التخيير بدويا أو استمراريا ]

في أنّ بعد القول بالتخيير ، فهل هو بدوي ، أو استمراري؟ قد يقال بالأوّل لوجوه :

أحدها (١) : قاعدة الاشتغال ، وبيانها أنّ الأمر دائر بين التخيير والتعيين وقد أطبق الكلّ على اختيار التعيين دون التخيير.

وثانيها : استصحاب بقاء الحكم في المسألة الفرعية.

__________________

(١) « س » : الأوّل.

٤٠٣

وثالثها : لزوم محذور عدم الالتزام بشيء من الحكمين على تقديره ، بيان ذلك أنّا قلنا بوجوب الالتزام بالأحكام الشرعية حذرا من المخالفة القطعية وترك الاعتناء بأوامر الشارع وعدم المبالاة بأحكامه ، وهذا هو بعينه موجود في التخيير الاستمراري ، غاية الأمر (١) استناد عمله في كلّ وقت إلى قصده الالتزام بأحد الحكمين على حسب اختلاف دواعيه النفسانية وذلك يقرب من الهرج والمرج بل وهذا مفوّت للّطف الباعث على التكليف.

وفي الكلّ نظر : أمّا في الأوّل ، فلما عرفت آنفا (٢) من عدم جواز الاتّكال بالاشتغال في الأحكام العقلية إذ العقل بعد موجود ، ولا بدّ من الرجوع إلى كيفية حكمه من أوّل الأمر ، ولو سلّم فاستصحاب التخيير في المسألة الأصولية دليل اجتهادي بالنسبة إلى قاعدة الاشتغال وإن كنّا لا نعوّل عليه أيضا من الجهة المذكورة.

وأمّا في الثاني فلهذين الوجهين بعينهما.

وأمّا في الثالث ، فلأنّ للمكلّف أن يدخل نفسه في عناوين مختلفة على وجه يختلف الأحكام بحسب اختلافها كما أنّا تارة نقيم (٣) في بلد ، ونسافر أخرى ، فربّما يختلف العنوان باختلاف يسير ، فالمكلّف في الحقيقة إنّما يوجد أسباب التكليف ولا غائلة فيه ، ويكفي في المبالاة بالأحكام (٤) الشرعية استناد العمل بعد الاختيار إلى الحكم الشرعي ، وهذا هو عين المبالاة والاعتناء واللطف كما لا يخفى.

والتحقيق أنّ مدرك التخيير لو كان دليلا شرعيا كأخبار التخيير في الأخبار المتعارضة ، فلا يبعد القول بالتخيير الاستمراري نظرا إلى استصحاب التخيير ، ووروده على استصحاب الأحكام (٥) الشرعية في المسائل الفرعية إلاّ أنّ المحقّق في مقامه عدم جواز التعويل على مثل هذا الاستصحاب لأنّ شرط جواز التعويل عليه

__________________

(١) « س » : ـ الأمر.

(٢) « س » : « أوّلا » عرفت في الصفحة السابقة.

(٣) « م » : نقيم تارة.

(٤) « ج » : في الأحكام.

(٥) « م » : أحكام!

٤٠٤

إحراز موضوعه علما وهو في المقام غير محرز ؛ لاحتمال أن يكون لوصف التخيير مدخلية فيه ، وبعد الأخذ يرتفع الوصف فيرتفع الموضوع ، فعلى ما ذكرنا قاعدة الاشتغال محكّمة لجريانها في الأحكام الشرعية وعدم ما يعارضها من الاستصحاب ، فلا بدّ من الحكم بالتخيير البدوي كما بيّنّا على مثل ذلك في بعض مسائل الاجتهاد والتقليد ولو كان الدليل عقليا.

فإن قلنا بأنّ الفرار من المخالفة القطعية هو المنشأ في الحكم بالتخيير ، فالتخيير بدوي لحصولها ولو تدريجا في التخيير الاستمراري ، ولو (١) قلنا بأنّ الوجه في الالتزام بالتخيير هو لزوم الالتزام بالأحكام الشرعية وتقييده بها ، فهذا لا ينافي التخيير الاستمراري إذ في كلّ من الحالتين يلتزم المكلّف بالأحكام الشرعية ولا منافاة واللطف حاصل.

وإن قلنا بأنّ الوجه هو عدم المبالاة بالشرع ولزوم المخالفة القطعية أيضا على وجه يعدّ في العادة مخالفة ، فمقتضاه التفصيل بين ما إذا حصل المخالفة عن علم كما إذا كان بانيا على الاستمرار في التخيير في أوّل الأمر فإنّه يعلم بترتّب (٢) المخالفة على العمل ابتداء فإنّه يعدّ من المخالفة فيحكم بعدم الاستمرار وبين غيره كما إذا كان في أوّل الأمر بانيا على الأخذ به دائما ، ثمّ بدا له اختيار الآخر لغرض آخر فإنّه يمكن القول بأنّه لا يعدّ في العادة من المخالفة كالمقيم في بلد الإقامة بعد ما سنحت له سانحة تقضي بمسافرته بعد الإقامة.

__________________

(١) « م » : وإن.

(٢) « م » : ترتّب.

٤٠٥

المقام الرابع

[ في كون التخيير أصوليا أو فقهيا ]

في أنّ المجتهد بعد القول بالتخيير ـ سواء كان بدويا أو استمراريا ـ فهل يفتي بالمختار مطلقا ، أو بالتخيير كذلك ، أو يفصّل بين ما إذا قال بالتخيير البدوي فبالمختار ، أو بالاستمراري فبالتخيير؟ وجوه :

ربّما يقال بالأوّل ؛ لأنّ الحكم المعلوم إجمالا (١) لا يصير حكما شرعيا إلاّ بعد الأخذ والاختيار ، فالمختار هو حكم الله لجميع الناس في نظره فباختياره يصير حكما شرعيا لا مطلقا ، فلو أفتى بالتخيير ـ والفرض أنّه لا يصير حكما شرعيا إلاّ بعد الاختيار ـ فقد أفتى بغير ما أنزل كما في الأخبار المتعارضة فإنّ الحكم المدلول عليه بإحدى الروايتين لا يكون حكما شرعيا إلاّ بعد تعيين المجتهد إحداهما للعمل.

وبالجملة ، فكما أنّ المجتهد لا بدّ له من تعيين الحكم فيما لو كان واجبا عينيا ، وما لم يعيّنه المجتهد لا يصير من الأحكام الشرعية ، فكذلك فيما لو كان واجبا تخييرا فإنّ تعيين أحد (٢) فردي الواجب التخييري بمنزلة تعيين الواجب العيني.

وقد يقال بالثاني ؛ لأنّ المجتهد إنّما ينوب عن المقلّد في تعيين الأحكام الشرعية التي لا يناط إلى أفعال اختيارية راجعة إلى الدواعي (٣) النفسانية ، فهو إنّما واسطة له في فهم الأحكام من حيث عدم قدرته له وعدم إمكان تحصيل العلم بها إلاّ من جهة المجتهد ، وإلاّ فالحكم الواقعي بالنسبة إلى المقلّد والمجتهد سواء ، فكيف يعقل مدخلية اختيار المجتهد ـ الراجع إلى دواعيه (٤) النفسانية ـ في تكليف (٥) المقلّد مع أنّه لو قلنا بذلك ، لزم وجوب إفطار المقلّد فيما لو سافر المجتهد ، فلو كان الحكم الواقعي هو التخيير ، فلا فرق

__________________

(١) « ج ، م » : ـ إجمالا.

(٢) « ج » : واحد.

(٣) « م » : دواعي. « س » : الدعاوي.

(٤) « س » : دعاويه.

(٥) « ج » : بتكليف.

٤٠٦

في ذلك بين آحاد المكلّفين ، ولم يقم (١) دليل على مدخلية اختيار المجتهد بعد عدم تأثيره في الحكم الشرعي الواقعي الذي هو التخيير في تكليف المقلّد ، فليس له الفتوى بالمختار لعدم كونه من الأحكام الشرعية ، ولا أقلّ من الشكّ ، والأصل عدمه.

فإن قلت : إنّ التخيير أيضا كذلك.

قلت : قد عرفت أنّ التخيير في الواقعة هو الحكم الواقعي الإلهي ، فلا مناص من الالتزام به دون المختار.

والتحقيق : أنّ دليل التخيير إن كان شرعيا لفظيا كما في الأخبار المتعارضة ، فلا بدّ من الفتوى بالمختار فإنّ الاختيار فيها من جملة ما يتمّ به الحكم الشرعي فإنّ مفاد التخيير هناك هو التخيير بين العمل بالدليلين المتعارضين ، ووجوب الأخذ بأحدهما إنّما هو مثل الأخذ بالخبر الغير (٢) المعارض بمثله ، ولا فرق بينهما إلاّ أنّ الوجوب في الأوّل تخييري ، وفي الثاني عيني ، فبالحقيقة الحكم الشرعي هو مدلول أحد الدليلين ، والتخيير ليس فيه بل في نفس الدليلين وإن كان دليل التخيير عقليا كالفرار عن المخالفة القطعية والالتزام بأوامره تعالى كما فيما نحن فيه ، فالأقرب هو الفتوى بالتخيير لأنّ التخيير العقلي إنّما هو بين (٣) نفس الحكمين كما في التخيير بين خصال الكفّارة فإنّ التخيير فيها بين الأحكام وإن كان بينها وبين ما نحن بصدده فرق من جهة أخرى.

وممّا مرّ (٤) ذكره يظهر وجه التفصيل بين الاستمراري والبدوي فكأنّه في البدوي اختيار المجتهد للحكم من متمّمات نفس الحكم ، بخلافه في الاستمراري ، وللنظر فيه مجال واسع.

__________________

(١) « م » : لم يقل!

(٢) « س » : ـ الغير.

(٣) « س » : ـ بين.

(٤) « س » : ـ مرّ.

٤٠٧

وينبغي التنبيه على أمور :

الأوّل :

لا يكاد يخفى على من تبصّر فيما أوردنا له في الأصول المتقدّمة أن لا نزاع بين الأخباري والأصولي إلاّ في الشبهة التحريمية (١) فيما دار الأمر بين الحرمة وغير الوجوب. وأمّا في الشبهة الوجوبية ، فالكلّ مطبقون على البراءة إلاّ ما قد (٢) يظهر عن أمينهم (٣).

والتحقيق ـ على ما يظهر بالتتبع في كلماتهم مثل ما ذكره الشيخ الأجلّ رئيس جهابذة الأخبارية الشيخ الحرّ العاملي في كتاب القضاء (٤) والسيّد صدر الدين في شرحه على الوافية ـ أنّه خانهم في ذلك حيث تفرّد فيه عنهم أيضا ، وأمّا فيما دار الأمر بين المتباينين ، فالأخباريون أيضا لا يقولون بوجوب الاحتياط ، فهم والمجتهدون سواء في ذلك ، وعلى هذا فما أورد بعضهم على الأخباريين بلزوم العسر والحرج لو وجب الاحتياط تارة ، وبعدم إمكان الاحتياط فيما لو دار الأمر بين المتباينين أخرى ، فكأنّه غفلة منه عن كلامهم (٥) لما عرفت من أنّ الشبهات الوجوبية ممّا لا يلتزم فيها بالاحتياط فيها ، والشبهات التحريمية في غاية القلّة حيث إنّ الكلام بعد الفحص والفراغ عن إثبات حجّية الأمارات على حسب اختلاف المشارب في تعيين الحجّة ، وعلى تقديره فالتروك لا مشقّة فيها (٦) في وجه ، وعدم إمكان الاحتياط في المتباينين بعد عدم القول به فيهما لا يؤثّر فيما يمكن الاحتياط فيه كما لا يخفى.

__________________

(١) « م » : + بمعنى ، « س » : + فمعنى!

(٢) « س » : ـ قد.

(٣) الفوائد المدنية : ٢٧٧ ـ ٢٨٠ و ٣٣٢ ـ ٣٣٥ وفي ط الحجري : ١٣٨ ـ ١٣٩ و ١٦٢ ـ ١٦٣.

(٤) الوسائل ٢٧ : ١٦٣ ـ ١٦٤ ، باب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، ذيل ح ٣٣ وعنه في مفاتيح الأصول : ٥١٠.

(٥) « ج » : مرادهم.

(٦) « م » : لها ، وخ ل بهامشها : فيها.

٤٠٨

الثاني :

أنّ الكلام في دوران الأمر بين الواجب والمحرّم في المقام (١) إنّما هو فيما إذا كان الشكّ فيهما مسبّبا عن أمر ثالث خارج منهما كما إذا ورد هناك أمر فلم نعلم أنّه للوجوب أو للتحريم من جهة التهديد ، وأمّا إذا كان الشكّ في أحدهما مسبّبا عن الآخر ، فمرجعه في الحقيقة إلى أحد الأصلين السابقين إذ بعد ارتفاع الوجوب الناشئ منه الشكّ في الحرمة بالأصل يرتفع الشكّ في الحرمة لارتفاع المسبّب بارتفاع السبب ، وكذا بعد ارتفاع الحرمة بأصالة البراءة يرتفع احتمال الوجوب المنبعث عن احتمال الحرمة لعين ما مرّ من قضية العلّية والسّببية ، مثلا لو شكّ في وجوب الصلاة من جهة الشكّ في حرمة ترك إزالة النجاسة عن المسجد ، فبعد القول بجواز ترك الإزالة نظرا إلى أصالة البراءة فيها عن الحرمة ، فلا مجال للشكّ في وجوب الصلاة لعدم المانع ، وأيضا لو قلنا بحرمة الارتماس في نهار رمضان من غير أن يكون مفطرا ، ففي ضيق الوقت وعدم إمكان غير الارتماس نشكّ في وجوب الصلاة من جهة الشكّ في حرمة الارتماس في هذا الوقت ، فلو عملنا بأصالة البراءة فيها ، فاللازم الحكم بوجوب الصلاة من غير تزلزل فيه لارتفاع الشكّ بارتفاع سببه كما لا يخفى ، والمقصود من إيراد المثالين التنبيه على نفس الحكم ، وإلاّ فالحكم (٢) فيهما بعد محلّ نظر.

الثالث :

أنّه يستفاد من تضاعيف كلماتنا في الأصل (٣) المقدّم ، وهذا الأصل حكم ما إذا دار الأمر بين الحرام والاستحباب ، أو الكراهة ، أو الإباحة ، أو اثنين منها على اختلاف صورها ، أو الثلاثة وما إذا دار الأمر بين غير الواجب وغير الحرام كالإباحة والاستحباب ، وكالاستحباب والكراهة على اختلاف الأقسام المتصوّرة فيه ، فلا حاجة إلى تطويل المقام بانعطاف عنان الكلام إليه ، فعليك باستخراج أحكامها.

__________________

(١) « م » : ـ في المقام.

(٢) « ج ، س » : في الحكم.

(٣) « ج » : هذا الأصل!

٤٠٩
٤١٠

أصل

[ في الشبهة الموضوعية الوجوبية والتحريمية ]

قد عرفت تفصيل القول في الشبهة الحكمية التكليفية وجوبية وتحريمية وغيرهما فيما دار الأمر بينهما ، وأمّا الشبهة الموضوعية التكليفية ، فالكلام فيها يقع في مقامات أيضا :

أحدها : ما احتمل الوجوب دون الحرمة.

وثانيها : ما احتمل الحرمة دون الوجوب.

وثالثها : ما دار الأمر بين الواجب (١) والحرام. ولنذكر الأوليين (٢) في هذا الأصل ، ثمّ نتبعه بأصل آخر في بيان الثالث لعدم اختلاف الأوليين في الأحكام بخلافه في الشبهة الحكمية كما لا يخفى.

فنقول : لا بدّ أن يعلم أنّ الكلام في المقام ليس في جريان البراءة في كلّ موضوع فإنّ جملة منها لا يمكن جريان البراءة فيها لجريان أصل موضوعي فيها كالزوجية مثلا فإنّا لو شككنا في أنّ المرأة الفلانية هل هي معقودة أو لا؟ فلا يجوز (٣) الاستناد إلى البراءة في حرمة وطيها التي تستند إلى الشكّ في كونها أجنبية أو لا؟ فإنّ أصالة عدم الزوجية محكّمة (٤) في المقام ، وكالتذكية فإنّ اللحم المطروح من غير سبق يد المسلم

__________________

(١) « ج » : الوجوب.

(٢) « ج ، س » : الأوّلين. وكذا في المورد الآتي.

(٣) « س » : فيجوز؟

(٤) « ج ، س » : ممكنة.

٤١١

عليه محكوم بالحرمة والنجاسة لأصالة عدم التذكية ، وكالملكية فإنّ المستفاد من حصر الشارع أسباب الملك في أشياء مخصوصة كالبيع والصلح والهبة وغيرها من الأسباب الشرعية عدم جواز التصرّف في شيء إلاّ بعد إحراز عنوان (١) الملك ، ففي مقام الشكّ لا وجه للاستناد إلى أصالة البراءة في دفع الحرمة لأصالة عدم الملكية ويترتّب عليها الحرمة وعدم جواز التصرّف فيه.

ثمّ اعلم : أنّ الكلام في المقام إنّما هو في حكم ما اشتبه موضوع الحكم الشرعي وهو من الأحكام الشرعية التي لا بدّ من استعلامها من الأدلّة الشرعية كما هو الشأن في جميع الأحكام على ما هو ظاهر لا سترة عليه ، وإذ قد عرفت هذا ، فاعلم أنّ الأدلّة المذكورة فيما تقدّم بعينها ناهضة على عدم التكليف عند الشكّ فيه بواسطة الشكّ في موضوع الحكم والتكليف.

أمّا الآيات ، فظاهرة فإنّ قوله تعالى : ( لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها )(٢) على ما فسّره بعضهم بـ « إلاّ ما أعلمها وأقدرها » تعمّ (٣) الجميع حكما وموضوعا.

وأمّا السنّة ، فقوله (٤) عليه‌السلام : « كلّ شيء يكون فيه حلال وحرام » (٥) إمّا أن يكون مختصّا بالشبهة في موضوع الحكم ، أو يعمّه والحكم ، وكذا قوله : « كلّ شيء مطلق » (٦) بعمومه يشمل (٧) المقام.

وأمّا الإجماع ، فالأخباري أيضا يقول بالبراءة فيه كما هو أحد محاملهم لأخبار البراءة ، ونقله ربّما يعدّ مستفيضا كما لا يخفى.

وأمّا العقل ، فتقريره جار (٨) في المقام أيضا : أمّا لزوم التكليف بما لا يطاق ، فلأنّ عند الشكّ في التكليف بواسطة الشكّ في الموضوع الخاصّ وعدم العلم بالأمر لو كان

__________________

(١) « س » : ـ عنوان.

(٢) الطلاق : ٧.

(٣) « م » : يعمّ.

(٤) « ج ، م » : كقوله.

(٥) تقدّم في ص ٣٥٩ وسيأتي في ص ٥٨٩.

(٦) تقدّم في ص ١٥٩.

(٧) « م » : يشتمل.

(٨) « م » : فبتقريره جاز.

٤١٢

مكلّفا بالفعل على أنّه مأمور لزم التكليف بالمحال فإنّ حال عدم العلم بالأمر يمتنع إتيان الفعل لداعي الأمر وهو ظاهر ، وقد مرّ تفصيل ذلك في الشبهة الوجوبية الحكمية بما فيه من الأسئلة (١) والأجوبة ، وأمّا لزوم التكليف بلا بيان ، فلأنّ المفروض عدم العلم بالتكليف ولو بواسطة الشكّ في الموضوع ، ومع عدم العلم لو قيل بالتكليف والعقاب على الترك والفعل لزم التكليف من غير بيان والعقاب بلا برهان ، وذلك أيضا أمر (٢) واضح يحكم به كلّ من يجد من (٣) نفسه رائحة من المعنى ، فإنّ الرقيب العتيد (٤) الذي يحاسبنا في حركاتنا الجزئية وسكناتنا الشخصية كيف يتأتّى منه التعذيب على الأمر المجهول مع ظهور حجّة العبد عليه.

فإن قلت : فرق ظاهر بين ما نحن بصدده وما مرّ من الشبهة الحكمية لعدم معلومية الحكم والتكليف فيها رأسا بخلاف المقام فإنّ التكليف بالاجتناب عن الخمر أو إكرام العالم مثلا معلوم ، والشكّ في اندراج الفرد لا يجدي في رفع الحكم المعلوم لأنّ المأمور بالاجتناب عنه وإكرامه هو الخمر الواقعي والعالم النفس الأمري ، والتكليف بالعنوان الواقعي يقضي بالاجتناب عن الخمر المشكوك وإكرام العالم المجهول.

قلت : إن أريد من (٥) لزوم الاجتناب عن الخمر المشكوك وجوبه بواسطة الخطاب (٦) العامّ الحاكم باجتناب الخمر ، فذلك ظاهر البطلان بل لا يكاد يلتزم به العاقل لما عرفت من [ أنّ ] التكليف ولو كان خاصّا في خصوص فعل جزئي يحتاج إلى العلم ، والعلم بالعنوان لا يجدي في الموضوعات الخاصّة بعد كون المقصود حقيقة من الأمر بالكلّي إيجاد الأفراد (٧) كما لا يخفى ، ولو كان الاستناد إلى العنوان المعلوم كافيا في التكليف بالأفراد المشكوكة ، لصحّ الاستناد إليه فيها أيضا لو كان حكم العنوانين

__________________

(١) « س » : الأدلّة.

(٢) « ج » : ـ أمر.

(٣) « م » : في.

(٤) « س » : الرقيب والعتيد.

(٥) « س » : ـ من.

(٦) « م » : خطاب.

(٧) « ج » : الفرد.

٤١٣

مختلفا ، مثلا لو قلنا بحرمة إكرام الجاهل ووجوب إكرام العالم وشكّ في زيد هل هو عالم أو جاهل ، فلو صحّ دعوى وجوب إكرامه نظرا إلى وجوب إكرام العالم الواقعي واحتمال أن يكون زيد منه ، لصحّ (١) دعوى حرمة إكرامه نظرا إلى حرمة إكرام الجاهل الواقعي فإنّ لكلّ مطلوب دليلا يستفاد ذلك المطلوب منه ، وهو لا مناص من تركه من مقدّمتين إحداهما يحكم فيها بثبوت (٢) الملزوم ، والأخرى بالملازمة ، ففي وجوب إكرام زيد المشكوك كونه عالما لو صحّ الاستناد إلى وجوب إكرام مطلق العالم المعلوم بالخطاب العامّ ، لزم إثبات المطلوب بمقدّمة تكفل (٣) لبيان الملازمة فقط وهي المسمّاة بالكبرى عندهم.

وإن شئت زيادة توضيح في (٤) ذلك ، فانظر إلى قولك : « زيد قائم » مثلا بعد إحراز ما يستفاد منه ثبوت القيام لزيد كيف يدور العلم بالقيام له والظنّ والشكّ فيه أيضا مدار العلم بزيد والظنّ به والشكّ فيه ، فكما أنّ ثبوت شيء لشيء فرع ثبوت ذلك الشيء ، فالعلم بثبوت شيء لشيء فرع العلم بذلك الشيء ، وهذا ظاهر معلوم لكلّ من راجع وجدانه بل وهو من أجلى الضروريات ، ولهذا تراهم (٥) يرسلون اشتراط مطلق التكليف بمطلق العلم إرسال المسلّمات على ما لا يخفى.

وإن أريد (٦) أنّ في موضوع الاحتمال دليل (٧) آخر غير ما دلّ على وجوب إكرام العالم ولزوم الاجتناب من (٨) الخمر من حيث وجود العلم الإجمالي بوجود الخمر الحقيقي الواقعي في سلسلة المشكوكات ، فهذا خارج عن مفروض الكلام في المقام حيث إنّ الكلام إنّما هو في الشكّ الابتدائي من غير سبق علم إجمالي بوجود الواجب والحرام في

__________________

(١) « ج » : يصحّ.

(٢) في النسخ : ثبوت.

(٣) « س » : يكفل.

(٤) « س » : ـ في.

(٥) « س » : ترى.

(٦) عطف على « إن أريد » بعد قوله : « قلت ».

(٧) كذا. والصواب : دليلا.

(٨) « ج » : عن.

٤١٤

المشكوكات كما في الشبهة المحصورة ، فإنّ للكلام فيها مقاما آخر ستعرفه (١) فيما سيجيء.

وبالجملة ، فالمكلّف تارة يعلم تفصيلا بالموضوع والحكم ، وظاهر لزوم الامتثال حينئذ (٢) ، وتارة يعلم بوجود الموضوع في جملة مشتبهة فله حكمه على ما سيجيء ، وأخرى يشكّ في الموضوع فيشكّ في نفس التكليف بالنسبة إليه بالخصوص ، ولا فرق بين الشكّ في التكليف الكلّي والجزئي بعد اتّحاد (٣) المناط ولا سيّما بعد ما عرفت من أنّ المقصود حقيقة منه إتيان (٤) الجزئيات كما لا يخفى ، وانضمام الأفراد المعلومة بالتفصيل إلى الأفراد (٥) المشكوكة لا يؤثّر في جريان البراءة فيها ؛ للعلم بعدم مدخلية المعلوم في المجهول ، فالإتيان بالمشكوكات لو كان من جهة كونها مقدّمة للأفراد المعلومة بالتفصيل ، فلا يعقل له معنى ولو كان بواسطة الأفراد المعلومة بالإجمال ، فالمفروض خلاف ذلك ، ولو كان بواسطة تحصيل العلم بالأفراد الواقعية ، فالشكّ إنّما هو في كونها فردا واقعيا ولا بدّ في تعلّق التكليف بشيء من العلم به وبمتعلّقه (٦) وبجميع ما له دخل فيه ، وإلاّ فالشكّ يرجع إلى نفس التكليف والبراءة محكّمة فيه.

نعم ، في المقام شيء آخر وهو القول بلزوم الاحتياط والإتيان بالمشكوكات نظرا إلى لزوم دفع الضرر المحتمل وليس المراد به الضرر الأخروي من العقاب المترتّب على ترك المأمور به وفعل المنهيّ عنه (٧) كي يقال بأنّ قبح التكليف بلا بيان يؤمننا الضرر ، ولا ما يترتّب على ترك الاحتياط حتّى يقال بعدم وجوبه بعد عدم جواز العقاب على نفس التكاليف الواقعية كما مرّ تحقيقه في الشبهة الوجوبية ، بل المراد به الضرر الدنيوي من الآلام المحتملة عند ترك ما يحتمل الوجوب كاحتمال الرمد عند

__________________

(١) « ج ، م » : ستعرف.

(٢) « س » : ـ حينئذ.

(٣) « س » : إيجاد.

(٤) « س » : حقيقة من إثبات!

(٥) « م » : أفراد.

(٦) « س » : بمتعلّقة؟

(٧) « س » : « النهي » بدل : « المنهي عنه » ، « م » : « الفعل المنهي » بدل : « المنهي ».

٤١٥

ترك قراءة الدعاء عند الاستهلال مثلا ، أو الأخروي فيما لا يرجع إلى العقاب على التكاليف الواقعية وإن كان بواسطة مخالفة حكم العقل ، وهذا هو الذي نبّهنا عليه في الشبهة الوجوبية ووعدنا توضيحه لك في هذا المقام (١).

فاعلم : أنّ جملة من الأعاظم قد تصدّوا لدفع الإشكال إلاّ أنّهم بعد لم يأتوا بشيء يشفي العليل ، ويروي الغليل ، فمن ذلك ما أفاده بعضهم من منع حكم العقل بدفع الضرر ولو احتمالا مرجوحا أو مساويا ، غاية الأمر لزوم دفع المظنون منه ، وزاد بعضهم على ذلك ، فمنع من وجوب دفعه شرعا أيضا نظرا إلى منع الملازمة بينهما بل إنّما هو حكم عقلي صرف لا يمازجه شوب الشرع ، فلا يثبت به الحكم الشرعي ووجوب الاحتياط.

وحكي عن المحقّق الوحيد البهبهاني الأستاذ الأكبر في رسالته المعمولة في البراءة والاحتياط (٢) أنّ (٣) حكم العقل بلزوم دفع الضرر إنّما هو مجرّد إرشاد من العقل وإراءة طريق لنا لا يصل حدّا يوجب العقوبة على تقدير المخالفة ، فالعقل يحكم بالاحتياط ودفع الضرر حذرا من وقوعه فيه لا أنّه عنوان يحكم العقل بحرمته في نفسه على وجه يستوجب المخالف للذمّ كما في الظلم ونحوه ، والكلّ كما ترى بسقوط (٤) الأوّل ؛ لقضاء (٥) الضرورة بخلافه ، والثاني بما مرّ فيما سبق من تحقّق (٦) الملازمة الواقعية بين العقل والشرع ، وكيف لا وهو خالق العقل؟

وأمّا الثالث ، فبعد الإغماض عن مخالفته لما في الوجدان ، فهو هدم لما أسّسه (٧) أكابر المتكلّمين من وجوبه على الوجه المزبور ، وكيف وهذا هو المبنى لأسّ مسائل الربوبية

__________________

(١) نبّه عليه في ص ٣٤٥.

(٢) الرسائل الأصولية ( رسالة البراءة ) : ٣٥٠ ـ ٣٥٢.

(٣) « ج » : بأنّ.

(٤) « س » : لسقوط.

(٥) « ج » : بقضاء.

(٦) « م » : تحقيق.

(٧) « ج » : استند.

٤١٦

والمعارف الإلهية كما لا يخفى ، فالأولى الالتزام به ومع ذلك فالمطلوب ثابت لما عرفت أنّ الأحكام العقلية على قسمين بل على أقسام :

فتارة يمنع تصريح الشارع بخلافها كما فيما لو كان الحسن والقبح من مقتضيات ذات الشيء كحسن المعرفة وقبح الكذب بالنسبة إليه.

وأخرى لا يمنع (١) التصريح بخلافها لكن لا من حيث عنوان الحسن والقبح بل بواسطة عنوان آخر طار على الأوّل ، وقد مرّ أيضا أنّ عدم العلم بطريان العنوان الطارئ لا يجدي في ظاهرية حكم العقل وإن كان في موضوع الجهل كما أنّ عدم العلم بلحوق عنوان الطارئ لا يوجب عدم استقلال العقل بالحكم عند احتماله إذ مع عدم العلم بالعنوان اللاحق لا حكم له قطعا لعدمه حقيقة لاشتراط وجوده بالعلم ، فعند عدمه يستقلّ العقل بالحكم ، فلو استقلّ العقل بوجوب دفع الضرر الدنيوي ، فللشارع أن يحكم بخلافه لكن لا على وجه التخصيص بل حكم (٢) الشارع يكشف عن وجود مصلحة فائقة على المفسدة التي أحرزها العقل ، فالفعل حينئذ يعنون بغير العنوان الحسن أو القبح (٣) ، فهو تخصيص موضوعي كقتل الكفّار وقطع يد السارقين ونحو ذلك.

وإذ قد تمهّدت ما ذكرنا ، فاعلم أنّ الشارع قد جوّز ارتكاب الضرر الدنيوي في صورة العلم في موارد عديدة كالجهاد والتمكين من القتل عند إظهار كلمة الكفر لمن يعتدّ بشأنه في الدين وأمثال ذلك ، فكيف بالضرر المظنون والمشكوك ، فلا ضير في حكم العقل بوجوب دفع الضرر من حيث هو هو حكم الشرع في موارد خاصّة لعدم وجوبه للمصالح الكامنة في ارتكاب الضرر ، ولهذا تراهم عند الشكّ في الضرر لا يحكمون بسقوط التكليف إلاّ عن جماعة قليلة لشبهة اختلجت في أذهانهم نظرا إلى عنوان الخوف في بعض الأدلّة ، ولا دخل له بما نحن بصدده إذ على تقدير كون الخوف عنوانا على حدة في الأدلّة الشرعية ، فعند الشكّ وجوده قطعي والحكم لا يناط أبدا

__________________

(١) في النسخ : « لا يمتنع ».

(٢) في النسخ : « الحكم ».

(٣) « س » : القبيح.

٤١٧

بالشكّ عندهم.

والحاصل ، فلا مانع في العقل أن يحكم الشارع الحكيم بعدم (١) لزوم الاجتناب عن الضرر الدنيوي ترخيصا لنا في أفعال تحتمله (٢) نظرا إلى عموم ترياق رحمته تعالى المصلح لسموم (٣) الأفعال ، وبعد ما عرفت (٤) من قيام الإجماع على عدم لزوم الاجتناب عن الضرر المحتمل وورود الأخبار والآيات على جوازه لا مناص من الحكم بالبراءة فيه ، غاية الأمر عدم تمامية دليل العقل في الشبهة الموضوعية ولا ضير فيه بعد كفاية غيره عن المطلوب ، ولا يلزم الانفكاك بين حكمي العقل والشرع نظرا إلى اختلاف العنوانين في الحكمين ، ولا يلزم من جواز تبدّل العنوانين عدم استقلال العقل في حكمه قبل العلم بلحوق العنوان الآخر كما في الأصول الدينية ولا يكون الحكم بوجوب (٥) الدفع قبل الشرع حكما ظاهريا من العقل لما عرفت من أنّ الاحتمال دليل على عدم تحقّقه ولا يعقل في الأحكام العقلية كونها ظاهرية وهذا كلّه ظاهر لا سترة عليه.

فإن قلت : قد تقدّم في مباحث الظنّ حجّيته في الضرر وإن كان من الموضوعات ، وغاية ما يثبت (٦) في المقام هو إلغاء الضرر المشكوك نظرا إلى قيام الإجماع عليه ، ولا خفاء في أنّ الظنّ بالواجب يلازم الظنّ بالضرر الغير الأخروي ممّا يرجع إلى العقاب ، فاللازم من جميع ذلك حجّية مطلق الظنّ ، وهذا هدم لما تقرّر في محلّه من عدم حجّيته سيّما بواسطة الضرر المحتمل مع قطع النظر عن مقدّمات الانسداد.

قلت : لا نسلّم حجّية الظنّ في الموضوعات التي لا يرجع إلى أمر عرفي لا يجري فيها دليل الانسداد فإنّ المناط في الحجّية على ما قرّرنا في محلّه هو جريان الانسداد في نفس الموضوع وقاعدة الاستلزام ، وإن شئت زيادة توضيح لذلك ، فراجع مظانّه من مباحث الظنّ ، فتدبّر.

__________________

(١) « م » : لعدم.

(٢) في النسخ : « يحتمله ».

(٣) « ج » : لشمول.

(٤) « ج ، م » : علمت.

(٥) « ج » : لوجوب!

(٦) « م » : ثبت.

٤١٨

أصل

[ في اشتباه الواجب بالحرام ]

في الشبهة الموضوعية التكليفية فيما دار الأمر بين الحرام والواجب والكلام فيه كالكلام في الشبهة التكليفية من عدم الالتزام بشيء منهما وتحكيم البراءة فيهما بعد ما فرضنا كون الواقع مجهولا وعدم دليل على انقلاب التكليف التعييني (١) إلى التكليف التخييري عدى أنّ عدم (٢) الالتزام في المقام أوضح إذ من طرح الحكمين ـ بمعنى عدم الالتزام بهما في الشبهة الموضوعية ـ لا يلزم عدم الالتزام بالحكم الإلهي الكلّي إذ الشكّ في تعلّق ذلك الحكم على المكلّف بواسطة الشكّ في اندراج الموضوع في موضوع الحكم ، فعدم الالتزام بتعلّق الحكم عين الالتزام بالحكم الكلّي كما لا يخفى.

ثمّ إنّهم قد أوردوا في المقام أمثلة :

منها : ما لو نذر شرب إناء معلوم من الخلّ ، ثمّ اشتبه بالخمر لعارض كالظلمة ، أو نذر شرب المشتبه بالخمر ابتداء فإنّ الموضوع المردّد بين الخلّ والخمر في الصورتين يحتمل أن يكون واجبا لتعلّق النذر به ، ويحتمل أن يكون (٣) حراما لاحتمال الخمرية فيه ، فهو إمّا واجب وإمّا حرام.

ومنها : ما لو نذر وطي زوجته الخاصّة ، ثمّ اشتبهت بغيرها لعارض ، أو نذر وطي المشتبه بالأجنبية ابتداء فإنّ الوطي بالنسبة إلى الموضوع المشتبه في الصورتين إمّا

__________________

(١) « م » : اليقيني!

(٢) « س » : ـ عدم!

(٣) سقط قوله : « واجبا لتعلّق ... » إلى هنا من نسخة « س ».

٤١٩

واجب ، وإمّا حرام بالنظر إلى النذر وحرمة وطي الأجنبية ، ومثل النذر ما لو اشتبهت في رأس أربعة أشهر كما لا يخفى.

ومنها : لو نذر أن يتصدّق بمال مخصوص ، ثمّ اشتبه بملك الغير ، أو تعلّق نذره بالمشتبه ابتداء فإنّ التصدّق بالعين (١) المعهودة إمّا أن يكون واجبا للنذر ، أو حراما لكونها ملك الغير.

والحقّ : أنّ شيئا منها ليس بوارد (٢) على ما نحن فيه بعد ما عرفت فيما سبق من أنّ الكلام فيما إذا لم يكن أحد الشكّين مسبّبا عن الآخر كأن يكونا مستندين إلى علّة ثالثة خارجة منهما ، وفيما إذا لم يكن هناك أصل موضوعي به يتعيّن موضوع الحكم.

وتوضيح ذلك :

أنّ الأوّل منها يرتفع الإشكال فيه تارة بجريان أصل موضوعي فيه كما إذا اشتبه المنذور بغيره لأصالة عدم تعلّق النذر به ، فيجري البراءة من غير إشكال ، وأخرى بجريان أصل البراءة في الشكّ السببي فيرتفع الشكّ في المسبّب كما إذا تعلّق النذر (٣) بالمشتبه فإنّ الشكّ في وجوب الشرب مسبّب عن الشكّ في حرمته ، وبعد جريان البراءة ، فلا إشكال فيجب الشرب من دون احتمال تحريم.

وأمّا الثاني ، فيرتفع الإشكال فيه تارة بجريان الأصل في الموضوع كما إذا تعلّق النذر بالمشتبه فإنّ أصالة عدم الزوجية محكّمة ، فيرتفع الشكّ في وجوب الوطي ، وأخرى بجريان أصل موضوعي آخر كما إذا اشتبه المنذور وطؤها لأصالة عدم تعلّق النذر بها وحيث إنّ الأصل أيضا عدم الزوجية فيحرم وطؤها من غير إشكال.

وأمّا الثالث ، ففيما إذا اشتبه الموضوع فالأصل عدم تعلّق النذر به كما أنّ الأصل عدم الملكية فيحرم التصدّق به ، وفيما إذا تعلّق (٤) النذر بالمشتبه فأصالة عدم الملكية بعد

__________________

(١) « ج » : بعين!

(٢) « ج » : وارد!

(٣) سقط قوله : « به فيجري ... » إلى هنا من نسخة « م ».

(٤) « ج » : إذا اشتبه تعلّق.

٤٢٠