مطارح الأنظار

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني

مطارح الأنظار

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني


المحقق: علي الفاضلي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: معهد الإمام الخميني والثورة الإسلامية
المطبعة: مؤسسة العروج
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7986-36-6
الصفحات: ٦١٥

وإذ قد عرفت ما ذكرنا ، فاعلم أنّ السيّد المذكور (١) قد سلك في تقريب الاستدلال

__________________

(١) شرح الوافية ( مخطوط ) : ٩٩ / ب ـ ١٠٠ / ب ، وبما أنّ الكتاب بعد مخطوط نذكر نصّ عبارته تتميما للفائدة ، قال : أقول : الموصوف بالذات للحكم الشرعي من الحلّ والحرمة هو بعض الأفعال الاختيارية التي ليس ممّا يضطرّ الإنسان إليه في بقائه ، وقد يوصف بعض الأعيان بالحلّ والحرمة والمراد حلّ الفعل المتعلّق به ( في هامش النسخة : فهذا وصف بحال المتعلّق ) وحرمته ، ولمّا كان هذا لبعض مشتملا على سب [ كذا ] حلّ الفعل أو حرمته يقال له الحلال أو الحرام فالحيوان والنبات والجماد كلّها إذا كان متعلّقا لفعل الإنسان يكون من الأمور التي فيه الحلال والحرام ، وأمّا ما ليس متعلّقا لفعله ، فليس كذلك وقد يكون نفس بعض الفعل أو الترك متّصفا بالحكم الشرعي من غير مدخلية متعلّقه مثلا ، يقال للآكل على التخمة : إنّه حرام ولا يلاحظ فيه حا [ ل ] المأكول فربما كان حلالا ، وللآكل مع الرغبة وصحّة البدن : إنّه حلال من غير ملاحظة حال المتعلّق ، وربما كان واجبا عند توقّف قيام البدن عليه مع حرمة المأكول كأكل الميتة للمضطرّ.

ثمّ إنّ بعضا من هذا البعض من الأفعال إن لم يرد لحكمه نصّ لا بلفظ خاصّ ولا عامّ ، علم كونه فردا له يصدق عليه أنّه من جملة الأشياء التي تنقسم إلى الحلال والحرام سواء كان متعلّقه مندرجا تحت جنس له نوعان أو نوع له صنفان ، وعلم من النصّ حلّية أحد النوعين أو الصنفين وحرمة الآخر أم لا ، فالأوّل كأكل اللحم المشترى من سوق المسلمين مثلا ، والثاني كاستعمال الحشيشة التي اشتهرت في هذه الأزمنة مثلا لأنّ الشارع جعل أكل اللحم المذكّى حلالا ، وجعل أكل الميتة حراما ، وليس لنا نصّ في حكم اللحم الذي اشتريناه وهو يحتمل أن يكون فردا من الصنف المذكّى كما يحتمل أن يكون من الصنف الآخر ، وأمّا الحشيشة فلم نظفر بنصّ يدلّ على الحلّ والحرمة في نوعين أو صنفين يحتمل كونها فردا لواحد منهما حتّى ينقسم استعمالها من جهة متعلّقه إلى الحلال والحرام ولا ريب في أنّه يصدق على كلّ من القسمين أنّه شيء فيه حلال وحرام عندنا بمعنى أنّه يجوز لنا أن نجعله مقسما للحكمين فنقول : هذا الشيء إمّا حلال ، وإمّا حرام وأنّه من جملة الأفعال التي يكون بعض أنواعها وأصنافها حلالا وبعضها حراما ، واشترك القسمان أيضا في أنّ الحكم الشرعي المتعلّق بهما غير معلوم ، ويفترقان في أنّ الأوّل حكم متعلّقيه معلوم بخلاف الثاني ، فلو سألنا عن هذا اللحم المشترى المردّد بين الميتة والمذكّى : أهو حلال أو حرام؟ لقلنا لا نصّ فيه ولا نعلم حكمه بخصوصه ، ولكنّه إن كان من المذكّى فحلال ، وإن كان ميتة فحرام بالنصّ الوارد فيهما.

٣٦١

__________________

ولو سألنا عن الحشيشة ، لقلنا مثل الأوّل من غير عقد القضيّة الشرعية والعقل لا يرجّح إباحة القسم الأوّل وحرمة الثاني والتوقّف فيه بل لو فرضنا حصر اللحوم مع القطع بأنّ فيها ميتة وأكلنا الجميع لجزمنا بأكل الحرام ، ولو فرضنا استعمال جميع أفراد تلك الحشيشة ما جزمنا بفعل محرّم.

إذا عرفت هذه المقدّمات فنقول : قد ورد مضمون هذا الحديث أو قريب منه بألفاظ متقاربة كقوله عليه‌السلام : « كلّ شيء هو لك حلال حتّى تعلم الحرام فتدعه من قبل نفسك وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة أو المملوك يكون عندك ولعلّه حرّ قد باع نفسه أو خدع فبيع قهرا أو امرأة تحتك وهي أختك أو رضيعتك والأشياء كلّها على هذا حتّى يستبين لك غير ذلك أو تقوم لك البيّنة ».

فقوله عليه‌السلام : « كلّ شيء فيه حلال وحرام » يحتمل أحد معان ثلاثة :

الأوّل : كلّ فعل من جملة الأفعال التي تتّصف بالحلّ والحرمة وكذا كلّ عين ممّا يتعلّق به فعل المكلّف ويتّصف بالحلّ والحرمة إذا لم تعلم الحكم الخاصّ به من الحلّ والحرمة ، فهو لك حلال ، فخرج ما لا يتّصف بهما جميعا من الأفعال الاضطرارية والأعيان التي لا يتعلّق بها فعل المكلّف وما علم أنّه حلال لا حرام فيه أو حرام لا حلال فيه ، وليس الغرض من ذكر هذا الوصف مجرّد الاحتراز بل هو مع بيان ما فيه اشتباه.

فصار الحاصل أنّ ما اشتبه حكمه وكان محتملا لأن يكون حلالا ولأن يكون حراما ، فهو حلال سواء علم حكم لكلّيّ فوقه أو تحته بحيث لو فرض العلم باندراجه تحته ، أو تحقّقه في ضمنه لعلم حكمه أيضا ، أم لا.

الثاني : أنّ كلّ شيء فيه الحلال والحرام عندك بمعنى أنّك تقسم إلى هذين وتحكم عليه بأحدهما لا على التعيين ، أو لا تدري المعيّن منهما فهو لك حلال.

الثالث : أنّ كلّ شيء تعلم له نوعين أو صنفين نصّ الشارع على أحدهما بالحلّ وعلى الآخر بالحرمة ، واشتبه عليك اندراج هذا الفرد فلا تدري من أيّ النوعين أو الصنفين هو ، فهو لك حلال ، فيكون معنى قوله عليه‌السلام : « فيه حلال وحرام » أنّه ينقسم إليهما.

ويمكن أن يكون المراد بالشيء الجزئي المعيّن وحينئذ يكون المعنى أنّه يحتمل الحلّ والحرمة للاشتباه في كونه فردا للحلال أو الحرام مع العلم بهما لنصّ الشارع عليهما ، وحاصل المعنيين أمر واحد ، والمعنى الثالث أخصّ من الأوّلين ، والثاني مرجعه إلى الأوّل

٣٦٢

بالصحيحة المذكورة المسلك الأخير.

ولا يكاد يخفى فساده أمّا أوّلا ، فلأنّ حمل الظرفية على هذه الظرفية التي لا يكاد يوجد استعمال كلمة « في » فيها من غير ضرورة داعية إليه تعسّف بارد ، وتكلّف فاسد ، فصدر الرواية ممّا لا يقبل هذا التأويل ، وأمّا ثانيا ، فقوله (١) عليه‌السلام في ذيل الخبر : « حتّى تعرف الحرام منه بعينه » لا يصلح أن يكون غاية لما قبله بل المناسب حينئذ (٢) أن يقول : حتّى تعلم أنّه حرام ، فإنّ ورود النهي بالنسبة إلى شيء خاصّ لا يؤثّر في تحريم غيره ، ومعرفة الحرام بعينه لا يجدي في حلّية مشتبه كما لا يخفى.

وتوضيح ذلك أنّ مقتضى كون الحكم مغيّا بغاية هو تبيّن حكمه بعد وصول الغاية لا ظهور حكم فرد منه ، فالحكم في حلّية شرب التتن مغيّا إلى معلومية حكمه بنفسه لا إلى معرفة الفرد المحرّم منه بعينه ، وذلك ظاهر في الغاية ، فلا وجه لحمل الرواية على هذا المعنى الآبي منه صدرها وذيلها.

وأمّا الوجه الأوّل ، فلا يذهب وهم إلى جواز حمل الرواية عليه فإنّ المتبادر من لفظ « الشيء » الواقع فيها هو كون الشيء واحدا وحدة حقيقية لا وحدة اعتبارية كما في الشبهة المحصورة ولا جعلية كما في انضمام العنوان المعلوم حكمه إلى ما ليس كذلك.

نعم ، ينطبق الحديث فيما إذا كان للشيء وحدة حقيقية عرفية كما في اللحم المشترى من السوق فإنّ فيه حلالا وحراما ، فاللحم لك حلال حتّى تعرف الفرد المحرّم منه.

وأمّا الوجه الثاني ، فهو وإن كان يناسبه صدر الرواية إذ الظرفية في الكلّي والأفراد ممّا لا غبار عليها إلاّ أنّ ذيل الرواية يأبى عن الحمل عليه فإنّه لا يعقل أن يكون معرفة الفرد المحرّم غاية لحلّية الفرد المشتبه.

__________________

وهو الذي ينفع القائلين بالإباحة ، والثالث هو الذي حمل القائل بوجوب التوقّف والاحتياط ، هذه الأحاديث عليه.

(١) في النسخ : قوله.

(٢) « س » : ـ حينئذ.

٣٦٣

نعم ، لو كان ذيل الرواية « حتّى تعلم أنّه حرام » جاز التمسّك بها في الشبهة الحكمية كما في رواية أخرى [ عن مسعدة بن صدقة ] عن الصادق عليه‌السلام « كلّ شيء لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام » (١) فيا ليتها كانت على وجه لا ينافي صدرها الحمل على الشبهة الحكمية ، وإلاّ فذيلها ممّا لا غبار عليه عكس الرواية التي نحن بصددها ، والحاصل أنّه (٢) لا وجه للاستناد إلى الرواية في الشبهة الحكمية والموضوعية معا على الوجوه الثلاثة ، أمّا الوجهان اللذان استظهر السيّد المذكور أحدهما ، واحتمل الآخر بعضهم ، فظاهر ذلك فيهما.

وأمّا الوجه الثاني منها ، فلا يناسب ذيلها ذلك الحمل لمكان الغاية.

وتوضيحه وتحقيقه أن يقال : لا شكّ في أنّ الحرام المجهول قد يكون الجهل فيه باعتبار الوصف وهي الحرمة كما في الشبهة الحكمية ، وقد يكون باعتبار الموصوف بعد العلم بالوصف ، فلا يعلم أنّ الموصوف بذلك الوصف هذا الفرد أو غيره كما في الشبهة الموضوعية ، فالعلم بالوصف يصير غاية لحلّية ما لم نعلم بالوصف فيه من جهة الجهل بالحكم الشرعي ، ولا يصحّ أن يكون العلم بالحكم الشرعي غاية لحلّية ما لم نعلم بالموصوف وفرديته للحرام الشرعي ، والعلم بالموصوف غاية لحلّية الفرد المحرّم في الشبهة الموضوعية ، ولا يمكن أن يصير غاية لحلّية ما لم نعلم فيه الحكم الشرعي ، ووصف الحرمة مثلا في المثالين المذكورين في المقام العلم بحرمة غيبة الفاسق يمكن أن يكون غاية لحلّية المشتبه منها ، ولا يصحّ أن يكون العلم باندراج كلام خاصّ في غيبة الفاسق غاية لحلّية المشتبه ، ويمكن أن يكون العلم باندراج الفرد الخاصّ من اللحم في الميتة غاية لحلّية المشتبه من اللحم في (٣) الموضوعات ، ولا وجه لكونه غاية لحلّية النوع المشتبه من اللحم في الشريعة.

__________________

(١) الوسائل ١٧ : ٨٩ ، باب ٤ من أبواب ما يكتسب به ، ح ٤.

(٢) « ج ، م » : أن.

(٣) « س » : « و» بدل : « في »!

٣٦٤

والسرّ في ذلك أنّه ربّما يحصل العلم بالفردية أو الحكم الشرعي في المقامين ولا يترتّب على هذا العلم أحكام بعد الغاية وذلك ظاهر ، فلو حملنا الرواية على الأعمّ من الشبهة الحكمية أو الموضوعية ، فإن (١) حملنا المعرفة المعتبرة في الغاية على الأعمّ من معرفة الموضوع ومعرفة الحكم ، يلزم أن يكون معرفة الموضوع غاية لحلّية المشتبه الحكمي ومعرفة الحكم غاية لحلّية المشتبه الموضوعي وبطلانه ظاهر ، وإن حملناها على المعنيين استقلالا من غير ملاحظة الجامع بينهما ، يلزم استعمال اللفظ في أكثر من المعنى الواحد لا من حيث إنّ سبب المعرفة في الحكم هو الدليل الشرعي ، وفي الموضوع الأمارات الشرعية كالبيّنة على ما توهّمه (٢) بعضهم بل للجهة (٣) المذكورة ، وهل ذلك إلاّ مثل أن يقال : اغتسل للجمعة والجنابة مريدا في الأوّل الاستحباب ، وفي الثاني الوجوب مع عدم ما يدلّ على التوزيع بينهما ، فظهر أن لا وجه لحمل الرواية على الأعمّ ولو بالنظر إلى الوجه الثاني أيضا.

لا يقال : بعد عدم إمكان الجمع بينهما فليحمل الرواية على الشبهة الحكمية.

لأنّا نقول أوّلا : فليحملها على الشبهة الموضوعية.

وثانيا : أنّ رواية صدقة (٤) الواردة في بيان الموضوع قطعا لاشتمال صدرها وذيلها على الموضوع كما يرشدك قوله عليه‌السلام فيها : « سأخبرك عن الجبن وغيره » قريبة عن هذا بل لا يوجد بينهما اختلاف إلاّ فيما لا مدخل له في ذلك ، والأخبار يكشف بعضها عن بعض ، فيصير قرينة على إرادة الموضوع منها.

وثالثا : إنّ صدر الرواية ينافي حملها على الحكمية فإنّ قوله : « يكون فيه حلال

__________________

(١) « س » : فلو. « م » : ولو.

(٢) « م » : توهّم.

(٣) « س » : من الجهة.

(٤) كذا في النسخ وتقدّمت رواية مسعدة بن صدقة في الصفحة السابقة ، والصواب : رواية عبد الله بن سليمان التي أورد قطعة منها في السطر الآتي وهي في الوسائل ٢٥ : ١١٧ ـ ١١٨ ، باب ٦١ من أبواب الأطعمة المباحة ، ح ١. وسيأتي بتمامه في ص ٥٨٩.

٣٦٥

وحرام » على تقدير إرادة الموضوع يصير بيانا لمورد الشبهة وما به قوامها وإن لم يكن احترازية كما زعمه السيّد المذكور بخلاف ما لو حملناها على الشبهة الحكمية إذ يلغو التقييد عن أصله لأنّ (١) قوام الشبهة في الحكمية ليس على أن يكون هناك شيء يكون فيه حلال وحرام فإنّها يتحقّق في غيرها أيضا بل وهو الغالب كما في شرب التتن وأمثاله ، فظهر أنّه لا وجه لحملها على الشبهة الحكمية فقط كما لا وجه لحملها على الأعمّ منهما.

نعم يمكن أن يوجّه بتوجيهين على وجه يشمل النوعين :

أحدهما : أن لا يكون اللام في « الحرام » المأخوذ في الغاية للعهد بل للجنس سواء كان متعلّق المعرفة هو الوصف ، أو الموصوف إلاّ أنّه كما ترى خلاف ظاهر اللام.

وثانيهما : أنّ الغاية المستفادة من كلمة « حتّى » مثلا قد تكون غاية للحكم كما في قوله : « كلّ شيء لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام » (٢) فإنّ غاية الحلّ هو العلم بالحرمة ، وقد تكون غاية لإطلاق الحكم وعمومه ، فيكون بمنزلة الاستثناء من العامّ كما في قولنا (٣) : أكرم العلماء حتّى تعلم الأصولي منهم فإنّه بمنزلة قولك : أكرم كلّ عالم إلاّ الأصولي منه ، والرواية من هذا القبيل ، فيستفاد منها حلّية كلّ شيء مجهول إلاّ الفرد المعلوم حرمته سواء كان موضوعا (٤) ، ولا يلزم أن يكون العلم بحرمة الموضوع مؤثّرا في الحكم كما لا يخفى فإنّ التوزيع هنا يستفاد من المقام كما في قولهم : ركب القوم دوابّهم ، بخلاف ما لو فرضنا كون كلمة « حتّى » غاية لنفس الحلّ لا لإطلاقه.

وبالجملة ، فلا إشكال في شمول قولنا : « كلّ شيء حلال إلاّ أن تعلم الحرام منه » (٥) للموضوع والحكم ومعرفة كلّ منهما بحسبه ، فينطبق (٦) على الشبهة الحكمية بأقسامها من المحصورة كما إذا علمنا إجمالا بحرمة عنوان ولا نعلمها بالخصوص ، وغيرها كما في

__________________

(١) « ج ، م » : فانّ.

(٢) تقدّم في ص ٣٦٤.

(٣) « م » : قوله.

(٤) كذا.

(٥) « ج ، م » : المحرّم.

(٦) « ج ، م » : فيطبق.

٣٦٦

الغيبة ممّا اشتمل على عنوان الحلال والحرام ، وما لا يشتمل عليهما كشرب التتن فإنّه بعد ما حكمنا في الشكّ في المكلّف [ به ] بالبراءة كما في المحصورة ، فعند الشكّ في التكليف بطريق أولى ، وعلى الشبهة الموضوعية. وهذا هو غاية توجيه الكلام في تقريب المرام من الرواية المذكورة ، وإنّما أطلنا الكلام فيها لأنّها مطرح لأنظار العلماء وأفكار الفضلاء ، وإلاّ فنحن في غنى من ذلك بعد ما عرفته من الأدلّة السالفة (١).

وقد يستدلّ على البراءة بوجوه أخر كلّها قاصرة عن إفادتها كالعمومات الدالّة على حصر المحرّمات في أشياء مخصوصة كقوله تعالى : ( قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ )(٢) إلخ وكقوله تعالى : ( خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً )(٣) ونحو ذلك فإنّ المقصود في المقام إثبات إباحة الأشياء والخلوّ من التكاليف فيها عند الشكّ كما عرفته في عنوان البحث فإنّه المراد بالأصل أيضا ، والأدلّة المذكورة إنّما نظرها إلى الواقع ولا ربط لها بما نحن بصددها أصلا على ما لا يخفى على الملاحظ في سياقها.

نعم ، هنا شيء يمكن الاستناد إليه بنوع من التقريب والعناية وهو قوله تعالى في مقام الردّ على اليهود : ( قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ )(٤) إلخ وجه العناية أنّ في تلقين الله نبيّه الكريم في الاحتجاج على اليهود بعدم الوجدان دون عدم الوجود إيماء إلى (٥) أنّ عدم الوجدان يصير دليلا على عدم الوجود كما هو المقصود وإن كان عدم وجدان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يتخلّف عن عدم الوجود في الواقع إلاّ أنّ التعبير به ممّا يمكن استفادة ذلك منه.

وبعبارة أخرى : إنّ نفس النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله حيث إنّه اللوح المحفوظ فعدم وجدانه شيئا وإن كان هو عين عدم وجود ذلك الشيء إلاّ أنّه مع ذلك فلا يخلو من الإشعار بأنّ

__________________

(١) « ج » : السابقة.

(٢) الأعراف : ٣٣.

(٣) البقرة : ٢٩.

(٤) الأنعام : ١٤٥.

(٥) « م » : على.

٣٦٧

عدم الوجدان دليل عدم الوجود كما لا يخفى إلاّ أنّه بعد ذلك لا يصحّ التعويل عليها في إثبات البراءة.

أمّا أوّلا ، فلأنّ ما ذكر (١) إنّما يصلح نكتة للعدول إلى العبارة المذكورة ولا يزيد على إشعار كما اعترف به أيضا ، فلا يصحّ الاستناد إليها.

وأمّا ثانيا ، فلأنّ الآية المذكورة إنّما نزلت في مقام الردّ على اليهود حيث حرّموا على أنفسهم من عندهم أشياء كثيرة كما يفصح عنه صدر الآية بدعة منهم (٢) وتشريعا في دين الله من غير استنادهم في ذلك إلى ما يدلّهم عليه ، ولا شكّ أنّ عدم وجدان الدليل على التحريم يكفي في الحكم بحرمة تحريم شيء ، ولا خصوصية في ذلك لوجدان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فلا مدخل (٣) لها في إثبات البراءة إذ القائل بالاحتياط لا يقول بحرمة الأشياء المشتبهة من غير دليل يدلّهم عليه في الواقع ، فلا يترك الفعل على أنّه من (٤) الدين بل على احتمال أنّ الترك من الدين ولا بدعة فيه كما لا يخفى.

وما يمكن أن يحتجّ به الأخباري وجوه (٥) كتابا وسنّة وعقلا أمّا الإجماع ، فلم ينعقد على الاحتياط ولم ينقله أحد ولا ادّعاه أحد منهم أيضا.

أمّا الأوّل ، فصنفان :

الأوّل : الآيات (٦) الآمرة بالتقوى كقوله : ( اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ )(٧) وقوله : ( وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ )(٨) ونحوهما ممّا لا يعدّ ولا يحصى (٩).

وجه الدلالة أنّ الاحتياط فيما يحتمل التحريم بالترك إنّما يعدّ تقى من الله ويجب الاتّقاء والاحتراز عن مناهيه والامتثال بأوامره ، فيجب الاحتياط وهو المطلوب.

__________________

(١) « س » : ذكره.

(٢) « م » : منه!

(٣) « س » : ولا مدخل.

(٤) « م » : على المتارك ( ظ ) وفي « ج » : ـ أنّه من.

(٥) « س » : ويحتمل أن يحتجّ للأخباري بوجوه.

(٦) المثبت من « ج » ، وفي سائر النسخ : آيات.

(٧) آل عمران : ١٠٢.

(٨) البقرة : ٢٨١.

(٩) « س » : ويحصى.

٣٦٨

الثاني : الآيات الآمرة بالوقوف عند عدم العلم كقوله تعالى : ( وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ )(١) ونحوه والتقريب ظاهر ، والناهية عن العمل بما وراء العلم.

وأمّا الثاني ، فصنفان أيضا :

الأوّل : أخبار الاحتياط كقوله : « دع ما يريبك إلى ما لا يريبك » (٢) وقوله : « أرى لك أن [ تنتظر حتّى تذهب الحمرة و ] تأخذ بالحائطة لدينك » (٣) وقوله لكميل بن زياد : « أخوك دينك فاحتط لدينك [ بـ ] ـما شئت » (٤).

والثاني : أخبار التوقّف وهي كثيرة جدّا يقرب من خمسين على ما جمعها بعض الأفاضل.

منها : قول الصادق عليه‌السلام في موثّقة حمزة بن طيّار : « لا يسعكم فيما ينزل بكم ممّا لا تعلمون إلاّ الكفّ عنه والتثبّت والردّ إلى أئمّة الهدى » (٥).

ومنها : قول الكاظم عليه‌السلام في موثّقة سماعة : « ما لكم والقياس إنّما هلك من هلك من قبلكم بالقياس » ثمّ قال : « إذا جاءكم ما تعلمون فقولوا به وإذا جاءكم ما لا تعلمون فها » وأهوى بيده إلى فيه (٦).

ومنها : حسنة هشام بن سالم قال : قلت لأبي عبد الله : ما حقّ الله على خلقه؟

__________________

(١) الإسراء : ٣٦.

(٢) الوسائل ٢٧ : ١٦٧ و ١٧٠ و ١٧٣ ، باب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، ح ٤٣ و ٥٤ و ٦٣.

(٣) الوسائل ٤ : ١٧٦ ـ ١٧٧ ، باب ١٦ من أبواب المواقيت ، ح ١٤ و ١٠ : ١٢٤ ، باب ٥٢ من أبواب ما يمسك عنه الصائم ووقت الإمساك ، ح ٢ ، و ٢٧ : ١٦٦ ـ ١٦٧ ، باب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، ح ٤٢.

(٤) الوسائل ٢٧ : ١٦٧ ، باب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، ح ٤٦ ؛ بحار الأنوار ٢ : ٢٥٨ ، باب ٣١ ، ح ٤.

(٥) الوسائل ٢٧ : ٢٥ و ٨٤ ـ ٨٥ و ١٥٥ ، باب ٤ و ٨ و ١٢ من أبواب صفات القاضي ، ح ١٤ و ٢٩ و ٣.

(٦) الوسائل ٢٧ : ٣٨ ، باب ٦ من أبواب صفات القاضي ، ح ٣.

٣٦٩

فقال : « أن يقولوا ما يعلمون ويكفّوا عمّا لا يعلمون » (١).

ومنها : ما ورد في مقبولة عمر بن حنظلة في الأخبار المتعارضة في حديث طويل ـ إلى أن قال ـ : قلت : فإنّهما عدلان مرضيّان عند أصحابنا لا يفضل واحد منهما على صاحبه؟ قال : « ينظر إلى ما كان من روايتهم عنّا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه من أصحابك فيؤخذ به من حكمنا ويترك الشاذّ الذي ليس بمشهور عند أصحابك فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه وإنّما الأمور ثلاثة : أمر بيّن رشده فيتّبع ، وأمر بيّن غيّه فيجتنب ، وأمر مشكل يردّ علمه إلى الله وإلى رسوله قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : حلال بيّن ، وحرام بيّن ، وشبهات بين ذلك ، فمن ترك الشبهات ، نجى من المحرّمات ، ومن أخذ بالشبهات ، ارتكب المحرّمات وهلك من حيث لا يعلم » ـ إلى أن قال ـ : فإن وافق حكّامهم الخبرين جميعا؟ قال الإمام عليه‌السلام : « إذا كان ذلك فأرجه حتّى تلقى إمامك فإنّ الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات » (٢) والأخبار في هذا المعنى فوق حدّ الاستفاضة بل لا يبعد دعوى تواترها إجمالا.

وجه الدلالة في الكلّ على وجه الاشتراك أنّ ما لا نصّ فيه ولو من جهة الإجمال ممّا لا نعلم حكمه ، فهو من الشبهات ولا بدّ فيما لا نعلمه من الوقوف والكفّ وعدم الارتكاب أداء لحقّ الله تعالى وتخلّصا عن المهالك لأخبار المعصومين عن الوقوع فيها على تقدير عدم الاجتناب والارتكاب ، على أنّ العلم العادي يحصل بالوقوع في المحرّمات فيما لو ارتكب الشبهات وإن فرضنا عدم إخبار المعصوم بذلك أيضا.

وأمّا الثالث ، فيمكن أن يقرّر بوجهين :

أحدهما : ما مرّ مرارا من أنّ في ارتكاب تلك الموارد المشتبهة احتمال ضرر ، ويجب دفع الضرر ولو احتمالا ، فيجب الاجتناب عنها.

__________________

(١) الوسائل ٢٧ : ٢٤ و ١٥٥ و ١٦٨ ، باب ٤ و ١٢ من أبواب صفات القاضي ، ح ١١ و ٤ و ( ٤٩ عن زرارة ).

(٢) الكافى ١ : ٦٧ ، باب اختلاف الحديث ، ح ١٠. وسيأتي بتمامه في ج ٤ ، ص ٥٧٦.

٣٧٠

الثاني : أنّ الموارد المشتبهة من موارد الشكّ في المكلّف به ، ويجب الاحتياط بحكم العقل الصريح فيما إذا كان الشكّ في المكلّف به فيجب الاحتياط في الموارد الشبهة (١).

أمّا الكبرى ، فبعد صراحة حكم العقل فيها وفاقية مسلّمة بين الفريقين.

وأمّا الصغرى ، فبيانها يتوقّف على تمهيد فيقال : لا شكّ أنّ من ورد في الإسلام ابتداء يعلم بوجود تكاليف واجبة ومحرّمة بين الوقائع المشتبهة على وجه لا يجوز من نفسه إهمال تلك الموارد بأجمعها ، فلا بدّ له من الاحتياط فيها اتّفاقا من الأخبارية والأصولية ، فلو حصل له العلم بموارد جمّة بحيث يقرب من المحرّمات والواجبات المعلومة إجمالا ، فلا شكّ (٢) في انقلاب الشبهة تكليفية صرفة ولا كلام فيها ، وإلاّ فإن قام مقام العلم دليل شرعي على وجه يكون طريقا إلى الواقع ـ بمعنى جعله مسقطا عن الواقع لا من حيث التسهيل ورفع العسر كما في بعض من الأدلّة الشرعية في بعض من تلك الموارد المشتبهة على وجه يحصل العلم بامتثال التكاليف المعلومة فيها ـ فلا كلام (٣) أيضا ؛ لأنّ الوقائع المعلومة أو المدلول عليها لذلك الطريق معلوم تفصيلا ، والموارد الباقية تبقى (٤) مشكوكة صرفة ، فلا بدّ من إجراء البراءة ، ولو لم يكن هناك دليل علمي بقسميه ، فالظنون المعمولة في مداليل الألفاظ وغيرها من الظنون المتعلّقة بسند الأخبار ودلالتها وغيرها في جميع الموارد المرخّص فيها العمل بالظنّ لا دليل على كونها حجّة شرعية على وجه يسقط عن الواقع في الموارد المشكوكة أو الموهومة بل غاية الأمر جواز العمل بها تسهيلا للأمر ، فيبقى (٥) التكليف في الموارد المشتبهة في المشكوكات والموهومات باقيا وهو المطلوب.

وبعبارة أخرى إنّ جواز العمل بالظنون المعمولة في الأحكام الشرعية ـ سواء

__________________

(١) سقط قوله : « من موارد الشكّ » إلى هنا من نسخة « س ».

(٢) « س » : فلا وجه!

(٣) « م » : ولا كلام.

(٤) « س ، م » : يبقى.

(٥) « م » : فبقي.

٣٧١

كانت متعلّقة بموضوعاتها اللغوية أو بأنفسها كما عليه الفريقان في (١) الأولى وعلى الثانية المجتهدون سواء كانوا من القائلين بالظنون الخاصّة أو من القائلين بمطلق الظنّ على اختلاف مشاربهم فيها ـ ليس إلاّ من جهة رفع العسر اللازم على تقدير لزوم الاحتياط الكلّي كما بيّنّا في مباحث الظنّ ، ويبقى الوجوب الثابت في أوّل الأمر بعد رفع العذر بارتفاع العسر بحاله فإنّ الضرورة تتقدّر بقدرها ، ولزوم العسر على تقدير الاحتياط في جميع الموارد بعد رفعه لا يفضي بانقلاب الحكم الأوّلي الثابت بالعقل إذ لا مزيل له ، مثلا بعد إسقاط الشارع مراعاة الاحتياط في جميع الجهات الممكنة عند اشتباه القبلة وحكمه بعدم وجوب الصلاة على الدائرة مثلا في كلّ نقطة منها ليس لك أن تتوهّم بسقوط الاحتياط في الجهات الباقية أيضا ، فإنّ المقتضي للحكم بالاحتياط أيضا بحاله كما فيما لم يكن هناك شيء.

وبالجملة ، فالموارد المشكوكة أو الموهومة مثلا من موارد الشكّ في المكلّف نظرا إلى لزوم الاحتياط الكلّي في أوّل الأمر ، وإلى أنّ الظنون المعمول بها في مواردها إنّما تسهيل منه تعالى على العباد وليس بطريق جعلي شرعي ، وبعد ارتفاع العذر بارتفاع العسر لا بدّ من الاحتياط وهو المطلوب ، وهذا أقصى ما يتخيّل في توجيه قاعدة الاشتغال والاحتياط وجريانها في الموارد المشكوكة المشتبهة ، فتبصّر.

والجواب أمّا عن الأوّل ، فمن (٢) آيات التقوى فبأنّ الأمر بالاتّقاء من الله لا يعقل أن يكون أمرا تشريعيا فإنّه كالإطاعة والعصيان بل الأمر فيه إرشادي لا يترتّب عليه إلاّ خواصّ الاتّقاء ، ولو سلّم ، فالأمر دائر بين أمور ثلاثة : من حمل الأمر فيه على الوجوب ، أو على الاستحباب ، أو على مطلق الرجحان ، والأوّلان باطلان ، فتعيّن الثالث.

أمّا الأوّل ، فلأنّه وإن كان الأمر فيه حقيقة أو ظاهرا إلاّ أنّ الحمل عليه يوجب

__________________

(١) « م » : ـ في.

(٢) « ج » : ـ الأوّل فمن.

٣٧٢

تخصيصا كثيرا بل وتخصيص الأكثر ؛ فإنّ مراتب التقوى متفاوتة متكاثرة (١) لا يعلم لها حدّ ولا حصر ، ومن الضروري عدم وجوب جميع مراتبها بل لا يجب إلاّ في الواجبات و (٢) المحرّمات ، فلو (٣) حمل على الوجوب فلا مناص (٤) من ارتكاب تلك التخصيصات المتكاثرة ، وهي مع كونها بنفسها شنيعة لا تتحمّل في كلمات من له أدنى مسكة ففي المقام ما يأبى عنها رأسا فإنّ سوق الآية ـ على ما هو ظاهر للمتدبّر فيها ـ ينافي التخصيص فإنّه يعدّ من الهزل قولك : اتّق الله إلاّ في مورد كذا وكذا ، وذلك ظاهر.

وأمّا الثاني ، فلأنّ الاستحباب وإن كان أقرب للوجوب من استعمال الأمر في القدر المشترك لكثرة موارده إلاّ أنّه لا بدّ من تخصيص موارد وجوب التقوى ، فهو يستلزم مجازا وتخصيصا بخلاف ما لو حملنا على مطلق الراجح فإنّه مجاز واحد فقط من غير تخصيص ، والنظر في سياقها أيضا يعطي ذلك.

وأمّا عن آيات الوقوف عند عدم العلم وحرمة العمل بما وراء العلم ، فبالالتزام بمفادها ومنع مزاحمتها لما نحن بصدده ، فإنّ القول بالبراءة ليس عملا بغير العلم في مقام الاشتباه لقطع العقل بذلك.

مضافا إلى الأدلّة المذكورة فالحكم في مرحلة الظاهر معلوم لنا وإن أريد عدم العلم بنفس الحكم الواقعي ، فلا شكّ في أنّ المجتهدين فيه أيضا متوقّفون لعدم (٥) العلم به ، وظنّي أنّ الاحتجاج بهذه الآيات في قبال الأصولي إنّما هو غفلة منهم (٦) عن مرادهم ولذلك ترى المحقّقين منهم كصاحب الحدائق إنّما عدل منها إلى الآيات السابقة.

وأمّا الجواب عن الثاني ، فأمّا عن أخبار الاحتياط ، فقد أجاب المحقّق في المعارج (٧)

__________________

(١) في « س » : متغايرة وفوقها كما في المتن.

(٢) « س » : أو.

(٣) « ج » : ولو.

(٤) « م » : لا مناص.

(٥) « م » : بعدم.

(٦) « س » : مسلّم.

(٧) معارج الأصول : ٢٩٩.

٣٧٣

عن بعضها بأنّ إلزام المكلّف بالأثقل أيضا مظنّة ريبة بعد منعه من التمسّك بالأخبار الآحاد في المسألة الأصولية إلاّ أنّ ما أفاده يقصر عن الجواب حقيقة إذ لا ريبة في الاحتياط قطعا.

وأمّا كونه خبرا واحدا فغير مضرّ بعد تسليم كون المسألة أصولية كما لا يخفى.

وأمّا ما ينظره بعض الأجلّة (١) في كلام المحقّق من أنّ مفاد الرواية ترك ما فيه ريبة إلى ما ليس فيه ريب لا مطلقا ، فمقلوب عليه كما لا يخفى على المتدبّر.

فالأولى في الجواب عنها (٢) أن يقال : إنّ بعد تسليم السند في تلك الروايات ـ إذ لم نقف عليها في الكتب الأربعة (٣) وروى الشهيد بعضا منها (٤) من غير إسناد إلى الإمام ـ لا دلالة فيها على وجوب الاحتياط للزوم التخصيص الأكثر الآبي عن مطلقه سوق الروايات لو حمل على الوجوب ، ولزوم المجاز أيضا لو حمل على الاستحباب ، فتعيّن

__________________

(١) الفصول : ٣٥٥.

(٢) « م » : عنهما.

(٣) إطلاق هذا الكلام محلّ نظر.

(٤) المراد بها ثلاث روايات كما نصّ الشيخ في فرائد الأصول ٢ : ٧٧ ـ ٧٨ ، الرواية الأولى : « دع ما يريبك ... » التي قد تقدّمت وأورده الشهيد في الذكرى ٢ : ٤٤٤ وفي ط الحجري : ١٣٨ عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وعنه في الوسائل ٢٧ : ١٧٣ ، باب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، ح ٦٣ ؛ الحدائق ١ : ٧٦.

وأورده أيضا في الوسائل ٢٧ : ١٦٧ و ١٧٠ ، باب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، ح ٤٣ و ٥٤ ، عن التفسير الصغير للطبرسي وكنز الفوائد.

الرواية الثانية : « أرى لك أن تنتظر حتى تذهب الحمرة وتأخذ بالحائطة لدينك » التي قد سبقت ورواها الطوسي في التهذيب وهذه هي التي رواها الشهيد في الذكرى ٢ : ٤٤٥ وفي ط الحجري : ١٣٨ ونقل الشيخ الأنصاري في الفرائد والشيخ الحرّ في الوسائل ٢٧ : ١٧٣ ، باب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، ح ٦٥ عن الشهيد ولفظه عندهما هكذا : لك أن تنظر الحزم وتأخذ بالحائطة لدينك.

الرواية الثالثة « ليس بناكب عن الصراط ... » الآتية بعد سطور.

٣٧٤

الحمل على مطلق الرجحان كما يشاهد من سياقه أيضا ، ويشعرك (١) به أيضا قوله : « ليس بناكب عن (٢) الصراط من سلك سبيل الاحتياط » (٣). وهذا القدر أمر معلوم بديهي لا مجال للكلام فيه ، ولو سلّم دلالتها بعد سلامة سندها ، فهي معارضة ببعض أدلّة البراءة فيتعارضان ، ولا مجال للتخيير بينهما فتساقطان ، ولا بدّ من الرجوع إلى دليل ثالث.

وتوضيح ذلك : أنّ أدلّة البراءة على أقسام :

منها : العقل والإجماع المحصّل الحاكمين بعدم التكليف عند عدم البيان ، ولا خفاء في (٤) أنّه لا قبح فيه على تقدير البيان ولو بالاحتياط ، فتلك الأخبار ترتفع موضوع (٥) حكم العقل والإجماع.

ومنها : الأخبار المطابقة لحكم العقل والمساوقة لمعقد (٦) الإجماع كقوله : « الناس في سعة ما لم يعلموا » (٧) ، ولا ريب في ورود أخبار الاحتياط عليها لأنّها مفيدة للعلم في مورد الشبهة.

ومنها : ما هو أعمّ من ذلك أيضا كقوله : « أيّما امرئ ركب بجهالة أمرا فليس عليه شيء » (٨) وقوله : « لا » في جواب هل على من لم يعرف شيئا شيء (٩)؟ فإنّ موضوع

__________________

(١) « ج ، س » : يشعر.

(٢) « ج ، م » : على.

(٣) أورده عن الشهيد أيضا البحراني في الحدائق ١ : ٦٧ قال : وما روي عنهم عليهم‌السلام : ليس بناكب ... وورد في بعض الإجازات من دون إسناد إلى الإمام انظر بحار الأنوار ١٠٥ : ١٢ و ١٨٣ و ١٨٧. وأورد في الذكرى ٢ : ٤٤٤ وفي ط الحجري : ١٣٨ : من اتّقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ، وعنه في الوسائل ٢٧ : ١٧٣ ، باب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، ح ٦٥.

(٤) « م » : ـ في.

(٥) « س » : يقع موضع!

(٦) « ج » : لعقد!

(٧) تقدّم في ص ١٥٨ و ٣٥٥.

(٨) الوسائل ١٢ : ٤٨٨ ـ ٤٨٩ ، باب ٤٥ من أبواب تروك الإحرام ، ح ٣ ، و ١٣ : ١٥٨ ، باب ٨ من أبواب بقية كفّارات الإحرام ، ح ٣ وفيه : أيّ رجل ركب أمرا بجهالة فلا شيء عليه.

(٩) الكافى ١ : ١٦٤ ، باب حجج الله على خلقه ، ح ٢ ؛ التوحيد للصدوق : ٤١٢ ، باب ٦٤ ، ح ٨.

٣٧٥

مسألة البراءة على ما عرفته في المكلّف الملتفت ، وعدم العلم والجهل أعمّ من الالتفات وعدمه والجهل المركّب ، ولا ريب في ورود أدلّة الاحتياط عليها أيضا.

ومنها : ما يدلّ بظاهره على إباحة الأشياء عند الشكّ فيها كقوله : « كلّ شيء مطلق » (١) وقوله : « ما لا يعلمون » بناء على التوجيه المذكور في وجه التقريب في الاستدلال به والإجماعات المنقولة عن الصدوق والمحقّق والعلاّمة (٢) فإنّها أيضا دالّة على حكم الأشياء المشتبهة بالبراءة ، فتعارض الأخبار الآمرة بالاحتياط عند الشكّ ، ولو لم نقل برجحان أدلّة البراءة ـ لاعتضادها بمرجّحات كثيرة لقوّة سندها وصراحة دلالتها وموافقتها للكتاب (٣) والاعتبار بملاحظة الشريعة السمحة ـ فلا أقلّ من التساوي ، ومعه لا بدّ من الحكم بالتساقط ؛ إذ التخيير إنّما هو فيما لم يكن هناك ما يشبه من إجمال الدليل والمقام منه لاحتمال ارتفاع موضوع كلّ منهما بالآخر بخلاف سائر الأخبار المتعارضة ، ومع التساقط لا مناص من الرجوع إلى دليل آخر وهو في المقام يقضي بالبراءة إذ بعد فرض الإجمال لا دليل على البيان ، وفي موضوع (٤) عدم البيان يستقلّ العقل بالبراءة كما هو مفاد الإجماع أيضا ، على أنّه يمكن القول بأخصّية أدلّة البراءة فيخصّص عموم الاحتياط ، فتدبّر.

وأمّا عن أخبار التوقّف ، فيقع الكلام في الجواب عنها في مقامين : فتارة في غير خبر التثليث ، وأخرى فيه.

ففي الأوّل نقول : لا دلالة فيها على لزوم التوقّف في مقام الشبهة بعد ظهور جملة منها في ردّ العامل بالقياس كما هو ظاهر من مساقها ، ولا ينبغي الاستناد إليها فيما لو حمل على الوجوب لورود التخصيصات المتكاثرة كما عرفت نظيره في أخبار الاحتياط.

__________________

(١) تقدّم في ص ١٥٩.

(٢) تقدّم ذكرها ص ٣٤٢ ـ ٣٤٣ وتعليقتها.

(٣) « ج ، م » : الكتاب.

(٤) « ج » : موضع!

٣٧٦

نعم ، بعد تسليم الدلالة فيها لا يصحّ دعوى التعارض بينها وبين أخبار البراءة لكونها كثيرة جدّا فتصير أقوى سندا منها إلاّ أنّ دون إثبات (١) إفادتها الوجوب على ما هو الإنصاف خرط القتاد.

وفي المقام الثاني نقول : لا بأس بتجديد المقال في تقريب الاستدلال بالحديث المذكور على وجه يندفع به بعض الشكوك الواردة فيه ليتّضح الفرق بين هذه الرواية وغيرها أيضا ، فنقول : لا خفاء في ورودها في تلو المرجّحات في الأخبار المتعارضة عند قول الراوي للإمام عليه‌السلام : كلاهما عدلان مرضيّان فأمر الإمام (٢) بأخذ المجمع عليه المشهور الذي لا سترة عليه يعرف روايته كلّ أحد معلّلا في ذلك بعدم الريب فيه وترك الشاذّ النادر.

وبعد ما تقرّر ـ من أنّ التعليل بعدم أمر وجودي دليل على أنّ وجود ذلك الشيء في محلّه مانع عن الحكم المذكور ـ يظهر أنّ العلّة في ترك الشاذّ ليس إلاّ وجود الريب لا العلم ببطلانه كما زعمه بعض الأجلّة (٣) تبعا للمحقّق القمّي (٤)(٥) نظرا إلى قرينة المقابلة ، وأنّ الحكم المخالف للإجماع قطعي البطلان لأنّ المقابلة تقضي بما قلنا ، والإجماع في المقام بمعنى المشهور بالمعنى اللغوي في قولهم : سيف شاهر ، بحيث يراه كلّ أحد ، فهو بنفسه لا يقتضي بطلان خلافه كما في الإجماع المصطلح في الأحكام الشرعية.

على أنّ تثليث الإمام عليه‌السلام الأقسام المذكورة أدلّ دليل على أنّ المراد منه ومن التقسيم بيان حكم المشتبه تمثيلا للمقام ، ولو لا أنّ الرواية التي لا شهرة فيها من المشتبه ، لما صحّ ذلك فإنّ بيان القسمين المعلومين توطئة لبيان المشتبه وقضيّة التمثيل في المقام كما عرفت ذلك.

__________________

(١) « م » : إلاّ أن كان إثبات.

(٢) « س » : + عليه‌السلام.

(٣) الفصول : ٣٥٤.

(٤) « س » : + رحمه‌الله.

(٥) القوانين ٢ : ٢٣.

٣٧٧

مضافا إلى أنّ القسمة حينئذ (١) ينبغي أن لا تكون ثلاثية بل ثنائية إذ احتمال كون ما لا يعلم أنّه من المجمع عليه أو من خلافه مشتبها كما احتمله بعض الأجلّة ممّا لا يعقل بعد ما عرفت معنى الإجماع والشهرة في المقام كما لا يخفى ، فالروايات على أقسام ثلاثة : ما يعلم بصحّته وهو المجمع عليه ، وما يعلم بفساده وهو ما ظهر كذبه ، وما لا يعلم بصدقه وصحّته وفساده وكذبه وهو الشاذّ النادر الذي أمر الإمام عليه‌السلام بتركه.

لا يقال : فبعد ما أمر الإمام عليه‌السلام بتركه (٢) فهو من باب معلوم الغيّ فيرجع القسمة ثنائية.

لأنّا نقول : إنّ بالأمر صار معلوم الغيّ وظاهر البطلان والكلام مع قطع النظر عن الأمر بالترك ، وبعد ما ظهر أنّ الشاذّ الذي يجب تركه والأخذ بالمجمع عليه في قباله هو ما فيه الريب لا ما علم ببطلانه ، فظهر (٣) أنّ كلّ ما فيه ريب كشرب التتن يجب تركه لعموم التعليل.

فإن قلت : الكلام في المقام إنّما هو في الشبهات الحكمية ، ولزوم طرح الأخبار الشاذّة لا دخل له فيما نحن بصدده ، لكونها من الشبهات الموضوعية ، إذ مرجع الشكّ إلى أنّ الصادر من الإمام أيّ من الخبرين المتعارضين وهي شبهة موضوعية ولا ينبغي قياس ما نحن فيه بما لا ربط له به.

قلت : نعم ، ولكنّ الشكّ في الصدور حقيقة يلازم الشكّ في نفس الحكم الشرعي المشتمل عليه الحديثان المتعارضان كما يظهر من ملاحظة قوله عليه‌السلام : « وأمر مشكل يردّ علمه إلى الله ورسوله » فإنّ الشكّ في الشبهة الموضوعية إنّما يرتفع بارتفاع أسبابه من الأمور الخارجية ولا يناط إلى بيان الشارع حكمه (٤) بخلاف الشبهات الحكمية فإنّ معيار التمييز (٥) بينهما إلى أنّ الرافع للشكّ في الموضوع هو الرجوع إلى الأمور الخارجية ،

__________________

(١) « ج » : ـ حينئذ.

(٢) « م » : تركه.

(٣) « م » : يظهر.

(٤) « ج » : وحكمه.

(٥) في النسخ : التميّز.

٣٧٨

وفي الحكم إلى الأدلّة الشرعية ، فالردّ إلى الله في بيان حكم المشتبه يدلّ على أنّ المشكوك هو الحكم لا الغير.

فإن قلت : لا نسلّم وجوب ردّ حكم المشتبه إلى الله وإلى رسوله بل غاية ما هناك هو أولويته واستحبابه لعدم ما يدلّ عليه صراحة.

قلت : قد عرفت أنّ تثليث الأمور وتقسيمها إلى ما هو بيّن الرشد وإلى ما هو بيّن الغيّ وإلى أمر مشكل إنّما هو في مقام الأخذ بالمرجّحات في الأخبار المتعارضة ، ولا ريب أنّ العمل بوجوه التراجيح وترك ما لا يشتمل عليها واجب ، فحمل الأمر المستفاد من « يردّ » و « يترك » على غير الوجوب ممّا ينافي مورد الرواية ، فظهر من جميع ما مرّ أنّ استشهاد الإمام عليه‌السلام بكلام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله أيضا ليس إلاّ من الجهة التي تقرب إلى الاستدلال بكلامه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلا بدّ من حمله أيضا على الوجوب كما هو ظاهره لئلاّ يخالف مورد الكلام فوجوه الدلالة في الرواية ثلاثة :

أحدها : لزوم طرح كلّ ما فيه ريب المستفاد من قوله : « فإنّ المجمع عليه لا ريب ».

وثانيها : تثليث الإمام عليه‌السلام الأمور وتقسيمها إلى ما هو بيّن الرشد وبيّن الغيّ ، وإلى ما هو مشكل يردّ علمه إلى الله وإلى رسوله.

وثالثها : كلام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فإنّ ملاحظة ورود التثليث والاستشهاد في هذا المقام الخاصّ يقتضي حمل الأمر المستفاد فيهما (١) على الوجوب وهو المطلوب.

فإن قلت : الرواية ليست ممّا يصحّ الاستناد إليها باعتبار جهالة حال عمر بن حنظلة واشتمال السند على داود بن حصين.

قلنا : نعم ، ولكنّها مقبولة عند الأصحاب مع اشتمال السند على صفوان الذي أجمع الكلّ على تصحيح ما يصحّ عنه ، وأمّا داود ، فقد وثّقه النجاشي (٢).

فإن قلت : إنّ معنى الردّ إلى الله ورسوله هو الكفّ عنه وبعد لزوم الأخذ بالرواية

__________________

(١) « س » : منها.

(٢) رجال النجاشي ١٥٩ / ٤٢١.

٣٧٩

المشهورة لا يتحقّق هناك إلاّ طرح الشاذّ وهو ليس من الكفّ في شيء.

قلت : الكفّ إنّما هو في مقام الصدور وعدمه وبالنسبة إلى الحكم المشتمل عليه الرواية الشاذّة ، والطرح في مقام العمل ليس بضائر فيه فلا منافاة.

وإذ قد تقرّر هذا (١) فاعلم لا بدّ لنا من بيان عدم دلالة الحديث على الاحتياط اللازم بشيء من الوجوه الثلاثة :

أمّا (٢) الكلام في الاستشهاد ، فنقول أوّلا : معنى قوله : « وشبهات بين ذلك » يحتمل وجهين :

أحدهما : البيّنة الخارجية كأن يكون الشيء في الخارج بين حلال وحرام بمعنى اشتماله على كلا النوعين.

وثانيهما : البيّنة الذهنية العقلية (٣) على وجه يكون الشيء في الذهن وعند العقل ممّا يحتمل (٤) أن يكون حلالا أو حراما محكوما عليه بأحد العنوانين على وجه الترديد.

ويمكن تعميم الثاني للأوّل أيضا ، فلا وجه لإرادة الأوّل لاستلزامه أن لا يكون القسمة النبوية حاصرة (٥) لخروج الثاني منه كما لا يخفى.

وقوله : « فمن أخذ الشبهات ارتكب المحرّمات » يحتمل وجوها :

أحدها : أن يكون الملازمة بين الأخذ بالشبهات وارتكاب المحرّمات واقعية من حيث علمه صلى‌الله‌عليه‌وآله بالواقع واطّلاعه على السرائر.

وثانيها : أن يكون الملازمة عادية بمعنى أنّ الآخذ بها يعلم علما عاديا بارتكابه بالمحرّمات من حيث كثرة المشتبهات وحصول العلم الإجمالي بحرمة جملة منها في الواقع فارتكاب الشبهة لا يكاد ينفكّ عن ارتكاب المحرّم في العادة.

وثالثها : أن يكون المراد بها الملازمة المجازية على نحو قوله : من قتل قتيلا من حيث

__________________

(١) « س » : هذه.

(٢) « س » : وأمّا.

(٣) سقط قوله : « كأن يكون الشيء ... » إلى هنا من نسخة « س ».

(٤) « س » : لا يحتمل!

(٥) « م » : غير حاصرة.

٣٨٠