مطارح الأنظار

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني

مطارح الأنظار

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني


المحقق: علي الفاضلي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: معهد الإمام الخميني والثورة الإسلامية
المطبعة: مؤسسة العروج
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7986-36-6
الصفحات: ٦١٥

المسألة أنّ العقل ما لم يؤمن الضرر العقابي لا يحكم بالبراءة ، وحيث إنّ العقاب ليس من الممتنعات الذاتية ، فإثبات عدمه وامتناعه من الحكيم لا بدّ وأن يكون مستندا إلى قبحه ، فما لم يثبت قبحه لا تؤمن (١) النفس منه ، وفيما لو شكّ في أنّ المورد من موارد (٢) البراءة ، أو الاحتياط لا شيء هناك يوجب الأمن من العقاب ، فلا بدّ من الاحتياط دفعا لاحتماله كما لا يخفى ، وقد نبّهنا عليه في الأصل السابق.

وقد يقال بأنّ الأصل في خصوص المقام بل ومطلق الشكّ في المكلّف به مع القول بالاحتياط ولو قطع النظر عن هذا الأصل السائر في تمام موارد البراءة والاحتياط.

وقد يقرّر بأنّ منشأ النزاع في أقسام الشكّ في المكلّف به ـ على ما هو صريح كلّ المتخاصمين ـ هو أنّ القائل بالاحتياط يقول في أمثال الموارد أنّ التكليف إنّما هو على الواقع المجهول عندنا ، والعقل حاكم بأنّ التخلّص من العقاب الفعلي المردّد بين الأمرين واجب الدفع ، فيجب الاحتياط ، والقائل بالبراءة يزعم أنّ التكليف ليس على الواقع ، وإنّما المكلّف به هو مؤدّى ما ثبت من الدليل ، وهو إمّا أحد الأمرين ، أو الأقلّ ، فلو سلّم القائل بالبراءة أنّ هناك عقاب فعلي مردّد (٣) بين الأمرين في الواقع مع قطع النظر (٤) عمّا ثبت عنده من الدليل ، لكان القول بالاحتياط متّجها عنده ، فعلى هذا نقول : إنّ القائل بالبراءة يقول بأنّ العقاب الفعلي إنّما هو على الأقلّ ، أو على أحد الأمرين قطعا لما أدّاه إليه الدليل ، والقائل بالاحتياط يقول : إنّ العقاب الفعلي إنّما هو على الواقع المجهول عندنا ، فالشاكّ في أحد الأمرين يقطع بأنّه في الواقع يعاقب عقابا فعليا إمّا على الواقع المجهول ، وإمّا على الثابت بالدليل (٥) ، فيصير من موارد الاحتياط اتّفاقا ؛ لأنّه يقطع بالعقاب الواقعي المردّد بين الأمرين ، والمفروض أنّ القائل بالبراءة لو وجد عنده

__________________

(١) في النسخ : يؤمن.

(٢) « م » : ـ الموارد. « ج » : المورد مورد.

(٣) كذا. والصحيح : عقابا فعليا مردّدا.

(٤) « ج ، م » : ـ النظر.

(٥) « س ، م » : من الدليل.

٥٢١

مثل هذا المورد ، لكان يقول بالاحتياط أيضا ، فيجب القول بالاحتياط ابتداء.

هذا وأنت خبير بما فيه من الخلط والمغالطة ؛ فإنّ الكلام في جريان البراءة في مثل المقام فإنّه لا يزيد على محلّ النزاع في المسألة الفرعية بشيء فإنّ كلام القائل بالاشتغال في المسألة الفرعية هو هذا الكلام بعينه ، فلا يصلح الاستناد (١) إليه في مقام تأسيس أصل مسلّم بين القولين على وجه يكون هو المرجع عند عدم الدليل على أحدهما بالخصوص كما لا يخفى.

وإذ قد تقرّر ما ذكر ، فالمنصور عندنا هو ما ذهب إليه المشهور ، وتحقيق المقام يقتضي رسم أمور :

الأوّل : لا شكّ أنّ الداعي إلى امتثال أوامر المولى على وجه يكون مشتركا بين جميع من يجب عليه الامتثال ، ومن شأنه ذلك هو دفع خوف العقاب ، والتخلّص عن العذاب ، من غير أن يحتاج في ذلك إلى انضمام أمر آخر كتحصيل الثواب والفوز بأعلى درجات الجنّات وإن كان قد يصير مثل ذلك أيضا من الدواعي إليه كما أنّ لبعض من حاز الفضائل وجميع الفواضل داعيا آخر غير ما ذكر مشتملا عليه على وجه أتمّ وأكمل كاستحقاق المعبود للعبادة كما لا يخفى إلاّ أنّ ذلك بواسطة علوّ درجته وقصور مرتبة المكلّفين لا يكون مطّردا ، وإنّما الداعي إلى الامتثال عند الشكّ هو دفع العقاب لاستقلال العقل بلزوم دفعه ، وقد نبّهنا على ذلك فيما تقدّم أيضا ، فيجب الامتثال فيما لو احتمل العقاب ، فكيف بما إذا كان العقاب مقطوعا عند عدم الامتثال كما في الأجزاء المعلومة في الصلاة ، فإنّ ترك تكبيرة الإحرام أو الفاتحة ممّا يترتّب عليه العقاب قطعا ، ولا يجب الامتثال فيما إذا لم يكن العقاب محتملا كما إذا كان في المقام ما يؤمننا من العقاب من عقل أو نقل.

__________________

(١) « ج ، س » : للاستناد.

٥٢٢

الثاني : لا فرق بين الواجب النفسي والواجب الغيري في صلاحية نفي كلّ واحد منهما بأصل البراءة (١) ، فكما أنّ أصل البراءة تنفي ما يشكّ في وجوبه النفسي ، فكذلك تنفي ما يشكّ في وجوبه الغيري من غير فرق بينهما.

والسرّ في ذلك أنّ أدلّة البراءة عقلا ونقلا مفادها نفي العقاب ، والبأس عمّا لا يعلم وجوبه ، أو حرمته وذلك بالنسبة إلى الواجب النفسي والغيري سواء لا لما قد يتوهّم من ترتّب العقاب على الواجب الغيري كالواجب النفسي بل من حيث إنّ تارك الواجب الغيري والمتلبّس بالترك لا يصير معاقبا ومتلبّسا بالعقاب ولو من حيث أدائه إلى ترك الواجب الغيري ، فإنّ تركه فيما نحن فيه عين ترك الواجب النفسي ؛ لأنّ ترك المركّب من جهة التركيب عين ترك جزء منه كما لا يخفى ، فأدلّة (٢) البراءة تحكم بأنّ المشكوك وما لا يعلمون لا يصير منشأ وموجبا للعقاب سواء كان العقاب ممّا يترتّب عليه في حدّ ذاته ، أو ممّا يترتّب على شيء آخر بواسطته ، وليس فيها (٣) ما يخصّص ذلك بالأوّل ، فلا بدّ من الأخذ بإطلاقها ، ودعوى انصراف الأمر والنهي في « كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه أمر أو نهي » (٤) إلى النفسيين ممنوعة على مدّعيها ، كيف ولا نفرق شيئا في ذلك إذ غاية ما يسلّم من ذلك هو فيما لو كان هناك عنوان الوجوب ، أو (٥) الواجب ، وأمّا في الأمر والنهي ، فالإنصاف عدم الفرق بين الأقسام ، فإنّ هذه أمور اصطلاحية جعلية لا مدخل لها في انصراف الألفاظ إليها.

على أنّ الأخبار النافية للمؤاخذة والعقاب وأمثاله خالية عن لفظ الأمر والنهي

__________________

(١) فرّق بينهما في الفصول : ص ٣٥٧ وذهب إلى جريان أصل البراءة في الواجبات النفسية دون الواجبات الغيرية كما سيأتي في ص ٥٤٢ وذهب إليه شريف العلماء كما صرّح به في بحر الفوائد ٢ : ١٥١ بدعوى عدم جريان القاعدة بالنسبة إلى الوجوب الغيري المشكوك من حيث إنّ العقاب على تقدير ثبوته على ترك الواجب النفسي لا الغيري. انظر أيضا فرائد الأصول ٢ : ٣٢٩.

(٢) « س » : فإنّ أدلّة.

(٣) « م » : فيهما!

(٤) تقدّم في ص ١٥٩.

(٥) « س » : و.

٥٢٣

وما يشبه ذلك كما هو ظاهر لا سترة عليه ، ويشهد لما (١) ذكرنا أنّ مساق أدلّة البراءة لا يختلف بالنسبة إلى رفع العقاب من الخطأ والنسيان وما لا يعلمون ، فكما أنّ نسيان السورة في الصلاة لا يصير منشأ للعقاب على ترك الواجب النفسي مع عدم ترتّب العقاب على ترك نفس السورة ، فكذا عدم العلم بالسورة وتركها لا يوجب العقاب على ترك الصلاة بترك السورة ، فكلّ ما يؤمننا ـ عقل أو نقل ـ من عقابه عند تركه أو فعله سواء كان العقاب من آثاره بنفسه ، أو لأدائه إلى ما هو من آثاره كذلك يجوز لنا تركه أو فعله (٢) ، وكلّ ما لم يؤمننا دليل من عقابه عند تركه أو فعله يجب امتثاله تركا وفعلا من غير استفصال بين أنّ العقاب من آثار نفس الفعل أو الترك كما في الواجب والحرام النفسيين ، أو من آثار ما يوجبه ، أو (٣) يؤدّي إليه كما في الواجب والحرام الغيري ، والاستفصال في ذلك ممّا لا يجدي شيئا كما لا يخفى ، وكفاك شاهدا في [ ما ] ذكرنا (٤) مقايسة حال عدم العلم بالواجب الغيري بما إذا اقتضت (٥) التقيّة بتركه ، فعدم العلم والجهل بالشيء (٦) كالتقيّة ولا فرق فيها بين أن يكون متعلّقها واجبا (٧) نفسيا ، أو واجبا غيريا (٨) وإن كان بينهما فرق آخر من جهة أخرى من حيث إنّ أحدهما حكم ظاهري ، والآخر واقعي إلاّ أنّ الكلام في المقام في ترتّب العقاب ، ولا فرق بينهما في هذه الجهة.

الثالث : العلم الإجمالي على ما عرفت منجّز للتكليف ، وموجب للاحتياط والإتيان بالمقدّمات العلمية فيما لم يكن في أحد الأطراف ما يقضي (٩) بارتفاع التكليف

__________________

(١) « ج ، م » : بما.

(٢) « س » : فعله أو تركه.

(٣) « ج » : و.

(٤) المثبت من « م » وفي سائر النسخ : في ذكر ما.

(٥) « م » : قضت.

(٦) « س » : بالشكّ ، وفي « م » كان أوّلا « الشيء » ثمّ غيّر بـ « الشكّ ».

(٧) في النسخ : واجب وكذا في المورد الآتي.

(٨) « ج » : نفسي ... غيري.

(٩) « ج » : يقتضي وكذا في المورد الآتي.

٥٢٤

الفعلي عنه بالخصوص من عقل أو نقل ، وأمّا إذا كان في (١) أحد الأطراف ما يقضي بذلك ، فلا مناص من القول بالبدلية إذ لا معنى لرفع الامتثال ؛ للزوم التناقض على تقدير العلم بالطلب والتكليف ، ولا معنى للحكم بعدم كون أحد الأطراف مقدّمة علمية ، لاستلزامه خلاف الفرض ، فإنّ المفروض أنّه من أطراف العلم الإجمالي ، فلم يبق إلاّ البدلية كما التزمنا بذلك فيما أسقط الشارع في المتباينين وجوب بعض الأطراف كما في جهات القبلة والصلاة الفائتة على ما مرّ ، وكما التزمنا به في الملاقي لأحد الإناءين المشتبهين.

والسرّ في ذلك هو ما عرفت في أوّل الأمور من أنّ تحمّل العقل للتكليف والامتثال ليس إلاّ بواسطة دفع احتمال العقاب ، وبعد ما تطمئنّ (٢) النفس من العقاب بواسطة أصل من الأصول العملية الغير المعارضة بمثله ، فالعلم الإجمالي ممّا لا يجدي شيئا ، ولا يقضي بوجوب الإتيان به مقدّمة لانتفاء المناط.

وإذ قد تقرّر هذه الأمور ، فنقول : إنّ مقتضى العلم الإجمالي وإن كان هو الإتيان بالأكثر عند دوران الأمر بينه وبين الأقلّ لكونه مقدّمة علمية للامتثال بالمعلوم الإجمالي إلاّ أنّ أدلّة البراءة ـ : عقلها ونقلها ـ واردة على هذا الحكم العقلي الموجب للإتيان والامتثال كما في الشبهة البدوية ، فإنّ وجوب الجزء الزائد أمر مشكوك غير معلوم لنا ، وقد رفع العقاب والمؤاخذة عن هذه الأمّة المرحومة في كلّ ما لا يعلمون لعموم الموصولة ، فترك الجزء المشكوك رفع العقاب والمؤاخذة عنه وهو المطلوب.

فإن قلت : لا يجري البراءة في الأجزاء.

قلنا : المانع عن الجريان إن كان دعوى اختصاص أدلّتها بالواجبات النفسية ، فقد عرفت عدم تسليمها ، وإن كان من حيث إنّ أدلّة البراءة مفادها نفي العقاب ولا عقاب على الواجبات الغيرية ، فقد عرفت أيضا أنّ مفادها عدم ترتّب العقاب على ترك

__________________

(١) « ج » : ـ في.

(٢) في النسخ : يطمئن.

٥٢٥

شيء غير معلوم الوجوب سواء كان العقاب من لوازمه ، أو آثاره ، وهذا يكفي في المقام.

على أنّ لنا أن نقول : الأصل براءة الذمّة عن الأكثر أيضا ، فيتمّ المطلوب.

فإن قلت : كما أنّ الأصل براءة الذمّة عن الأكثر ، فالأصل براءة الذمّة عن الأقلّ ؛ إذ المفروض دوران الأمر بين أن يكون الواجب النفسي هو الأكثر ، أو الأقلّ ، والأقلّ بهذا العنوان غير معلوم ، غاية الأمر معلومية الأقلّ لا بشرط (١) ، والعلم الإجمالي إنّما هو بين الأكثر والأقلّ بشرط « لا » فهو بهذا العنوان يحتمل أن يكون واجبا نفسيا ، والأصل براءة الذمّة عنه ، فلا فرق بين المقام والمتباينين ، فكما أنّ في المتباينين لا يصحّ التعويل بالأصل في تشخيص أحد الأطراف ، فكذا في المقام.

قلت : قد عرفت في أوّل الأمور أنّ الداعي للامتثال ليس إلاّ دفع احتمال العقاب ، والعقاب معلوم في جانب الأقلّ ، للقطع بأنّ ترك الفاتحة ممّا يوجب ترك الكلّ والمأمور به ، وهكذا باقي الأجزاء المعلومة ، فلا بدّ من الإتيان بها ، غاية الأمر عدم العلم بوجوب الأقلّ بشرط « لا » ، وأمّا الأقلّ لا بشرط ، فوجوبه معلوم ، والعقاب على تركه قطعي ، فلا بدّ من الإتيان به وامتثاله ، وعدم العلم بكون العقاب ممّا يترتّب على نفس الأجزاء المعلومة ، أو باعتبار ترك الكلّ لا يجدي في المقام ، لما عرفت من أنّ الاستفصال في أنّ العقاب ممّا يترتّب على أيّ شيء غير معقول بعد ما علم إجمالا.

فإن قلت : إنّ أصالة البراءة عن الأكثر ممّا لا تعويل عليها فيما لو أريد بها إثبات أنّ الأقلّ هو المأمور به لعدم اعتبار الأصول المثبتة ، وممّا لا جدوى فيها فيما لو أريد بها نفي الأكثر فقط من دون تعرّض بأنّ المطلوب هو الأقلّ ؛ إذ لا يصدق الامتثال بدون إتيان الماهية المطلوبة.

قلت : إن أريد من إثبات الأقلّ إثبات مانعية الجزء الزائد ، فغير سديد ، وإن أريد

__________________

(١) « م » : لا بشرطه.

٥٢٦

إثبات أنّ الواجب هو الأقلّ المجرّد بمعنى عدم وجوب الأمر الزائد ، فإثبات الأصل غير مضرّ ؛ فإنّ الفصل عدمي وهو عين مفاد البراءة كما لا يخفى.

وتحقيق المقام ، على وجه ينكشف الظلام ، عن وجه المرام ، هو أنّ المانع من القول بالبراءة عند الشكّ في جزئية شيء يحتمل أن يكون أحد الأمور الثلاثة :

الأوّل : امتناع جريان البراءة في الأجزاء باختصاص دليلها بغيرها.

الثاني : معارضة الأصل بمثله بعد القول بجريانه.

الثالث : عدم الجدوى فيه على فرض الجريان وعدم المعارضة ، وحيث إنّ كلّ واحد منها قد خالف فيه بعض القائلين بالاحتياط ، فلا جرم نفصّل القول في كلّ واحد منها لتبيّن جليّة الحال ، وحقيقة المقال ، فهاهنا مقامات :

[ المقام ] الأوّل

قد عرفت (١) في ثاني الأمور المتقدّمة عدم الفرق بين أقسام الواجب في جريان البراءة وعموم أدلّتها فيها ، لإطباقها على نفي العقاب والضيق وإثبات الإطلاق والسعة عن كلّ ما فيه ضيق وتقييد وعقاب من غير أن يكون العقاب ممّا يترتّب على ذات الفعل في حدّ ذاته ، أو باعتبار أمر آخر كما مرّ مفصّلا إلاّ أنّ للخصم أن يقرّر مطلوبه بوجه آخر كأن يقول :

إنّ القائل بالبراءة إن أراد نفي جزئية ما هو مشكوك الجزئية بالبراءة ، لإطلاق ما دلّ على وضع ما حجب علمه ، فظاهر السقوط ؛ لأنّ من المقرّر في مقامه أنّ الجزئية ليست من الأحكام الجعلية الموضوعية حتّى تكون (٢) مرفوعة عند عدم العلم بها ، فإنّها كالكلّية منتزعة من خطاب الشارع بوجوب الإتيان بالفاتحة مثلا ، فكما أنّ الكلّية ليست إلاّ ما ينتزعها العقل من لزوم الإتيان بعدّة أمور مرتبطة بعضها بآخر في

__________________

(١) عرفت في ص ٥٢٣.

(٢) في النسخ : يكون.

٥٢٧

ترتيب آثارها عليها ، فكذا الجزئية ليست إلاّ ما يعتبرها العقل بعد اعتبار الشارع شيئا في أمر ، أو بعد الأمر بإتيان أمر مركّب ، ويظهر ذلك عند الرجوع إلى حالات الموالي في طلبهم الأمور المركّبة كالمعاجين ونحوها ، فإنّ المنشأ للمولى ليس إلاّ طلب تلك الماهيّة المركّبة ، وأمّا كونها مركّبة ، أو كون الأمر الفلاني جزءا ، فليس إلاّ من اعتبارات العقل واختراعاته كما لا يخفى على الفطن ، وكيف ما كان إنّ الجزئية ليست من الأمور الجعلية الموضوعية (١) وما لا وضع لها لا رفع فيها ، فلا يصحّ أن يقال : إنّ قوله : « ما حجب الله علمه عن العباد » (٢) أو « رفع عن أمّتي تسعة » (٣) أو قوله : « الناس في سعة ما لا يعلمون » (٤) إنّما بعمومها شاملة للجزء المشكوك.

وإن أراد نفي الحكم التكليفي بجريان البراءة في وجوب الجزء ، فهو أيضا ممّا لا شكّ في فساده ؛ إذ لا معنى لنفي وجوب الجزء (٥) إلاّ نفي وجوب الكلّ ، فإنّ ترك الجزء عين ترك الكلّ ، فإنّه عبارة عن مجموع الأجزاء ، فترك البعض عين ترك المجموع ، وهذا ظاهر سيّما بعد ملاحظة ما قرّر في محلّه من أنّ وجوب المقدّمة لا يغاير وجوب ذيها حيث إنّها ليست مطلوبة في نفسها وفي حدّ ذاتها ، وإنّما مطلوبيّتها للغير وللإيصال إليه ولما أنّ من المقرّر في مقامه أنّ لحوق حكم بشيء باعتبار إنّما هو لحوقه بذلك الاعتبار ، فالإيصال هو المطلوب ، والمطلوب منه هو الوصول إلى ذيها ، والمطلوب منه هو نفس الواجب ، فالوجوب الواحد منسوب إلى ذيها ، وبهذا الاعتبار نفسي ، وقد ينسب إلى مقدّمته ، وبهذا الاعتبار تبعي كالدلالة الواحدة القائمة باللفظ عند انتسابها إلى تمام المعنى الموضوع له وإلى جزئه ، أو لازمه كما لا يخفى ، ومن هنا يعلم وجه عدم الفرق بين قلّة المقدّمات وكثرتها في إنشاء الأوامر العرفية.

وبالجملة ، فلا معنى لوجوب الجزء إلاّ وجوب الكلّ ، ويلزمه (٦) نفي وجوب الكلّ

__________________

(١) « س » : الموضوعة.

(٢) تقدّم في ص ٣٥٣.

(٣) تقدّم في ص ٣٥٥.

(٤) تقدّم في ص ١٥٨ و ٣٥٥.

(٥) « س » : الحرمة!

(٦) « ج » : يلزم.

٥٢٨

عند نفي وجوبه على ما هو ظاهر ، فلا مجال في جريان البراءة في الأجزاء إلاّ بالنسبة إلى الأحكام الوضعية ، ولا بالنسبة إلى الأحكام التكليفية كما عرفت ، وستعرف تحقيق القول في المقام الثاني ، فتدبّر (١).

المقام الثاني

إنّ مناط القول بالاحتياط في جميع الأصول المتقدّمة هو وجود العلم الإجمالي بين شيئين أو أشياء على وجه لم يكن هناك طريق محصّل للامتثال في أحد الأطراف إمّا لفقده رأسا كالبيّنة ونحوها من الأمارات الشرعية في الموضوعات وأدلّتها في الأحكام ، أو لتعارضه كالبراءة في الشبهة المحصورة والشبهة الحكمية المرادية كما مرّ ، وهذا معنى قولهم : إنّ قاعدة الاشتغال واردة على البراءة بخلاف ما إذا كان في أحد الأطراف طريق سلوكه يحصّل الامتثال كما إذا كان الأصل جاريا فيه من غير معارضة بجريانه في الطرف الآخر كما هو مفاد قولهم : إنّ البراءة واردة على الاشتغال ، فإنّه على ما قرّرنا في ثالث الأمور ـ كما هو مقتضى الجمع بين مفاد الأدلّة ـ لا بدّ من الحكم بالبدلية الجعلية على وجه لا يترتّب عليه العقاب المترتّب على الواقع فيما لو كان الواقع في ضمن الطرف المعمول فيه أصل البراءة ، أو مطلق ذلك الطريق ، وعلى هذا فنقول :

إنّ القائل بالبراءة إن أراد جريان البراءة في الجزء ، فقد عرفت في المقام الأوّل فساده ، وإن أراد إجراء البراءة في الكلّ وهو الأكثر ، فهو وإن كان جاريا إلاّ أنّه معارض بأصالة البراءة من الأقلّ ، فالعلم الإجمالي موجود بين الأقلّ والأكثر مع عدم طريق محصّل للامتثال ، فلا بدّ من الاحتياط والإتيان بالأكثر دفعا للعقاب المقطوع المردّد بين الأقلّ والأكثر ؛ إذ العمل بالبراءة فيهما يلازم المخالفة القطعية ، وفي أحدهما

__________________

(١) « ج ، م » : ـ فتدبّر.

٥٢٩

دون الآخر ترجيح بلا مرجّح فيما لو كان معيّنا ، ولا جدوى فيه فيما لو كان غير معيّن من غير فرق بين المقام والمتباينين إلاّ أنّ (١) الاحتياط في المقام في فعل الأكثر فقط من غير حاجة إلى فعل الأقلّ مرّة ثانية بخلاف المتباينين.

والجواب باختيار (٢) كلّ من الشقّين.

فأوّلا (٣) : نختار جريان البراءة في الجزء ، قولك : لا يمكن جريان البراءة في الجزء من حيث الحكم الوضعي مسلّم ، لعدم مجعوليته عندنا ، وأمّا عدم إمكان جريانها من حيث الحكم التكليفي ، فغير مسلّم ؛ إذ لا معنى لأدلّة البراءة إلاّ رفع الضيق وإثبات السعة ، ولا شكّ في أنّ في فعل الجزء ضيقا ، فعند عدم العلم به ، فهو مرفوع كما لا يخفى ، ولا يثمر في ذلك رجوعه إلى نفي الكلّ ، فإنّ هذا هو بعينه معنى وجوبه الغيري ، ولا يدّعي أحد أنّ الجزء واجب (٤) نفسي ، وقد عرفت أيضا تساوي نسبة أدلّة البراءة إليهما (٥) كما مرّ (٦).

وثانيا : نختار جريان البراءة في الكلّ والأكثر ، وأمّا قولك : وهو معارض بأصالة البراءة عن الأقلّ سقطة (٧) واشتباه ، بيان ذلك أنّه قد مرّ في بعض الشبهات في الشبهة المحصورة عدم اعتبار العلم الإجمالي الواقع بين شيئين فيما إذا كان المعلوم (٨) الإجمالي معلوما تفصيليا (٩) في أحد الطرفين من جهة أخرى ؛ لرجوع الشكّ فيه إلى الشبهة البدوية كما إذا علمنا بنجاسة إناء مخصوص كأن علمنا بأنّه بول ، ثمّ علمنا بعد ذلك إجمالا بوقوع نجاسة أخرى في أحد الإناءين على وجه لا يختلف حكمها حكم البول في كيفية الطهارة. والوجه فيه ظاهر ، وما نحن فيه من هذا القبيل إذ وجوب الأقلّ

__________________

(١) في النسخ : إلاّ أنّ في أنّ!

(٢) في النسخ : فاختيار.

(٣) كذا في النسخ ولعلّ الأولى في العبارة : نختار كلاّ.

(٤) « س » : الواجب!

(٥) « س ، ج » : فيهما.

(٦) مرّ في ص ٥٢٣.

(٧) « م » : سفسطة. والسقطة : العثرة والزلّة ( الصحاح ٢ : ١١٣٢ ).

(٨) « س » : العلم.

(٩) « س » : تفصيلا.

٥٣٠

ـ ولو من حيث كونه واجبا غيريا مرادا في ضمن الأكثر ـ معلوم وقد علمنا بترتّب العقاب على تركه وإن لم نعلم أنّ العقاب المستند إلى ترك الأقلّ إنّما هو ممّا يترتّب على تركه بنفسه ، أو بواسطة انجراره إلى ترك الأكثر ، فإنّه على ما عرفت في الأمور المتقدّمة ممّا لا يعقل هذا الاستفصال بعد ما علم أيضا من أنّ المقصود الأصلي والداعي الواقعي لعامّة المكلّفين هو الفرار عن العقاب ، والعلم الإجمالي المردّد (١) بين الأقلّ والأكثر بعد معلومية وجوب الأقلّ من هذه الجهة غير مجد ؛ إذ من المعلوم أنّ العقاب المترتّب على الأقلّ فيما لو كان الأقلّ واجبا نفسيا لا يخالف عقابه فيما لو كان واجبا غيريا والعقل نظره مقصور على دفع العقاب المعلوم ، فيبقى عقاب الأكثر مشكوكا صرفا من غير معارضة لعقاب الأقلّ ، فإنّ من المعلوم عدم اعتبار الحيثية النفسية المجهولة في الأقلّ بعد القطع بترتّب العقاب عليه.

وبالجملة ، للأقلّ حالتان واعتباران أحدهما : الأقلّ لا (٢) بشرط شيء ، وهو بهذا الاعتبار واجب غيري ، وثانيهما : الأقلّ بشرط عدم اعتبار شيء فيه ، وهو بهذا الاعتبار واجب نفسي ، وقد علمنا بترتّب العقاب على ذات الأقلّ عند المخالفة وعدم الامتثال بالنسبة إليه ، ولا بدّ من دفعه ، ولا يزيد عقابه فيما لو كان واجبا نفسيا على عقابه فيما لو كان واجبا غيريا ، والحيثية المجهولة في الأقلّ ممّا لا يترتّب عليها شيء ، والأصل براءة الذمّة عن الأكثر ، وحيث إنّ البراءة طريق شرعي جعلي محصّل للامتثال ، فلا بدّ من الأخذ بها كما هو مورد ورود البراءة على الاحتياط ، فإنّه على ما قرّر فيما إذا كان أحد الأطراف موردا للبراءة دون غيرها.

والقول بأنّ البراءة لا يرد على الاشتغال ، فقد عرفت أيضا أنّ مورده فيما إذا لم يكن اختصاص البراءة بأحد الأطراف لئلاّ يلزم ارتفاع الامتثال مطلقا كما لا يخفى ، فعند التأمّل مرجع الأمر إلى وجوب أجزاء معلومة ، والشكّ في جزء غير معلوم كما في

__________________

(١) « ج ، م » : المراد.

(٢) « ج » : ـ لا!

٥٣١

الأقلّ والأكثر الاستقلاليين ؛ إذ لا أثر للعلم الإجمالي الدائر بين الأقلّ والأكثر عدى ما يترتّب على الأقلّ في الجملة كما في المثال المذكور.

وحاصل الكلام أنّ العلم الإجمالي أحد أطرافه هو الأقلّ بشرط لا ، وهذه الجهة وإن كانت مجهولة إلاّ أنّها على تقدير معلوميتها ممّا لا يترتّب عليها عقاب زائد حاصل من ترك كلّ من الأجزاء المستلزم لترك المركّب ، فالعقاب الذي هو المحذور في أمثال المقام متعيّن معلوم في جانب الأقلّ ، والعقاب في جانب الأكثر يبقى مشكوكا صرفا فيجري فيه البراءة ، فمرجعه في الحقيقة بالنسبة إلى العقاب إلى علم تفصيلي في جانب الأقلّ ـ وإن جهل الوجه فيه ـ وإلى شكّ تفصيلي في جانب الأكثر وإن كان الأقلّ بوصف أنّه بشرط لا من جملة أطراف العلم الإجمالي في مقابل الأكثر كما لا يخفى ، فتدبّر في المقام كي لا تشتبه (١) عليك حقيقة الحال ، فإنّ العلم الإجمالي في المقام ممّا لا يترتّب عليه شيء بخلاف المتباينين.

المقام الثالث

في أنّ بعد تسليم الجريان وعدم المعارضة بمثله ، فلا جدوى فيه ، إذ العلم الإجمالي المردّد بين الأقلّ والأكثر مقتضاه إحراز عنوان المأمور به في الخارج على وجه يصدق على العمل في الخارج عنوان الذي تعلّق الأمر به إمّا تفصيلا فيما لو علم كذلك ، وإمّا إجمالا بإتيان ما يحتمل أن يكون هو العنوان المأمور به فيما لو كان معلوما إجمالا ، وغاية ما يترتّب على الأصل في المقام هو نفي الأكثر فإن أريد مع ذلك إثبات أنّ الأقلّ هو المأمور به على وجه يصدق عليه عنوانه ، فغير سديد ؛ لأنّ الأصول المثبتة مطلقا ممّا لا تعويل عليها لا في الاستصحاب ولا في غيرها ، فنفي الأكثر لا يثبت أنّ المأمور به هو الأقلّ ، وإن أريد مجرّد نفي الأكثر من غير إرادة إثبات أنّ الباقي هو

__________________

(١) « ج ، س » : لا يشتبه.

٥٣٢

المأمور به ، فلا جدوى فيه ألا ترى أنّ ما ذكر في المقامين الأوّلين من جريان الأصل وعدم معارضته (١) بمثله إنّما هو موجود في الشبهة المصداقية فيما إذا دار الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيين كما إذا نذر صوم رجب وشكّ في يوم أنّه من أيّامه ، أو لا ، ومع ذلك فقد (٢) عرفت أنّ المتّجه فيها هو الأخذ بالاحتياط ؛ لأنّ البراءة عن الزائد لا توجب (٣) صدق عنوان المأمور به على العمل في الخارج على ما هو المعتبر في صدق الامتثال.

وبالجملة ، فلا بدّ من إيجاد عنوان المأمور به في الخارج ليتحقّق الإطاعة وصدق الامتثال ، ولا شكّ أنّ الأكثر ممّا يصدق معه الامتثال بدون الأقلّ ، وذلك مشاهد (٤) في الأوامر العرفية كما فيما لو أمر المولى بعبده إتيان معجون كذائي مبرّد مسهّل للصفراء ، وعلم العبد بجملة من أجزائه ، وشكّ في جزء آخر منه ، فإنّ عنوان المعجون المبرّد لا يصدق في الخارج إلاّ بعد الاحتياط كما لا يخفى.

والجواب عن ذلك : أمّا أوّلا ، فبالنقض فإنّ القائل بالاحتياط أيضا يرد عليه مثل ما ذكر ، فإنّ الاحتياط لا يثبت أنّ الأكثر هو المأمور به وإن كان يحصل معه الامتثال.

وتحقيق ذلك أنّ في المقام أمور ثلاثة :

الأوّل : الأقلّ بشرط عدم وجود جزء آخر معه.

والثاني : الأقلّ بشرط عدم وجوب جزء آخر معه على وجه لا يمنع عن صحّة الأجزاء الأخر على تقدير وجوده.

الثالث : الأقلّ بشرط وجوب جزء آخر وهو الأكثر.

فإن أراد أنّ الأصل لا يثبت أنّ الأقلّ بشرط عدم وجود الجزء الآخر هو المأمور به ، فهو كذلك إلاّ أنّ المدّعى غيره وإن أراد أنّ الأصل لا يثبت أنّ المأمور به هو الأقلّ

__________________

(١) « ج ، س » : معارضة.

(٢) « م » : قد.

(٣) في النسخ : لا يوجب.

(٤) « ج » : شاهد.

٥٣٣

بشرط عدم وجوب الجزء المشكوك ، ففساده ظاهر ؛ إذ المفروض ثبوت وجوب الأقلّ ، وأمّا نفي المشكوك ، فهو عين مفاد الأصل ومحلّ جريانه ، وليس من لوازم الحكم المنفيّ بالبراءة حتّى يكون مثبتا ، فالأصل المثبت ممّا لا تعويل عليه كما ستعرف (١) إلاّ أنّ المقام ليس من الأصول المثبتة ؛ إذ ليس المقصود من إجراء الأصل إثبات أنّ الأجزاء المعلومة هي المأمور بها فقط على وجه يكون الإتيان بالأجزاء المشكوكة مانعا عن صحّة الصلاة بل المقصود إثبات أنّ الأجزاء الواجبة هي هذه فقط على وجه لا يكون الغير واجبا ، وقد عرفت أنّ نفي الوجوب إنّما هو عين مفاد الأصل.

والحاصل : أن لا فرق بين القائل بالبراءة والقائل بالاحتياط في عدم إتيان كلّ منهما بعنوان المأمور به إلاّ أنّ المحتاط يأتي بما يوجد معه المأمور به واقعا ، والقائل بالبراءة بما يحصل معه الامتثال شرعا ؛ لما عرفت من أنّ الأصل فيما هو المقصود ليس مثبتا كما زعمه بعض الأجلّة (٢).

وأمّا ثانيا ، فبالحلّ ، وتحقيقه يحتاج إلى تمهيد مقدّمة وهي أنّ ذوات الموجودات الخارجية قد تصير معنونة بعنوانات مختلفة ومحكيا عنها بحكايات (٣) متعدّدة ومصدوقة لمفاهيم متكثّرة ، فكلّما كانت ذات منها متعلّقة للطلب (٤) بعنوان منها ، فيجب إيجادها معنونة بذلك العنوان وليس كلّ ما يعبّر عنه بشيء حكاية لذلك الشيء ؛ إذ ليس المراد بها مجرّد اللفظ والتعبير ، فإنّ اللفظ إنّما هو (٥) معبّر عن مفهوم هو عنوان لذات الفعل الخارجي الصادر من زيد مثلا ، فقد يكون (٦) بعض الألفاظ ممّا لا يعقل له معنى حتّى يكون عنوانا لذات الفعل الخارجي كما إذا كان اللفظ مجملا فإذا تعلّق الطلب بإيجاد ذات من الذوات ، فإن كانت تلك الذات (٧) معنونة بعنوان خاصّ ، فلا بدّ

__________________

(١) « م » : + الآن.

(٢) الفصول : ٣٥٧.

(٣) « ج » : بخطابات.

(٤) « س » : متعلّق لطلب.

(٥) « ج ، م » : ـ هو.

(٦) « س » : مثلا فيكون.

(٧) « ج » : الذوات.

٥٣٤

من الامتثال وإيجاد تلك الذات على وجه يصدق معه ذلك العنوان كما إذا قال المولى : أكرم فلانا ، فإنّه لا بدّ من إيجاد ذات الإكرام على وجه يصدق معه الإكرام في الخارج ، وإن لم يكن تلك الذات معنونة بعنوان كما إذا دلّ على وجوبها دليل لبّي كالإجماع ، فالواجب هو إيجاد نفس الذات وإن لم يصدق معه عنوان ، ومثل ذلك الألفاظ المجملة كما إذا قال المولى : جئني بعين ، ولم يعلم المراد منه هو الذهب ، أو الفضّة ، فإنّ وجوب إحدى الذاتين معلوم بهذا اللفظ المجمل إلاّ أنّه لا يجب إيجاد تلك الذات المعلومة بأحد هذين العنوانين وما ينتزع منه من المفاهيم المختلفة (١) والعناوين المتعدّدة ، فليست ممّا يجب تحصيلها وإيجادها ؛ لعدم اعتبارها في الطلب والأمر كالمراد والمأمور به وغير ذلك من وجوه الفعل المتّحدة معه بحسب اختلاف الاعتبارات كما لا يخفى.

وإذ قد تقرّر هذه (٢) فنقول : إنّ محلّ الكلام في المقام فيما إذا قلنا بأنّ الصلاة مجملة ، وليست من المبيّنات ، فقوله تعالى : ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ )(٣) ليس إلاّ مثل قول القائل : جئني بعين ، فكما أنّ الإلهام ، أو الإجماع لو دلّنا على وجوب شيء ولا يجب إحراز عنوان بعد إيجاد ذات الفعل ، فكذا فيما لو كان اللفظ مجملا ، لما عرفت من أنّ مجرّد (٤) التعبير باللفظ لا يصيّر الذات ذات (٥) عنوان ، واللفظ ـ فيما لم يعقل منه معنى ومفهوما مبيّنا ـ لا يكون كاشفا عن عنوان حتّى يجب إحرازه تفصيلا كما إذا علم كذلك أو إجمالا كما في المتباينين.

ومن هنا انقدح الفرق بين ما نحن بصدده من الأقلّ والأكثر في الشبهة الحكمية وبينه في الشبهة الموضوعية ، فإنّ صوم رجب مفهوم معيّن معلوم وعنوان تفصيلي لذات المأمور به ويجب إحرازه تفصيلا ، ولا يتمّ تحصيل (٦) العلم بوجوده وامتثاله إلاّ

__________________

(١) « ج » : المختلطة!

(٢) « ج » : هذا.

(٣) وردت الآية كثيرا في التنزيل العزيز.

(٤) « ج ، م » : بمجرّد.

(٥) « س » : ـ ذات.

(٦) ولا يحصل.

٥٣٥

بعد الإتيان بالمأمور به فيما شكّ أنّه منه بخلاف ما نحن فيه ، إذ (١) ليس هاهنا (٢) إلاّ لفظ الصلاة و (٣) المفروض إجماله ، فليس على المكلّف إلاّ إتيان ذوات الأجزاء المعلومة ، والأصل يجري في المشكوك من غير معارضة وهو المطلوب.

لا يقال : إنّا نعلم أنّ الشارع أراد من قوله : ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ ) معنى قطعا ، فلا بدّ من تحصيل مراده ، ولا يحصل إلاّ بالإتيان بالمشكوك.

لأنّا نقول : قد عرفت أنّ ما علم وجوبه هو نفس ذوات الأجزاء من التكبير والفاتحة والركوع ونحوها ، وإرادة الشارع من لفظ الصلاة شيئا لا يوجب تحصيل المشكوك بعد عدم توقّف صدق عنوان عليه ، وأمّا عنوان المراد به كالمأمور به ونحوه ، فهي ممّا ينتزعه العقل ، وليست (٤) ممّا اعتبره الشارع في أمره وطلبه كما مرّ ، فاللفظ في المقام كالإجماع والإلهام كما لا يخفى.

ونظير الكلام في المقام ما قدّمناه في بعض مباحث الخاصّ والعامّ من أنّه لو خصّ العامّ بمفهوم كلا تكرم الفسّاق بعد قوله : « أكرم العلماء » وشكّ في فسق زيد العالم ، [ فـ ] ـلا بدّ من إحراز المخصّص ، ولا يجوز تحكيم العامّ بخلاف ما إذا كان المخصّص ذات (٥) معلومة ، وشكّ في خروج شخص آخر (٦) من العامّ فإنّه لا مناص من العمل بالعامّ وتحكيمه كما لا يخفى ، فتدبّر.

هذا تمام الكلام في جريان الأصل بالنسبة إلى الأجزاء ، وقد يؤيّد ذلك ببناء العقلاء ، وكان ذلك هو حكم العقل بقبح العقاب عند الشكّ في التكليف كما قلنا أوّلا بحكومة أدلّة البراءة عقلا ونقلا على قاعدة الاشتغال ، وكيف كان فقد قرّر بأنّ العبد لو شكّ في جزء من الماهيّة المطلوبة منه للمولى ، واستفرغ وسعه ، وبذل جهده في

__________________

(١) « س » : إلاّ!

(٢) « م » : هنا.

(٣) « س » : « إذ » بدل : « و».

(٤) « س » : ليس.

(٥) كذا.

(٦) « س » : + شخص آخر!

٥٣٦

تحصيل (١) أجزائها ، وعلم بعدّة منها ، واقتصر على الإتيان بمعلومه ، لا يعدّ عاصيا ، ولو بدا للمولى عقابه ، ذمّ عليه ، لقبح تكليف الجاهل وتعذيبه من غير فرق بين العقاب على أصل الماهيّة عند الجهل بها ، أو على جزئها عند عدم العلم به ، وذلك ظاهر فيما لو جرّد النظر عمّا عدى لزوم الإطاعة والانقياد.

وقد يتمسّك (٢) القائل بالاشتغال بذلك أيضا بتقريب أنّ المولى لو أمر عبده بإتيان الإيارج (٣) مثلا وشكّ عبده في شيء ، هل هو من أجزائه ، أو لا؟ مع علمه بأنّه إمّا من الأجزاء ، أو من المكمّلات فنجد العقلاء طرّا بانين على الإتيان بالمشكوك ، ولو عاقب المولى عبده في تركه المشكوك مع كونه حقيقة من أجزائه ، لم يمنعه العقلاء من ذلك كما لا يخفى.

وفيه : ما عرفت مرارا من أنّ المدار في الإطاعة والعصيان عند عامّة العقلاء ليس إلاّ على دفع العقاب مع قطع النظر عن تحصيل المصالح الكامنة في ذوات الأشياء و (٤) مفاسدها ، وقد عرفت أيضا أنّ المدار في حكم العقل بأصالة البراءة أيضا إنّما هو على قبح العقاب عند الجهل بالتكليف ، فإن أراد المستدلّ أنّ بناء العقلاء في مقام تحصيل الإطاعة دفعا لخوف العقاب إنّما هو على الاحتياط ، فكلاّ ، ثمّ كلاّ حيث إنّ العقاب قبيح قطعا ؛ إذ لا تكليف إلاّ بعد البيان ولا عقاب إلاّ بعد البرهان ، وإن أراد أنّ بناءهم في مقام تحصيل المصالح والمفاسد كما يظهر من تمثيله بالإيارج على الاحتياط ، فهو كذلك إلاّ أنّ هذه سيرتهم عند الشكّ في نفس التكليف أيضا ، وحيث إنّ الغالب في أوامرهم أنّها ليست (٥) مبنيّة على التعبّد بل يحتمل قصر نظرهم في أوامرهم على

__________________

(١) « ج » : بتحصيل.

(٢) « س » : ولا يتمسك!

(٣) الإيارجة ـ بالكسر وفتح الراء ـ : دواء معروف وهو معجون مسهّل للأخلاط ، جمع إيارج ـ بالكسر وفتح الراء ـ فارسي معرّب إياره. انظر القاموس المحيط ١ : ٤٣٧ ؛ تاج العروس ٢ : ١١٩ ( يرج ).

(٤) « ج ، س » : ـ و.

(٥) في النسخ : ليس.

٥٣٧

المصالح المرتّبة على الأفعال الراجعة إلى الموالي ، أو إلى العبيد كما في مجرّد أوامر الطبيب أو الموالي ، فلا محالة بناؤهم على الاحتياط كيف؟ ولو كان الأمر على إحراز المصالح ودفع المفاسد مع قطع النظر عن جهة التعبّد ، لكان بناء السفهاء أيضا على الاحتياط فضلا عن العقلاء إلاّ أنّ الكلام في موارد البراءة والاشتغال إنّما هو (١) في مجرّد العقاب وعدمه مع قطع النظر عن المصالح فإنّ من الواضح عدم صلاحية البراءة لإحراز المصالح كما لا يخفى ، ولذلك لو فرضنا أنّ المولى أراد امتحان عبده ، وأمره بمعجون كذائي ، وسعى في تحصيل العلم بأجزائه غايته ، ورقى في كشف حقيقته نهايته ، ولم يأل جهدا في الفحص عنه من غير شوب تحصيل فائدة منه ، لم يصحّ من المولى عندهم العقاب عليه قطعا كما هو واضح بالتأمّل ولو قليلا.

فإن قلت : إنّ الإتيان بالأقلّ لا يوجب البراءة عن التكليف لعدم العلم بكونه مأمورا به ، فلا يمكن قصد التقرّب ؛ إذ لا بدّ فيه من تعيين المأمور به.

قلت أوّلا : قد عرفت أنّ الأصل يعيّن أنّ الأقلّ هو المأمور به ؛ إذ الأقلّ هو الأجزاء بشرط عدم وجوب الغير وهو ثابت ، أمّا وجوب العشرة المعلومة مثلا ، فبالفرض ، وأمّا نفي وجوب المشكوك ، فبالأصل.

وأمّا ثانيا : أنّ تعيين (٢) المأمور به في المقام إنّما هو من حيث عدم العلم بأنّ تلك الأجزاء واجبة نفسية ، أو غيرية فقط ؛ إذ المفروض جهل المكلّف إنّما هو بهذه الحيثية ، ولا دليل على وجوب تعيين هذه الجهة لصدق الامتثال مع الجهل والإتيان وهو المدار في أمثال المقام.

واحتجّ القائل بالاشتغال بوجوه

منها : ما عرفت (٣) من بناء العقلاء مع جوابه.

ومنها : أخبار الاحتياط كما في جزاء الصيد والعدّة وعمومات الاحتياط (٤).

__________________

(١) « م » : ـ هو.

(٢) « م » : تعيّن وكذا في المورد الآتي.

(٣) عرفت في الصفحة السابقة.

(٤) تقدّم في ص ٥٠٦ ـ ٥٠٨.

٥٣٨

ومنها : اشتراك التكليف.

ومنها : استصحاب الاشتغال وقد مرّ (١) التقريب في جميع ذلك في المقامات السابقة والأصول المتقدّمة ،

فلا نسهب الكلام بإعادة ما لا يوجب فائدة ، وقد عرفت عدم نهوضها على المقصود في وجه.

نعم ، للقائل بالاشتغال في كلّ مقام على ما بنينا عليه في موارد الاحتياط مقدّمتان :

إحداهما : وجود العلم الإجمالي بالتكليف.

وثانيتهما (٢) : وجوب تحصيل العلم بالامتثال دفعا للضرر المحتمل ونظرا إلى وجوب مقدّمة الواجب وغير ذلك من الوجوه الآتية بعضها إلى آخر كما مرّ.

والمقدّمة الأولى في المقام مسلّمة.

والمقدّمة الثانية قد عرفت عدم الاعتداد بها فيما كان في المقام أصلا أو طريقا آخر يعيّن أحد الأطراف من غير تعارض ، وقد مرّ وجود الأصل وعدم معارضته (٣) بشيء وجدواه أيضا في المقامات الثلاثة.

وأمّا الكلام في الشرائط ، فقد يشكل القول بجريان البراءة فيها (٤) ؛ فإنّها ليست بهذه المثابة من الظهور (٥) كما في الأجزاء ، ويظهر وجهه بعد تفسير معنى الشرط ، فنقول : قد ذكروا له معاني كثيرة على ما صرّح به (٦) جمال المحقّقين في بعض تعليقاته على الروضة (٧) عند قول الشهيد : والتروك بالشرط أشبه ، إلاّ أنّ الأقرب عندنا ـ بعد إسقاط ما يزيّف بعضا منها ويؤيّد آخر ـ أنّ الشرط عبارة عن أمر خارج مقارن للمشروط على وجه

__________________

(١) مرّ في ص ٥٠٤.

(٢) في النسخ : ثانيهما.

(٣) في النسخ : معارضة.

(٤) « س » : ـ فيها.

(٥) ورد قوله : « فإنّها ليست بهذه المثابة من الظهور » في « ج ، م » قبل قوله : « فقد يشكل القول ».

(٦) « ج ، س » : ـ به.

(٧) حاشية الروضة البهية : ٢٧٩ عند قول الشهيد في النيّة : « وإن كان التحقيق يقتضي كونها بالشرط أشبه ».

٥٣٩

لو لم يوجد الشرط ، لم يوجد المشروط كالاستقبال للصلاة ، فإنّ الصلاة ليس من أجزائها الاستقبال إلاّ أنّ تلك الماهيّة تحقّقها صحيحة في الواقع (١) موقوف عليه ، وكالحالة الحاصلة من الوضوء لا نفس الأفعال ، فعلى هذا ما اشتهر عند الطلبة من أنّ الوضوء بمعنى الأفعال الخارجية شرط (٢) للصلاة ممّا لا يعقل له معنى ، فإنّه حينئذ بالمعدّ أشبه من الشرط ، وإلاّ لكان اشتراط الصلاة بعدم تلك الأفعال الخارجية أولى من اشتراطها بوجودها ؛ إذ تلك الأفعال معدومة (٣) حين الصلاة قطعا ، وعدمها مقارن للصلاة ، فهو أولى بالشرطية ، ولذا (٤) لا يجب تكرارها عند كلّ صلاة ويكتفى بالوضوء الحاصل في الزمان السابق لصلاة الحاضرة كما لا يخفى.

وإلى ما ذكرنا يشعر ما اشتهر عند الأصوليين من أنّ الشرط ما يلزم من عدمه العدم ، ولا يلزم من وجوده الوجود ؛ فإنّ انعدام تلك الأفعال عند الصلاة ظاهر ، فلا بدّ من انعدام المشروط أيضا ، فالفرق (٥) بين الجزء والشرط في أمثال تلك المهيات المركّبة الخارجية هو أنّ الجزء عبارة عن نفس تلك الأفعال الخارجية التي بها يحصل المركّب بخلاف الشرط ، فإنّه عبارة عن الحالة الحاصلة عن الأفعال الخارجية فيما يرى أنّها الشرط المقارنة (٦) للمركّب وذلك ظاهر.

ولعلّه إلى ما ذكرنا يشير بعض أجلّة المشايخ (٧) من أنّ عند الاشتغال بالصلاة لو

__________________

(١) « ج » : ـ في الواقع.

(٢) « س » : ـ شرط.

(٣) « س » : معدوم.

(٤) « ج ، م » : لهذا.

(٥) « م » : والفرق.

(٦) كذا.

(٧) في هامش « م » : وهو الأجلّ الأكمل كاشف الغطاء عن وجوه أبكار التدقيقات ، وأفكار التحقيقات الأستاد الأكبر جناب الشيخ جعفر نوّر الله ضريحه ، وروّح الله روحه. انتهى.

أقول : الأمر عكس ذلك كما صرّح بذلك في فرائد الأصول حيث قال : ذكر بعض الأساطين [ في كشف الغطاء ٣ : ٣٦٧ وفي ط الحجري : ٢٧٨ ] أنّ حكم الشكّ في الشروط بالنسبة إلى الفراغ عن المشروط بل الدخول فيه بل الكون على هيئة الداخل حكم الأجزاء في عدم

٥٤٠