مطارح الأنظار

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني

مطارح الأنظار

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني


المحقق: علي الفاضلي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: معهد الإمام الخميني والثورة الإسلامية
المطبعة: مؤسسة العروج
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7986-36-6
الصفحات: ٦١٥

لا يقال : لعلّ الوجه في العمل (١) بها انسداد باب العلم ، فلا دلالة فيها على اعتبارها بالخصوص كما هو المطلوب.

لأنّا نقول : يمكن دعوى استقرار طريقتهم في العمل بها حتّى في صورة الانفتاح أيضا ؛ فإنّ أصحاب الأئمّة مع تمكّنهم عن تحصيل العلم كانوا يستدلّون بظواهر القرآن على جلّ مطالبهم.

ولو سلّم ، فكان الانسداد من جهة عدم التمكّن غالبا من استفادة المطالب من الألفاظ بالعلم ، ولا ينافي ذلك اعتبار الظواهر بالخصوص بل هو الوجه في اعتماد العقلاء عليه فيصير ظنّا خاصّا كما لا يخفى.

سلّمنا الانسداد من جهة عروض السدّ كما في أمثال زماننا ؛ لعدم إمكان الوصول غالبا إلى المعصوم لكنّه لا يخفى في انفتاح باب العلم ولو في بعض الأوقات ، فلا بدّ لهم من السؤال ، وإلاّ فلا بدّ من الحكم بتفسيقهم حاشاهم عن ذلك ، فإن أجاب المعصوم بالعمل بها ، فهو وإن لم يجبهم ووكلهم إلى ما هو طريق عندهم (٢) من الاعتماد على مطلق الظنّ ، فهو خلاف اللطف منهم ، وهو لا يجوز عليهم ، فإنّ السؤال ناظر إلى الواقع ، فهو كتأخير البيان عن وقت الحاجة.

ومن هنا يظهر عدم جواز الإحالة على الاستصحاب وغيره من الأصول العملية إذا سألوا عن المسألة الفرعية كنجاسة القليل بمجرّد ملاقاة النجاسة.

ولو سلّم فغاية ما هناك عدم العلم بجهة عملهم بظواهر الكتاب ولا ضير فيه ؛ إذ الجهل بالجهة إنّما يضرّ فيما لو احتملنا استناد العمل إلى جهة لم نكن واجدا لها ، وأمّا لو كنّا واجدين للجهة المحتملة أيضا من الاضطرار ونحوه مثلا ، فلا شكّ في اعتبار العمل عندنا ، غاية ما في الباب عدم العلم بخصوص الجهة على تقديره ، ولا ثمرة في العلم بها إلاّ عند التعارض ، فيقدّم على غيره لو كان من جهة الظنون الخاصّة ، ويتوقّف على

__________________

(١) « ش » : وجه العمل.

(٢) « ل » : طريقهم.

٨١

المرجّح لو كان من غيرها كما ستعرف.

وعلى التقديرين لا بدّ من تقديم الظنون الاجتهادية على الظنّ الحاصل من استعمال الأصول اللفظية من أصالة الحقيقة ونحوها في الكتاب الكريم ؛ إذ بعد ما فرض ـ من كونها حجّة ولو من جهة مطلق الظنّ ـ لا مجرى لأصالة الحقيقة عند معارضتها لها.

والحاصل : أنّ الإجماع العملي من الصحابة والتابعين ـ المعبّر عنه بالسيرة المستمرّة ـ حاصل على اعتبار أصالة الحقيقة المعمولة في الكتاب الكريم ، ولا وجه للاحتمال (١) المذكور من أنّه لعلّ العمل المذكور من جهة الانسداد.

أمّا أوّلا ، فلأنّ الانسداد في المقام ـ على تقدير تسليمه لما عرفت من التمكّن لتحصيل العلم ولو بالنسبة إلى بعضهم ولو في بعض الأوقات ـ إنّما هو (٢) حكمة (٣) لجواز العمل بالظنون اللفظية لا علّة كما هي قضية دليل الانسداد ، فالداعي في تشريع الحكم وجواز الاعتماد عليها ـ كما دلّ عليه الإجماع ـ هو الانسداد.

وأمّا ثانيا ، فلأنّه لا وجه لتعيين الوجه إلاّ التقدّم في التعارض ، أو التوقّف إلى حصول مرجّح ، والظنون الاجتهادية تقدّم على الظنون اللفظية مطلقا ، فلا ثمرة في التعيين.

الثالث : الأخبار الواردة في هذا المضمار ، عن السادة الأطهار ، عليهم صلوات الجبار ، وهي صنفان :

صنف منها دالّ على وجوب الأخذ بما وافق الكتاب وطرح ما خالفه (٤) ، وإنّ الفتن إذا غلبت كقطع الليل المظلم ، لزم الرجوع إليه ؛ لأنّ فيه تفصيلا (٥) ، وأنّ ما وجدتم فيه أو في السنّة ، لزمكم العمل به ، ولا عذر لكم في تركه (٦) ، وأنّ كلّ شيء مردود إلى

__________________

(١) « ل » : لاحتمال؟

(٢) « ل » : ـ هو.

(٣) « خ ل » بهامش « ش » : مؤكّد.

(٤) الفصول المختارة : ١٧٧.

(٥) الوسائل ٦ : ١٧١ ، باب ٣ من أبواب قراءة القرآن ، ح ٣.

(٦) الوسائل ٢٧ : ١١٤ ـ ١١٥ ، باب ٩ من أبواب صفات القاضي ، ح ٢١.

٨٢

الكتاب (١) ، وأنّ على كلّ حقّ حقيقة ، وعلى كلّ صواب نورا فما وافق كتاب الله فخذوه ، وما لم يوافق من الحديث القرآن ، فهو زخرف (٢) ، وأنّ ما جاءكم منّي يوافق كتاب الله فأنا قلته ، وما جاءكم يخالف كتاب الله فلم أقله (٣) ، وأنّ القرآن حقّ لا ريب فيه عند الجميع ، وأنّهم في حالة الاجتماع عليه مصيبون (٤) ، وأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « تارك فيكم الثقلين : كتاب الله ، وعترتي أهل بيتي » (٥) حيث إنّه جعله كالإمام في جواز الرجوع إليه مستقلا ، فاحتمال إرادة الاجتماع لا يناسب مذهبنا في العترة بعد أنّه خلاف الظاهر من اللفظ كما لا يخفى.

وصنف آخر هي الأخبار الخاصّة الآمرة باستنباط الأحكام من الكتاب الكريم والفرقان العظيم قولا أو فعلا أو تقريرا ، كرواية عبد الأعلى بن أعين عند السؤال عن الجبيرة عن الصادق عليه‌السلام من أنّه رجل عثر ، فوقع (٦) ظفره ، وجعل عليه مرارة ، فما ذا يصنع في الوضوء؟ فأجاب بأنّ « ذلك وأشباهه يعرف من كتاب الله ، قال الله تعالى : ( ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ )(٧) فامسح عليه » (٨) ، فالمستفاد من الرواية جواز استنباط أمثال ذلك من الأحكام مع خفائها من الكتاب ، فكأنّه عليه‌السلام قد بيّن لنا قاعدة أيضا من الجواب المذكور فيما إذا دار الأمر بين سقوط المقيّد رأسا وسقوط قيده لعذر ، يقدّم الثاني ؛ فإنّ السؤال عن المسح المقيّد بالرجل وسقوطه رأسا ، أو بقائه بلا مباشرة الماسح للممسوح.

__________________

(١) الوسائل ٢٧ : ١١١ ، باب ٧ من أبواب صفات القاضي ، ح ١٤.

(٢) الوسائل ٢٧ : ١٠٩ ـ ١١٠ و ١١٩ ، باب ٩ من أبواب صفات القاضي ، ح ١٠ و ٣٤.

(٣) الوسائل ٢٧ : ١١١ ، باب ٩ من أبواب صفات القاضي ، ح ١٥.

(٤) البحار ٢ : ٢٢٥ ، باب ٢٩ ، ح ٣ ، و ٥ : ٢٠ ، باب ١ ، ح ٣٠ ، و ٥ : ٦٨ ، باب ٢ ، ح ١.

(٥) الحديث من المتواترات.

(٦) « ش » : فوضع.

(٧) الحج : ٧٨.

(٨) الوسائل ١ : ٤٦٤ ، باب ٣٩ من أبواب الوضوء ، ح ٥. وسيأتي في البراءة : ٥٧٠.

٨٣

ودعوى اختصاص جواز الاستنباط للعارف لا ضير فيها بعد أنّ الفرض ظهوره (١) في المراد كما لا يخفى.

وكقوله مستشهدا بعدم جواز نكاح العبد بدون إذن المولى : أنّه عبد مملوك لا يقدر على شيء (٢) ، وقوله في سماع الجواري : ( إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً )(٣)(٤) فإنّ الاستشهاد بشيء فرع ظهوره في المطلب (٥) ، ولو لم يستند إليه المستشهد كقوله فيما سأله زرارة عن كيفية الصلاة في السفر بأنّها ركعتان ، فقال زرارة : إنّ في القرآن الحكيم نفى الجناح عن القصر ، ولا يدلّ على تعيّنه ، فعارضه الإمام عليه‌السلام بما ورد في الطواف من نفي الجناح (٦) إلى غير ذلك من الأخبار بل هي (٧) بالغة حدّ التواتر ، فعلى الطالب الرجوع إليها في محالّها.

الرابع : أنّ المقتضي للحجّية موجود ، والمانع منها مفقود ؛ لما ستعرف من بطلان ما تخيّله الخصم مانعا ، فلا مناص منها.

أمّا الأوّل ، فلأنّ الأصل في كلّ كلام من كلّ متكلّم ـ على ما هو مستفاد من طريقة أهل العقول ـ أن يكون مسوقا لبيان ما هو المتعارف في الاستفادة منه إن حقيقة فحقيقة ، وإن مجازا فمجاز كما يكشف عن ذلك ملاحظة طريقتهم في استفادة مقاصدهم من الألفاظ أحياء وأمواتا ، مكاتبة ومراسلة ، قديما وحديثا ، فإنّ مجرّد انطباق لفظ بلغة ـ عربية أو غيرها ـ يقضي بإرادة المعاني المستفادة منه في العادة شخصا أو نوعا ،

__________________

(١) « ش » : ظهور؟

(٢) الوسائل ٢١ : ١٥٨ ، باب ٤٩ من أبواب نكاح العبيد والإماء ، ح ٢.

(٣) الإسراء : ٣٦.

(٤) الوسائل ٣ : ٣٣١ ، باب ١٨ من أبواب الأغسال المسنونة ، ح ١. وسيأتي في ص ٢٢٤ وفي بحث البراءة ص ٤٩٩ و ٥٨٤.

(٥) « ش » : المطلوب.

(٦) الوسائل ٨ : ٥١٧ ـ ٥١٨ ، باب ٢٢ من أبواب صلاة المسافر ، ح ٣.

(٧) « ش » : بل وهي.

٨٤

مادّة وهيئة بل وأطباعهم مجبولة على ذلك حتّى لو ورد بخلاف ذلك لفظ ، فإنّما هو لا بدّ وأن يكون بعد دلالة دليل عليه ، وذلك مثل ما فطرهم الله في حمل الألفاظ على المعاني الحقيقية عند الترديد بينها وبين مجازاتها ، وعليه يبنى (١) جملة من الأحكام الشرعية في الأقارير والوصايا والأوقاف ونحوها ، فلو أقرّ زيد لعمر وبمال ، يؤخذ بإقراره ، ولو استند إلى إرادة معنى لا يتعارف استفادته منه ، لم يسمع منه ، كما أنّه كذلك فيما لو أنكر إرادة المعنى الحقيقي أو المعنى رأسا منه ، وليس ذلك كلّه إلاّ للقاعدة المزبورة ، وقضيّتها أن يكون كلّ كلام من كلّ متكلّم مسوقا لبيان ما هو المتعارف في الاستفادة منه ، وأن لا يكون واردا على سبيل التعمية والإلغاز ، فمتى شكّ في ذلك على أحد الوجهين ، يحكم بالأوّل إلى دلالة دليل على التعمية والإلغاز ، ومنه يستعلم حال أرباب التصانيف من ذوي الملل الفاسدة ، والمذاهب الكاسدة ، فوضوحه يمنع من (٢) إطالة الكلام.

ومن هنا يظهر ضعف مقالة البعض (٣) في الردّ على الأخبارين بقبح التكليف وإرادة ما هو خلاف ظاهر الكلام منه ، فإنّ الكلام في أصل الإرادة والخطاب فربما يدّعي الخصم انتفاءها ، ويلتزم بأنّ الكتاب كلّه من الإلغاز والرموز مثل فواتح السور ، ولكن على ما قلنا ظهر وجود المقتضي ، فليس ظواهر الكتاب إلاّ كظواهر غيره من الكتب.

وأمّا الثاني : فلأنّ ما يتوهّم كونه مانعا ـ سواء استند إليه أو لا ـ وجهان :

الأوّل : الأخبار الدالّة على أنّ علم القرآن مخصوص بالأئمّة ، وعلى حرمة تفسيره بالرأي ، وهي كثيرة مذكورة في مجمع البيان (٤) ، ويجمعها ما عرفت.

__________________

(١) « ش » : يبتني.

(٢) « ش » : عن.

(٣) انظر مفاتيح الأصول : ١١.

(٤) انظر مجمع البيان ١ : ٧٥ ( مقدّمة الكتاب ) و ٨٠ ( الفنّ الثالث ).

٨٥

الثاني : أنّ ورود التقييدات المتوافرة ، والتخصيصات (١) المتكاثرة إنّما أوجب عدم العمل بها بواسطة إحداثها وهنا فيها بل ربّما اختصّ بفرد واحد ومورد متّحد كما في قوله : ( وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا )(٢) فإنّه قد اختصّ بقراءة الإمام في الجماعة.

والجواب : أمّا عن الأوّل ، فبعد الإغماض عمّا في إسناده بدعوى التواتر فيها إجمالا أنّ التفسير ـ كما نصّ عليه جماعة ـ عبارة عن كشف الغطاء ، واختصاص مورده عرفا ولغة بما إذا لم يكن منكشفا في نفسه ممّا لا ينبغي الارتياب فيه.

وتوضيح الحال فيه : أنّ هناك أشياء : اللفظ ، والمعنى ، والمتكلّم ، والسامع ولا ريب في اختفاء المعنى في ذهن المتكلّم ، فيظهره باللفظ ، فتارة على نحو هو منكشف بنفسه ، وأخرى على وجه يحتاج إلى منكشف غيره ، فبعد ما يرتفع النقاب عن وجه المطلوب بواسطة اللفظ على الوجه الأوّل لا يحتاج في فهم المراد إلى شيء آخر بعد العلم بالوضع ، فقوله تعالى : ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ ) عند أهل اللسان أو (٣) العارف بالبيان المقرّر عندهم منكشف في نفسه لا يحتاج في بيانه إلى شيء آخر ، وإنّما انكشف عنه تكلّم المتكلّم به وتلفّظه كما هو ظاهر بعد الرجوع إلى العرف الحاكم في تميز معاني الألفاظ وصدقها ، فلا يصدق التفسير في مثله ؛ إذ المعنى لا خفاء فيه بعد التّلفظ.

نعم ، إنّما يصدق التفسير فيما لم يكن المعنى بعد التلفّظ منكشفا ، ولو فسّره من لا يروي في تفسيره عنهم عليهم‌السلام ، فلا شكّ في حرمته ، فلا دلالة في الأخبار المذكورة على المطلوب بل نحن أيضا نلتزم بمفادها ، وإنّما نمنع كون العمل بالظواهر منه.

وربما يتوهّم أنّ الترجمة أيضا من التفسير المحرّم ، وليس بشيء ؛ لأنّه لو كان تفسيرا ، فهو إنّما هو بالنسبة إلى المعاني اللغوية لا بالنسبة إلى المراد من اللفظ ، وظاهر

__________________

(١) « ش » : التقيّدات ... المخصّصات.

(٢) الأعراف : ٢٠٤.

(٣) « ل » : « و» بدل : « أو ».

٨٦

أنّ مساق الآيات ممّا لا ربط له بمثل المفروض ، ولو سلّمنا ، فهذه معارضة بما هو أوضح سندا ، وأقوى دلالة ، ومع التساوي فلا بدّ من الحمل على ما ذكر جمعا بينهما.

وأمّا الجواب عن الثاني ، فأوّلا : النقض بالأخبار ، فإنّها ممّا قد نالها يد التخصيص والتقييد بكثير بحيث لا يكاد ينكر.

وثانيا : الحلّ (١) ، فإنّ ورود التخصيص والتقييد كثيرا أو (٢) قليلا لا يقضي بإهمال الأدلّة وإجمال المراد بعدهما ؛ لأنّ العمل بالعامّ إنّما هو بعد الفحص ، ولا ضير فيه ؛ لما قد تقرّر من حجّية العامّ المخصّص في الباقي لو لم يكن مخصّصا بمجمل ، وعلى تقديره فعدم حجّيته إنّما هو من (٣) جهة إجماله.

ثمّ إنّ للفاضل السيّد صدر الدين في المقام كلاما لا بأس بنقله وذكر ما يرد عليه قال رحمه‌الله بعد جملة كلام له : والقول الفصل مع تفصيل وتوضيح يظهر بعد تمهيد مقدّمتين :

الأولى (٤) : أنّ بقاء التكليف إلى الانقراض الذي (٥) ممّا لا شكّ فيه ، ولزوم العمل بمقتضاه موقوف على إفهام المكلّفين ما كلّفوا به ، وهو يكون في الأكثر بالقول ، ودلالة القول على المراد منه لا تكون قطعية إلاّ بضمّ أمور خارجية (٦) وكثيرا ما تكون ظنّية إذ مدار الإفهام وقطبه في كلّ لغة إنّما هو إلقاء الحقائق المجرّدة عن القرينة ، وإبقاء المجازات معها ، فيبني (٧) المخاطبون الاعتقاد أو العمل على ما يفهمونه ، وإن كان احتمال التجوّز في الأوّل وخفاء (٨) القرينة وأشباهها (٩) على المخاطب في الثاني باقيا ؛ لأنّه لا بعد في أن ينصب متكلّم قرينة لإرادة معنى مجازي آخر ؛ لكون القرينة مناسبة للمعنيين ، والذي

__________________

(١) « ل » : بالحلّ.

(٢) « ل » : « و» بدل : « أو ».

(٣) « ش » : في.

(٤) في المصدر : + هي.

(٥) في المصدر : « الدهر » بدل : « الذي ».

(٦) في المصدر : قد يكون قطعية ولو بضمّ أمور خارجية.

(٧) « ش » : فيبتني.

(٨) « ل » : إخفاء.

(٩) « ل » : أشباهه.

٨٧

يكشف عمّا قلناه أنّا لو فرضنا كون صيغة الأمر للوجوب لغة ، فأمر لغوي عبده فأبطأ عن المسارعة إلى الامتثال معتذرا باحتمال التجوّز ، لذمّه العقلاء ، وكذا يذمّون المولى لو عذّب العبد ؛ لأنّه سارع (١) إلى الامتثال بعد فراغ المولى من التكلّم ، ولم يصبر حتّى يظهر عليه القرينة ولو بعد حين.

فإن قلت : تأخير القرينة عن وقت الخطاب جائز على المشهور ، وعن وقت الحاجة أيضا كذلك إذا كان لأحد مصلحة (٢) داعية إلى التأخير ، راجحة عند العقل والشرع على العمل بخلاف ما أريد من الكلام ، مثلا لو فرضنا أنّ أحدا قال لعبده : أكرم كلّ من دخل داري غدا وهو يريد غير زيد ، فأخّر البيان إلى الغد ، فلمّا حضر زيد وكان المولى خائفا من زيد على نفسه أو على العبد ، فترك البيان فأكرم العبد زيدا أيضا ، فلا ريب في رجحان مصلحة التقية والاتّقاء (٣) على ترك إكرام زيد ، فكيف يسوغ للعقلاء الذمّ إذا أبطأ العبد معتذرا بهذا الاحتمال الواقع في المحاورات ، وكذا كيف يجوز ذمّ المولى على العقاب مع مسارعة العبد إلى الامتثال إذا قال المولى : لم لم تصبر حتّى يظهر لك حقيقة (٤) الحال؟

قلت : ما ذكرت نادر لا سيّما الأخير ، ولا عبرة بمثله عند العقلاء ، ولهذا يتسارعون إلى الذمّ مع قيام هذا الاحتمال عندهم.

الثانية (٥) : أنّ المتشابه كما يكون في أصل اللغة كاشتراك اللفظ (٦) ، كذلك يكون بحسب الاصطلاح مثل أن يقول أحد : إنّي استعمل العمومات كثيرا وأنا أريد الخصوص من غير ضمّ قرينة متّصلة ، وأطلق المطلقات وأريد المقيّدات ، وربّما أحكم

__________________

(١) « ل » : مسارع.

(٢) « ل » : كان لمصلحة.

(٣) « ل » : الإبقاء!

(٤) في المصدر : جلية.

(٥) في المصدر : + هي.

(٦) في المصدر : لفظي.

٨٨

حكما يدلّ ظاهرا (١) على الاستمرار ، ولكن أنسخه (٢) من بعد (٣) ، وربّما أخاطب أحدا وأنا أريد غيره ، أو أخصّص قوما بالخطاب وأنا أريدهم مع غيرهم ، أو نرى نحن أمثال ذلك في كلام متكلّم (٤) وإن لم يصرّح هو به مع علمنا بعدم غفلته ومسامحته ، فحينئذ لا يجوز لنا القطع بمراده ، ولا يحصل الظنّ به.

اللهمّ إلاّ أن يكون العامّ الباقي على عمومه ، والمطلق الباقي على إطلاقه كثيرا بالنسبة إلى المخصّص (٥) والمقيّد ، وكذا غيرهما ، والقرآن من هذا القبيل ؛ لأنّه وإن كان عربيا لكن نزل على اصطلاح جديد (٦) ، لا أقول على وضع جديد بل أعمّ من أن يكون كذلك ، أو يكون فيه مجازات لا يعرفها (٧) العرب ، ومع ذلك وجدت فيه كلمات لا يعلم المراد منها أصلا كالمقطّعات في أوائل السور ، ثمّ إنّ الله تعالى لم يدع المكلّفين حتّى أنزل إلى رسوله قوله : ( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ )(٨) الآية ، فذمّهم على اتّباع المتشابه ولم يبيّن لهم المتشابه (٩) ما هي؟ وكم هي؟ بل لم يبيّن لهم المراد من هذا اللفظ (١٠) ، وجعل البيان موكولا إلى خلفائه ، والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله نهى الناس عن التفسير بالآراء وكذا الأوصياء (١١) عليهم‌السلام ، وكذا جعلوا لنا الأصل عدم جواز (١٢) العمل بالظنّ إلاّ ما أخرجه الدليل.

ثمّ أفاد : إذا تمهّدت هاتان المقدّمتان ، فنقول : مقتضى المقدّمة الأولى هو العمل بالظواهر ، ومقتضى الثانية عدم جواز (١٣) العمل بها (١٤) ؛ لأنّ ما صار منها (١٥) متشابها لا

__________________

(١) في المصدر : ظاهره.

(٢) في المصدر : ولكنّي سأنسخه.

(٣) في المصدر : ـ من بعد.

(٤) في المصدر : كلامه.

(٥) في المصدر : المخصوص.

(٦) في المصدر : خاصّ.

(٧) في المصدر : لم يعرفنا.

(٨) آل عمران : ٧.

(٩) في المصدر : المتشابهات.

(١٠) في المصدر : هذه اللفظة.

(١١) في المصدر : أوصيائه.

(١٢) في المصدر : ـ جواز.

(١٣) في المصدر : ـ جواز.

(١٤) في المصدر : ـ بها.

(١٥) « ل » : ـ منها.

٨٩

يحصل الظنّ بالمراد منه ، وما بقي على ظهوره وحصل منه الظنّ (١) مندرج في الأصل المذكور ، فنطالب العامل به بدليل جواز العمل [ به ] ، لأنّ الأصل الثابت عند الخاصّة (٢) هو عدم جواز العمل بالظنّ إلاّ ما أخرجه الدليل (٣) مثل عمل أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة عليهم‌السلام بالظنّ المستفاد من الأخبار إذا سمعوها منهم من غير فحص وتحصيل قطع بالمراد وتقريرهم على ذلك.

لا يقال : إنّ الظاهر من المحكم ووجوب العمل بالمحكم إجماعي.

لأنّا نمنع الصغرى ، إذ المعلوم عندنا مساواة المحكم للنصّ ، وأمّا شموله للظاهر فلا ، كيف و [ هم ] قد عرّفوه بتعريفات مختلفة ، ولم يقيموا دليلا على أنّ المعنى الشامل للظاهر هو المراد منه في القرآن والأخبار.

وأيضا لا يظهر من الأحاديث الواردة في تفسيره هذا الشمول بل ادّعى الشيخ الفاضل المحدّث حسين بن شهاب الدين العاملي في كتابه أيضا أنّ الذي يظهر من الأخبار مساواة المحكم للنصّ حيث قال : إنّ المفهوم من الأحاديث هو أنّ المحكم ما لا يحتمل غير ما يفهم منه مع (٤) بقاء حكمته على حاله والمتشابه ما عداه (٥). انتهى.

ثمّ ذكر ما دلّ على أنّ المتشابه يعمّ النصّ والظاهر من النصوص وكلمات الأصحاب ، ثمّ أورد سؤالا على نفسه بقوله : لا يقال : إنّ ما ذكرتم في عدم جواز العمل بظواهر القرآن إن تمّ لدلّ على عدم جواز العمل بظواهر الأخبار أيضا ؛ لأنّ فيها أيضا محكما ومتشابها ، وناسخا ومنسوخا ، وعامّا أريد منه الخاصّ ، ومطلقا أريد منه المقيّد.

__________________

(١) في المصدر : ـ الظنّ.

(٢) المثبت من المصدر وفي النسختين : الحاجة وهو تصحيف.

(٣) في المصدر : ـ الدليل.

(٤) « ل » : من.

(٥) هداية الأبرار : ١٥٥.

٩٠

وأجاب عنه بقوله : لأنّا نقول قد سبق ما يستفاد منه الجواب ، ونقول هنا تأكيدا وتوضيحا : إنّا لو خلّينا وأنفسنا ، لعملنا بظواهر الكتاب والسنّة عند عدم نصب القرينة العقلية والفعلية والقولية المتّصلة على خلافها ، ولكن منعنا عن ذلك وعن (١) العمل بالقرآن ؛ إذ منعنا الله من اتّباع المتشابه ، ولم يبيّن حقيقته لنا ، ومنعنا رسول الله (٢) صلى‌الله‌عليه‌وآله عن تفسير القرآن ، ولا ريب أنّ (٣) غير النصّ محتاج إلى التفسير لتحقيق الإجمال (٤) فيه ، وأوصياؤه عليهم‌السلام أيضا منعونا ، وأيضا ذمّ الله سبحانه من اتّبع (٥) الظنّ وكذا رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأوصياؤه ، ولم يستثنوا (٦) ظواهر القرآن لا قولا ولا تقريرا ، وليس هناك دليل قطعي بل ظنّي ، ولا إجماع على الاستثناء ، وأمّا (٧) الاعتذار في العمل بالظنّ بأنّا لمّا ظننّا كون حكم مستفاد (٨) من آية أنّه (٩) مراد الله ، علمنا به ؛ لأنّ (١٠) تركه مورث لخوف المؤاخذة الأخروية (١١) ورفع الخوف المظنون واجب ، فيجاب عنه بأنّ عقلك دلّك أيضا على قبح المؤاخذة مع النهي المطلق عن اتّباع الظنّ وعدم بلوغ المخرج ، وكيف يسمع هذا الاعتذار مع أنّ القائس أيضا يعتذر بمثل عذرك وأنت تمنعه من القياس ، وسيأتي لهذا مزيد توضيح إن شاء الله تعالى في مبحث حجّية الإجماع [ المنقول ] بخبر الواحد.

وأمّا الأخبار ، فقد سبق في مبحث جواز العمل بالعامّ قبل الفحص عن المخصّص أنّ أصحاب الأئمّة كانوا عالمين بأخبار تبلغهم عن (١٢) واحد منهم ، وما كان في قريب

__________________

(١) « ش » : ـ عن. في المصدر : في.

(٢) « ل » : رسوله.

(٣) في المصدر : في أنّ.

(٤) في المصدر : لتحقّق الاحتمال.

(٥) في النسختين : اتباع.

(٦) في المصدر : ولم يستثنا.

(٧) في المصدر : « واقعا » بدل : « وأمّا ».

(٨) « ل » : مستفادة.

(٩) المصدر : ـ أنّه.

(١٠) « ل » : لأنّه.

(١١) في المصدر : في الآخرة.

(١٢) في المصدر : من.

٩١

من خمسين سنة فصاعدا (١) أصل أو كتاب يراجعون إليه ، وكانوا إذا حدثت (٢) حادثة وروى ثقة فيها خبرا من المعصوم [ المتقدّم ] ، يعملون بخبره من غير تربّص وسؤال عن أنّه هل هناك عند أحد مخصّص أو معارض أو ناسخ أو مقيّد؟ وكانوا يعملون إلى أن يجيء من عند الإمام الحيّ معارض (٣) أو غيره ، ثمّ بعد جمع جلّ الأحاديث في الأصول والكتب ما كان عند كلّ واحد من فضلائهم إلاّ أصل (٤) لا غير ، أو مع أصل واحد من غيره.

وبالجملة ، ما كان مجموع الأحاديث مجتمعا (٥) عندهم ، وما كان لهم مثل التهذيب بل مثل الفقيه والأئمّة عليهم‌السلام يعلمون (٦) هذه الطريقة منهم ، ولا ينكرونهم بل يحثّونهم على العمل بالأصول وكتابة (٧) الأحاديث.

وبالجملة ، قد حصل لنا علم قطعي من التتبّع بتجويز العمل من أئمّتنا عليهم‌السلام بخبر العدل الإمامي من غير فحص ، ولهذا عملنا بظواهر الأخبار مع ما قلنا من أنّ مدار التكاليف في كلّ اللغات على الظواهر من لدن آدم إلى يومنا هذا ، ولو لا هذا الذي قلنا ، لكنّا في العمل بظواهر الأخبار متوقّفين (٨) ، والله الموفّق والمعين (٩). انتهى كلامه رفع مقامه (١٠).

وإنّما نقلناه (١١) بطوله ليعلم موارد النظر فيه بعد ما قدّمنا لك من وجود المقتضي ورفع المانع ، وكفاك ردّا عليه ما قلنا من إجماع الأمّة على العمل به من لدن زمن النبيّ

__________________

(١) في المصدر : « وما عدا عندهم » بدل : « فصاعدا ».

(٢) « ش » : أحدثت.

(٣) في المصدر : المعارض.

(٤) في المصدر : أصله.

(٥) « ل » : مجموعا.

(٦) في المصدر : يعملون.

(٧) « ل » : كتب.

(٨) في المصدر : + أيضا.

(٩) شرح الوافية ( مخطوط ) : ٥٧ / ب ـ ٦٠ / أ.

(١٠) « ل » : ـ رفع مقامه.

(١١) « ش » : نقلنا.

٩٢

صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة عليهم‌السلام الذي به يستعلم عدم كون المعمول به (١) متشابها ، وبه ينقطع الأصل الذي أجمعت الفرقة عليه من حرمة العمل بالظنّ كما في غيره من الظواهر ، ومنه يعلم عدم الافتراق بين الأخبار والقرآن في ذلك ، وأنت بعد الإحاطة بما مرّ في دليل المختار تقدر على استخراج وجوه النظر فيه.

مضافا إلى أنّ عدم حجّية الظواهر القرآنية قد يفضي إلى الدور الباطل ؛ فإنّه لا شكّ في إعجازها من جهة الفصاحة ، وقد تقرّر في محلّه أنّ وصف الفصاحة إنّما يلحق اللفظ باعتبار معناه ، فالإعجاز من الجهة المذكورة فرع فهم المراد منها ، وهو على ما تخيّله الأخباري فرع الإخبار به ، واعتباره فرع نبوّته صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلو توقّف نبوّته عليه ، لزم توقّف الشيء على نفسه وهو المراد باللازم وبالجملة ، فالمطلوب ممّا لا خفاء فيه.

فوائد

الأولى : قيل (٢) : لا ثمرة في النزاع في حجّية الظواهر القرآنية ، فإنّ آيات الأحكام قليلة ، وجملة منها مكرّرات ، وجملة أخرى إنّما تثبت الأمور الإجمالية الضرورية مع إمكان استفادتها من الأخبار الواردة فيها أيضا.

أقول : يمكن تحقّق الثمرة فيما إذا لم نقل بحجّية الأخبار الآحاد ، أو قلنا واستنبطنا منه ما لم نستنبطه من الأخبار كما قيل : إنّ الفخر الرازي قد استنبط من آية مائة حكم (٣) مع ظهور الثمرة في المتعارضين من الأخبار ، فإنّ موافقة الكتاب من المرجّحات المنصوصة ، وقد تعرّض بعضهم لبيان مورد من الكتاب لم يوافق الخبر لقوله : ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ )(٤) وليس بشيء ، فإنّ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « المؤمنون عند

__________________

(١) « ل » : ـ به.

(٢) النراقي في مناهج الأحكام : ١٦٩ ( الفائدة الثالثة ).

(٣) في النسختين : حكما.

(٤) المائدة : ١.

٩٣

شروطهم » (١) أوضح دلالة منها على المطالب التي يستدلّ بها عليها ؛ لمكان لفظ الشرط مع تصريح الفيروزآبادي في القاموس (٢) بوضعه للإلزام والالتزام ، وأمّا ما خصّصه بالبيع (٣) ، فالظاهر أنّه من جهة المثال.

الثانية : قد ورد في جملة من الآثار أنّ في القرآن سقطا حتّى أنّ في بعضها سقوط الثلث ، ومن ثمّة فقد يستشكل الاتّكال عليه والأخذ بظواهره ؛ لعدم الوثوق ، ولكنّه مدفوع أوّلا بمنعه ، وبعد تسليم ذلك وجوده في خصوص آيات الأحكام غير مسلّم ، وعلى تقديره فالشبهة غير محصورة ، وعلى تقديرها فلا نسلّم سريان ذلك في الموجود من القرآن ، فإنّ سقوط فقرة لا يقضي بإهمال فقرة أخرى مطلقا إلاّ أن يحصل العلم بالارتباط بينهما ، والأصل يدفعه ، فيحتمل أن يكون الفقرة المحذوفة والساقطة مثل سقوط القرينة الموضحة أو المؤكّدة ، وأمّا ثانيا ، فالإجماع بقسميه على ما عرفت يغني عن ذلك كلّه.

الثالثة : قد يتوهّم أنّ القول بحجّية الظواهر القرآنية يلازم القول بعدم حجّيتها ؛ لقوله : ( لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ )(٤) فإنّ الوقوف عليه وقوف على غير العلم ، فيلزم من وجوده عدمه.

ويمكن التفصّي عنه بتخصيص أمثال ذلك بأصول الدين ، على أنّ العمل بالقرآن بعد قيام الإجماع عليه عمل بالعلم ، مع أنّا لا نسلّم انصراف الآية إلى نفسها وما اشتمل عليها من الكتاب كما لا يخفى بعد الرجوع إلى العرف في أضرابه ، وعليه يبنى

__________________

(١) الوسائل ١٨ : ١٦ و ١٧ ، باب ٦ من أبواب الخيار ، ح ١ و ٢ و ٥ ، و ٢١ : ٦٨ ، باب ٣٢ من أبواب المتعة ، ح ٩ ، و ٢١ : ٢٧٦ ، باب ٢٠ من أبواب المهور ، ح ٤ ، و ٢١ : ٢٩٩ و ٣٠٠ ، باب ٤٠ من أبواب المهور ، ح ٢ و ٤ ، و ٢٣ : ١٤٢ ، باب ٤ من أبواب المكاتبة ، ح ٣ ، و ٢٣ : ١٥٥ ، باب ١١ من أبواب المكاتبة ، ح ١ ، و ٢٦ : ٥٥ ، باب ٢١ من أبواب موانع الإرث ، ح ١ ، وورد في كثير من المصادر « المسلمون » بدل : « المؤمنون ».

(٢) القاموس ٢ : ٥٤٢.

(٣) « ل » : في البيع.

(٤) الإسراء : ٣٦.

٩٤

في توجيه الاستدلال بإجماعي الشيخ والسيّد في حجّية الأخبار وعدمها عند من يرى اعتبار المنقول من الإجماع من جهتها.

الرابعة : قد اختلفوا (١) في تواتر القراءات السبع وعدم تواترها ، والمعروف بينهم هو الأوّل ، وخالف فيه جملة من الأواخر ، وهم بين القائل بحجّية جميعها وجواز قراءتها في الصلاة ، وبين المنع منها في غير المتواتر ولو جاز قراءتها في الصلاة ، ولا حاجة إلى إثبات أحد الوجهين بعد ما أطالوا في بيانه.

ولكنّه شيء هنا ينبغي التنبيه عليه وهو أنّه إذا اختلفت القراءات على وجه يختلف باختلافها المعنى ، فعلى تقدير تواتر الجميع أيّهما المقدّم فيما تعارضا كما في قوله : « يطّهرن » و « يطهرن » بالتشديد والتخفيف ، فإنّه على الأوّل لا بدّ من الاغتسال في جواز الوطء ، وعلى الثاني يجوز وطؤها بمجرّد انقطاع الدم ولو قبل الاغتسال؟ فقيل بالأوّل ، وقيل بالثاني (٢).

والتحقيق أن يقال : إنّه على تقدير القول بتواتر السبع لا بدّ أوّلا من إعمال قواعد المعارضة بين الأدلّة القطعية بحسب السند ، ثمّ الرجوع إلى الأصل إن أمكن ، كأن كان موافقا لأحدهما ، وإن لم يمكن بواسطة مطابقة الأصل الثالث غيرهما ، فالتخيير لكن بين الاحتمالات الواقعية ، وأمّا الآيتان فرجوعهما في الحقيقة إلى المتشابهات ممّا لا ريب

__________________

(١) انظر مدارك الأحكام ٣ : ٣٣٨ ؛ ذخيرة المعاد : ٢٧٣ ؛ نور البراهين للسيّد نعمة الله الجزائري ١ : ٥٣١ ؛ الفوائد الحائرية : ٢٨٦ ؛ الحدائق الناضرة ٨ : ٩٥ ؛ القوانين ١ : ٤٠٦ ؛ غنائم الأيّام ٢ : ٥٠١ ؛ مفاتيح الأصول : ٣٢٢ ؛ كتاب الصلاة للشيخ الأنصاري ١ : ٣٥٧ و ٣٦٣ و ٥٩٠ ؛ البيان للسيّد الخوئي : ١٢٣ وما بعدها و ١٥١ وما بعدها.

(٢) حمل المحقّق في المعتبر ١ : ٢٣٥ التضعيف على الاستحباب توفيقا بين القراءتين ، وهو أحد وجهي كلام العلاّمة في منتهى المطلب ٢ : ٣٩٧ وفي ط الحجري ١ : ١١٧. وحمل التضعيف على الطهر كما في جامع المقاصد ١ : ٣٣٣ ؛ وروض الجنان ١ : ٢١٦ وفي ط الحجري ٧٨ وكلاهما في مدارك الأحكام ١ : ٣٣٦ ـ ٣٣٧. انظر الحدائق ٣ : ٢٤٤ والجواهر ٣ : ٢٠٧ وكتاب الطهارة للشيخ الأنصاري : ٢٣٧ ط الحجري.

٩٥

فيه في الفرض ، وقد نهى الشارع عن العمل بها وذلك مثل ما قاله بعض الأفاضل في تعارض الحجّة واللاحجّة كالقياس والخبر الصحيح ، وكان الظنّ في طرف القياس ، فإنّه قال بالتخيير بينهما ، ثمّ قال : ولا يلزم منه التخيير بين العمل بالقياس وغيره.

ثمّ المراد من إعمال قواعد المعارضة أنّه لا بدّ أوّلا أن يلاحظ النسبة بينهما وإن كان من العامّين من وجه ، فإن كان أحدهما نصّا بالنسبة إلى الآخر ، فهو وإلاّ فيرجع إلى المرجّحات الخارجية وإن كان بينهما العموم والخصوص مطلقا لا من وجه ، فيحمل أحدهما على الآخر كما هو المرجع في غير المقام ، ومثل ذلك بعينه الكلام فيما لو لم نقل بتواتر السبع لكن قلنا بحجّية الجميع في مقام استنباط الأحكام كما يجوز القراءة في الصلاة بكلّ وجه من وجوه القراءة بلا خلاف وإشكال.

وأمّا لو لم نقل بحجّية غير المتواتر ، فلا وجه للرجوع إلى المرجّحات فيما إذا كان المتعارضان عامّين من وجه ، بل يكون من باب اشتباه الحجّة بغيرها ، وحكمه التوقّف بعد العجز عن التمييز والرجوع إلى ما يطابق الأصل في صورة المطابقة لأحدهما ، ثمّ التخيير بين الاحتمالين على ما عرفت. هذا تمام الكلام في المقام الأوّل.

[ في حجّية ظواهر الكتاب لغير المشافهين ]

وأمّا المقام الثاني فقد يظهر من المحقّق القمّي وصاحب المعالم فيما نقلنا كلامه إجمالا (١) عدم حجّية الظواهر القرآنية لغير المشافهين ، ويمكن الاستدلال لهما بوجهين :

الأوّل : حصول الاطمئنان للمشافه بعد إعماله أصالة الحقيقة وأصالة عدم القرينة وغيرهما من الأصول المعمولة في استخراج المطالب عن الظواهر اللفظية عند العرف والعادة ، ولا أقلّ من حصول الظنّ القويّ للمشافه بواسطة علمه بالقرائن المحفوفة

__________________

(١) تقدّم في ص ٧٩ ، وانظر البحث أيضا في العموم والخصوص من مطارح الأنظار ٢ : ١٨٣ وما بعدها.

٩٦

بالكلام وسوق المقام ، فيعمل بمضمونه بخلاف غير المشافه ، فإنّه لا يحصل له الاطمئنان بواسطة احتمال اختفاء القرائن ، فإنّ المتعارف في أغلبها هو القرائن اللفظية وأمّا القرائن الحالية فلا ، مضافا إلى أنّه قد لا يمكن بيان الحال كما لا يخفى.

ثمّ إنّه قد يمكن دعوى العلم الإجمالي بسقوط جملة من الأمارات المفيدة للظنّ بالمراد والاطمئنان فيها لغير المشافه فيما لم يكن القصد إعلام غير المشافه بالمراد كما في كتب المصنّفين والوصايا والمراسلات ، فإنّ القصد فيها تعلّق بإعلام غير المشافه أيضا ، فالقرائن المعتبرة في إفادة المطالب موجودة فيها ومعتبرة عند المصنّف والكاتب والمراسل بخلاف ما إذا لم يتعلّق القصد بإعلام غير المشافه ، أو لم يكن معلوما كما في المقام ، فإنّه لا وجه للاستناد إلى أصالة الحقيقة في المقام ، لعدم حصول الاطمئنان بل الظنّ الشخصي أيضا.

لا يقال : لا يجوز العمل بالظواهر إلاّ بعد الفحص ، وبعده لا نسلّم العلم الاجمالي بسقوط القرائن بل يحصل الظنّ الشخصي بالمراد لو لم نقل بحصول الاطمئنان.

لأنّا نقول : كلاّ ، فإنّ العلم الإجمالي حاصل بوجود القرائن الحالية القابلة لصرف اللفظ عن ظاهره ، وبأنّ الغائب عنّا والمخفيّ علينا إنّما يساوي أضعاف ما هو بأيدينا ، ومعه لا يحصل الظنّ الشخصي فضلا عن الاطمئنان ، وغاية الأمر إفادة الظنّ النوعي ، ولا دليل على اعتباره بالخصوص كما هو المراد في المقام.

الثاني : أنّ احتمال خلاف الظاهر من الخطاب للمشافه ليس إلاّ من جهة احتمال الاشتباه في المتكلّم ، أو تقصيره في عدم نصب القرينة ، أو اشتباه المخاطب ، أو قصوره عن فهم القرينة ، والأصل المجمع عليه الفريقان يقضي بعدم الخطأ والتقصير كما أنّ الأصل قصد المتكلّم مدلول الكلام إجماعا.

٩٧

مضافا إلى إلغاء احتمال خلاف ذلك في النصوص (١) ، فإنّه سئل عن امرأة أحلّت جاريت [ ها ] لزوجها فأمضاها عليه‌السلام ، فقال السائل : فلعلّه لمزاح بينهما ، فأجاب عليه‌السلام بعدم اعتبار الاحتمال بخلاف غير المشافه ، فإنّ احتمال إرادة خلاف الظاهر لا ينحصر فيما عرفت دفعه بالإجماع بل يحتمل بواسطة سقوط قرينة وأمثاله ، ولا دليل على اعتبار أصالة عدم القرينة في حقّنا إلاّ من جهة مطلق الظنّ.

لا يقال : إنّ بناء العقلاء في استكشاف مطالبهم على التعويل بالأصول المعمولة في استخراج المراد من الظواهر ، والعلماء الأعلام مطبقون على ذلك.

لأنّا نقول : أمّا بناء العقلاء ، ففيما لم يفد الاطمئنان ، ولا أقلّ من الظنّ الشخصي فغير مسلّم كما عرفت في الوجه الأوّل ، وأمّا عمل العلماء ، فيحتمل أن يكون بواسطة مطلق الظنّ ، فلا دلالة فيه على المدّعى.

والجواب عن كلا الوجهين ما ذكرناه في أدلّة المختار من إثبات حجّية الظواهر منه مطلقا ، فإنّ الإجماع من لدن زمن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة على العمل بها إلى زماننا ، ولم يظهر مخالف في ذلك ، ولذلك نرى عدم عنوان المسألة في كلام القدماء مع العلم الإجمالي بأنّ جملة منها ممّا لا يفيد الظنّ الشخصي فضلا عن الاطمئنان ، واحتمال التعويل عليها من جهة مطلق الظنّ نظرا إلى انسداد باب العلم في تلك الأزمنة ممّا لا يستقيم أصلا في زمن إمكان تحصيل العلم ، مع أنّ أوائل زمن الغيبة كزمن المرتضى على ما ادّعاه زمن انفتاح باب العلم ، فلا وجه للقول بالظنّ المطلق ، فإنّ السيّد كان يستنبط الأحكام من الأدلّة القطعية ، وعدّ منها المتواترات ولا سيّما بعد ملاحظة تحريمهم للعمل بالظنّ المطلق وحصرهم الأدلّة في الأربعة غالبا أو الخمسة بزيادة الاستصحاب عليها كما عن بعضهم.

__________________

(١) الوسائل ٢٠ : ٣٠١ ، باب ٢٤ من أبواب عقد النكاح وأولياء العقد ، ح ٢ ، و ٢١ : ١٢٨ ، باب ٣٢ من أبواب نكاح العبيد والإماء ، ح ١ و ٣.

٩٨

سلّمنا انسداد باب العلم بالأحكام لهم ولكن لا نسلّم انسداد باب العلم في طريقها أيضا لهم ، فالعلم في المسألة الأصولية كان ممكنا لهم ، ولعمري كيف يجوّز العاقل من أمثالهم إهمالهم في مثل هذه المسألة العظيمة مع أنّ أهل بيت العصمة والطهارة بيّنوا لهم أحكام دينهم ودنياهم حتّى أرش الخدش وآداب الأكل والشرب والنوم والخلوة والمقاربة ونحوها ، وهل هذا إلاّ للعلم برضاهم عليهم‌السلام بالعمل بظواهر الكتاب؟

ثمّ إنّ المحقّق القمّي قد بنى القول بحجّية الكتاب على أنّه من الظنون الخاصّة التي قام القاطع على اعتبارها ، وعدمها على القول بعموم الخطاب لغير المشافهين وعدمه ، وعلى ما عرفت لا وقع له ، فإنّ الإجماع منعقد على اعتباره ولو لغير المشافه كما مرّ ، مع أنّا لو سلّمنا العموم وقطعنا النظر عن الإجماع على العمل به ، فلا نسلّم حجّيته من باب الخصوصية ، فإنّ مجرّد القول بعموم الخطاب لا يقضي بارتفاع احتمال الخلاف في ظواهر الألفاظ ، ولذا يجب الفحص عن المعارض على القول بالظنون الخاصّة أيضا ، ومع ذلك لا يحصل الاطمئنان بإرادة ما هو الظاهر من اللفظ.

ثمّ إنّ لصاحب المعالم كلاما في المقام لا بأس بنقله ، قال بعد الاستدلال على حجّية أخبار الآحاد بالدليل الرابع :

لا يقال : الحكم المستفاد من ظاهر الكتاب معلوم لا مظنون ، وذلك بواسطة ضميمة مقدّمة خارجية وهو (١) قبح خطاب الحكيم بما له ظاهر وإرادة (٢) خلافه من غير دلالة تصرف عن ذلك الظاهر ، سلّمنا ولكنّه ظنّ مخصوص ، فهو من قبيل الشهادة لا يعدل عنه إلى غيره إلاّ بدليل.

لأنّا نقول : أحكام الكتاب كلّها من قبيل خطاب المشافهة ، وقد مرّ أنّه مخصوص بالموجودين في زمن الخطاب ، وأنّ ثبوت حكمه في حقّنا (٣) إنّما هو بالإجماع وقضاء

__________________

(١) المصدر : هي.

(٢) المصدر : وهو يريد.

(٣) المصدر : حقّ من تأخّر.

٩٩

الضرورة بالاشتراك في التكليف (١) ، وحينئذ فمن الجائز أن يكون قد اقترن ببعض تلك الظواهر ما يدلّهم على إرادة خلافها ، وقد وقع ذلك في مواضع علمناها بالإجماع ونحوه ، فيحتمل الاعتماد في تعريفنا بسائره (٢) على الأمارات المفيدة للظنّ القويّ ، وخبر الواحد من جملتها ، ومع قيام هذا الاحتمال ينتفي القطع بالحكم الشرعي (٣) ، ويستوي حينئذ الظنّ المستفاد من ظاهر الكتاب والحاصل من غيره بالنظر إلى إناطة التكليف به ، لابتناء الفرق بينهما على كون الخطاب متوجّها إلينا وقد تبيّن خلافه ، ولظهور اختصاص الإجماع والضرورة ـ الدالّين على المشاركة في التكليف (٤) المستفادة من ظاهر الكتاب ـ بغير صورة وجود الخبر الجامع للشرائط الآتية ، المفيد (٥) للظنّ الراجح بأنّ التكليف بخلاف ذلك الظنّ الظاهر ، ومثله يقال في أصالة البراءة لمن التفت إليها بنحو ما ذكر أخيرا في ظاهر الكتاب (٦). انتهى كلامه رفع مقامه.

وفيه من وجوه النظر ما لا يخفى سؤالا وجوابا :

أمّا على الأوّل ، فلأنّ الواجب على الحكيم سوق الكلام ، على ما يقتضيه المقام باختلافه باحتفافه على القرائن المفيدة للمطلوب من غير تقصير له في البيان ، وأمّا قصور فهم المخاطب عن إدراك القرائن بواسطة غباوته أو سهوه أو نسيانه وأمثال ذلك (٧) ممّا لا دخل له بالحكيم ، فلا يجب عليه رفعه ، فعلى هذا لا يفيد ضمّ المقدّمة الخارجية في إفادة القطع كما هو ظاهر السؤال ، مع أنّا نقطع بأنّ كثيرا من خطابات المشافهة ـ الصادرة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة عليهم‌السلام للمخاطبين المشافهين ـ لا يزيد على إفادة الظنّ كما لا يخفى ، فلا يصحّ دعوى الفرق بين خطابات الحكيم وغيره في ذلك فتأمّل.

__________________

(١) المصدر : باشتراك التكليف بين الكلّ.

(٢) المصدر : بسائرها.

(٣) المصدر : ـ الشرعي.

(٤) المصدر : التكاليف.

(٥) في النسختين : المفيدة.

(٦) معالم الدين : ١٩٣ ـ ١٩٤.

(٧) في هامش « ش » : كاختفاء بعض القرائن بسبب الفناء.

١٠٠