مطارح الأنظار

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني

مطارح الأنظار

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني


المحقق: علي الفاضلي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: معهد الإمام الخميني والثورة الإسلامية
المطبعة: مؤسسة العروج
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7986-36-6
الصفحات: ٦١٥

أهل الخبرة فيما إذا اشتبه عليه موضوع وغير ذلك من أسباب حصول العلم ، وأخرى بارتكاب ما به يتمّ عنوان الحرام وما به يحصل مصداق الفعل المحرّم في الواقع ، فالمكلّف إنّما يوجد ما به يحصل له العلم بحصول الفعل المحرّم في الخارج كما في العمل بالأشكال المجسّمة ، فإنّ الاشتغال بما تتمّ به الصورة (١) من الأجزاء الباقية مثلا محصّل للعلم بوقوع المكلّف في الحرام.

والمستدلّ إنّما بنى استدلاله على القسم الثاني ، والمعترض إنّما حاول الاعتراض عليه بالقسم الأوّل ، وكم من فرق بين المقامين فإنّه لا شكّ في عدم حرمة الأوّل وإن كان قد يظهر من بعض الآثار المرويّة عنهم ـ صلوات الله عليهم ـ ما يلوح منه الكراهة كما في قوله : « هلاّ سألت » فيما سأل السائل عن كون زوجته الانقطاعية في حبالة زوج آخر فعلم به (٢) ، كما أنّه لا ريب في حرمة الثاني ؛ لأنّ العنوان المحرّم يحصّله بعلمه لمكان مدخلية له فيه ، فالمستدلّ زعم أنّ ارتكاب الأفراد الباقية إنّما هو بمنزلة تتميم الصورة المنقوشة وارتكاب غيرها بمنزلة الأجزاء الأول من تلك الصورة.

فالتحقيق في الجواب عدم صحّة المقايسة (٣) بالمثال المذكور بإبداء الفرق بينهما من أنّ الاشتغال بالأجزاء الباقية من الصورة المنقوشة قطعا محصّل لعنوان محرّم ، وبه يتمّ مصداق الفعل الحرام لدوران الحكم مدار اسم الكلّ ، وبه يحصل الكلّ بخلاف الإتيان بالأفراد الباقية إذ لا قطع بأنّ ارتكاب تلك الأفراد محصّل لعنوان الفعل المحرّم ، فلعلّه حصل بالفرد الأوّل.

فظهر أنّ الحرمة في الصورة أيضا لا تترتّب على تحصيل العلم بالحرام (٤) بل إنّما يلازم نفس الفعل ، وحيث إنّ تمام الفعل في الخارج يلازم العلم بحصول الحرام ، فقد يتوهّم المتوهّم أنّ تحصيل العلم بالحرام حرام.

__________________

(١) « م » : الاشتغال به يتمّ الصورة. « ج » : الاشتغال ربما يتمّ الصورة.

(٢) الوسائل ٢١ : ٣٠ ، باب ١٠ من أبواب المتعة ، ح ٣ و ٤.

(٣) « ج ، م » : المقالة.

(٤) « م » : الحرام!

٤٦١

وبالجملة ، فلا دليل على لزوم إبقاء مقدار ما يساوي الحرام إلاّ دعوى حرمة تحصيل العلم بالحرام كما عرفت ، ولا دليل عليه لا عقلا ولا نقلا ، والعمدة في المقام هو عدم جواز التصرّف في الأدلّة الواقعية ، وحكم العقل بوجوب تحصيل الإطاعة والفراغ بعد العلم بالاشتغال.

وربّما يستدلّ على لزوم الموافقة القطعية ببناء العقلاء فإنّهم بسجاياهم يحكمون على لزوم الاحتراز من الإناءين المقطوع وجود السمّ في أحدهما ، ويلحقون المرتكب لهما بأصحاب السوداء والجنون ، وهو كذلك إلاّ أنّه لا ينهض حجّة في المقام وأمثاله لما ستعرف من أنّ إلزام العقلاء على ذلك من جهة قصور أنظارهم على إحراز المصالح والمفاسد الكائنة في نفس الأشياء مع قطع النظر عن التعبّد بأوامره ونواهيه ، فكأنّهم يوجبون الاحتياط في الأمور الراجعة إليهم ، وذلك لا يتمّ فيما علمنا عدم الاقتصار على مجرّد المصالح والمفاسد لمدخل التعبّد فيه كما في الشرعيات بعد عدم دليل على وجوب الاحتياط إلاّ ما دلّ على وجوب الشيء في الواقع ، فظهر أنّ الركون إلى مثل هذا الوجه ممّا لا تعويل عليه إلاّ بعد الرجوع إلى ما مرّ وأوله إلى ما ذكر وبدونه لا جدوى فيه لاختلاف وجوه الأدلّة كما لا يخفى.

وقد يلوح من بعض متأخّري المتأخّرين كصاحب الحدائق (١) دعوى الاستقراء على عدم جواز الارتكاب ، وفيه منع واضح إذ الموارد التي بملاحظتها حكم بالاستقراء لا تزيد على معدود ، فهي في غاية القلّة ، فكيف الاستقراء.

نعم ، لو بدّل هذه الدعوى بدعوى دلالة (٢) بعض الأخبار الواردة في موارد خاصّة ولو بعد تنقيح مناطها على حرمة الارتكاب ، لم يكن بذلك البعيد.

فمنها : صحيحة زرارة في حديث طويل إلى أن قال : قلت : فإنّي قد علمت أنّه قد أصابه ولم أدر أين هو فأغسله؟ قال عليه‌السلام : « تغسل من ثوبك الناحية التي ترى أنّها [ قد ]

__________________

(١) الحدائق ١ : ٥٠٣.

(٢) « س » : ـ دلالة.

٤٦٢

أصابها حتّى تكون على يقين من طهارتك » (١) والتقريب ظاهر جدّا.

ومنها : ما ورد أنّه « ما اجتمع الحلال والحرام إلاّ وقد غلب الحرام على الحلال » (٢).

فإن قلت : لا دلالة فيه على المطلوب لظهوره في المزجيات (٣) كما يؤيّده لفظ « ما اختلط » في الخبر الآخر (٤) وقد عرفت أنّ صورة المزج خارجة عن محلّ الكلام كما إذا امتزج السمن بمثله المحرّم أو بغير جنسه.

قلت أوّلا : إنّه خلاف الظاهر من لفظ « الخلط » فكيف بلفظ « الاجتماع ».

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٤٠٢ ، باب ٧ من أبواب النجاسات ، ح ٢ وسيأتي في بحث الاستصحاب.

(٢) عوالى اللآلى ٢ : ١٣٢ ، ح ٣٥٨ و ٣ : ٤٦٦ ، ح ١٧ وعنه في البحار ٢ : ٢٧٢ ، باب ٣٣ ، ح ٦ ، وفي مستدرك الوسائل ١٣ : ٥٦٨ ، باب ٤ من أبواب ما يكتسب به ، ح ٤.

والرواية عامية رواها عبد الرزّاق في المصنّف ٧ : ١٩٩ / ١٢٧٧٢ ؛ والبيهقي في السنن الكبرى ٧ : ١٦٩. قال البيهقي : رواه جابر الجعفي عن الشعبي عن ابن مسعود ، وجابر الجعفي ضعيف والشعبي عن ابن مسعود منقطع.

قال العجلوني في كشف الخفاء ٢ : ١٨١ / ٢١٨٦ : قال ابن السبكي في الأشباه والنظائر نقلا عن البيهقي : رواه جابر الجعفي عن ابن مسعود وفيه ضعف وانقطاع. وقال الزين العراقي في تخريج منهاج الأصول : لا أصل له ، وأدرجه ابن مفلح في أوّل كتابه في الأصول فيما لا أصل له.

قال المجلسي في بحار الأنوار ٦٢ : ١٤٤ : وأمّا الرواية فهي عامّية مخالفة للروايات المعتبرة ، والأصل والعمومات وحصر المحرّمات يرجّح الحلّ.

أقول : لفظة « على » في قوله : « على الحلال » وردت عند عبد الرزّاق والبيهقي ، وفي سائر المصادر وردت بدونها.

وتقدّم قريبه في ص ٤٠٢ وسيأتي في بحث التعادل والتراجيح : ج ٤ ، ص ٦٣٥.

(٣) « ج ، س » : الموجبات! وكذا في المورد الثاني.

(٤) الوسائل ٢٤ : ٢٣٥ ـ ٢٣٦ ، باب ٦٤ من أبواب الأطعمة المحرّمة ، ح ١ ، وهي رواية ضريس عن الباقر عليه‌السلام : عن السمن والجبن نجده في أرض المشركين بالروم نأكله؟ فقال : أمّا ما علمت أنّه قد خلطه الحرام فلا تأكل ، وأمّا ما لم تعلم فكله حتّى تعلم أنّه حرام.

٤٦٣

وثانيا : فالحرمة في المزجيات ليست (١) باعتبار غلبة جانب الحرام الحلال عند العلم بحرمة أحد المختلطين إجمالا بل بواسطة عنوان تفصيلي آخر وهو حصول الشركة أو النجاسة القطعية فإنّهم قد عدّوا من أسباب الشركة المزج اختيارا أو اضطرارا ، وبعد حصولها يحرم التصرّف بواسطة حصول الإشاعة ولا مدخل للحرام فيها كما لا يخفى.

وأمّا ما يقال : من معارضة الخبر بمثله بتقديم الحرام على الحلال كما عن بعض الأعاظم من الأواخر (٢) ، فمدفوع بأنّ أمثال هذه الأخبار ممّا لا تعويل عليها إلاّ فيما عاضده العمل على وجه يحصل الاطمئنان بسندها ودلالتها ، والأوّل كذلك لاستناد العلاّمة (٣) إليه في بعض الموارد بخلاف الثاني ، فلا بدّ من حمله على وجه لا ينافي الأوّل كأن يحمل على نصب الحلال على أن يكون مفعولا (٤) ورفع الحرام (٥).

ومنها : النبويّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « اتركوا ما لا بأس به حذرا ممّا به البأس » (٦).

واستند إليه ابن إدريس (٧) في مقام وجوب الاحتياط في قضاء صلاة (٨) الفائتة ، ودلالته على لزوم ترك المباح الواقعي مقدّمة لترك الحرام ظاهرة.

ومنها : خبر سماعة عن الصادق عليه‌السلام في رجل معه إناءان [ فيهما ماء ] وقع في

__________________

(١) « س » : ليس.

(٢) نقل في مفاتيح الأصول : ٧٠٨ عن جملة كتب ثمّ قال : وفي غاية المأمول : هذا هو المشهور وعليه الجمهور ، وفي الأحكام : ذهب إليه الأكثر كأصحابنا.

(٣) مختلف الشيعة ٧ : ٩.

(٤) في النسخ : معقولا!

(٥) نسب ذلك إلى المحقّق الأردبيلي في بحار الأنوار ٦٢ : ١٤٤.

(٦) بحار الأنوار ٧٤ : ١٦٤ / ١٩٢ نقلا عن تحف العقول : ٦٠ ، وفيه : لا يبلغ عبد أن يكون من المتقين حتّى يدع ما لا بأس به حذرا لما به البأس. وفي مستدرك الوسائل ١١ : ٢٦٧ ، باب ٢٠ ، ح ١٨ : إنّما سمّي المتقون المتقين لتركهم عمّا لا بأس به ، حذرا مما به البأس.

قال المحقّق الحلّي في الرسائل التسع : ١٢٧ بعد نقل كلام المستدل بهذه الرواية : إنّا لا نعرفها والجمهور قد أنكرها أكثرهم ، قال صاحب كتاب البحر : لا أصل لهذه الرواية.

(٧) لم أجده في السرائر.

(٨) كذا. والظاهر : الصلاة.

٤٦٤

أحدهما ولا يدري أيّهما هو وليس يقدر على ماء غيرهما قال عليه‌السلام : « يريقهما [ جميعا ] ويتيمّم » (١) ومثله موثّقة عمّار (٢).

ومنها : ما عن المحاسن عن أبي الجارود قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن الجبن فقلت : أخبرني من راى أنّه يجعل فيه الميتة ، فقال عليه‌السلام : « أمن أجل أنّه (٣) مكان (٤) واحد يجعل فيه الميتة حرّم جميع ما في الأرض فما علمت منه أنّه ميتة فلا تأكله وما لم تعلمه (٥) فاشتره وبعه وكله والله إنّي لأعرض (٦) السوق فأشتري منه اللحم والسمن والجبن والله ما أظنّ كلّهم مسلمون (٧) هذه البربر (٨) وهذه السودان » (٩) فإنّ فيه إشعارا بلزوم الاجتناب في صورة الانحصار كما لا يخفى على الخبير بصناعة الكلام.

ومنها : أخبار القرعة سؤالا وجوابا فإنّها بسياقها تدلّ (١٠) على أنّ سجيّة أهل الشرع كافّة على عدم الارتكاب وتوقّفهم فيه فإنّ يحيى بن أكثم من قضاة العامّة فقد حاول عرض المشاكل على الجواد ـ روحي له الفداء ـ وجواب الإمام عليه‌السلام بكون القرعة طريقا إلى الواقع (١١) إنّما يشعر بعدم (١٢) تغيّر الواقع كنفس السؤال ، وأمثال هذه التلويحات في الأخبار ما لا تحصى (١٣).

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٥١ ، باب ٨ من أبواب الماء المطلق ، ح ٢.

(٢) الوسائل ١ : ١٥٦ ، باب ٨ من أبواب الماء المطلق ، ح ١٤.

(٣) المصدر : ـ أنّه.

(٤) « ج ، س » : « كان » بدل : « مكان ».

(٥) « ج ، م » : لم تعلم.

(٦) في المصدر : لأعترض.

(٧) في المصدر : يسمّون.

(٨) في النسخ : البرية.

(٩) المحاسن ٤٩٥ / ٥٩٧ ، باب ٧٥ وعنه في الوسائل ٢٥ : ١١٩ ، باب ٦١ من أبواب الأطعمة المباحة ، ح ٥ وفيهما : حرّم في جميع الأرضين؟! إذا علمت أنّه ميتة فلا تأكل ، وإن لم تعلم فاشتر وبع وكل.

(١٠) « ج ، س » : يدل.

(١١) الوسائل ٢٤ : ١٧٠ ، باب ٣٠ من أبواب الأطعمة المحرّمة ، ح ٤ وفيه : عن أبي الحسن الثالث عليه‌السلام وفيه فيقرع بينهما فأيّهما وقع السهم بها ذبحت وأحرقت ونجا سائر الغنم.

(١٢) « س » : ـ بعدم.

(١٣) « س ، م » : لا يخفى.

٤٦٥

ثمّ إنّ هاهنا قولا ثالثا وهو تعيين الحرام بالقرعة نظرا إلى خصوص الرواية المذكورة وعموم قوله : « كلّ أمر مجهول ففيه القرعة » (١).

أمّا الجواب عن الرواية الخاصّة ، فبأنّها قضية في واقعة خاصّة يعمل بها في مواردها ولا عموم فيها حتّى تنهض بإثبات القاعدة.

وأمّا الجواب عن عمومات القرعة ، فقد يستفاد من بعضهم رميها بضعف السند.

وليس في محلّه لانجبار سندها بالعمل ، ولا يعقل ضعفها في مورد دون مورد أيضا.

وقد يقال بعموم موردها بالنسبة إلى موارد الأصول (٢) فإنّها لكلّ ما فيه الاشتباه سواء كان هناك علم سابق بالتكليف ، أو كان الشكّ فيه ، أو غير ذلك من موارد الأصول العملية الأربعة بخلاف موارد الأصول لاختصاص كلّ واحد منها بمورده فيخصّص عموم أدلّة القرعة بأدلّة هذه الأصول الخاصّة.

وضعفه أيضا واضح لاستلزامه تخصيص الأكثر بل يوجب (٣) تخصيص العامّ بالفرد الأندر ولا يصار إليه.

وقد يقال بحكومة أدلّة الأصول على أدلّة القرعة لأنّها لكلّ ما فيه الاشتباه وبإعمال الأصول يرتفع الاشتباه.

وفيه : أنّ القضية معكوسة لأنّ المستفاد من أخبارها هو كونه طريقا إلى الواقع كما في البيّنة ونحوها ، فلا ينبغي توهّم ورود مثل الأصول عليها ، وستعرف لذلك زيادة تحقيق إن شاء الله.

والتحقيق أنّ من أمعن النظر في أمثال هذه الروايات ممّا لم يستقرّ عمل الطائفة على الأخذ بها في كلّ ما يظهر أنّه من مواردها كأخبار نفي الضرر ، يجد من نفسه ما يمنعه عن كونها مفيدة لقاعدة كلّية منضبطة سارية في تمام مواردها إلاّ ما قام الدليل على

__________________

(١) الوسائل ٢٧ : ٢٥٩ ـ ٢٦٠ و ٢٦٢ ، باب ١٣ من أبواب كيفية الحكم ، ح ١١ و ١٨.

(٢) « م » : الأصول العملية.

(٣) « م » : توجب.

٤٦٦

تخصيصها فكأنّها تقضي بأنّها طريق الواقع في ضمن موارد مخصوصة معهودة يستكشف عنها بعمل جملة من أرباب الصناعة على وجه يحصل الاطمئنان والسكون فإنّ الشارع إنّما نفى الضرر في جملة موارد يستعلم بعمل الأصحاب منها ، وإلاّ فلو بنينا على العمل بمفاد أمثال هذه العمومات ، لزم تجديد الفقه عن أصله كما نبّه عليه بعض الأفاضل (١) سيّما فيما لو قلنا بعمومها للأحكام أيضا.

والقول بالعموم وخروج ما خصّص فيه بشاعة يأباه الذوق السليم وإن قلنا بجواز تخصيص الأكثر.

والحاصل فحيث إنّ أخبار القرعة غير معمول بها في المقام فنحن لا نجترئ على العمل بها ، وإلاّ فكان القول بها قويّا جدّا.

ثمّ إنّ هاهنا أخبارا أخر بظاهرها تدلّ على عدم وجوب الاجتناب عند العلم الإجمالي على ما زعمه بعضهم (٢) مثل ما يدلّ على جواز شراء ما في يد السارق والعشّار (٣) ونحو ذلك من وجوب إخراج الخمس في ما اختلط بالحرام ، ولا بدّ من حملها على وجه لا ينافي ما ذكرناه ، وكثير منها ممّا لا يأبى ذلك كأن يحمل على جوازه فيما لو دلّ الدليل الشرعي عليه كما إذا كان تحت أيدي المسلمين ونحو ذلك ، وليس ما ذكرنا بعيدا فإنّ كلمات بعض الأصحاب كظاهر بعض الأخبار توهم (٤) عدم وجوب الامتثال عند العلم التفصيلي أيضا كما أشرنا إليه في بعض المباحث السالفة (٥) من مباحث الظنّ.

__________________

(١) انظر عوائد الأيّام : ٦٥٩ ، عائدة ٦٢.

(٢) كالقمي في القوانين ٢ : ٢٦ ـ ٢٧.

(٣) انظر الوسائل ١٧ : ٢١٨ ، باب ٥٢ في جواز شراء ما يأخذ الظالم من الغلاّت باسم المقاسمة ومن الأموال باسم الخراج ومن الأنعام باسم الزكاة.

(٤) « ج » : يوهم.

(٥) « ج ، م » : السابقة.

٤٦٧

وينبغي التنبيه على أمور :

الأوّل :

قد عرفت (١) في نظير المقام في الشبهة الوجوبية أنّ وجوب الإتيان بالمحتملات من باب المقدّمة العلمية وتحصيل اليقين بالبراءة إنّما هو وجوب عقلي لا شرعي لا يترتّب على مخالفته إلاّ ما يترتّب على مخالفة نفس الفعل كما هو الشأن في الإرشاديات بتمامها ، والكلام في المقام هو الكلام فيه بعينه من غير فرق ؛ لاتّحاد المناط ، وهو حكم العقل بلزوم تحصيل البراءة والفراغ عن عهدة التكليف.

وأمّا التجرّي ، فقد عرفت أيضا وجه الكلام فيه (٢) ونزيده هنا في المقام توضيحا بأنّه قد قرّر في محلّه أنّ التجرّي تارة يقع على وجه يكشف عن سوء سريرة الفاعل وخبث طينته فقط من غير أن يكون الفعل متّصفا بالحسن والقبح من هذه الحيثية كما إذا ارتكب الفعل المحرّم في اعتقاده عصيانا على وجه يقرّ بكونه معصية كما في سائر المعاصي لاحتمال تكفيره وحبطه.

وأخرى يقع على وجه يكشف عن قبح الفعل أيضا كما إذا أتى بالفعل للوصول إلى الحرام على أن يكون هو الداعي إليه ، فمرّة للالتذاذ بالفعل المحرّم ، وأخرى للعناد.

فعلى الأوّل لا دليل على حرمة التجرّي بهذا الوجه ، وإنّما يستحقّ اللوم من جهة خبث طينته وكدورة سريرته.

وعلى الثاني والثالث ، فلا ريب في حرمته بل ذلك في الثالث يوجب الكفر.

وبالجملة ، فالقول بحرمة ارتكاب أحد الإناءين المشتبهين على وجه يترتّب على كلّ واحد منهما عقاب على حدة يبقى بلا دليل إذ الحرمة العقلية لا يقضي إلاّ بعقاب (٣) واحد على مخالفة الواقع.

__________________

(١) عرفت في ص ٤٣١.

(٢) « س » : + أيضا. عرفت في ص ٤٣١ ـ ٤٣٢.

(٣) « ج » : لا يقتضي إلاّ لعقاب!

٤٦٨

والتجرّي في هذا القسم يمتنع (١) أن يكون موجبا للعقاب لعدم مدخلية نفس الفعل في الذمّ على أنّ صدق عنوان التجرّي على المرتكب لواحد (٢) من الإناءين لا بعنوان الوصول إلى الحرام كما في المقدّمات العلمية أوّل الكلام إذ غاية ما يسلّم هناك صدقه فيما لو أتى بالفعل جازما بأنّه هو الفعل المحرّم سواء كان عنادا أو لا ، وقد مرّ تفصيله بما لا مزيد عليه في بعض مباحث العلم (٣).

الثاني :

قد تقرّر في مباحث الألفاظ أنّ بين الأوامر والنواهي فرقا من جهة أنّ المطلوب في الثاني هو ترك الفعل المنهيّ عنه وإن لم يكن مقصودا ، بخلاف الأوّل فإنّها وإن لم يكن الأصل فيها أن يكون على وجه التعبّد كما زعمه جملة منهم إلاّ أنّ المطلوب فيها ولو لدليل خارجي التعبّد بها (٤) ، فلا بدّ في الامتثال من قصد القربة.

مضافا إلى قصد عنوان الفعل الواجب على أن يكون الفعل بعنوانه المأمور به اختياريا كما مرّت إليه الإشارة في نظير المقام ، وذلك بخلاف النهي فإنّ المناهي كلّها توصّليات والامتثال وإن كان لا يصدق فيها أيضا إلاّ إذا كان الترك مقصودا لكنّ الترك مطلقا مسقط للنهي (٥) كما في الأوامر التوصّلية أيضا (٦) ، فعلى هذا لو ترك المكلّف أحد أطراف الشبهة قاصدا فعل الآخر واتّفق عدم ارتكابه لذلك الآخر أجزأ عن ترك الحرام لحصول المقصود فيما لو صادف الترك الحرام وإن كان لا يثاب عليه فإنّ عدم الثواب على الترك لا يلازم العقاب على المخالفة ، وذلك (٧) بخلاف الشبهة الوجوبية ، فقد عرفت لزوم القصد بالنسبة إلى الامتثال بالطرف الآخر عند إتيانه (٨) بالطرف الأوّل.

__________________

(١) « ج ، م » : يمنع.

(٢) « م » : بواحد!

(٣) مرّ تفصيله في ص ١١.

(٤) « س » : + زعم.

(٥) « م » : للمنهي.

(٦) « س » : ـ أيضا.

(٧) « س » : ـ وذلك.

(٨) « س » : إثباته!

٤٦٩

قلت : فقضية ذلك التفصيل في المقامين على أنّه لم يقم دليل خارجي على التعبّد في الأوامر فتدبّر.

الثالث :

أنّ ما ذكرنا من وجوب الاجتناب في الشبهة المحصورة إنّما هو فيما إذا صحّ التكليف لكلّ (١) واحد من الإناءين المشتبهين منجّزا من غير تعليق على شيء سواء لم يكن معلّقا ومشروطا عن أصله أو كان ، ولكن بعد حصول المعلّق عليه والشرط كما إذا كان المكلّف متمكّنا على تمام أطراف الشبهة وكان في محلّ الاحتياج والابتلاء منه ، وأمّا إذا كان الأطراف على وجه لا يصحّ النهي عن ارتكاب كلّ واحد منها تنجيزا (٢) بل كان النهي عنه محتاجا إلى تعليقه على شيء عقلا أو عادة أو عرفا فلا يجب الاجتناب.

أمّا إجمالا ، فلأنّ بعد اعتبار التعليق في النهي كالتعليق على القدرة وعدم حصول المعلّق عليه لا نعلم بتحقّق التكليف في حقّ المكلّف لاحتمال أن يكون الخمر الواقعي هو الطرف الغير المقدور ، فلا نعلم (٣) بحصول التكليف ولو إجمالا فتقلب الشبهة بدوية صرفة ، وقد مرّ الحكم بجريان البراءة فيها إجماعا.

وأمّا تفصيلا ، فلأنّ التعليق فيما إذا حكم به العقل كالقدرة ، فلا كلام فيه لأنّ الواجب المشروط قبل حصول الشرط لا يجدي في حكم من أحكام الواجبات ، فقبل أن يكون المكلّف قادرا على شرب أحد الإناءين لا يتعلّق (٤) به نهي ؛ لقبح النهي عن غير المقدور إذ المفروض حصول المطلوب فيه وهو الترك ، فلا جدوى في النهي أبدا لا تعبّدا ولا توصّلا.

وأمّا إذا حكم به العادة فظاهر أيضا كما إذا كان الخمر في حوصلة طير في جوّ

__________________

(١) « م » : بكلّ.

(٢) « ج » : متنجّزا.

(٣) « س » : فلا يعلم.

(٤) « ج ، س » : لا تتعلّق!

٤٧٠

السماء ، فإنّ العادة تقضي (١) بقبح النهي عن هذا الخمر ، فإذا علمنا بأنّ الخمر في جملة مردّدة بين ما في حوصلة ذلك الطير وبين غيره ، فلا يجب عنه (٢) الاجتناب لاحتمال أن يكون هو المنهيّ عنه واقعا والمفروض أنّه بحكم العادة معلّق على حصول شرط غير واقع.

وأمّا إذا حكم العرف بالتعليق كأن يكون الخطاب على وجه الإطلاق والتنجيز من غير اشتراط وتعليق مستنكرا شنيعا (٣) في العرف كما إذا لم يكن أحد أطراف الشبهة في محلّ احتياج المكلّف ومورد ابتلائه فإنّ من له أدنى دربة يشاهد من نفسه بشاعة الخطاب الناهي عن استعمال أواني الذهب والفضّة الموجودة في خزائن السلاطين من غير تعليق بالابتلاء وكذا يعدّ في العرف من اللغو الخطاب الناهي عن شرب ماء في الحوض في أقصى بلاد الهند إلاّ إذا كان معلّقا بالابتلاء كأن يقال : إذا ابتليت بأواني الذهب والفضّة الموجودة في تلك الخزائن ، فلا تستعملها ، وإذا ابتليت بشرب ماء في الحوض الفلاني ، فلا تشربه ، فإذا علمنا بأنّ أحد الأواني الموجود (٤) عندنا ، أو المخزون عند السلطان من الذهب ، أو من الفضّة ، فلا يجب الاجتناب عن الموجود عندنا لأنّ المفروض عدم تعلّق النهي بالموجود في خزانة السلطان منجّزا ، فلو كان هو الذهب لم يكن متعلّق التكليف به لعدم حصول الشرط والمعلّق عليه وهو الابتلاء بمورد الاحتياج به ، وكذا يعدّ في العرف سفها نهي المكلّف عن السجدة على أرض معلوم النجس في البرّ ، فإذا دار الأمر بين أن يكون الأرض الكذائي نجسا أو الماء الفلاني الذي هو محلّ الحاجة دونها ، جاز استعمال الماء لأنّ النهي عن السجدة لم يكن مطلقا بل لا بدّ من أن يكون مقيّدا بصورة الابتلاء ، فيحتمل أن يكون النجس في الواقع هو ما لا يصحّ تعلّق النهي به من غير تعليق والمفروض عدم حصول المعلّق

__________________

(١) « س ، م » : يقضي.

(٢) « س » : ـ عنه.

(٣) « ج » : ـ مستنكرا شنيعا.

(٤) « م » : الموجودة.

٤٧١

عليه وهو الابتلاء فلا حرمة فيه ، فيقلب الشكّ في الآخر شكّا بدويا صرفا ، وقد مرّ حكومة البراءة في مثله.

نعم ، ينبغي أن يعلم أنّ ما ذكرنا من عدم تنجّز التكليف عرفا وكون الخطاب بلا تعليق شنيعا (١) إنّما يختلف خفاء ووضوحا ، فالمذكور من الأمثلة من (٢) الموارد الواضحة ، وأمّا الموارد الخفيّة فكما إذا رشّ من مكان نجس رشاشة وشكّ في وقوعها داخل الإناء أو ظاهره فإنّه يحكم بطهارة ما في الإناء وإن علم إجمالا بوقوع الرشاشة في أحد الموضعين ، وأولى من ذلك ما إذا شكّ في وقوعها فيما لا يرتبط بالإناء كالأرض التي ليست محلاّ للحاجة ، وبذلك قد أيّد صاحب المدارك القول بعدم وجوب الاجتناب في الشبهة المحصورة حيث إنّ الأصحاب مطبقون فيما هو الظاهر على عدم وجوب الاحتراز في القضية المفروضة.

قال : ويستفاد من قواعد الأصحاب أنّه لو تعلّق الشكّ بوقوع النجاسة في الماء وخارجه (٣) ، لم ينجس الماء بذلك ، ولا يمنع (٤) من استعماله ، وهو مؤيّد لما ذكرنا (٥).

وأورد عليه بعض من تأخّر عنه (٦) بأنّ (٧) المفروض من الشبهة الغير (٨) المحصورة.

وليس بشيء إذ لا اختصاص للمذكور بذلك لجواز أن يكون الخارج الواقع فيه النجاسة احتمالا محصورا كما لا يخفى.

واعترضه أيضا في الحدائق بإبداء الفارق بين المقامين من حيث إنّ القاعدة

__________________

(١) « ج » : ـ شنيعا.

(٢) « س » : في.

(٣) المثبت من المصدر وفي النسخ : خارجها.

(٤) في المصدر : لم يمنع.

(٥) مدارك الأحكام ١ : ١٠٨.

(٦) هو البحراني في الحدائق ١ : ٥١٧ : أجاب عنه أوّلا أنّ ما فرضه من الشبهة الغير المحصورة وثانيا أنّ القاعدة المذكورة إنّما تتعلّق ... الآتي بعد سطور. انظر فرائد الأصول ٢ : ٢٢٥ ؛ كتاب الطهارة للشيخ الأنصاري ١ : ٢٨١.

(٧) « س » : بأنّه.

(٨) « ج » : غير.

٤٧٢

المذكورة إنّما تتعلّق بالأفراد المندرجة تحت ماهيّة واحدة ، والجزئيات التي تحويها حقيقة واحدة إن اشتبه طاهرها بنجسها وحلالها بحرامها ، فيفرّق فيها بين المحصور وغير المحصور بما تضمّنه تلك الأخبار لا وقوع الاشتباه كيف اتّفق (١). انتهى.

وأنت بعد ما تحقّقت حقيقة ما قد تقدّم منّا في المقام تعرف ضعف التأييد وعدم كون الفرق سديدا.

أمّا الأوّل ، فلأنّ حكم الأصحاب بعدم لزوم الاجتناب في القضية المفروضة إنّما هو بواسطة ما ذكرنا من عدم ابتلاء المكلّف بتمام أطراف الشبهة ، وليس في ذلك تأييد لما ذكره ، وإلاّ لكان الموارد التي لا يتمكّن المكلّف من ارتكاب أحد الأطراف عقلا أيضا مؤيّدا له.

وأمّا الثاني ، فلأنّ التفصيل المذكور منه ممّا لم يسبقه إليه أحد ، ولا يكاد أن يلحقه فيه أيضا لأنّ بعد ما عرفت من أنّ الوجه في الحكم بالاجتناب هو تنجّز الخطاب الواقعي ، فبعد تحقّق المناط لا وجه للتفصيل المذكور ، وسيأتي لذلك زيادة تحقيق وبحث (٢).

ويتفرّع على ذلك فروع :

منها : عدم وجوب الاجتناب في الشبهة الغير المحصورة فإنّ الأطراف التي ليست بمحلّ الابتلاء من المكلّف لا يكون الخطاب منجّزا بالنسبة إليها ولو بواسطة استهجان وركاكة لا يخفى على من مارس أنواع الكلام وضروب المقام كما ستطّلع عليه بعيد ذلك.

ومنها : ما لو وقعت نجاسة من الميزاب مثلا في أحد الإناءين اللذين كان أحدهما قبل ذلك نجسا قطعا وشكّ في وقوعها في الإناء الطاهر أو النجس بعد (٣) العلم بعدم

__________________

(١) الحدائق ١ : ٥١٧ وتقدّم عنه وعن المدارك في ص ٤٥.

(٢) سيأتي في التنبيه السادس ص ٤٨١.

(٣) « س » : بعدم.

٤٧٣

خروجها منهما فإنّه لا يحكم بلزوم الاجتناب عن الإناء الطاهر سابقا لأنّ مرجع الشكّ في المقام إلى حدوث تكليف آخر غير ما كان مكلّفا به ابتداء لأنّ المفروض أنّ الإناء النجس إنّما هو معلوم النجاسة ، فليس هو بمحلّ الاحتياج من المكلّف.

نعم ، لو كان تلك النجاسة الواقعة المردّدة ممّا يختلف حكمها حكم النجاسة الأولى كأن كانت الثانية ولوغ الكلب مثلا والأولى غيره ممّا لا يحتاج إلى استعمال الطين والتراب مثلا.

فالتحقيق أنّه ملحق بالشبهة المحصورة في لزوم الاجتناب لأنّ المعلوم السابق ممّا لا أثر له في المعلوم اللاحق لاختلاف أحكامهما ، وكذا لو كان أحد الأطراف معلوم الحرمة من جهة ، ثمّ طرأت الحرمة من جهة أخرى كأن كان مغصوبا فصار نجسا فإنّ لكلّ واحد من الاعتبارين حكما يلحق به من غير إشكال.

وقد يتراءى في بعض الأنظار أنّه ما لو صار أحد الأطراف المعلوم بالإجمال معلوما تفصيليا كأن يكون معلوم النجاسة إجمالا ، ثمّ علم بنجاسة أحد الأطراف تفصيلا أيضا ، فلا يجب الاجتناب.

وليس بشيء ؛ لعدم الارتباط بين الجهتين ، فإنّ المناط في عدم وجوب الاجتناب رجوع الشكّ إلى الشكّ البدوي المعمول فيه البراءة ، ولا دخل للجهة التفصيلية اللاحقة بالجهة الإجمالية ، فيلحق بكلّ (١) واحد منهما حكمهما على ما هو ظاهر لا سترة عليه.

ومنها : أنّه لو تعذّر ارتكاب أحد الأطراف كما إذا أريق أحد الإناءين على الأرض فإن كان العلم الإجمالي حاصلا بعد التعذّر ، فلا إشكال في عدم وجوب الاجتناب لرجوع الشكّ في الباقي إلى الشكّ البدوي ، لاحتمال أن يكون الخمر الواقعي هو المتعذّر ، فيقبح التكليف وإن كان العلم الإجمالي حاصلا بعد التعذّر ، ففي إلحاقه بالشبهة

__________________

(١) « م » : لكلّ.

٤٧٤

المحصورة لأنّ التالف بمنزلة المتروك امتثالا ، وعدمه نظرا إلى رجوع الشبهة وانقلابها إلى الشبهة البدوية ولا مدخلية لحصول العلم قبل التعذّر وبعده ، وجهان :

أقربهما : الأوّل كما أفاده الأستاذ دام علاه ولعلّ وجهه أنّ البناء على مثل ذلك في الحكم بعدم وجوب الاجتناب يوجب هدم أساس القول به إذ بعد الامتثال بترك واحد من الأطراف في المقام أو بفعله في نظيره ينقلب الشبهة بالنسبة إلى الباقي شبهة بدوية ، والمفروض أنّ العقل حكم بلزوم الاجتناب عن الجميع أوّلا ، وأمّا الحكم بعدم وجوب الاجتناب فيما لو حصل العلم الإجمالي بعد التعذّر ، فلأنّ العقل لا حكم له قبل العلم وبعده فالشبهة بدوية.

وكيف كان ، فلا بدّ من التأمّل التامّ في أمثال المقام كي لا يشتبه عليك المرام فإنّ الكلام متشابه الأطراف ، ولعلّك بعد التأمّل فيما تقدّم في الشبهة الوجوبية الموضوعية ـ من التفصيل بين ما لو كان التعذّر عقليا ، أو غير ذلك ـ تقدر على جريانه فيما نحن بصدده وإن كان ذلك ممّا لا يخلو عن شيء لا يخفى وجهه ، وكان ذلك هو الوجه في عدم تعرّض الأستاذ دامت إفاداته له في المقام ، والحمد لله أوّلا وآخرا ، وظاهرا وباطنا ، وله الشكر على ما أنعمنا من نعمه المتوالية ، وآلائه المتواترة.

الرابع :

قد عرفت فيما سبق أنّ الوجه في اختيارنا لزوم الاجتناب في الشبهة المحصورة هو بقاء أدلّة الواقع بحالها وعدم التصرّف بتقييد وتخصيص فيها والحكم بوجوب الامتثال عند العلم بوجود المكلّف به يترك (١) الكلّ نظرا إلى وجوب مقدّمة الواجب فلا بدّ فيه من الاقتصار على ما يقتضيه قاعدة المقدّمية ، ولا شكّ أنّ قضية المقدّمية لا تزيد على تسرية الحكم التكليفي وهو وجوب الاجتناب.

وأمّا الحكم الوضعي ، فلا مدخل للمقدّمية فيه ، مثلا لو أمر المولى بإكرام العالم

__________________

(١) « م » : بترك.

٤٧٥

واشتبه بين أشخاص محصورة فإنّ وجوب إكرام العالم يقضي (١) بوجوب إكرام الأفراد المشتبهة ، ولا يقضي بأن يكون تلك الأفراد عالمين كما لا يخفى ، وكذا وجوب الاجتناب عن الخمر الواقعي (٢) يوجب الاجتناب (٣) عمّا اشتبه به الخمر ، ولا يدلّ على خمرية الأفراد المشتبهة ، وهكذا وجوب الاجتناب عن النجس لا يقضي بنجاسة الأفراد المشتبهة ، وإنّما يوجب وجوب الاجتناب عنها ، فعلى ما ذكرنا يظهر غاية الظهور عدم نجاسة الملاقي بأحد (٤) الإناءين المشتبهين فإنّ غاية الأمر وجوب الاجتناب وهو حكم تكليفي لا دخل فيه بالنجاسة التي هي من الأحكام الوضعية ، ونجاسة الملاقي إنّما تترتّب على نجاسة الإناءين لا على وجوب الاجتناب عنهما.

وقد يظهر من المحدّث البحراني (٥) القول بنجاسة الملاقي تبعا لما يظهر من كلام العلاّمة (٦) في بعض كتبه استنادا إلى ظواهر الأخبار الآمرة بالإهراق في الإناءين نظرا إلى دعوى استفادة نجاسة كلّ منهما من الأمر بالإهراق مع إمكان صحّة الوضوء كأن يتوضّأ أوّلا من أحدهما ، ثمّ يطهّر محالّ الوضوء فيتوضّأ ثانيا من الآخر ، ثمّ يطهّر ثانيا ، فيصلّي فإنّ أحد الوضوءين في الصورة المفروضة يقع صحيحا بلا إشكال ، فالأمر بالإهراق لا يتمّ إلاّ على القول بنجاسة الجميع عند الاشتباه.

مضافا إلى أنّ الملاقي إنّما هو بمنزلة الملاقى ، فلو انضمّ إلى الأصلين كانت الشبهة مردّدة بين ثلاثة فهو كأحد أطراف الشبهة ؛ لأنّ العلم الإجمالي إنّما هو موجود بين الثلاثة ، غاية الأمر أنّ أحدها يتبع الآخر في الحكم بلزوم الاجتناب.

وكلا الوجهين ضعيف :

__________________

(١) « ج » : يقتضي وكذا في الموردين الآتيين.

(٢) « ج ، م » : الحقيقي.

(٣) « س » : اجتناب الاجتناب!

(٤) « ج » : لأحد.

(٥) الحدائق ١ : ٥١٤ ـ ٥١٥ ونقل البحراني كلام العلاّمة في ص ٥١٢.

(٦) منتهى المطلب ١ : ١٧٨ ، وفي ط الحجري ١ : ٣٠ وعنه في رسائل الكركى ٢ : ٦٠ ومدارك الأحكام ١ : ١٠٨ ومشارق الشموس : ٢٨٢ وكتاب الطهارة للشيخ الأنصاري ١ : ٢٨٣.

٤٧٦

أمّا الأوّل ، فلأنّ الأمر بالإهراق في الرواية لا يستفاد منه سوى وجوب الاجتناب ، ودعوى استفادة الحكم الوضعي منه ممنوعة ، وحديث صحّة الوضوء ـ على تقدير الطهارة ـ في محلّه ، ولم يدلّ دليل على فساده ، فلا دلالة في الإهراق على النجاسة.

وأمّا الثاني ، فلأنّ الحكم بلزوم الاجتناب من الأطراف إنّما كان بواسطة الأدلّة الواقعية مع عدم أصل موضوعي يستعلم منه حال الموضوع كاستصحاب الطهارة ، أو طريق يتوصّل به إلى الواقع كالبيّنة والقرعة ونحوها ، وأمّا فيما كان هناك أصل موضوعي يعلم منه حال المشتبه ، فلا يجب الاجتناب كما في الملاقي فإنّ أصالة الطهارة واستصحابها جارية من غير أن يعارضها شيء ، ولا ضير في التمسّك بالأصل في قبال الأدلّة الواقعية لعدم منافاتها له فإنّها تحكم (١) بوجوب الاجتناب عن النجس ، ولا دخل لها في الموضوع ، والاستصحاب حاكم بأنّ هذا الموضوع ليس نجسا كالقرعة ، والبيّنة على ما عرفت ـ من أنّ أدلّة الطرق (٢) الظاهرية ـ لا تعارض (٣) الأدلّة الواقعية بل تؤكّدها (٤).

فإن قلت : إنّ أصالة طهارة الطرف الآخر كما يعارض أصالة الطهارة في نفس الملاقى كذا يعارضها (٥) في الملاقي أيضا ، فلا يجري استصحاب الطهارة ولا أصالة الطهارة.

قلت : قد قرّر في مقامه من أنّ الأصلين إذا تعارضا إنّما يحكم (٦) بتساقطهما ، ولا بدّ من الرجوع إلى أصل ثالث وإن كان الأصل الثالث ممّا لا يجري عند جريان الأصلين

__________________

(١) في النسخ : يحكم.

(٢) المثبت من « س » و « خ ل » بهامش « م » وفي « م ، ج » : الطريق.

(٣) في النسخ : يعارض.

(٤) في النسخ : يؤكّدها.

(٥) « م » : يعارض بها.

(٦) « س » : نحكم.

٤٧٧

إذ المانع من جريان الثالث جريانهما (١) وبعد سقوطهما (٢) فيجري من غير مانع كما في المقام فإنّ أصالة طهارة الملاقي لو كانت جارية ، فلا مجرى لأصالة الطهارة في الملاقى لكونها مزيلة بالنسبة إليها لاستناد الشكّ في طهارة الملاقى (٣) إلى الشكّ في طهارة الملاقي وبعد استصحاب طهارة الملاقي ، فلا حاجة إلى استصحاب طهارة الملاقى فإنّ طهارته من آثار طهارة الملاقي و (٤) أحكامه ، وبعد ما فرضنا من معارضة أصالة الطهارة في الطرف الآخر بأصالة الطهارة في الملاقى وسقوطهما لا بدّ من الرجوع إلى الأصل الثالث الذي يجري مع عدم جريان الأصل الموضوعي وهو استصحاب الطهارة في التابع والملاقي ، ولا يعقل معارضته للأصل في التابع إذ المفروض سقوطه بأصالة الطهارة في المتبوع والملاقى ، فالأصل في التابع وهو الملاقي جار بلا معارض ، فلا بدّ من العمل به ، والأخذ بمدلوله.

وأمّا القول (٥) بأنّ الملاقي كأحد أطراف الشبهة ، فليس على إطلاقه فإنّه تابع لأحد أطراف الشبهة لا أنّه أحد الأطراف كما لا يخفى فإنّه منه سرى الوهم.

ثمّ إنّ هذا ليس من قبيل ترجيح الأصل في جانب المتبوع على الأصل في الطرف الآخر بتعاضده (٦) بالأصل في التابع كما قد يتوهّم حيث إنّ تعاضد أحد الأصلين للآخر فرع جريانهما ، والمفروض أنّ التابع لا مجرى (٧) له مع جريان المتبوع لكونه دليلا اجتهاديا بالنسبة إليه وبدونه لا تعاضد في البين لسقوطه عن أصل ، وذلك بخلاف الأدلّة الاجتهادية كما ستعرف الكلام فيها إن شاء الله.

فظهر من جميع ما مرّ أنّ طهارة الملاقي ما تقضي (٨) بها القواعد لكن ينبغي أن يعلم

__________________

(١) « س ، م » : جريانه.

(٢) في النسخ : سقوطه.

(٣) سقط قوله : « لو كانت جارية » إلى هنا من نسخة « س ».

(٤) « ج ، م » : أو.

(٥) أي قول المحدّث البحراني كما تقدّم.

(٦) « س » : متعاضدة!

(٧) « م » : لا محلّ.

(٨) « ج ، م » : يقضي.

٤٧٨

أنّ عدم لزوم الاجتناب عن الملاقي إنّما هو فيما (١) إذا كان الملاقي لواحد من الأطراف ، وأمّا لو لاقى بشيء واحد كلّ واحد منها (٢) ، فلا شكّ في نجاسته تفصيلا لكن فيما لم يحصل التطهير بالآخر ، فتدبّر.

وأمّا لو تعدّد الملاقي بحسب تعدّد الأطراف ، فالحكم في الملاقيات كالحكم في نفس الأطراف لحصول العلم الإجمالي بنجاسة أحدها ، غاية الأمر أنّها تابعة لنجاسة الأطراف ، ويلحق كلّ منهما حكمهما من لزوم الاجتناب ، ولو نقص أحد الأطراف مع بقاء ملاقيه ، فهل يحكم بطهارة الملاقي والطرف الآخر ، أو لا؟ فيه تفصيل بين حصول العلم الإجمالي قبل النقصان والتعذّر ، وبين حصوله بعد التعذّر.

فعلى الأوّل يحكم بالطهارة في الملاقي ولزوم الاجتناب عن الطرف الآخر إذ المفروض أنّ الاستصحاب قضى بطهارة الملاقي قبل التعذّر والعلم (٣) الإجمالي الدائر بين الطرفين بنجاسة الطرف الآخر ، وتعذّر الملاقي بعد الحكم بالطهارة الشرعية لا يجدي في الحكم بنجاسة الملاقي وطهارة الطرف الآخر لقيام دليل شرعي على الطهارة في الملاقي والنجاسة في الطرف الآخر.

وعلى الثاني يحكم بنجاسة الملاقي ونجاسة الطرف الآخر لحصول العلم الإجمالي بين هذا الملاقي ونفس الطرف الآخر بأنّ أحدهما نجس في الواقع ، ولا بدّ من الاجتناب والمفروض عدم قيام دليل شرعي على طهارة الملاقي لتعارض أصالة الطهارة في الطرف الآخر بأصالة الطهارة في الملاقى حيث إنّ الملاقي بعد لا محلّ له يجري فيه أصالة الطهارة حتّى يكون معارضا بالأصل في الطرف الآخر ، وحيث قد علمت أنّ المعيار في الحكم بالطهارة هو عدم معارضة أصل آخر لأصالة الطهارة يظهر الوجه في الحكم بنجاسة الملاقي فيما لو حصل العلم بعد التعذّر ، فتدبّر.

__________________

(١) « س » : ـ فيما.

(٢) « س » : منهما.

(٣) « ج » : التعذّر لعلم؟

٤٧٩

الخامس :

هل الحكم بوجوب الاجتناب يخصّ ما إذا اجتمعت أطراف الشبهة في الوجود أو يعمّها ، وما إذا اندرجت (١) فيه كأن يعلم بأنّ أحد الأيّام من الأسبوع الخاصّ في الشهر المخصوص يحرم عليه المسافرة أو الصيام؟ وجهان : أقواهما الثاني لكن حيث يكون المكلّف بمحلّ الابتلاء منه على وجه يصحّ التكليف به من غير تعليق كما مرّ كأن يكون مريدا لصوم ذلك الأسبوع فإنّ المدرك في هذا الحكم هو استقلال العقل بعد العلم بالتكليف على تحصيل الامتثال والفراغ عن عهدته ، والعقل لا يفرق بين أن يكون الأطراف مجتمعة في الوجود ـ كما في الإناءين أو الدراهم المعلوم غصبية أحدها ـ أو متدرّجة كما فيما إذا علم بحرمة واحد من أفاعيله الواقعة في برهة من الزمان المعلوم مع كون الفاعل في صدد فعلها.

ومن هنا قد أفتى الشيخ في محكيّ النهاية (٢) بوجوب الاحتياط على امرأة تعلم باستمرار دمها في شهر أو شهرين مع علمها بأنّ بعضا منه أيّام أقرائه وحيضه من تركها ما يحرم على الحائض وإتيانها بما يجب عليها.

وربّما يتوهّم بأنّ الحكم بالاحتياط لا يبتني على لزوم الاجتناب في الشبهة المحصورة نظرا إلى وجود أصل موضوعي في المقام في تمام الشهر وهو استصحاب الطهر إلى أن يبلغ عشرين يوما مع أنّه لا معارض له وأصالة الإباحة في العشرة الأخيرة لاحتمال أن يكون العشرة الأولى أو المتوسّطة أو الملفّقة حيضا ، ولا معارض لها أيضا إلاّ أن يكون استصحاب الطهر مثبتا لكون العشرة الأخيرة حيضا.

__________________

(١) « س » : وبين ما إذا تدرّجت.

(٢) النهاية : ٢٤ حيث قال : فإن كانت المرأة مبتدأة في الحيض ولم يمكنها تميز دم الحيض من غيره واستمرّ بها الدم فلترجع إلى عادة نسائها في أيّام الحيض وتعمل عليها فإن كنّ نساءها مختلفات العادة أو لا يكون لها نساء فلتترك الصلاة والصوم في كلّ شهر سبعة أيّام وتصلّي وتصوم ما بقي.

٤٨٠