مطارح الأنظار

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني

مطارح الأنظار

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني


المحقق: علي الفاضلي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: معهد الإمام الخميني والثورة الإسلامية
المطبعة: مؤسسة العروج
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7986-36-6
الصفحات: ٦١٥

السابع : ما أفاده الأستاذ أيضا وهو أنّ حكم العقل بحجّية الظنّ بعد الانسداد إنّما هو بواسطة نيل المكلّف بالمصالح الكامنة في الأشياء في موارده من حيث كشفه عن الواقع ، وكونه مرآة لملاحظة حال الواقع ، ولا ريب أنّ ذلك إنّما هو فيما لم يكن في سلوك سبيل الظنّ مفسدة فائقة على مصلحة الواقع ، وأمّا فيما كان فيه مفسدة فائقة عليها وعلمنا بها عقلا أو شرعا ، فلا شكّ في أنّ العقل حينئذ لا يلتزم (١) به بل يرى وجوب طرحه ، وترك التعويل عليه ، والركون إليه ، ولا تعارض بين الحكمين ، لاختلاف الموضوعين حقيقة عكس ما قلنا في قبال ابن قبة عند انفتاح باب العلم ، فكما أنّه لا قبح في العقول بتجويز سلوك سبيل ذي مفسدة ذاتية للوصول إلى مصلحة فائقة ، فكذلك لا قبح فيها يمنع اتّباع أمارة تفوق مفسدتها على مصلحتها تحرّزا عنها.

وفيه أوّلا : أنّ المستفاد من أخبار القياس التي هي العمدة في المقام هو المنع منه (٢) بواسطة فقد المصلحة الواقعية وعدم الوصول إليها ، وليس فيها من المفسدة الفائقة على المصلحة على ما تقرّر في الجواب عين ولا أثر ، بل لو كان ولا بدّ فيها من المفسدة ، فهو فقدان الواقع ولا دلالة فيها بوجه على أنّه على تقدير الوصول إلى الواقع ، فيعارضه المفسدة الكامنة في سلوكه.

نعم ، جملة من الأخبار الواردة في هذا المضمار مطلقة يكشف عنها الأخبار المقيّدة المبيّنة لها كما هو غير عزيز في أمثال المقام ، فإن كنت في شكّ ممّا تلونا عليك ، فلاحظ قول الإمام عليه‌السلام دفعا لمقالة أبان : « يا أبان إنّك قد أخذتني بالقياس ، والسنّة إذا قيست محق الدين ، فإنّ دين الله لا يصاب بالعقول » (٣) ونحو ذلك ، وذلك ظاهر لا سترة عليه.

وثانيا : أنّه بعد ما عرفت من الاحتمال لا يستقلّ في إدراك حكم سائر الأدلّة الظنّية كالشهرة ، لاحتمال وجود المفسدة الفائقة على مصلحة الطريق فيه أيضا ، ولا يستقلّ

__________________

(١) « ل » : لا يلزم.

(٢) « ل » : ـ منه.

(٣) تقدّم في ص ٢٥.

٢٨١

العقل في حكمه ، فإنّ حكمه إنّما هو فيما لو أحرز وجود المقتضي ورفع المانع أيضا ، فمع احتمال وجود المانع لا يلتزم بوجود المقتضى ولو كان عالما بوجود المقتضي ، وأصالة عدم المانع إنّما تجدي (١) في الأحكام الظاهرية لا الأحكام الواقعية العقلية.

لا يقال : قد يكون للشيء حكم في نفسه وباعتبار لحوق عنوان آخر به وطريانه عليه حكم آخر ، فما لم يعلم بطريان الآخر ، وحدوث العنوان اللاحق يلتزم العقل بالأوّل ، ويحكم بترتيب آثار الأوّل ، ومجرّد احتمال الآخر لا يضرّ في حكمه كما يشاهد ذلك في حكم العقل ـ مثلا ـ بقبح الكذب في حدّ ذاته ، والظلم أيضا كذلك ما لم يلحق بالأوّل إنجاء نبيّ ، وبالثاني تأديب يتيم ، فلو علمنا بلحوق العنوان اللاحق ، فلا كلام ، ولو لم نعلم به ، يحكم العقل بالقبح فيهما قطعا من غير تردّد وتزلزل ، ففيما نحن بصدده أيضا كذلك ، فإنّ للعقل بعد انسداد باب العلم حكما بوجوب العمل بالظنّ فيما لم نعلم (٢) بلحوق عنوان آخر به ، بخلاف ما إذا علمنا بلحوق العنوان ، فإنّه لا حكم للعقل فيه.

لأنّا نقول : حفظت شيئا وغابت عنك أشياء ، لوضوح الفرق بين المقيس والمقيس عليه ؛ حيث إنّ الحكم في مسألة التأديب والإنجاء إنّما هو على القصد فيهما ، فما لم يعلم بوجود العنوان المسوّغ ولحوقه ، يحكم العقل بحرمته ؛ لعدم تحقّق القصد ، وما يرى من التحسين فيما إذا ترتّب على الفعل العنوان اللاحق من غير قصد ، فهو إنّما يتعلّق بنفس الفعل ، ولا مدخل للفاعل فيه بناء على ما هو الظاهر من اختلاف حكمي الفعل والفاعل بخلاف مثل الظنّ ، فإنّ وجود المفسدة في الواقع من غير تعلّق بشيء آخر يعارض المصلحة التي لأجلها حكم العقل باعتباره ، فمتى احتمل وجود المفسدة لا بدّ من إحراز عدمها في الحكم.

والحاصل : أنّ جهل الكاذب والظالم بعنوان الإنجاء والتأديب يوجب عدم القصد بهما ، ومع عدم القصد لا يتّصف الفعل من حيث استناده إلى الفاعل وإن اتّصف به مع

__________________

(١) في النسختين : لا يجدي.

(٢) « ل » : لم يعلم.

٢٨٢

قطع النظر عنه ، وهو من هذه الجهة لا يتّصف بالحرمة أيضا ، وإنّما الفعل من حيث صدوره عن الفاعل حرام كما لا يخفى ، فحكم العقل بالحرمة والالتزام بها فيما لم يعلم لحوق العنوان الآخر لا يقضي بحكمه فيما ليس كذلك بل التحقيق فيه أنّ العقل لا يلتزم بوجود المعلول إلاّ بعد إحراز جميع أجزاء علّته التامّة من وجود المقتضي ورفع المانع ، واحتمال وجود المانع لا يجامع العلم بوجود المعلول ، فإنّ الاحتمال مبطل للاستدلال.

نعم ، فيما لو كان الدليل لفظيا مجرّد الاحتمال مع ظهوره في غيره غير مضرّ من حيث قيام الدليل على اعتبار الظواهر في الألفاظ ، فكأنّه لا احتمال في البين لأنّ (١) الاحتمال من حيث نفسه لا يضرّ بالاستدلال كما قد يتوهّم.

وقد يجاب عن الإشكال بتخصيص في الدعوى من إجراء الدليل في الظنون المشكوكة لا المعلومة حجّيتها وعدمها ، وليس ذلك إلاّ مثل ما يقال من أنّ « الغريق يتشبّث بكلّ حشيش » فإنّ خصوص الدعوى لا يجدي في عموم الدليل الذي هو منشأ الإشكال ، وليت شعري كيف يمكن إخراج القياس مع فرض حكومة العقل حكما واقعيا من غير ملاحظة جهل في حكم الظنّ.

والعجب أنّهم اتّفقوا على عدم تعقّل خروج فرد من أفراد العلم عن الحكم باعتباره لا عقلا ولا شرعا ، مع أنّ الظنّ بعد الانسداد مثل العلم كشفا وحكما ، فلو أمكن خروج فرد منه ، أمكن خروج فرد من الظنّ أيضا.

نعم ، لو قلنا بأنّ العقل يحكم به حكما ظاهريا ، اتّجه القول بالخروج من غير إشكال إلاّ أنّ الكلام فيه كما عرفت ، ولعلّ ثالث الوجوه التي أورده المحقّق القمّي في مقام الدفع ، وثاني الوجهين اللذين أفادهما الأستاد يرجع في محصّل المعنى إلى الوجه المنقول عن التعليقة والفصول ، فتدبّر.

__________________

(١) « ش » : لا أنّ.

٢٨٣

الجهة الثانية (١) في تشخيص الخارج من الظنّين عند تدافعهما ، فنقول : قد يظهر من بعضهم تقديم الظنّ المانع على الممنوع ناظرا إلى أنّ خروج الممنوع حينئذ خروج موضوعي لا يوجب تخصيص العامّ العقلي بخلاف خروج المانع ، وقد عرفت فيما سبق ما فيه من الضعف والفساد ، وبيّنّا ما هو أقرب إلى السداد من أنّ الخروج في كليهما موضوعي ، وقد يحتمل تقديم الممنوع ؛ لأنّ المانع من وجوده يلزمه عدمه وهو ليس بسبب لبطلان الممنوع منه أيضا كما لا يخفى ، وقد يحتمل التساقط فيهما وهو أيضا قول بلا دليل ، والأقوى هو الرجوع إلى أقوى الظنّين ممنوعا أو مانعا ؛ لأقربيته إلى الواقع الذي هو المناط في الحكم بحجّية الظنّ ، وقد تقدّم جملة الكلام فيه عند بيان وجوه الترجيح ، فراجعه.

الرابع من الأمور التي ينبغي التنبيه عليها هو أنّ الظنّ في الموضوعات ـ المستنبطة منها الأحكام الكلّية الفرعية ـ حجّة بعد القول بحجّية مطلق الظنّ فيها سواء كان في تعيين الظواهر كالتبادر الظنّي والشهرة على وضع اللفظ لمعنى و (٢) الإجماع المنقول عليه ، أو تعيين المراد منها لقاعدة الاستلزام مع عدم تخصيص ظنّ بالحجّية ، فلا فرق في ذلك بين كون الأمارة قائمة على نفس الحكم الكلّي الفرعي ، أو على ما يستنبط منها ، فإنّ بعد ما علمنا ظهور الأمر الوارد عقيب الحظر في الإباحة ، أو علمنا بظهور الصعيد في مطلق وجه الأرض استنادا إلى نقل قول منهم ، أو شهرة قائمة عليه ، أو أمارة ظنّية كالغلبة والاطّراد مثلا يظنّ بأنّ الحكم الكلّي في التيمّم هو جواز التيمّم بمطلق وجه الأرض وإباحة الاصطياد بعد التحليل ، ولا فرق في ذلك بين كون الظاهر معنى حقيقيا للّفظ كما عرفت ، أو معنى مجازيا ظهورا ومرادا فيه كالشهرة القائمة على أنّ المجاز المشهور ظاهر في المعنى المجازي ، أو اللغوي مثلا ، أو المراد منه بواسطة أمارة ظنّية هو أحدهما بالخصوص ، وكلّ ذلك للاستلزام إلاّ أنّه ينبغي أن يعلم أنّ الاستلزام

__________________

(١) مرّت الجهة الأولى في ص ٢٦٨.

(٢) « ل » : ـ و.

٢٨٤

إنّما هو ملاحظ بالنسبة إلى ذلك الظاهر من حيث نفسه وإن لم يكن الحكم الكلّي مظنونا لجهة أخرى مثل إعمال أصل تعبّدي كأصالة الحقيقة وأصالة عدم القرينة ونحوها ، مثلا لو ظنّنا بأنّ الصعيد موضوع للتراب الخالص للإجماع المنقول عليه ، نظنّ بعدم جواز التيمم بغيره لو لم يكن هناك أصل آخر يوجب إعماله رفع الظنّ كأصالة عدم التخصيص مثلا ، فالاستلزام بحاله سواء استلزم الظنّ بها الظنّ بالحكم الكلّي الفرعي فعلا ، أو لم يستلزم فعلا ، وإنّما استلزمه شأنا ، ولا ينافي القول بحجّية الظنّ في المسائل اللغوية ظهورا ومرادا ما تقدّم في تعداد (١) المستثنيات من الأصل الكلّي الأوّلي ، فإنّ عدم الحجّية (٢) هناك مبنيّ على القول بالظنون الخاصّة ، والحجّية هاهنا (٣) مبنيّة على القول بحجّية مطلق الظنّ ، ولا يذهب عليك أنّ اعتبار الظنّ في الدلالات إنّما يتأتّى بعد دعوى إجمال العمومات الواردة في الأخبار بواسطة وجود العلم الإجمالي كثيرا لورود مخصّصات كثيرة كما في العمومات الكنائية وإطلاقاتها والأخبار المتواترة على ما قرّر في محلّه ، وإلاّ فمجرّد عدم جواز الرجوع إلى الأصول العملية من البراءة وما يشابهما لا يسوّغ طرح الأصول اللفظية في قبال الظنون الراجعة إلى الدلالة كما هو غير خفيّ على المتأمّل.

الخامس ممّا ينبغي التنبيه عليه أنّه قد يظهر من بعضهم حجّية الظنّ في الموضوعات التي لا دخل للأحكام الشرعية فيها مطلقا.

قال المحقّق الثاني حاكيا عن أبي الصلاح على ما حكي عنه : « تثبت النجاسة بكلّ ظنّ ؛ لأنّ الظنّ مناط الشرعيّات » (٤). وقد ينسب إلى المحقّق القمّي أيضا ، والمشهور عدم حجّية الظنّ فيها وهو المنصور لنا : أصالة حرمة العمل بما وراء العلم مطلقا مع عدم ما يقضي بخلافها ، فإنّ الأدلّة القاضية بجواز الرجوع إلى الظنّ قد عرفت سابقا أوّلها

__________________

(١) « ل » : تعدّد.

(٢) « ش » : الحجّة.

(٣) « ل » : هنا.

(٤) جامع المقاصد ١ : ١٥٣ وحكى عنه في مفتاح الكرامة ١ : ٥٤٦ وفي مفاتيح الأصول : ٤٩٣.

٢٨٥

جميعا إلى برهان الانسداد من قاعدة دفع الضرر وغيرها كما حرّر مستوفى ، والانسداد غير جار فيما نحن بصدده ، لأنّ المناط فيه هو الانسداد الأغلبي ، وحيث إنّ الجزئيات الخارجة تختلف بحسب الموارد علما وجهلا ، وبالنسبة إلى الأشخاص المختلفة ، أو بالنسبة إلى شخص واحد في زمانين ، فلا ضابط في البين ، فلا يتوجّه القول بالانسداد فيها غالبا بل ونحن بعد ملاحظة حالات الأوائل نحكم بعدم الاختلاف بيننا وبينهم فيما نحن بصدده ، فإنّ القبلة كما قد تصير معلومة بواسطة وجود ما تقتضيه من الأمارات الدالّة عليها ، كذلك قد تصير مجهولة بواسطة فقدها ، ولا فرق في ذلك بين الأزمنة حتّى أنّ معاصري الأئمّة عليهم‌السلام قد يعلمون بالموضوعات التي علّقت عليها الأحكام الشرعية ، وقد لا يعلمون ، فالانسداد غالبا فيها (١) غير مسلّم ، فكيف بالأغلب ، والانسداد في غيره غير مسوّغ للعمل بالظنّ إلاّ بعد القول بعدم حجّية الأصول فيما لم يفد الظنّ في الموضوعات ، ولم نقف على قائل بذلك.

فإن قلت : إنّ ترك العمل بالظنّ فيها قد يوجب المخالفة القطعية ، فلا يجوز الرجوع إلى الأصول.

قلنا : إنّه لا دليل على بطلان اللازم مطلقا ، نعم فيما لو كان من الشبهة المحصورة على حذو ما فصّلنا سابقا لا يجوز العمل بالأصل ، ويجب الرجوع إلى غيره ، ولا فرق في ذلك بين الظنّ والشكّ.

لا يقال : قد سبق كفاية الظنّ بتفريغ الذمّة بعد العلم باشتغالها ، فكما أنّ إعمال الظنّ في نفس الأحكام يوجب الظنّ بفراغ الذمّة ، فكذلك إعمال الظنّ في موضوعات تلك الأحكام يوجب الظنّ بالتفريغ مثلا كما أنّ الظنّ بوجوب السورة في الصلاة يوجب الظنّ بفراغ الذمّة عن التكليف واقعا بعد قراءتها ، فكذا الظنّ بأنّ السورة الواجبة هي السورة الفلانية يوجب الفراغ ولو ظنّا.

__________________

(١) « ل » : ـ فيها.

٢٨٦

لأنّا نقول : لا دليل على كفاية الظنّ بالفراغ مطلقا ، فإنّ الضرورة تتقدّر (١) بقدرها ، وما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه ، وكفاية الظنّ في الأحكام الشرعية لا تقضي (٢) بكفاية الظنّ في موضوعاتها بعد إمكان الرجوع إلى العلم فيها وعدم إمكانه فيها كما لا يخفى.

وبالجملة ، فلا يجوز الرجوع إلى الظنّ في الموضوعات الصرفة.

نعم ، هنا أمور خاصّة يجوز الرجوع فيها إلى الظنّ إمّا بواسطة أنّ الظنّ فيها يستلزم الظنّ في الحكم الكلّي (٣) الفرعي الإلهي ، وإمّا لأنّ المناط موجود فيهما (٤) من الانسداد الأغلبي.

فالأوّل كالظنون الرجالية سواء كانت متعلّقة بالوصف كما إذا حصل الظنّ بعدالة إبراهيم بن هاشم مثلا ، أو بالموصوف كما في غير المشتركات ، فإنّه لو حصل الظنّ بأنّ زرارة الواقع في سند الحديث الدالّ على وجوب السورة مثلا هو زرارة بن أعين يحصل الظنّ بوجوب السورة ، وحيث إنّه لا فرق في أسباب الظنّ ، فيجب الأخذ به كما سبق ، بل قد يقال بحجّية الظنون التي لم تستند إلى قول رجالي أيضا كالظنّ بأنّ الراوي لعلوّ مرتبته وارتفاع شأنه لا يسأل عن غير الإمام في المضمرات ونحوها كما في المقاطيع والمراسيل ، فكلّما يستلزم الظنّ به الظنّ بالحكم الشرعي يجوز التمسّك بالظنّ فيه على القول بالظنون المطلقة.

وأمّا أرباب الظنون الخاصّة ، فليس لهم العمل بالظنّ في مباحث الرجال أيضا بل لأنّه من البناء على العلم في تعيين الوصف والموصوف ، أو على البيّنة ، وما قد يتوهّم في المقام من دعوى الإجماع على حجّية مطلق الظنّ في مباحث الرجال ، فواضح الضعف والسقوط بعد ملاحظة تشتّت مشارب كلّ العلماء في تعيين الأدلّة ، واختلافهم في تمييز الأحاديث ، فهذا صاحب المعالم (٥) يترنّم بقول ليت في منزوحات البئر بعد ظهور

__________________

(١) « ل » : مقدّرة.

(٢) في النسختين : لا يقضي.

(٣) « ل » : ـ الكلّي.

(٤) « ل » : فيها.

(٥) لم أجده في فقه المعالم وفي منتقى الجمان.

٢٨٧

دلالته ، فقال : يا ليتها كانت صحيحة من جهة وقوع إبراهيم بن هاشم في سندها مع أنّ الرجل أوّل من نشر أحاديث الكوفيين بقمّ ، وحصول الظنّ بوثاقته منه ظاهر لا يقبل الإنكار ، ألا ترى أنّهم لا يعتمدون كثيرا على ما يراه بعض أهل الرجال كابن عقدة مع إفادة الظنّ من حيث إنّه من أهل الخبرة بهم ، ويظهر ذلك عند تأمّلهم فيما رواه حسن بن علي بن فضّال الفطحي مع كونه من الموثّقين إلى غير ذلك ممّا لا يخفى على المتدرّب بكلماتهم في مواردها ، فقاعدة الاستلزام إنّما تتمّ على مذاق أرباب الظنون المطلقة.

وأمّا أرباب الظنون الخاصّة ، فلا تتمّ على مذاقهم كيف؟ والقول بذلك يرجع إلى القول بحجّية مطلق الظنّ والمفروض خلافه ، فإنّ الدليل الدالّ على حجّية خبر العادل إنّما يقضي بحجّية هذا المفهوم الكلّي وهو غير معمول في الفقه ، وإنّما المعتمد فيه جزئياته ومصاديقه مع أنّها مشخّصة بالظنون المطلقة فمناط العمل في الحقيقة هو الظنّ المطلق ، وذلك هدم لما قرّروه من بطلان العمل بالظنّ المطلق ، فاللازم على هذا التقدير تحصيل العلم ، أو البيّنة ، أو ما يطمئنّ به النفس كما يظهر منهم الركون إليه في نفس الأحكام أيضا.

نعم ، يمكن الرجوع إلى الظنّ المطلق في الرجال وصفا وموصوفا بناء على ما هو التحقيق عندنا من حجّية الأخبار الموثوق بها فإنّه محقّق للموضوع ، ومحصّل للوثوق الذي هو المناط في الحجّية ، ولا ضير فيه كما لا يخفى ، ولا ينافي ذلك حجّية الخبر من جهة الظنون الخاصّة ، لأنّ مصاديقه وجدانية ، فتحصل بتحصيل الظنّ.

وبالجملة ، يجب العلم بتحقّق المصداق وحصول الوصف العنواني فيه ، فعلى مذاق القوم يجب تحصيل العلم بالعدالة ، وعلى ما نراه يجب تحصيل الوثوق ، وبالرجوع إلى أسباب الظنّ من الأمارات يحصل الوثوق قطعا ، ويحصل العدالة ظنّا ، ولا دليل على كفايته نظير عدم جواز الوضوء بماء ظنّ إطلاقه ، فإنّه يجب التيمّم ولا يجوز التوضّؤ

٢٨٨

به ، فالقائل بحجّية خبر العدل بعد عدم إمكان إحراز العدالة بالعلم يجب له الرجوع إلى الأصول على حسب اختلاف الموارد فيها ، وذلك ظاهر لا سترة عليه.

الثاني في الموارد التي لو لم يعمل فيها بالظنّ يلزم إبطال الحقوق وتعطيل السوق.

فمنها العدالة على القول بكونها ملكة راسخة نفسانية ، فإنّ العلم بها في غاية الصعوبة بحيث لو لم يستند فيها إليه ، لما قام أمور المسلمين في معاشهم ومعادهم ، فإنّ مبنى الشريعة في الغالب على العدالة كما في الشهادة والحكم والفتوى والوصاية والتولية والطلاق والجماعة والجمعة ونحوها ، فالعلم بتحقّقها غير ممكن غالبا ، والاحتياط حرج أكيد ، وعسر شديد ، والرجوع إلى الأصول بعد العلم الإجمالي بخلافها غير سديد ، والتوقّف في مواردها غير مفيد ، فتعيّن العمل بالظنّ وهو المطلوب.

ومنها الضرر ، فإنّ العلم به غالبا لا يحصل إلاّ بعد الوقوع فيه ، وذلك خلاف ما قد بني عليه الشريعة السمحة السهلة ، والاحتياط بعد تصويره مدفوع بما مرّ مرارا ، والاستناد إلى الأصول يوجب اختلال سوق المسلمين كما هو واضح ، فيجب الرجوع إلى الظنّ.

ثمّ إنّه يظهر من كشف اللثام (١) ومن تأخّر عنه أنّ المناط في الضرر هو مجرّد الخوف نظرا إلى بعض الأخبار الدالّة صريحا على اعتبار الخوف موضوعا آخر غير الضرر ، والظاهر منها أنّ الخوف ليس موضوعا آخر بل هو طريق للضرر لئلاّ يلغو الخبر الدالّ صريحا على أنّ الخبر موضوع ، فتدبّر جدّا.

وبالجملة ، فكلّ مورد يجري فيه برهان الانسداد ، أو يستلزم الظنّ به الظنّ بالحكم الكلّي الفرعي من الموضوعات الصرفة يحكم بحجّية الظنّ فيه بخلاف غيره ، فإنّ الأصل حرمة العمل بما وراء العلم.

ومن هنا يظهر أنّه كلّما تعارض الأصل والظاهر ـ كما في أصالة الطهارة وظهور

__________________

(١) انظر كشف اللثام ٤ : ٢٧٢ ، و ٥ : ١١٨ و ١٨١.

٢٨٩

النجاسة في غسالة الحمّام وطين الطريق ـ فالمناط هو الأصل ، ولا عبرة بالظنّ مطلقا ، وهذا هو العنوان المذكور في كلماتهم من تعارض الأصل والظاهر ، فإنّ الظاهر في الأحكام والألفاظ حجّة كما صرّح السلطان بذلك في حاشية المعالم (١) ، به يرتفع موضوع الأصل على القول بحجّيتها ، فلا يقاومه.

وما قد يرى في تقديم الظاهر على الأصل في بعض المقامات (٢) ، فإنّما هو لدلالة دليل عليه من إجماع أو سيرة أو أصل قطعي كأصالة حمل فعل المسلم على الصحّة ونحوها ، وذلك كما في حكمهم ببراءة ذمّة الزوج عن النفقة فيما لو ادّعت الزوجة مع إتلافها له في مدّة مديدة ، فإنّ الظاهر أنّ أصالة عدم الإنفاق إنّما تقدّم (٣) لأصالة حمل فعل المسلم على الصحّة ، وقد صرّح الشهيد في المسالك (٤) بأنّها من موارد تقديم الظاهر على الأصل مع اعترافه (٥) بكونها قليلة.

السادس ممّا ينبغي التنبيه عليه أنّه قد ذهب جماعة كثيرة بل قد ينسب إلى المشهور عدم حجّية الظنّ في مسائل أصول الفقه ، والحقّ حجّيته فيها وفاقا لجماعة من المحقّقين.

لنا ما تقدّم سابقا من أنّ العقل بعد الانسداد والقطع (٦) بالتكليف وعدم جواز الرجوع إلى الأصول التعبّدية يحكم حكما أوّليا بوجوب تفريغ الذمّة ، والخروج عن

__________________

(١) لم أجده فيه.

(٢) انظر ايضاح القواعد ١ : ٤٣ ، ٣ : ١٢٢ ؛ الدروس ٢ : ٦٨ ، و ٣ : ٣٨٦ ؛ جامع المقاصد ١٢ : ٤٧٩ ؛ تمهيد القواعد : ٣٠٤ وما بعدها ؛ شرح اللمعة ٢ : ١١٣ ، و ٤ : ١٤٦ ، و ٥ : ١٢٨ و ٣٧٦ ؛ مسالك الأفهام ٤ : ٢٢٥ ، و ٦ : ١٩١ ؛ العقد الحسينى : ١٦ و ١٩ ؛ حاشية مجمع الفائدة والبرهان : ٤٠٣ ؛ غنائم الأيّام ٣ : ٣٧٠ ـ ٣٧١ ؛ جواهر الكلام ٣ : ٣٦٣ ، و ٣١ : ١٣٩ ؛ كتاب المكاسب للشيخ الأنصاري ٥ : ١٦٩ ؛ القواعد والفوائد ١ : ١٣٧ ـ ١٤١ ؛ نضد القواعد الفقهية : ٦٩ ؛ الوافية : ١٨٣ ـ ١٨٤.

(٣) في النسختين : يقدّم.

(٤) مسالك الأفهام ٧ : ٣٩٧ ـ ٣٩٨. انظر أيضا ايضاح القواعد ٣ : ٢٧٣. انظر ج ٤ ، ص ٥٧.

(٥) اعترف في تمهيد القواعد : ٣٠١.

(٦) « ل » : العلم.

٢٩٠

عهدة التكليف ولو ظنّا على ما قد عرفت ، والفراغ الظنّي كما يحصل بإتيان الواقع ظنّا ، فكذا يحصل بإتيان ما هو بدل عن الواقع كذلك ، وهذا (١) هو القدر المتّفق عليه بين جميع أرباب الإدراك وإن كان قد يزيد ذلك الحكم بحسب ازدياد العقل واشتداد القوّة العاقلة في الأشخاص ، فربّما يحكم الكامل في العقل بالامتثال لوجه الأمر كما لا يخفى ، والظنّ في المسائل الأصولية إنّما يوجب الظنّ بالفراغ في المرتبة الثانية ، ولا دليل على وجوب أزيد من ذلك هذا.

وقد يستدلّ على المطلوب بأنّ الأصول مقدّمة للفقه ، وبعد حجّية الظنّ في ذيها يحكم العقل بحجّيته في المقدّمة بطريق أولى.

وضعفه ظاهر ؛ فإنّ الاهتمام في المقدّمة أولى ، وبعد التسليم فلا يخفى أنّها أولوية ظنّية والاستدلال بها يفضي إلى الدور ، على أنّه منقوض بالكلام فإنّه من مقدّمات الاجتهاد ، ولا عبرة بالظنّ فيه.

حجّة المشهور وجهان :

الأوّل : أصالة حرمة العمل بالظنّ بل بمطلق ما وراء العلم ، ولا مخرج عنها إلاّ قاعدة الانسداد ، أو الاستلزام بعد ما عرفت من أول الأدلّة العقلية إلى قاعدة الانسداد ، وكلّ منهما لا ينهض وجها للاعتبار.

أمّا الأوّل ، فلأنّ الانسداد فيها ممنوع ؛ لأنّ مسائل الأصول لا تخلو عن ثلاثة أقسام ، فإنّ برهة منها متعلّقة بالألفاظ الموضوعات المستنبطة منها الأحكام التي يعبّر عنها بمشتركات الكتاب والسنّة كمباحث الأوامر والنواهي والعموم والخصوص والإطلاق والتقييد ونحوها ، ولا ريب في حجّية الظنّ فيها كما عرفت ، وجملة منها بالحجّة ، فتارة من حيث الكشف عن الواقع ، وأخرى من التعبّد به شرعا كالاستصحاب وأصالة البراءة ونحوهما.

__________________

(١) « ل » : ـ هذا.

٢٩١

ففي الأولى منهما لا يتعقّل الانسداد بعد إثبات حجّية الظنّ في الفرعيّات ، فإنّ انسداد باب العلم في الفروع دليل قطعي على حجّية الأمارات الشرعية ، فباب العلم فيها ليس منسدّا.

وفي الثانية ففي جملة منها يستقلّ العقل بإدراكها ، وفي بعض منها لو فرضنا انسداد باب العلم ، لا يلزم محذور من الرجوع إلى الأصول فيها ، لانتفاء العلم الإجمالي وانضمام مسائل الأصول بالفروع نظرا إلى أنّ كلّها أحكام شرعية وبعد الانضمام يحكم بحجّية الظنّ في الجميع لانسداد باب العلم في الأغلب ، لا جدوى فيه بعد ظهور خروج هذه الجملة عن أطراف العلم الإجمالي ، فباب العلم في الأغلب مفتوح في الأصول ، فلا يجري الانسداد.

وأمّا الثاني ، فلأنّ قاعدة الاستلزام إنّما هي مسلّمة فيما لو استلزم الظنّ بشيء الظنّ بالحكم الواقعي (١) ، فإنّه هو قضية البرهان ، والقدر المتيقّن من التبيان ، والاستلزام في الأصول لو سلّم ، ففي الحكم الظاهري ، ولا دليل على حجّيته في الحكم الظاهري.

الثاني أنّ الشهرة قامت على حجّية الظنّ في الأصول ، وقد نقل بعضهم الإجماع عليه ، ولا أقلّ من إفادة الظنّ ، فلو كان الظنّ حجّة ، يلزم عدم حجّية الظنّ فيها ، وما يلزم من وجوده عدمه باطل.

والجواب أمّا عن الأوّل ، فبما عرفت في توجيه المختار ، فإنّ الظنّ بالحكم الظاهري يكفي عن الواقع كما هو القضية الكائنة للبدلية مثلا بعد العلم باشتغال الذمّة بالصلاة يحكم العقل بوجوب تفريغ الذمّة عنها ولو بإتيان ما يكفي عنها ، أو بإدخال نفسه في موضوع آخر غير مكلّف بها عند انسداد باب العلم ، كما يكتفى بالفراغ الظنّي منها ، كذلك يكتفى بما هو بدل منه ظنّا ، فإنّه أيضا يوجب الظنّ بالفراغ الذي قد حكم العقل به بعد الانقطاع عن العلم.

__________________

(١) « ل » : بشيء الحكم بالظنّ الحكم الواقعي؟

٢٩٢

وأمّا عن الثاني ، فبمنع قيام الشهرة على عدم حجّية الظنّ في الأصول أوّلا ، نعم أرباب الظنون الخاصّة بعد زعمهم انفتاح باب العلم لا يعوّلون على الظنّ مطلقا لا أصولا ولا فروعا ، وبمنع إفادة الظنّ منها ثانيا إذ مرجعها إلى أصالة حرمة العمل بالظنّ كما عرفت سابقا ، على أنّ مجرّد قيام الظنّ على عدم حجّية ظنّ آخر لا يوجب بطلانهما جميعا بل يجب الأخذ بأقوى الظنّين كما مرّ آنفا.

السابع ممّا ينبغي التنبيه عليه أنّه قد ذهب جماعة منهم المحقّق الطوسي قدس‌سره القدوسي (١) إلى كفايته في المسائل الكلامية والأصول الاعتقادية على ما حكي عنه (٢) ، والمراد منها ما كان المقصود منها الاعتقاد وإن ترتّب عليه العمل ـ سواء كان ممّا يوجب إنكاره الكفر أو لا ـ كما أنّ المراد من الفرعيات ما كان المقصود منها العمل أو لا ، والفرق بينها وبين أصولها أنّ الأصول مبان ومآخذ لها ومداركها التي يستنبط منها ، ولا يذهب عليك أنّ هذه المسألة غير ما عنونوها في مباحث الاجتهاد والتقليد من كفاية التقليد وعدمه ، لعدم الملازمة بينهما ، إذ يمكن القول بكفاية التقليد مع عدم كفاية الظنّ وبالعكس نظرا (٣) إلى جواز الاكتفاء بما يحصل من الأدلّة الظنّية بعد إفراغ الوسع في تحصيل الاعتقاد.

فما يظهر من المحقّق البهائي رحمه‌الله (٤) من اتّحادهما ليس على ما ينبغي إلاّ أن يؤول بأنّ العلم غير التقليد نظرا إلى ما تقرّر في تقسيم الإدراك إلى العلم والتقليد وغيرهما ، فإنّ التقليد لا ثبات فيه ، بخلاف العلم ، فاشتراط العلم لعلّه (٥) يلازم نفي التقليد ، فتدبّر.

وكيف كان ، فتحقيق المقام يستدعي بسطا في الكلام في طيّ عدّة من المقام :

__________________

(١) قال الشيخ في فرائد الأصول ١ : ٥٥٤ حكي نسبته إليه في فصوله ولم أجده فيه.

أقول : الفصول النصيرية فارسي ، وعرّب وشرحه الفاضل المقداد المسمّى بـ « الأنوار الجلالية للفصول النصيرية » وراجعنا إليه ولم أجده فيه أيضا.

(٢) حكى عنه في القوانين ١ : ١٨٠.

(٣) « ل » : نظر.

(٤) انظر هامش زبدة الأصول : ١٦٥.

(٥) « ل » : ـ لعلّه.

٢٩٣

المقام الأوّل فيما لو تعذّر تحصيل العلم ابتداء هل يجب تحصيل الظنّ أو لا يجب؟ المقام الأوّل فيما لو تعذّر تحصيل العلم ابتداء هل يجب تحصيل الظنّ نظرا إلى أنّ الظنّ يقوم مقام العلم مطلقا ، أو لا يجب؟ والكلام في المقام إنّما هو في الأمور التي يجب تحصيل العلم فيها لو لم يكن تحصيله متعذّرا.

وأمّا الأمور التي لا يجب تحصيل الاعتقاد فيها ، فهو خارج عن أصله لكنّه قد يقوى في النظر إطلاق القول بوجوب التحصيل في كلّ ما يمكن التحصيل فيه نظرا إلى إطلاق الأدلّة الآمرة بتحصيل العلم والقائلة بوجوب طلبه ، المنساقة غالبا في الأصول بخصوصها ، ولا أقلّ من شمولها لها قطعا ، كقوله : « طلب العلم فريضة على كلّ مؤمن ومؤمنة » (١) وآيتي النفر والسؤال وغيرها.

وبالجملة ، التحقيق عدم وجوب تحصيل الظنّ عند تعذّر العلم ؛ لعدم الدليل على وجوبه ، فإنّ الأدلّة بأجمعها صريحة في طلب العلم على وجه يستفاد منها أنّه هو المطلوب بنفسه على نحو الموضوعية ، والظنّ لا يكون بدلا عن العلم في مقام يكون العلم موضوعا.

نعم ، فيما لو كان العلم طريقا ومرآة يمكن القول ببدلية الظنّ للعلم.

ومن هنا يظهر فساد قياس المقام بالأحكام الفرعية ، فإنّ المقصود منها على ما عرفت هو العمل ، والعلم طريق له ، وحيث إنّ المكلّف لا يخلو عن عمل ، يحكم العقل ببدلية الظنّ للعلم عند تعذّره ، وأين هذا من وجوب تحصيل العلم موضوعا ، فكما أنّ الأمر بالصلاة لا دلالة فيه على وجوب الصوم عند تعذّر الصلاة فكذا قوله ، فاعلم أنّ الأدلّة الدالّة (٢) لا دلالة فيها (٣) على وجوب تحصيل الظنّ عند تعذّر العلم ، مضافا إلى الأخبار الناهية عن القول بما لا يعلم ، الآمرة بالتوقّف عند عدم العلم.

__________________

(١) الوسائل ٢٧ : ٢٦ ـ ٢٩ ، باب ٢٨ من أبواب صفات القاضي ، ح ١٦ و ١٨ و ٢٠ و ٢١ و ٢٣ و ٢٦ ـ ٢٨ و ٣٥ ، وفيه : فريضة على كلّ مسلم. وسيأتي في ص ٣٠٠.

(٢) « ل » : ـ أنّ الأدلّة الدالّة.

(٣) في النسختين : فيه.

٢٩٤

نعم ، ينبغي أن يعلم أنّ الإدراك الظنّي شيء من المعارف الحقّانية مثل ما لو ظنّ أحد بمرتبة من مراتب الإمام عليه‌السلام واقعا أحسن من عدم الإدراك كما أنّ العلم أحسن منه ، وأعلى مراتب العلم أحسن من غيره ، وذلك غير ما نحن بصدده من نيابة الظنّ عن العلم فيما لو تعذّر ابتداء ، فلا دليل على وجوب تحصيل الظنّ بدلا عن العلم.

أمّا إباحته أو استحبابه ، فلا يخلو عن إشكال أيضا سيّما الأخير وخصوصا فيما لو خالف الواقع ، هذا بالنسبة إلى حكمه التكليفي.

وأمّا حكمه الوضعي من حيث العقاب والنجاسة وسائر أحكام الكفر ، فالظاهر أنّه معذور من حيث العقاب ، لقبح التكليف بما لا يطاق ، فإنّه أرأف بعباده من أن يعاقبهم على أمر غير مقدور لهم.

وأمّا النجاسة ، فالظاهر نجاسته ظاهرا ، ولزوم ترتّب آثار الكفر عليه ، لأنّه غير مؤمن قطعا ؛ لتوقّف الإيمان على الاعتقاد بالجنان ، وحيث إنّه لا واسطة بين المؤمن والكافر ، فهو كافر.

ولا يخفى أنّ الكفر إنّما هو فيما يستلزم الكفر من أصول العقائد كالتوحيد والنبوّة ونحوها (١) ، وأمّا في غيرها كالشكّ في كيفية أبواب الجنّة والحشر ، فلا كفر فيه.

ولما ورد في جملة من الأخبار من أنّ الشاكّ كافر :

منها : ما رواه في الكافي عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه قال : « من شكّ في الله وفي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فهو كافر » (٢).

ومنها : ما رواه فيه أيضا عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن صفوان ، عن منصور بن حازم ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : من شكّ في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله؟ [ قال ] : « فهو (٣)

__________________

(١) « ل » : ـ نحوها.

(٢) الكافى ٢ : ٣٨٦ ، باب الكفر ، ح ١٠ ، وعنه في الوسائل ٢٨ : ٣٥٥ ، باب ١٠ من أبواب حدّ المرتدّ ، ح ٥٢.

(٣) المصدر : ـ فهو.

٢٩٥

كافر » [ قلت ] : ومن شكّ في كفر الشاكّ ، فهو كافر؟ فأمسك عنّي ، فرددت عليه ثلاث مرّات ، فاستبان (١) في وجهه الغضب (٢) إلى غير ذلك من الأخبار (٣) الدالّة على كفر الشاكّ.

ولا ينافي الاستدلال بالأخبار مع كونها ظنّية في المقام ؛ إذ المقصود إثبات جهة الفرعية بها من ترتّب آثار الكفر كما لا يخفى.

لا يقال : لا دليل على نفي الواسطة بين الكافر والمؤمن.

لأنّا نقول : يدلّ عليه قوله تعالى : ( خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ )(٤) كما استدلّ المشهور في نفي الواسطة بين الصنفين بقوله تعالى : ( يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ )(٥) فإنّ وجه الدلالة فيما نحن فيه أظهر.

فإن قلت : فعلى تقدير كفره لا مناص من كونه معذّبا في الآخرة ، فإنّه أعدّ للكافرين عذابا أليما ، والآيات في ذلك ممّا لا يستقصى ، وذلك ينعكس بعكس النقيض إلى « كلّ من ليس بمعذّب ليس بكافر ، وقد كان كلّ كافر معذّب » هذا خلف.

قلت : إنّ مفاد الآيات كلّها أنّ جميع الكفّار مصيرهم إلى النار ، وذلك لا ينافي فرض وجود (٦) كافر قاصر لا يكون معذّبا.

نعم (٧) ، كان موجودا ، فيستكشف عن العموم المذكور تقصيره ، ويحكم بدخوله وخلوده في النار ، أمّا الأفراد الفرضية التي لا وجود لها لا يضرّ بالعموم ، ولا يوجب تخصيصا فيه ، وذلك مثل قول المولى لعبده : « أضف جيراني ، وعلّم العبد بأنّ الحكم مخصّص بأصدقاء المولى » فلو شكّ في فرد منهم أنّه من الأصدقاء أو لا ، فبناء العموم

__________________

(١) المصدر : فاستبنت.

(٢) الكافى ٢ : ٣٨٧ ، باب الكفر ، ح ١١ ، وعنه في الوسائل ٢٨ : ٣٥٥ ، باب ١٠ من أبواب حدّ المرتد ، ح ٥٣.

(٣) انظر الوسائل ٢٨ : ٣٤٦ ، باب ١٠ من أبواب حدّ المرتدّ ، ح ٢٢.

(٤) التغابن : ٢.

(٥) الشورى : ٤٩.

(٦) « ل » : « كون » بدل : « فرض وجود ».

(٧) « ل » : نعم لو.

٢٩٦

لا يضرّه الأفراد الفرضية ، فبالعموم يتمسّك في كون الموجودين مقصّرين.

وما قد يقال ـ بأنّ الوجه أنّ الحكم بوجود القاصر في الخارج فإنّ جملة من الكفّار الساكنين في البلاد النائية عن الإسلام ربّما لم يقرع سمعهم اسم ، الإسلام أو مع إسماعهم (١) لم يحتملوا عدم (٢) حقّية طريقهم بعد رسوخهم فيما وجدوا عليه آباءهم وكثيرا ما (٣) نجد آحادا منهم ليس لهم قوّة تمييز (٤) الحقّ عن الباطل ، فكيف يتأتّى القول بأنّ كلّ كافر موجود في الخارج مقصّر ـ مدفوع بأنّ من المحتمل بل قد يقال : من الواجب أن يكون لهم في آن من الآنات التفات إلى الحقّ ، فإنّ الله تعالى لا يعذّب إلاّ بعد الإرسال ولو بلسان العقل ، فلم لا يجوز أن يمنّ عليه في آن من آناته بقوّة قويمة ، وسليقة مستقيمة يتمكّن بها من (٥) تحصيل الحقّ ، وترك الباطل؟ وذلك ليس ببعيد.

وقد يؤيّد ذلك ما أجمعوا (٦) عليه الفرقة الناجية من كفر الشاكّ والمعتقد بالخلاف ، فكلّ شاكّ كافر ، وكلّ كافر في النار ، فكلّ شاكّ في النار ، للعلم بعدم قصوره لا أنّه مع كونه قاصرا يكون في النار ، ولكن قد يتراءى من ظواهر بعض الآيات الدالّة على رفع العقاب عن ( الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ ) الذين ( لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً )(٧) وجود الواسطة بين المؤمن والكافر ، فيشكل الحكم فيما ذكرنا إلاّ أنّه لا يخفى ما فيه ، فإنّ للمستضعف معنى على ما نطق به بعض أخبار (٨) العترة الطاهرة ، و (٩) بعض كلمات المفسّرين ، وشيء منهما لا يوافق الدعوى المزبورة.

أمّا الأوّل منهما ، فقد روى ثقة الإسلام في الكافى عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : « من

__________________

(١) « ل » : سماعهم.

(٢) « ش » : ـ عدم.

(٣) « ش » : ـ ما.

(٤) في النسختين : تميّز.

(٥) « ش » : عن.

(٦) والفصيح : أجمع.

(٧) النساء : ٩٨.

(٨) « ل » : الأخبار.

(٩) « ل » : ـ العترة الطاهرة و.

٢٩٧

عرف الاختلاف فليس بمستضعف » (١).

وفيه أيضا عن أبي الحسن موسى عليه‌السلام أنّه كتب : « الضعيف من لم ترفع إليه الحجّة ، ومن لم يعرف الاختلاف ، فإذا عرف الاختلاف فليس بمستضعف » (٢) فإنّ من المعلوم من سياق الخبرين أنّ المراد من الاختلاف هو الخلاف الواقع بين الفريقين ، فلا دخل له بالإيمان والكفر كما لا يخفى.

وأمّا الثاني ، فصرّح بعضهم (٣) بأنّ المراد من المستضعف (٤) من لم يقدر على المهاجرة (٥) مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ومن الواضح عدم ارتباطه بالكفر والإسلام ، هذا غاية ما يمكن الانتصار به لهذا القول.

ولكنّ الإنصاف أنّ المستضعف أعمّ ممّن لم يعرف الخلاف بين الفريقين وبين غيرهم من سائر المذاهب ، وورود الخبر فيهم لا ينافي عمومه لغيرهم ، وقد صرّح الإمام عليه‌السلام بوجود الواسطة في أخبار كثيرة :

منها : ما رواه في الكافى عن زرارة ، عن أبي جعفر عليه‌السلام في حديث طويل قال : قلت : فهل تعدو أن تكون مؤمنة أو كافرة؟ فقال : « تصوم وتصلّي وتتّقي الله ولا تدري ما أمركم؟ » ، فقلت : قد قال الله تعالى : ( فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ )(٦) وأنّه لا يكون أحد من الناس ليس بمؤمن ولا كافر قال : فقال أبو جعفر عليه‌السلام : « قول الله أصدق من قولك يا زرارة أرأيت قول الله عزّ وجلّ : ( خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ )(٧) فلما قال : عسى؟ » قلت : ما هم إلاّ مؤمنين أو كافرين ، قال : « فما تقول في قوله عزّ وجلّ : ( إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ ...؟ » ) الآية فقلت : ما هم إلاّ مؤمنين أو

__________________

(١) الكافى ٢ : ٤٠٥ ـ ٤٠٦ ، باب المستضعف ، ح ٧ و ١٠ ؛ البحار ٦٩ : ١٦٢ ، باب ١٠٢ ، ح ١٧ و ١٨.

(٢) الكافى ٢ : ٤٠٦ ، باب المستضعف ، ح ١١.

(٣) انظر التبيان ٣ : ٣٠٣ ؛ مجمع البيان ٣ : ١٣٢ و ١٧٠.

(٤) « ل » : بالمستضعف.

(٥) « ل » : الهجرة.

(٦) التغابن : ٢.

(٧) التوبة : ١٠٢.

٢٩٨

كافرين ، قال : « ما هم بمؤمنين ولا كافرين » ثمّ أقبل عليّ [ وقال : ] « ما تقول في أصحاب الأعراف؟ » فقلت : ما هم إلاّ مؤمنين أو كافرين ، إن دخلوا الجنّة فهم مؤمنون ، وإن دخلوا النار فهم كافرون ، فقال : « والله ما هم بمؤمنين ولا كافرين ، ولو كانوا مؤمنين ، لدخلوا الجنّة كما دخلها المؤمنون ، ولو كانوا كافرين ، لدخلوا النار كما دخلها الكافرون ، ولكنّهم قوم قد استوى (١) حسناتهم وسيّئاتهم ، فقصرت بهم الأعمال ، وإنّهم لكما قال الله عزّ وجلّ » فقلت : أمن أهل الجنّة هم أم من أهل النار؟ فقال : « اتركهم كما تركهم الله » فقلت : أفترجئهم؟ قال : « نعم أرجئهم كما أرجأهم الله إن شاء الله أدخلهم الجنّة برحمته وإن شاء ساقهم إلى النار بذنوبهم ولم يظلمهم » فقلت : هل يدخل الجنّة كافر؟ قال : « لا » قلت : فهل يدخل النار إلاّ كافر؟ قال : فقال : « لا ، إلاّ أن يشاء الله ، يا زرارة إنّي أقول : ما شاء الله ، وأنت لا تقول : ما شاء الله ، أما [ إنّك ] إن كبرت رجعت ، وكللت (٢) عنك عقدك » (٣) ، وقريب منه ما ورد في أصحاب الأعراف (٤).

ومنها : ما في الكافى أيضا عن محمّد بن مسلم قال : كنت عند أبي عبد الله عليه‌السلام جالسا عن يساره وزرارة عن يمينه ، فدخل عليه أبو بصير ، فقال : يا أبا عبد الله عليه‌السلام ، ما تقول فيمن شكّ في الله؟ فقال : « كافر يا أبا محمّد » قال : فشكّ في رسول الله؟ قال : « كافر » ثمّ التفت إلى زرارة وقال : « إنّما يكفر إذا جحد » (٥).

ومنها : ما فيه عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : « لو أنّ العباد إذا جهلوا وقفوا ولم يجحدوا ، لم يكفروا » (٦).

__________________

(١) في المصدر : استوت.

(٢) في المصدر : وتحلّلت.

(٣) الكافى ٢ : ٤٠٣ ، باب الضلال ، ح ٢.

(٤) الكافى ٢ : ٤٠٨ ، باب أصحاب الأعراف ، ح ١.

(٥) الكافى ٢ : ٣٩٩ ، باب الشكّ ، ح ٣ ، عنه في الوسائل ٢٨ : ٣٥٦ ، باب ١٠ من أبواب حدّ المرتدّ ، ح ٥٦.

(٦) الكافى ٢ : ٣٨٨ ، باب الكفر ، ح ١٩ ؛ الوسائل ١ : ٣٢ ، باب ٢ من أبواب العبادات ، ح ٨ ، و ٢٧ : ١٥٨ ، باب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، ح ١١.

٢٩٩

ومنها : ما فيه عن أبي جعفر عليه‌السلام فيمن سأله من المستضعف ، فقال : « هو الذي لا يهدي (١) حيلة إلى الكفر ، فيكفر ولا يهتدي سبيلا إلى الإيمان ، فلا يستطيع أن يؤمن ، ولا يستطيع أن يكفر ، فهم الصبيان ومن كان من الرجال والنساء على مثل عقول الصبيان فإنّه (٢) مرفوع عنهم القلم » (٣).

والأخبار في ذلك أكثر من أن تحصى (٤) ، فالمستضعف هو تابع كلّ ناهق وناعق ، فالحقّ مراعاة الأصل في كلّ مقام بالنسبة إلى الشكّ الغير الخاصّة.

المقام الثاني فيما لو أمكن له تحصيل العلم بعد إفراغ الوسع وبذل الجهد على ما هو المتعارف في تحصيله هل يجوز له الاكتفاء بالظنّ ، أو لا؟ التحقيق عدم الاكتفاء بالظنّ لوجوه :

الأوّل أصالة حرمة العمل بما وراء العلم ، ولا مخرج عنها إلاّ ما عرفت من الانسداد والمفروض تمكّنه من تحصيل العلم ، فلا انسداد.

الثاني : الأدلّة الدالّة على وجوب تحصيل العلم المصرّحة بلفظ العلم وما يؤدّي مؤدّاه من اليقين كقوله : ( فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ )(٥) و « اطلبوا العلم ولو بالصين » (٦) ، و « طلب العلم فريضة » (٧) ونحوها ممّا (٨) لا يكاد يخفى على من له خبرة بالأخبار.

الثالث : الأدلّة الآمرة بالشهادة ، فإنّها على ما صرّح به بعض أهل اللغة هو الإخبار عن علم ، وأمثال ذلك كثيرة ، فالأمر واضح.

__________________

(١) في المصدر : لا يهتدي.

(٢) « ل » : فانّهم ولم ترد في المصدر.

(٣) الكافى ٢ : ٤٠٦ ، باب المستضعف ، ح ١ ، ونحوه في ح ٢ و ٣ ؛ البحار ٦٩ : ١٥٧ و ١٥٩ ، باب ١٠٢ ، ح ١ و ٩.

(٤) في النسختين : أن يحصى.

(٥) محمد : ١٩.

(٦) الوسائل ٢٧ : ٢٧ ، باب ٤ من أبواب صفات القاضي ، ح ٢٠ ؛ البحار ١ : ١٧٧ و ١٨٠ ، باب ١ ، ح ٥٥ و ٦٥٧ و ٢ : ٣٢ ، باب ٩ ، ح ٢١.

(٧) تقدّم في ص ٢٩٤.

(٨) « ش » : بما.

٣٠٠